مراجعات كتب

أخبار الأيام في ثورات أهل الشام: حوادث مفقودة في «مفاكهة الخلّان» لابن طولون الصالحي/ محمد تركي الربيعو

مع مطلع القرن السادس عشر، كان العثمانيون قد تحوّلوا مؤقتاً عن الغزو في أوروبا لصالح الامتداد في الشرق؛ وعلى أثر معركة «جالديران» مع الصفويين وسقوط تبريز سنة 1514، أخذ السلطان سليم يتابع سيره في الشرق، فبدأ بإخضاع دمشق بعد عامين في مرج دابق سنة 1516، حيث هزم قوات المماليك بالبنادق شر هزيمة. وتروي الأخبار أنه عند دخول السلطان سليم إلى دمشق، أخذ من منطقة برزة بضواحيها مقراً له، وما أن استقر الحال به وبقواته، حتى أصدر أمراً بتقديم الهدايا للعلماء، كما طلب تزيين ثوب المحمل الشريف الذي يرافق قافلة الحج إلى الحجاز، ثم قام بزيارة قبر الشيخ الأكبر محيي الدين ابن عربي في الصالحية، في محاولة منه لكسب ود الأهل والعلماء؛ بيد أنه، خلافاً لأماني العثمانيين في نسج علاقات طيبة مع أهالي الشام، لم تستقم الأحوال لهم بسهولة في الفترة الأولى من حكمهم؛ فبعد سنوات من دخولهم، شهدت مدينة دمشق، وعدد من المدن الأخرى مثل حلب، عدداً من الاحتجاجـــات والتمردات التي قادها، إما مماليـــــك سابقون أو قبائل بدوية؛ وقد رسم لنا بعــض مؤرخي تلك الفترة، صورة دقيقة عن هذه التمردات، كما في حال مؤرخ دمشق ابن طولون الصالحي، عبر تطرّقه لأحداث العصيان الذي قاده جان بردى الغزالي، والي دمشق العثماني 1517/1520، الذي ما أن علم بموت السلطان سليم في 22 ســـبتمبر/أيــلول 1520، حتى أعلن التمـــرد على العثمـــانيين، فشرع بمحاصرة قلعة دمشق واحتلها، ومنع خطباء المساجد من ذكر اسم السلطان الجديد سليمان.

إلا أنه، ورغم التفاصيل العديدة التي ذكرها ابن طولون عن هذه الأحداث، فإن روايته عن الغزالي بقيت متناثرة في كتب وتراجم لعلماء آخرين مثل كتاب «الكواكب السائرة بأعيان المئة العاشرة» للشيخ نجم الدين الغزي، أو كتاب «الباشات والقضاة في دمشق» لمحمد بن جمعة المقار. وقد حال هذا الأمر دون التمكن من العثور على كامل هذه الرواية في كتاب ابن طولون الشهير «مفاكهة الخلان في حوادث الزمان»، خاصة أن بعض الأخبار والروايات تذكر بأن هذه الأحداث ذكرها ابن طولون بالتفصيل في الجزء الثاني من هذا الكتاب؛ بيد أن الإشكالية بقيت في اختفاء هذا الجزء وعدم ظهوره إلى يومنا هذا. إذ يذكر المؤرخ والمحقق أحمد ايبش أن النسخة الأصلية لهذا الكتاب عُثِر عليها في مكتبة جامعة توبنغن في ألمانيا سنة 1907، وكانت تتألف آنذاك من 87 ورقة تضم أخبار وحوادث الفترة الممتدة بين سنة 884 وسنة 926 هـ، مع ثغرات كثيرة أهمها مطلع الكتاب الذي يضمّ مقدمته والسنوات الأربع الأولى من حكم العثمانيين،

كما يذكر ايبش أن أول طبعة عربية صدرت للكتاب كانت على يد الباحث المصري محمد مصطفى، وصدرت في القاهرة عام 1964، غير أن هذه النشرة اقتصرت على الجزء الأول وحسب، وذلك لأن ابن طولون كان قد قسم كتابيه إلى جزأين؛ شمل الأول منهما حوادث 880/926 هـ (وهو المخطوط المحفوظ في توبنغن بنسخة واحدة بخط مؤلفها)، بينما شمل الثاني حوادث (927/951 هـ) وهو جزء لم يحظ بالتحقيق من قبل مصطفى، كونه قد ضاع بأكمله. ومما يذكره ايبش في هذا السياق أيضاً، أن المستشرق الألماني كارل بروكلمان، ذكر أنه عثر على نسخة من كتاب ابن طولون في المتحف البريطاني، ولكن تبين لاحقاً أنها لمخطوط من كتاب «الكواكب السائرة» لنجم الدين الغزي.

وأمام غياب الجزء الثاني من مخطوطة ابن طولون، بقيت غالبية الدراسات التي تبحث في بدايات قدوم العثمانيين إلى بلاد الشام، تعتمد على ما دونه ابن طولون عن تلك الفترة، من خلال ما نُقِل عنه لاحقاً في كتب الغزي وبعض المؤرخين المعاصرين له، أو ممن خلفوه. بيد أن صعوبة العثور على هذا الجزء لم تُفقِد بعض المحققين والمؤرخين الأمل من العثور على خيط ما، أو حتى رواية أو أوراق منقوصة من هذا الجزء، وهو الأمل الذي سيتحقق جزئياً مع ايبش الذي قادته حفرياته في مكتبات ومحفوظات الجامعات الأوروبية؛ بحثاً عن هذا المخطوط المفقود، إلى العثور على اجزاء منه في مكتبة برلين العامة، قبل أن يستكمل بعضها الآخر من خلال مصادر ومخطوطات أخرى، نقلت أجزاء عديدة من الجزء الثاني من كتاب «مفاكهة الخلان».

وسيقوم ايبش، بعد هذا الاكتشاف، بإعادة تقميش ما جمعه من هذا الجزء الثاني في كتاب بعنوان «تاريخ الشام في مطلع العهد العثماني». أما الانطباع الأول الذي ينتاب ذهن القارئ، إثر مقارنة بين الجزأين الأول بشكله شبه الكامل، والثاني بصورته التي جمعها ورممها إيبش، هو أن حجم الوفيات بدأ يطغى على حجم الحوادث، وكأن نفس المؤلف زهدت تكاليف الحياة وشؤونها الفانية؛ كما نعثر في الجزء الثاني على معلومات حول الأوضاع الصحية لابن طولون؛ إذ يذكر أن قاضي دمشق عرض عليه آنذاك منصب خطيب الجامــع الأموي، بيد أنه امتنع لضعف بدنه.

أما على صعيد الأوضاع السياسية وحالة عدم الاستقرار التي عرفتها السنوات الأولى من قدوم العثمانيين، فإن ابن طولون كان قد ذكر في الجزء الأول من كتابه، البلية الكبرى التي مُنيت بها دمشق بعدما افتتحها بنو عثمان «فأُخرِجت أناس كثيرة من بيوتها، ورُمِيت حوائجها ومؤنها، وطرح جمع من النساء الحبالى، وحصل على الناس شدة لم تقع لأهل دمشق… ولم يوقروا أحداً لا صغيراً ولا كبيراً، ولا أهل القرآن ولا أهل العلم ولا الصوفية». وفي الفصل الثاني، عاد ابن طولون ليروي لنا بلية أخرى عاشها أهل دمشق على إثر تمرد الغزالي، التي رسخت في أذهان الناس باسم «الفتنة الغزالية». إذ يذكر ابن طولون، أن السلطان سليم «توفي سنة ستة وعشرين وتسعمئة هجرية وتولى السلطان سليمان في أثنائها». وكان النائب في دمشق آنذاك جان بردى الغزالي، الذي سرعان ما خرج بعد سماعه للخبر عن طاعة السلطان سليمان. أخذ في البداية قلعة دمشق من يد جماعة الأروام، ثم أرسل مجموعة من عساكره للسيطرة على مدن طرابلس وحمص وحماه « أخبر بأن جماعة الغزالي في طرابلس ملكوا قلعتها من الأروام، ثم تبين إنما ملكوا بابها الخارج فقط». في هذه الأثناء أيضاً كان الغزالي قد وصل إلى مدينة حلب للسيطرة عليها، فقام جنوده بقطع الماء الذي يدخل إلى المدينة، ثم حاولوا اقتحام قلعتها بعد أن تحصن فيها الأهالي والموالون للعثمانيين، غير أن كل محاولاتهم باءت بالفشل، ما أجبر الغزالي على الانسحاب بعساكره من دون قتال، ومما يذكره ابن طولون حول هذا الانسحاب «وخرج الناس إلى بيوتهم فوجدوا أبوابها أُخِذت وكُسِرت وشبابيكها جُهِزت إلى دمشق وطمائرهم نُبِشت، فافتقر خلق كثير».

عاد الغزالي إلى دمشق، ومنع الحجاج العائدين من حلب وحماه من العودة لبيوتهم؛ وأخذ في المقابل يوزّع السلاح على شباب الحارات في دمشق، محرضاً إياهم على قتال العثمانيين «لا تقاتلوا الأروام من أجلي، وإنما قاتلوهم خوفاً على حريمكم». بعد ذلك بأيام، يذكر ابن طولون، أنه نُودِي بالغزالي سلطاناً للحرمين، «ولُقّب بالأشرف من غير بيعة. وخرج من الجامع الأموي في موكب حافل، ورعاع الناس يضجّون بالدعاء له وبالنصر». ومع وصول الجنود العثمانيين لمشارف المدينة، قرر الغزالي «ملاقاة العسكر الرومي الواصل إلى المصطبة المذكورة (القابون الفوقاني)، وتحقق قولهم إن السلطان سليمان ابن عثمان توفي»، فلما كان وقت الظهر تلاقى العساكر من كلا الطرفين عند قرية الدوير (قريبة من بلدة دوما).. هنا يصف لنا ابن طولون ما سمعه عن مجريات هذه المعركة، وما عاشته المدينة لاحقاً من أحداث جسام كان وقعها على الأهل والأجواء كـ»وقع القيامة» على حد تعبيره، «فما كان إلا لحظة وانكسر عسكر السلطان جان بردي الغزالي وقُطِع رأسه» ثم أخذت القوات العثمانية تلاقي بقية العسكر الهاربين إلى الصالحية وضواحي دمشق. فأخذ العسكري بكسر أبواب بيوتها وحواصلها ودكاكينها، و»ذهبت أموال الناس وأسبابهم»، ولم يسلم منهم إلا من أعماه الله عنهم، «وعروا النساء فضلاً عن الرجال، ولم يحترموا صوفياً ولا فقيهاً ولا كبيراً ولا صغيراً»، ومما يذكره في نهاية روايته لأحداث هذا التمرّد، أن قائد القوات العثمانية وبعد أن انتهى من سيطرته على المدينة، جهّز رأس الغزالي ومعه ألف أذن من المقتولين إلى السلطان سليمان بن سليم في إسطنبول، كتعبير ودليل على النصر وعودة دمشق لحكمه.

٭ كاتب من سوريا

القدس العربي

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى