سياسة

المعارضة السورية.. عروض مجّانية/ علي العبدالله

أطلقت جهات سياسية سورية معارِضة أخيراً مبادرات لحلّ الصراع في سورية، انطوى بعضها على عروضٍ “مرنة”، أمل تجسير الهوة مع النظام ورعاته الإقليميين والدوليين؛ وفتح باب للولوج في عمليةٍ سياسيةٍ مثمرة، متجاهلةً ألف باء المفاوضات السياسية ومستدعياتها، إنْ على صعيد طبيعة العرض السياسي وتوقيته، والحسابات المرتبطة به، أو على مستوى ترك مجالٍ للمناورة والمساومة خلال مراحل التفاوض، كي لا تقع أسيرة فرضياتها وسقوفها، وتجد نفسها في موقف المستسلم أو الرافض، وهو في الحالتين غير ملائم لقوى تريد تحقيق أهدافها. يستدعي تقديم عرض سياسي، منطقي وعملي، إجراء حساباتٍ دقيقةٍ ومركبة، تتناول عناصر المشهد السياسي بأبعاده المحلية والإقليمية والدولية، وتقدير موقف لميزان القوى والمصالح؛ يحصر القوى ومصالحها وشروط قبولها عقد صفقة، والتوقيت المناسب لتقديم العرض، قبل صياغته، وتحديد عناصره وآليات تنفيذه بمراحلها وحدودها في الزمان والمكان وسقوفها الدنيا والعليا مع التحوّط للمناورات، والاحتفاظ بأوراق تفاوضيةٍ لاستخدامها في اللحظة المناسبة خلال مراحل التفاوض أو التنفيذ.

عرف تاريخ الصراعات والعلاقات الدولية نشوء مناهج وقواعد لإدارة تفاوض ناجح، لعل أشهرها ذاك المسمّى “المباراة” الذي يقوم على ممارسة عملية تفاوضٍ افتراضية، إذ يقوم أشخاص ذوو خبرة بتجسيد مواقف الأصدقاء والخصوم، وتسجيل المواقف المحتملة، والردود عليها، ووضع تصورات وسيناريوهات للاحتمالات التي استنتجت خلال “المباراة”، يزوّد بها الفريق المفاوض عند انطلاق المفاوضات الفعلية.

ستركز هذه المقالة على عنصر التوقيت في المبادرات التي أعلنت (إعلان مبادئ فوق دستورية، المبادرة الوطنية، الحوار السنّي العلوي، اللامركزية الديمقراطية) ومدى منطقيتها، لجهة محتواها وتوقيتها، وفق معطيات الصراع ببعديه: الصراع في سورية والصراع على سورية، وقدرتها على استدراج عروض من النظام ورعاته.

في قراءة للعوامل المحلية والإقليمية والدولية الراهنة، ولفرص التفاوض على حل سياسي، يمكن القول إن الفرصة في الظروف الراهنة معدومة، فالعامل المحلي ما زال يراوح عند خيار النظام وداعميه، القائم على رفض مطالب المعارضة بتغيير سياسي، والدخول في مرحلةٍ انتقالية، والتمسّك بأولوية السيطرة على جميع الأراضي السورية، بالقوة أو بالمصالحات، والتفاوض على شروط العودة إلى “حضن الوطن”، وعجز قوى المعارضات السياسية والعسكرية، عن إحداث تغييرٍ في ميزان القوى، بحيث تفرض على النظام وحماته الذهاب إلى مفاوضاتٍ جدّية، فالتوازن العسكري في صالحه، ما يجعله غير معني بالتفاوض، “لن تحقّق المعارضة بالسياسة ما عجزت عن تحقيقه في الميدان”، وفق ما يُعلن رجال النظام.

ليس العامل الإقليمي أقلّ استعصاءً من ذلك المحلي، في ضوء تعدّد القوى الإقليمية المنخرطة في الصراع على سورية (إيران، تركيا، إسرائيل، دول عربية، وخصوصاً دول الخليج)، وتناقض مصالحها وخياراتها وصراعاتها البينية، وسعي كل منها إلى تعظيم مكاسبها عبر حسم الصراع على سورية، أو تحقيق نفوذ لتقييد الخصوم وعرقلتهم على أقل تقدير. أضاف قرار الرئيس الأميركي دونالد ترامب، الاعتراف بسيادة إسرائيل على الجولان السوري المحتل، إلى المشهد تعقيداً إضافياً، بتعزيز سردية أطراف إقليمية ومحدّداتها في إدارة الصراع، ووضع أطراف أخرى في موقف صعب؛ بنسف سرديتها وانكشاف ضعفها في مواجهة منافسيها. هذا، وبإضافة تقاطع مصالح هذه القوى وتعارضها مع مصالح (وخيارات) القوى الدولية المنخرطة في الصراع (روسيا، والولايات المتحدة، المملكة المتحدة، فرنسا، إيطاليا)، ووزن مشاركة كل قوة ودورها، والنفوذ الذي حازته سياسياً وعسكرياً؛ وموقف كل منها من القوى المحلية وخياراتها، يمكن أن نلمس حجم الاستعصاء وتجسيداته من خلال عدد القوى والاشتباكات الحاصلة بينها، والأبعاد التي يضفيها التنافس الروسي ــ الأميركي على هذه الاشتباكات: اشتباك أميركي ــ تركي على خلفية الموقف من دور القوى الكردية الحليفة لواشنطن، ومصير إدارة الحكم الذاتي شرق الفرات، وربط واشنطن انسحاب قواتها بضمان حماية الحلفاء، وتحديد نطاق التدخل التركي؛ والتلويح بالبقاء شرق الفرات بقوةٍ قدرها ألف جندي، ما لم تقبل تركيا بمطالبها. اشتباك روسي ــ تركي على مصير النظام السوري. اشتباك روسي ــ إيراني على حصة كل منهما في سورية (زيارة رئيس النظام طهران وعقد اجتماع قائدي أركان إيران والعراق مع قائد أركان النظام في دمشق، وتلزيم إيران بإدارة ميناء اللاذقية، والدخول في مفاوضات إيرانية عراقية سورية، لفتح طريق بري يربط الدول الثلاث، والعمل على ترتيب زيارة رئيس النظام لبغداد، وردّ روسيا بالتفاهم مع رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو على تشكيل فريق عمل دولي لبحث إبعاد القوات الأجنبية من سورية، وإرسالها وزير دفاعها إلى دمشق لتحذير النظام من الانجرار وراء الرغبات الإيرانية في الهجوم على إدلب وشرق الفرات، والتعبير عن تحفظها على فتح الطريق؛ وتعبيرها عن غضبها، عبر تأييد تظاهرات معارضة في درعا البلد، وإزالة صور رئيس النظام من معبر نصيب وبعض قرى حوران). زاد هذا الاشتباك سعي النظام إلى استثماره (الاشتباك) وابتزاز طرفيه دقة وتعقيداً. ثم هناك اشتباك تركي ــ إيراني على نفوذ كل منهما في سورية، واشتباك آخر إسرائيلي ــ إيراني وإسرائيلي ــ تركي على النفوذ في سورية… إلخ.

العامل الدولي أكثر دقةً وحساسيةً في ضوء امتداداته وحساباته البعيدة والقريبة، إذ جاء الانخراط الروسي السياسي والدبلوماسي والتدخل العسكري المباشر، بالترابط مع اشتباكات أميركية روسية على أكثر من ساحة (تمدّد حلف شمال الأطلسي “الناتو” نحو الحدود الروسية الغربية بضم مزيد من دول أوروبا الشرقية للحلف، ونشر الدرع الصاروخية في رومانيا وبولونيا وجمهورية التشيك وتركيا، وتخزين أسلحة للحلف في دول البلطيق). ردت روسيا، لاعتبارات قومية ومصلحية، أولها الرد على الاستهانة بها وتجاهل مصالحها، وثانيها العمل على استعادة مكانتها ودورها على الصعيدين الإقليمي والدولي، فجاء هجومها على جورجيا عام 2008، واقتطاع أراض منها وإقامة جمهوريتين مستقلتين: أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية. تجاهل الغرب تحركها بدعم موجة الثورات في دول أوروبا الشرقية، الثورات الملوّنة وفق موسكو، وضرب مصالحها في ليبيا عبر دعم المعارضة الليبية وإسقاط نظام القذافي، وإسقاط الرئيس الأوكراني فيكتور يانوكوفيتش، حليف موسكو، فردّت بالهجوم على أوكرانيا واقتطاع أراضٍ في شرقها وإقامة جمهوريتين “شعبيتين”، لوهانسك ودونيتسك، يوم 11/5/2014، واحتلال جزيرة القرم وضمها إليها؛ قبل أن تزج قواتها إلى جانب النظام السوري الذي أشرف على الانهيار صيف 2015، ما كان سيؤدي إلى خروجها من البحر الأبيض المتوسط. أصرّت روسيا والغرب على إدارة الملف السوري، وممارسة ضغوط عنيفة وسياسية، عبر تمسك كل منهما (الغرب وروسيا) بتصوره الخاص للحل: مخرجات مؤتمرات جنيف في مواجهة مخرجات مؤتمرات أستانة وسوتشي، واعتبار كل منهما الأخرى عدواً استراتيجياً، فرض عقوبات أميركية شديدة، لا على روسيا فقط، بل على الدول التي تشتري أسلحة روسية.

لم يقف التحدّي الروسي للغرب عند حدود حماية النظام السوري ومنع سقوطه، بل بدأت روسيا 

العمل على تحقيق اختراقات ومكاسب في: مصر (بيع أسلحة ومناورات مشتركة وإقامة مفاعل نووي في منطقة الضبعة)، وليبيا (دعم قوات خليفة حفتر)، والسودان (العمل على إقامة قاعدة بحرية، تجعلها جزءاً من معادلة البحر الأحمر وخليج عدن)، وجمهورية أفريقيا الوسطى (أرسلت مقاتلين من مرتزقة فاغنر لدعم النظام الحاكم ضد معارضيه عام 2017)، وعزمها إقامة مركز خدمات لوجستية في إريتريا، والعمل على دق إسفين بين تركيا، العضو في حلف الناتو، والولايات المتحدة عبر تحقيق بعض طموحات تركيا في سورية (مباركة عمليتي درع الفرات وغصن الزيتون والتنسيق معها في إدارة ملف إدلب وشرق الفرات وبيعها صواريخ إس 400 بالإضافة إلى مد أنابيب غاز روسية عبر أراضيها، وإقامة مفاعل نووي بقرض طويل الأمد)، والضغط على الولايات المتحدة للانسحاب من سورية، باعتبار وجود قواتها غير شرعي، وأخيراً الانخراط في الصراع الفنزويلي بدعم بقاء النظام، وإرسال قوات ومساعدات غذائية. كانت دوائر في المعارضة السورية، وما زالت، قد تبنّت تقديراً يربط التدخل الروسي في سورية بموافقة أميركية، وكأن ما يدور بين الدولتين من صراع، مسرحية أو لعب أطفال، لم يميز بين الموافقة وغض النظر لحسابات واعتبارات تكتيكية.

وعليه، يقود كل ما تقدم من معطيات إلى استنتاجٍ رئيس أن هدف الحراك السياسي، الإقليمي والدولي، الراهن، ليس الحل السياسي بل إدارة التناقضات، لمنع صدام كبير بين القوى الإقليمية والدولية على الأرض السورية. ملاحظة إضافية على فحوى المبادرات أن القوى التي تقف وراءها، وهي تسعى إلى إنجاح مبادراتها، قد استنزفت رصيدها التفاوضي، بالتخلي عن سردية المعارضة ومطالبها، وعدم الاحتفاظ بأوراق، ستحتاج إليها خلال مراحل التفاوض.

العربي الجديد

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى