الناس

من “القاعدة” إلى التفاهمات الدولية:رحلة “تحرير الشام” للحفاظ على مصالحها/ أحمد حاج حمدو

في أواخر عام 2011، وإذ بدأت الاحتجاجات الشعبية في سوريا تأخذ طابعاً عسكرياً، كان أبو محمد الجولاني ومعه 6 من زملائه أخذوا إذناً من زعيم تنظيم القاعدة في العراق لتأسيس ذراع سورية للقاعدة، وعبروا الحدود نحو سوريا لأجل ذلك.

السبعة كانوا “أبو محمد الجولاني، صالح الحموي، أبو ماريا القحطاني، أبو أنس الأردني، أبو جليبيب الأردني، أبو عمر الفلسطيني وأنس حسن خطاب”، ونجح هؤلاء بتأسيس “جبهة النصرة لأهل الشام” التي عرّفت نفسها بأنّها “الذراع السورية لتنظيم القاعدة”.

لم يكن اختيار الجولاني اسم القاعدة أمراً اعتباطياً، بل كان مدروساً بعناية، فالفصيل المدعو “جبهة النصرة” كان من أكثر الفصائل المقاتلة على الأرض تنظيماً وقوّةً اقتصادية ووزناً في المعارك، يكفي أن يعرف المتابعون من خلف الجبهات بوجود “النصرة” في معركة ما حتى يضمنوا فوزها.

وهكذا، استغل الجولاني اسم “تنظيم القاعدة” لتأسيس فصيل يحصد القوة والنفوذ ويغري المموّلين الطامعين بإنشاء إمارة إسلامية في سوريا، فباتت “النصرة” أقوى الفصائل المقاتلة على الأرض السورية في وقتٍ قياسي.

ولكن هل كان أبو محمد الجولاني يملك مشروعاً قاعدياً؟ أم أنَّه استخدم “شهرة” القاعدة لتحقيق مكسبٍ شخصي؟ وكذلك الحال على معظم القرارات التي اتخذتها “تحرير الشام في بداية تأسيسها وتراجعت عنها لاحقاً، ومنها الخطاب العدائي ضد “الغرب الكافر”.

تحتاج الإجابة على هذا السؤال، إلى تتبّع “المناورات السياسية” التي قام بها الجولاني، خلال سنوات الحرب في سوريا ومدى تمسّكه في أي مشروع طرحه، حين كان زعيماً لـ”النصرة” التي أصبح اسمها “جبهة فتح الشام” ثم “هيئة تحرير الشام”.

تقلّبات على جميع الضفاف

تسيطر “تحرير الشام” حالياً على معظم محافظة إدلب وريف حلب الغربي، التي يزيد عدد سكّانها المدنيين عن 3.5 مليون مدني من سكّان المنطقة الأساسيين والمهجّرين من حزام العاصمة دمشق وحمص وحلب.

كان توزّع السيطرة في إدلب سابقاً مُقسّماً بين “تحرير الشام” وفصائل من المعارضة، ولكن هذا الأمر لم يدم بعدما طردت الأولى جميع الفصائل التي تنضوي تحت المعارضة السورية.

قبل أسابيع، وفيما كانت المعركة في الباغوز ضد تنظيم “الدولة الإسلامية” في أوجها، كان محلّلون وصحافيون يتحدّثون عن أن المجتمع الدولي سوف يوجّه تركيزه نحو محاربة “هيئة تحرير الشام” كهدفٍ ثانٍ يأتي على ترتيب الأولويات بعد “داعش”.

بالتزامن مع ذلك، غرقت مواقع التواصل الاجتماعي بصورتين لأحد الشوارع الرئيسية في إدلب، تظهر بالصورة الأولى لافتات دعائية وضعتها “تحرير الشام” تحمل عبارات عدة، ومنها “الجهاد باب من أبواب الجنة”، “الصلاة يا شباب الإسلام”، “الحجاب يا بنت الإسلام”، “الشيعة هم أعداء الإسلام”.

أما الصورة الثانية، فتظهر الشارع ذاته واللافتات ذاتها، ولكن تم طلاء العبارات بالأزرق، وتم إخفاؤها بشكلٍ تام.

تؤكد مصادر متابعة لـ”درج” أن الصور حقيقية وأنّه تم طلي العبارات بالفعل، كما أن الأوتستراد يقع على طريق “حلب – سراقب”.

هذا الموقف ليس الوحيد الذي يعكس تقلّب “هيئة تحرير الشام”، بل كان واحداً من جملة مواقف غيرّت مصيرها وأيديولوجيتها.

حمل راية القاعدة ورميها لاحقاً

لعلَّ من أبرز المواقف التي عبّرت عن هذا التقلّب، هو رمي الجولاني راية القاعدة، والخروج بجماعته بمظهرٍ جديد لا علاقة له بالقاعدة.

في تموز/ يوليو 2016، أي بعد 5 سنوات على استمرار المعارك في سوريا، خرج أبو محمّد الجولاني لأوّل مرة إلى العلن، وأعلن رسمياً انفصال “جبهة النصرة” عن القاعدة، وأصبح اسمها “جبهة فتح الشام”.

الجولاني قال في تسجيل مصوّر حينها إنّه يشكر قادة تنظيم القاعدة على تفهمهم ضرورات فك الارتباط، مضيفاً أن “فك الارتباط جاء تلبية لرغبة أهل الشام في دفع ذرائع المجتمع الدولي”.

وأضاف أن هذه الخطوة تسعى إلى تحقيق خمسة أهداف، هي، العمل على إقامة دين الله وتحكيم شرعه وتحقيق العدل بين الناس، التوحد مع الفصائل المعارضة لرص صفوف المجاهدين وتحرير أرض الشام والقضاء على النظام وأعوانه، حماية الجهاد الشامي والاستمرار فيه واعتماد الوسائل الشرعية لأجل ذلك، السعي إلى خدمة المسلمين والوقوف على شؤونهم وتخفيف معاناتهم وتحقيق الأمن والأمان والاستقرار والحياة الكريمة لعامة الناس.

كان السبب الرئيسي لهذه الخطوة، هو أن دولاً عدة في مقدّمتها الولايات المتحدة الأميركية، صنّفت “النصرة” على أنّها “منظمة إرهابية” وبدأ طيران التحالف الدولي يستهدف مقرّات تابعة لها في حلب وإدلب.

ولكن على رغم هذا التغيير، فقد عاد البيت الأبيض للقول إن تقييمه لجبهة النصرة لم يتغير، وإنه ما زالت لديه مخاوف متزايدة من قدرتها المتنامية على شن عمليات خارجية قد تهدد الولايات المتحدة وأوروبا، كما أكدت الخارجية الأميركية أن جبهة النصرة ما زالت هدفاً للطائرات الأميركية والروسية في سوريا.

محاباة المعارضة المسلّحة ثم سحقها

خلال فترة النزاع في سوريا، كانت “جبهة النصرة” أو “جبهة فتح الشام”، دائماً ما تدعو إلى وحدة الصف مع فصائل المعارضة السورية الأخرى، فتشاركها المعارك والجبهات، كما أنّها تسهّل مهماتها في اقتحام المدن والبلدات المختلفة.

في تلك الفترة، كانت المعارضة السورية المسلّحة في أوج قوتها وتحظى بدعمٍ غربي لا محدود من النواحي السياسية والمادية والعسكرية.

ومن أبرز التحالفات التي انخرطت فيها “تحرير الشام” مع المعارضة، هو تحالف “جيش الفتح” عام 2015، ثم تحالف “هيئة تحرير الشام” الذي انخرطت فيه “النصرة” مع فصائل معارضة أخرى.

لكن هذه الحال لم تدم طويلاً، إذ انقلبت “تحرير الشام” على الفصائل في يومٍ وليلة، وبدأت سحقها أو طردها من إدلب أو إجبارها على الاستسلام واحدة تلو الأخرى.

كانت “حركة أحرار الشام” أولى تلك الفصائل التي تحسّست رأسها، وتعرّضت لحرب شرسة من قبل “الهيئة”، ولم يشفع للحركة أنّها تحالفت مع “حركة نور الدين الزنكي” لمواجهة “تحرير الشام” حيث انتهى الأمر باتفاق على خروج مقاتليها من ريفي إدلب وحماة نحو ريف حلب الشمالي.

مع بداية العام الحالي، شنّت “تحرير الشام” هجوماً شرساً ضد جميع فصائل المعارضة في أرياف إدلب وحماة الشمالي وحلب الغربي، اضطرت فيه فصائل “الجبهة الوطنية للتحرير” المعارضة، إلى توقيع اتفاق وافقت فيه على الخروج من ريف حماة وريف حلب الغربي ومنطقة سهل الغاب، وكان الهدف من هذه العملية جعل السيطرة في تلك المنطقة لتحرير الشام وحدها من دون أن تشاركها أي قوة في حكم تلك المناطق.

تأسيس حكومة مدنية بعد منع النشاط المدني

فيما كان الشمال السوري يعيش مرحلة معقّدة بسبب بسط “تحرير الشام” يدها على جميع مفاصل الحياة، تأسست حكومة الإنقاذ في شمال سوريا، في تشرين الثاني/ نوفمبر 2017، ومن أكثر ما أثار الاستغراب من هذه الحكومة، هي أنّها تأسّست داخل مناطق “تحرير الشام”، التي تمنع أصلاً أي نشاطٍ مدني، وبعد أسبوعين من تأسيسها، قامت “تحرير الشام” بتسليمها جميع المرافق الخدمية والمدنية، من ملفات الغاز والمياه والكهرباء والتعليم والصحة وغيرها.

جاء تشكيل الحكومة بـ11 حقيبة وزارية، وذلك في خلال مؤتمر صحافي في معبر باب الهوى الحدودي مع تركيا.

أما اليوم وبعد السيطرة الواسعة لـ”تحرير الشام” على معظم مناطق الشمال السوري، باتت حكومة الإنقاذ هي الجهة المدنية الوحيدة التي لديها صلاحيات الحكم في هذه المناطق.

ويؤكّد حقوقيون في محافظة إدلب أن تأسيس “الوجه المدني الناعم” يندرج ضمن سياسات “تحرير الشام” من أجل مواكبة التطوّرات السياسية في الدول الإقليمية، ولكي تمنع المعركة ضدها بمعظم الوسائل والأساليب المتاحة.

وفي ظل هذه الاتهامات اعتمدت حكومة الانقاذ، علماً جديداً لمناطق سيطرتها، مؤلفاً من أربعة ألوان، وهي اللون الأخضر من الأعلى والأبيض في الوسط وفي الأسفل اللون الأسود، على أن يُكتب عبارة “لا إله إلا الله محمد رسول الله” في وسط العلم.

درج

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى