ثقافة وفكر

غيرة اللاديني على الإسلام/ عمر قدور

إذا كان لنا أن نقارن بين ردود الأفعال العربية إزاء الهجوم على مصلّين مسلمين في منتصف شهر آذار الماضي والهجمات التي أودت بمسيحيين في عيد الفصح فالنتيجة بلا شك مخيبة للآمال؛ الإرهاب الذي ضرب مسلمين في نيوزيلندا نال من الاهتمام أضعاف ما ناله الإرهاب الذي ضرب مسيحيين في سيريلانكا. وإذا تجاوزنا ردود الأفعال العربية والإسلامية، ما يخيب الآمال أن الإرهاب الذي طال مسلمين في نيوزيلندا حظي باستنكار عالمي واسع النطاق، وحظي المسلمون في نيوزيلندا بتعاطف شعبي ورسمي قلّ نظيره، بما يعكس في الجهة المقابلة حساسيتنا المتدنية عموماً تجاه العنف عندما لا نكون ضحاياه.

لقد أثار الهجوم النيوزيلندي غضب واستنكار الإسلاميين جميعاً، بينما لم يثر الهجوم السريلانكي استهجان سوى قلة معتدلة منهم. الهيئات الرسمية الإسلامية لا يُنظر إلى بياناتها بجدية، لأنها في الأصل غير مؤثرة في الشارع الإسلامي المتروك لخطابات غارقة في المظلومية والتطرف المبني عليها. ضمن مناخ المظلومية هذا، سينتعش الربط بين الحدثين، ليأتي الثاني منهما انتقاماً لضحايا الأول، وكأن للإرهاب عدالته الخاصة، أو هو السبيل الواقعي الوحيد لإحقاقها!

اعتدنا خلال عقدين على الأقل، أي منذ هجمات الحادي عشر من سبتمبر، على القول بأن الحرب على الإرهاب تقتضي تفكيك أسباب التطرف، وقسم مؤثر منها يأتي من سياسات القوى العظمى، بينما يأتي قسم مؤثر آخر من انعدام الديموقراطية في بلداننا. صحة هذا التحليل، الذي يعتمده كثر من غير الإسلاميين، كانت معرّضة طوال الوقت للاستثمار من قبل الإسلاميين أنفسهم، لأن الفكرة تتلاقى من حيث لا يريد أصحابها مع المظلومية الإسلامية. أخْذُ الفكرة من عمقها السوسيوسياسي إلى المجال الحركي المباشر سينطوي على اعتبار الإرهاب الإسلامي غير واعٍ بذاته، ولأنه تعبير عن أزمة أعمق فمسؤولية أصحابه الحصرية تبدأ عند انقضاء تلك الأزمة.

الحق أننا في العديد من التحليلات الصادرة عن لادينيين نرى ما يمكن وصفه بالغيرة بالإسلام، الغيرة التي يعزّ العثور عليها لدى إسلاميين يرفعون راية الانتصار له. الإسلاميون مثلاً يرفضون بشكل قاطع التمييز بين مفهومَيْ “مسلم” و”إسلامي” ويرونه بدعة علمانية خبيثة، أي أنهم يرفضون رفضاً باتاً التمييز الصادر عن لادينيين بين ما هو سياسي “إسلامي” وبين ما هو إيماني “مسلم”، والغاية هنا من دمج المفهومين هي تجيير كل ما هو إيماني لصالح ما هو سياسي.

بخلاف اللادينيين، يرفض الإسلاميون أي تحليل تاريخي بذريعة القداسة، وتالياً ترفض كل فئة منهم المسّ بفهمها الإسلام. ومع أن هذا الرفض يفضح تاريخية الإسلام، من حيث خضوعه لقراءات معاصرة متعددة، فإن ما يجمع هؤلاء الإسلاميين المختلفين هو ادعاء كل فئة منهم تمثيلها الإسلام الصحيح الذي لا يخضع لمتغيرات زمنية. رأينا “ونرى” كيف أدى هذا الفهم إلى تكفير الآخرين المختلفين، ثم تكفير الأقرب منهم، وكيف جرت دماء بين مختلف الأطراف على قاعدة احتكار كل طرف الحقيقة المطلقة.

إن محاولة اللادينيين عزل ظاهرة التطرف، مع تفهم أسبابها، تصطدم بمسار مغاير تماماً لدى الإسلاميين. يمكننا وصف ما كان يحدث حتى الآن بمثابة عملية اصطفاء لصالح الأكثر تطرفاً، فالمعركة بين الأكثر تطرفاً والأقرب إلى الاعتدال تنتهي دائماً لصالح الأول لأنه الأقدر على تكفير من يخالفه الفهم، والأجرأ على استغلال ضعف خصومه “المعتدلين” الذين لا يستطيعون إخراج تفسيره المتطرف من دائرة الإسلام على نحو ما يفعل معهم. ضعف معسكر الاعتدال تجاه التطرف لا تفسّره فقط الظروف السياسية التي تشجع الأول، وإنما تفسّره أيضاً قلة حيلته إزاء التفسير المتطرف للإسلام، وعدم قدرته على اتخاذ موقف قاطع منه.

للتو كنا قد عشنا لحظة داعش الذي قيل أنه لا يمثّل الإسلام، لكن هذا الكلام العمومي “والعامي أحياناً” لا يعكس رأي مختلف القوى الإسلامية التي لا تجرؤ على دحض مرجعيات داعش، أو اعتبارها جزءاً عابراً ومنقضياً من تاريخ الإسلام. في المحصلة لا يستطيع المعتدلون، مهما بلغت غيرتهم على صورة الإسلام، نفي الصلة بين إرهاب أولئك المتطرفين والإسلام، ولا يستطيعون تالياً عزل ظاهرة التطرف ضمن إطار سياسي بحت بمعزل عن الأيديولوجيا الدينية.

إننا لا نتحدث اليوم عن صورة الإسلام في الغرب، على نحو ما كان يُشاع بأنها صورة مشوّهة، ولدينا تجارب راهنة كتجربة حكم داعش القصيرة وأيضاً تجربة حكم جبهة النصرة بمرجعيتها لفكر تنظيم القاعدة. ممارسات هذه التنظيمات في حق الأهالي المحليين تكشف فهمها الحقيقي، إذا اعتبرنا الإرهاب الموجه للغرب رد فعل على سياسات الأخير. أن لا نجد تياراً إسلامياً يقف في وجه ذلك الإرهاب في حق السكان المحليين، وقسرهم على نمط معين من التدين، فهي معضلة تنفي كل ما يُقال عن محاولات خارجية لتشويه صورة الإسلام، إذ يكفي في الواقع ترك المهمة للإسلاميين أنفسهم كي يشوّهوا صورته داخلياً أيضاً.

لا ننسى تلازم احتكار الدين مع زعم احتكار الأخلاق من قبل نسبة عظمى من الإسلاميين، والمتطرفين على نحو خاص، الأمر الذي لا ينزع الأخلاق عمّن هم خارج المنظومة الدينية فحسب، وإنما أيضاً يقضي على المنظومات الأخلاقية الاجتماعية. هنا أيضاً تصطدم محاولات اللادينيين فصل الجانب الأخلاقي المفترض عن الممارسة الدينية، لأن الفكر الإسلامي السائد يربط الأخلاق بالعبادات والشعائر الدينية.

باستثناء نسبة بسيطة من كارهي الإسلام فإن غيرة اللادينيين على الإسلام تظهر من خلال الحرص على فصله عن الإرهاب، بشقيه الداخلي والخارجي. وهي تظهر أيضاً من خلال الحرص على الجانب الروحي فيه، بينما تراه يتآكل عبر ممارسات طقسية توتاليتارية تستنفذ مفهوم الإيمان. ثمة أيضاً حرص على أن يكون الإسلام خياراً حراً، لكي ينفصل وينأى عن أشكال الاستبداد. بالطبع من شأن هذه الغيرة أن تقوّض سلطة الإسلاميين القائمة أصلاً على التعسف، وعلى منطق الغلبة الذي لا يكترث بصورة الإسلام. ربما نكون أمام مفارقة بمحاولة إنقاذ الدين من تعسف أهله، وبإصرار هؤلاء الأهل على الحط من قيمته باختزاله إلى سلطة تستلهم أسوأ ما في الاستبداد. يأخذ الإسلاميون على اللادينيين أنهم يريدون استنساخ تجربة الغرب، في حين أنهم هم من يسعى بغرور إلى استنساخ سلطة الكنيسة ومن ثم انهيارها، دون اكتراث بكلفة ذلك الدرس من الدماء.

المدن

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى