مقالات

أبناء العدم والرعب من الدين/ محمد أبي سمرا

ورفعنا عدَمَنا وحواسنا العمياء إلى سديم تلك الكلمات

أنا وأمثالي المولودون من عَدَمَين، في مطالع خمسينات القرن العشرين، كان علينا أن نتلقّف كلماتٍ ونُسقِطَ غموضها السديمي على طفولتنا ومراهقتنا المديدة في عقدين قيل أنهما عقدا الوفرة والسعادة وتفتح رغبات الشباب في الستينات والسبعينات.

ورفعنا عدَمَنا وحواسنا العمياء إلى سديم تلك الكلمات – كثرة منها كانت كلمات أغانٍ إذاعية – علّها تخرِجُنا من العدم والعماء، من أننا نكراتٍ، فنبصرُ وننطق ونصير مرئيين، وننزع النقمة والمهانات من أرواحنا، والرعب الأبكم الممتلئة به صدورنا والمتشبث بألسنتنا، والقوة والعنف والخدوش عن جلودنا. وكنا نقول في قصائد مراهقتنا: لتخضّر جلودنا.

في خمسينات طفولتي القصيّة، الخرساء المنقطعة، هناك في قرية جردية حدودية نائية، كنت ابنًا لذلك الرعب. وفي ستينات مراهقتي المديدة الشقيّة التاعسة، في حيّ بطرف ما صار يسمى ضاحية بيروت الجنوبية، انهمر عليّ العنف والمهانة، فلجأت ليلًا إلى الكلمات، كلمات أغانٍ، وكلمات مكتوبة خرساء، بعثَت في مخيلتي صورًا ولّدت فيَّ توقًا أبكمَ أليمًا للآخرين الغرباء. وما صادفتُ سوى صغار أشرارٍ قساةٍ تائهين، فهربتُ إليهم من قسوة الأهل الغريزية والتعبيرية، من قسوةِ دينهم البدائي شبه الوثني في الجرد، ومن مهانتهم ومهانتي، بكمي وبكمهم، في ضاحية المدينة، بيروت.

وما كنت طفلًا ولا مراهقًا.

هناك، في سنواتي الأولى الجردية المنقطعة، ما من أحدٍ ولا شيءَ إلا كانت تبترُني قسوتُه وتتركني غريبًا. كأن لم يكن من غريب سواي هناك، حتى أمي التاعسة الناقمة كانت قسوتُها تشلّني وتتركُني غرييًا عنها، فتشبث بي ذلك الرعب البدائي القديم من البشر الكبار، من أشيائهم، من أجسامهم الكبيرة، من فؤوس نبرات أصواتهم القاحلة مثل أعالي الجرد، من قوة شكيمتهم البدنية والمعنوية التي يتسلطون بها تسلطًا غامضًا على الأشياء من حولي، ويبثُّون فيها رعبًا غامضًا أخرسني وسحقني تحت فؤوس أبصارهم. فرحت أشيح عنهم وعن الأشياء بصري، وأجمّده طوال النهارات على عشبةٍ برية مثلي، نحيلة بكماء، في رجمة الحجارة.

كنت عدمًا في حضورهم وفي غيبتهم عني، ولا أعلم متى ولماذا ومن أين أتيت إلى دنياهم المكتملة قبلي ومن دوني، وماذا يريدون مني، ماذا أفعل في تلك الدنيا.

أحدُهم – وقد يكون الغريب الوحيد بينهم سواي – غرسَ عُقمَه ونقمته الغامضة وساديّته في روعي. فصرت بكمًا خالصًا، وراحت أمي تقولُ إنني كنتُ طفلًا جميلًا ناطقًا في الرابعة أو الخامسة من عمري، قبل دخولي مدرسة ذلك الأستاذ الساديّ الغريب. كان أستاذ مدرستهم ذاك، عازبهم الأوحد والغامض. وقيل إنه لم يعرف امرأة في حياته. عشق معلمة مدرسة الكنيسة عشقًا صامتًا من دون أن يمسسها. وهي المعلمة الوحيدة فريدة الجمال كأمه التي ماتت في طفولته وتركته يتيمًا، فصار منذورًا ليُتمَين وحِدادَين أبديَين.

حين سمعت للمرة الأولى أن رجلًا منهم قد مات، جرّتني أمي إلى بيته، ثم اختفتْ فجأة في الحشد اللاغط، وتركتني وحيدًا. ركضت مرتاعًا إلى حافة سطح بيت الميت العالي، ومددت رأسي إلى الأسفل. لمحت في ما يسمونه النعش، وجه ميتي الأول، رماديًا متعظّمًا، وتراءت لي في وجهه ذاك ملامح وجه أخيه أستاذ المدرسة الساديّ، فاجتاحني رعبان مهولان من الدنيا. وعندما جاء الليل اكتشفت الموت والأم وأشباح الليل والدين.

أمّ ليلية، أشباح ليل، وحيّة برأسين تزحف على جدار البيت في ضوء قنديل. تقترب الحيّة من صدر أمي النائمة، فترضع حليب طفلها الجديد المولود قبل أيام من المشهد النهاري للميت المسجى في النعش. في الليلة الأولى بعد ذاك المشهد، اقترب البيت من المقبرة ومن حساب القبر في حكايات أمي الليلية، فتعطّلت قدرتي على النوم ليلًا، وفي النهار صرتُ جمادًا في بكمي وقطيعتي. جمادٌ يتخيّل، يأخذه الخيال بعيدًا في عطالته النهارية، حتى صار خيالًا خالصًا يحدّق في الأشياء التي لا تحيا ولا تموت، ولا تعرف حساب القبر، وتتركني بصرًا يحدّق في عشبة رجمة الحجارة. حجرًا يحدّق في حجر.

وكان لي جدّ تفرّد في تفتيت الصخر. من البيت إلى البساتين يصطحبني مع حماره، فلا يكف عن الصراخ على الحمار. صراخ تملأ أصداؤه الوادي الموحشة. أحيانًا يُكلّم الحمار، وغالبًا يضربه ويشتمه كأنه آدمي مثله ومثلي. مرة، أمسك حجرًا وراح يضربُ به رأس الحمار بين أذنيه، فأدماه. وحدستُ أن الحمار يبكي أبكم صامتًا، بلا دموع. بعد قليل أخذ جدي يسترضيه، ثم نهره بعنف صارخًا عليه ليمكّن قوائمَه في صعوده دربًا ضيقًا بين تهاويل صخور ضخمة، هي رجمة ظلت على حالها من بداية الخلق أو ما بعد طوفان نوح.

لم يكن جدي يصلي. ولا يعلم من الدين شيئًا سوى ما يقذفه على الله ودينه وعرشه ولحيته من شتائم، كالتي يقذفها على حماره وبدَن من باعه الحمار حين يُدخِلُهُ إلى باحة المسجد الخارجية ليشربا معًا من بركة في وسط الباحة. فجرًا ومساءً، كانت شتائمه إياها تنهمر في البيت على جدتي، مسمّيًا والدها ولاعناً بدنه ويده، متضرعًا إلى الله أن يحرقها، فأتخيّلُ جسم رجل يُشوى عاريًا، ويدَين تولولان في نيران أكوام حطبٍ، كالتي أشعلها المشركون لحرق النبي ابراهيم.

وكنت أشفق على جدتي التي يتراءى لي أنها ولدت وكبرت وتزوجت في البيت نفسه، منحنيةَ الظهر بزاوية قائمة. رأسها وعنقها وجذعها تمتد أفقيًا في موازاة الأرض، فلا تبصر منها سوى بقعةٍ بين قدميها وأمامهما، ولا تتجاوز مساحتها ظل رأسها في عتمةٍ يبدد بعضَها ضوء سراج تمسكه بيدها، وتخطو بطيئًا بطيئًا كسلحفاة أبدية في ليوان البيت. وفجأة تنهمر عليها الشتائم مثل رعدٍ يُسقط السراج من يدها، ويُسقطني عن السراط المستقيم.

وبلا أبٍ كنت، وأُعلِمتُ أن لي أبًا غائبًا، وما سألتُ. فكيف يسألُ غارقٌ في بكمه النهاري ورعبه الليلي؟ حاملًا غيبة أبي، وغضب أمي الناقمة، وشفقتي على جدتي، أمشي غير هيّاب في صحبة جدي الموحشة على درب البساتين في الوادي. ما يقذفه من الشتائم على الله في النهارات، لا يسقطني عن السراط المستقيم. فإله شتائمه النهارية ليس إله أمي ودينها المرعبَين في الليل. وفي الطبيعة ونورها كانت شتائمه الراعدة تتبدّد سريعًا، كأنما يمتصها الصخر والأشجار. أما دِين أمي الليلي فكان يجعل ضوء القنديل الشحيح في البيت أرعب من الظلام.

كان الدين ليلًا وأمّاً ليلية وموتًا وحسابًا في القبر.

ودِين أمي حكايات ليلية عن الموت والموتى والآخرة والشياطين والأنبياء والجنة والنار والله وعرشه، وعن المشي على سراطه المستقيم. وفي النهار كان يرعبني قدفُ أمي، اللهَ بشتائمها. فأبصر في مناماتي أحذية ضائعة وجَملًا يجعرُ أمام بيت الموعودين بالموت.

أخيرًا عن سراط أمي المستقيم سقطتُ أو ارتفعتُ إلى ضحكة سعاد المسيحية، التي كشفتْ لي ضحكتُها النهارية جمال سنها الأمامية الكبيرة المكسورة، ورغوة معجون أسنان فمها، ورغوة الصابون على جلدها المضيء. وسقطتُ أو ارتفعتُ إلى تلك الضحكة الوضّاءة مثل رعفة خجل الثلج في النور الصباحي، حتى صرتُ طيفًا. لكنني استرسلت في بكمي بلا ذلك الرعب المظلم، رعب الأم والله والدين وحساب القبر الليلي.

المدن

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى