سياسة

في التحليل المقارن بين موجتي الثورات العربية -مقالات مختارة-

الحلقة المفقودة في التحليل المقارن بين موجتي الثورات العربية/ بكر صدقي

استدعت تطورات الثورتين السودانية والجزائرية، لدى المراقبين والمحللين، مقارنات بينها وبين الموجة الأولى لثورات الربيع العربي التي اندلعت في 2010 ـ 2011، وبخاصة من ناحية الاختلافات الظاهرة والمسارات المتباينة بين الموجتين. الغريب أن أكثر الأقلام ركزت على الفروقات على ضفة الثورة، بين الموجتين الأولى والثانية، ولم تتحدث عن ضفة النظام إلا من حيث غياب العنف التام أو النسبي في الموجة الثانية (السودان والجزائر) بالقياس إلى العنف المنفلت الذي أدى، في حالاته القصوى كسوريا وليبيا واليمن، إلى تفكك النسيج والكيان الوطنيين واستدعاء الاحتلالات الأجنبية وتشظي الدولة، إضافة إلى الإبادات الجماعية وخراب العمران.

لكن السؤال الغائب هو: لماذا غاب العنف عن الثورتين السودانية والجزائرية؟ هل لأن الثوار «أكثر حضارية» أو مشبعين بالوعي المدني؟ أو لأن الإسلام السياسي قرر عدم الانخراط؟ أو لأن «الخارج» لم يتدخل؟ أو أن للثورتين قيادتين أكثر وعياً وتنظيماً؟ أم بسبب المشاركة النسائية الكثيفة؟ أم انخراط المدن الكبرى في الحراك الثوري بدلاً من هيمنة المجتمعات الريفية؟… إلخ

أم لأن النظام، في كل من الجزائر والسودان، أكثر وطنية من مثيلاته في بلدان الموجة الأولى، أم لأن المؤسسة العسكرية أكثر استقلالية وأكثر وطنية؟ أم لأن رئيسي السودان والجزائر ليس لديهما مشروع توريث للحكم، كحال عائلات القذافي والأسد وصالح؟… إلخ

قد تلعب بعض العوامل المذكورة في حزمتي الأسئلة أعلاه أدواراً متباينة القوة في تعزيز الخيار الكارثي في الموجة الأولى، أو الخيار السياسي في الموجة الثانية، لكنها، برأيي تبقى من نوع العوامل الثانوية المساعدة، وليست العامل الرئيسي المفسر لتباين المصائر بين الموجتين.

العامل المشترك الأبرز بين حالتي السودان والجزائر هو وجود أزمة داخل النظامين، يعبر عنها بوجود مراكز قوى تتبنى معالجات مختلفة لمواجهتها. هذا ما يفسر الإطاحة بسهولة برأسي النظامين «من الداخل» تحت ضغط المجتمع الثائر. لم يتأزم نظاما بوتفليقة والبشير في مواجهة الأزمة، بل كانا مأزومين مسبقاً في لحظة المواجهة، وهو ما سهل انقلاب بعض النظام على بعضه.

بسبب البنية المغلقة والكتيمة للأنظمة العربية، لا تظهر أزماتها الداخلية إلى العلن، إلا في حالات الاستثناء. لكن مؤشرات، ربما تبدو، للوهلة الأولى، ضئيلة قد تشي بوجود الأزمة. من ذلك مثلاً إعادة ترشيح بوتفليقة لمنصب الرئاسة للمرة الخامسة، على رغم حالته الصحية التي لا تسمح بهذا الترشيح السوريالي. فهو يعني أن النظام لديه أزمة بديل عن بوتفليقة، أي أن النخبة الحاكمة غير متفقة على ترشيح شخص آخر يؤمّن استمرار النظام. وهكذا استهتر النظام بمشاعر الجزائريين معتمداً على رهاب «العشرية السوداء» التي أسست لاستنقاع الوضع وقتل روح الحرية والكرامة البشرية في المجتمع. لكن السحر انقلب على الساحر، فتحولت إعادة ترشيح الكرسي المتحرك إلى حافز لالتقاط لحظة أزمة النظام للانقضاض عليه متلبساً في حالة ضعف.

لنفترض ـ جدلاً ـ أن إعادة انتخاب بوتفليقة تمت بلا مقاومة، فهل كان بوسع الجزائريين أن ينتفضوا بعد سنة أو سنتين مثلاً؟ وعلى فرض أنهم فعلوا، هل كان بوسع تحركهم أن ينمو بلا أي مواجهة عنيفة من النظام؟ بالطبع لا أحد يملك جواباً على هذه الأسئلة الافتراضية. ولكن يمكن القول إن نظاماً مستقراً وموحداً لا تخترقه تصدعات داخلية، يمكنه أن يتخذ قرارات حاسمة من نوع المواجهة حتى النهاية والتمسك بالسلطة مهما كان الثمن.

لكي لا نبقى في دائرة افتراضات لا يمكن الجزم بها، لنلق نظرة مقارنة إلى أبرز مثال كارثي في الموجة الأولى، أعني المثال السوري. لقد اندلعت الثورة في سوريا في لحظة لم يكن فيها النظام في أزمة، بل في حالة استقرار تامة، موحداً وراء واجهته المتمثلة ببشار الأسد. لقد مر نظام الأسد بأزمتين متفاوتتي الحدة، منذ تولي بشار بعد موت أبيه، الأولى هي لحظة التوريث الذي كان مهيئاً له منذ وفاة أخيه الأكبر باسل قبل ست سنوات، وكان السوريون يعرفون ذلك ضمنياً على رغم عدم الإعلان عنه مسبقاً. وحين مات الأب كان كل شيء مهيئاً لنقل السلطة «بسلاسة» كما وصفتها حكومات الدول الغربية. ظهر مؤشران باهتان على عدم الانسجام التام أو «السلاسة» الكاملة، هما غياب (تغييب) نائب الرئيس عبد الحليم خدام الذي قيل إنه معترض على التوريث، وظهور صوت وحيد في جلسة مجلس الشعب المخصصة لتعديل الدستور لكي يناسب سن بشار الأسد، ذلك الصوت الذي طالب رئيس المجلس بتقديم مسوغات للتعديل الدستوري.

في الأيام اللاحقة تراجع الرجلان عن تحفظاتهما، أو أرغما على التراجع، فأعلنا ولاءهما للرئيس الجديد أمام الملأ. أما المجتمع السوري فقد ابتلع الإهانة بصمت كامل تقريباً، باستثناء تصريح المعارض رياض الترك عن اعتراضه على رئاسة بشار الأسد. وهكذا مرت لحظة التوريث التي يمكن وصفها بـ»أزمة موضوعية» ظلت في حالة كمون. كان من شأن اعتراض اجتماعي واسع، في تلك اللحظة، أن تنقلها من الكمون إلى الواقع، لكن ذلك لم يحدث.

أما الأزمة الثانية فهي ما حدث بعد اغتيال رفيق الحريري وإخراج الجيش السوري من لبنان. لكنها بقيت أزمة خارجية ولم تترجم إلى لحظة ثورية تعمّقها وتؤدي إلى تفكك النخبة الحاكمة. وتشير حادثة «انتحار» غازي كنعان إلى احتمال تحولها إلى أزمة داخلية للنظام جرى قطعها باستئصال كنعان من المشهد.

إنه لأمر لافت ومعبر أن كلتا الأزمتين المحتملتين، في 2000 و2005، قد تم بترهما باغتيالين تم تصويرهما في صورة انتحارين. يمكن البناء على هذين المثالين للقول إن صيف 2012 الذي شهد تفجير خلية إدارة الأزمة، كان موعداً مع أزمة ثالثة للنظام استطاع التغلب عليها بواسطة اغتيال جماعي هذه المرة.

أما في آذار/مارس 2011 الذي شهد بداية الثورة الشعبية في سوريا، فقد واجهها النظام بلا أي أزمة داخلية في بنيته. وهو ما يسر له مواجهتها بعنف منفلت لم يتراجع عنه لاحقاً، بل واظب على تصعيده باطراد، وبخاصة بعدما حمل الثوار السلاح وبدأت تدخلات دول إقليمية ومجاورة. لذلك كانت مواجهته مشهدية لأزمته الداخلية الثالثة حين اغتال أبرز قادته العسكريين والأمنيين وعلى رأسهم الصهر آصف شوكت.

لا يمكن تفسير المواجهة السلمية من قبل النظامين الجزائري والسوداني للثورة السلمية، بأسباب أخلاقية كالقول مثلاً أن بوتفليقة والبشير أكثر وطنية أو إنسانية من زميلهما بشار الأسد. فالمقارنة الشخصية تشير بوضوح إلى تفوقهما على الأسد في خصلة الذكاء على الأقل. كل ما في الأمر هو صلابة نظام الأسد في آذار/مارس 2011، مقابل أزمة داخلية في النظامين الجزائري والسوداني في 2019.

٭ كاتب سوري

القدس العربي

عودة إلى طائفية الصراع السوري/ رضوان زيادة

يحق للسوريين اليوم وبعد ما حدث في الجزائر والسودان أن يتساءلوا مجدداً لماذا لم يتصرف الجيش السوري بنفس الطريقة التي تصرف بها الجيشان الجزائري والسوداني في الرد على المظاهرات والاحتجاجات السلمية التي ملأت شوارع العاصمة، وغيرها من المدن في كل من البلدين العربيين، في الحقيقة كانت إجابة السوريين سريعة بشكل أتوماتيكي بسبب “الجيش السوري طائفي”.

في الحقيقة في هذه الإجابة كثير من الصحة بالنظر إلى الأحداث التي شهدتها سوريا خلال السنوات الثمانية الماضية، لكنها لا تفسر كل الإجابة، بمعنى أن الطائفية

وحدها لا تبرر الجرائم الفظيعة التي ارتكبها الجيش والقوات الأمنية السورية بحق المدنيين العزل، بل إن هناك أسبابا أكثر تعدداً وتعقيداً لابد من محاولة البحث عنها في محاولة لتفسير كيف آلت إليه الأوضاع في سوريا.

لقد كانت الجرائم المؤسسة على أساس طائفي وإثني هي الأكثر انتشاراً في الحرب السورية، كما أنها أحدثت الهدف السياسي المنشود منه تماماً وهو التطهير أو “التجانس” حسب التعبير الذي استخدمه الأسد مراراً، وكما نقل على لسان رئيس الاستخبارات العسكرية جميل حسن حين قال “إن العدد الهائل للمطلوبين لن يشكل صعوبة على إتمام الخطة (خطة تهدف إلى اعتقال أكثر من 3 ملايين سوري مطلوبين داخليا وخارجيا للمخابرات الجوية)؛ فسوريا بـ 10 ملايين صادق مطيع للقيادة أفضل من سوريا بـ 30 مليون مخرب”.

كان النظام يصر على إذكائها بدل معالجتها بوصفها الطريقة الوحيدة لدعم صلابة قاعدته المتمثلة في “الطائفة العلوية” كما جرى تكرار رواية أن المتظاهرين استخدموا أو رفعوا شعاراً من مثل “العلوي إلى التابوت والمسيحي إلى بيروت” في الأيام الأولى للثورة في درعا، وبعد بحث كبير فمن المستحيل العثور على فيديو واحد لكل المظاهرات السلمية رفعت هذا الشعار لكن هذه الرواية جرى تردديها

بشكل أعمى من قبل كل مؤيدي النظام السوري من محليين ومعلقين على الفضائيات العربية، بهدف نشرها وتحويلها للرواية الرسمية وللأسف كل الباحثين الذي أرخوا لظهور الطائفية في الثورة السورية رددوا هذه الرواية دون حتى محاولة التحقق من تاريخ رفع هذا الشعار أو مكان ظهوره، وحتى مدى هيمنته على خطاب المظاهرات السلمية في المرحلة الأولى للثورة السورية، انظر كيف يتبنى فردريك ستوليز هذه الرواية دون أدنى شك لتثبيت روايته أن الطائفية بدأت مع اليوم الأول للثورة السورية مثل رفع شعار “العلوي إلى التابوت والمسيحي إلى بيروت”. كما ينقل جمال باروت أن هذا الشعار ورد في منشورات وزعت في حي باب توما المسيحي في دمشق، وهو ما يثير التساؤل مجدداً أن هذا الشعار لم يتم تردديه أبداً في مظاهرات المعارضة، كما أن توزيعه عبر منشورات في محافظتين كدمشق وحمص في الأحياء المسيحية والعلوية منها يظهر أنها كانت مجرد رواية حكومية رسمية بهدف الكسب من التجييش الطائفي للأقليات العلوية والمسيحية.

أو عبر تكرار رواية “مقتل العميد عبدو التلاوي بالإضافة إلى ابنيه وابن أخيه في حي الزهراء بحمص، وعرض جثثهم المشوهة عبر الإعلام” كدليل على البعد الطائفي المبكر في المرحلة الأولى من الثورة السورية، لقد نشر الخبر للمرة الأولى في صحيفة الوطن المقربة من النظام، انظر: الوطن (دمشق) 19/4/2011 وقد سمعت الرواية ذاتها تتكرر على لسان كل الأصدقاء الذين ينتمون للطائفة العلوية، وكان لديهم تحفظات على الثورة السورية منذ بدايتها، مما يعكس كيف هيمنة هذه الرواية على المخيال “العلوي” بشكل مبكر ودون تدقيق، لكن الطريف في الأمر أن أحداً لم يتوقف أنه كيف سمح النظام السوري في نيسان 2011 حيث سطوته الأمنية والعسكرية على كل أحياء حمص من القوة والسيطرة والرقابة الكلية بتمثيل بالجثث و”عرضها”، ورواية أخرى تردد أنه جرى “سحلها في شوارع حمص”، كما أنه إذا كان هدف النظام وأد الثورة الطائفية كما هو هدف أي نظام سياسي شرعي يرعى إلى حقن الدماء بين المواطنين بهدف ضمان الأمن والاستقرار، كيف لم يُقدم إلى اليوم أياً من مرتكبي هذا الفعل الشنيع إلى العدالة وفق محكمة علنية بهدف تحويل النظر من البعد الطائفي الجمعوي إلى المسؤولية الفردية، كما هي حال كل الجرائم الجنائية في العالم، لقد كان واضحاً أن النظام – سواء أكان مسؤولاً عن هذه الحادثة أم لا – كان يهدف بشكل رئيسي وخاصة الأجهزة الأمنية والمخابرات كما يذكر خضر خضور هو “ضمان الولاء الكامل لعلويي حمص، والذين ينظر لهم بوصفهم مؤسسة يتم التحكم فيها ويهيمن عليها العلويون من الساحل، على الرغم من حقيقة أن العلويين من حمص هم من المدنيين، ومعظمهم من أفراد العائلة أو الجيران الذين يعملون للجيش أو في أجهزة المخابرات، وهو ما ساهم بشكل مبكر في “عسكرة” المجتمع العلوي مبكراً”، وهو ما يفسر الارتفاع الكبير في نسبة المتطوعين المبكرة لعلويي حمص، وخاصة من منطقة الزهراء في ميليشيات ما يسمى “الشبيحة” التي أطلق عليها النظام “الدفاع الوطني”.

وبالتالي استفاد النظام مبكرا من “علونة” وتطييف الثورة عبر تجييش قاعدته التي بقيت مخلصة له، حتى ولو كان ذلك على حساب الوطن الأكبر سوريا، واليوم ينظر السوريون إلى الجزائر والسودان ويشعرون كم من الصعب تذكر هذا “الوطن” الذي أصبح طائفيا محضاً.

تلفزيون سوريا

ما أنجزته ثورات الربيع العربي 2011/ برهان غليون

بمقدار ما تبعث ثورات ليبيا واليمن وسورية، وإلى حد كبير مصر، الإحباط لدى قطاعات واسعة من الرأي العام العربي، بسبب مآلاتها المأساوية، تعيد ثورات الموجة الثانية، السودانية والجزائرية، الثقة من جديد في مستقبل السياسة والديمقراطية في العالم العربي. والواقع أن ما غير في مآلات الثورات الأخيرة، بالمقارنة مع الأولى، ليس له أي علاقة بطبيعة هذه الثورات، ونوع شعاراتها وجوهر مطالبها وسبل تنظيمها، فهي جميعا ثوراتٌ شعبيةٌ عفويةٌ وسلميةٌ بالضرورة، وذات مطالب واحدة. ما جعل الثانية تختلف حتى الآن في مسارها عن الأولى هو عجز النظم القائمة، لأسبابٍ متعدّدة، في السودان والجزائر، عن استخدام السلاح لسحق الحركة الاحتجاجية واضطرار قادتها، في النهاية، بالضرورة، إلى المناورة السياسية، وفتح باب المفاوضات، بشكل أو آخر، لاحتواء الغضب الشعبي، وتجنب الصدام الدموي ما أمكن، مع المتظاهرين السلميين.

ومن المفيد أن نذكّر أولئك الذين يعتقدون أن سبب فشل ثورات الربيع الأولى في الوصول إلى أهدافها هو استخدامها، بعكس الثورتين الجزائرية والسودانية الراهنتين، السلاح، بأن السوريين استمروا في التظاهرات السلمية ستة أشهر متواصلة، وهم يتعرّضون لرصاص القناصة وشبيحة النظام، مع فقدان عشرات الشهداء في كل يوم، قبل أن يظهر أي سلاح، أما اليمنيون فقد تجاوزوهم في الصبر والثبات على السلمية أكثر من عام ونصف من دون انقطاع. وفي الحالتين، جاء العنف من النظم الاستبدادية الدموية، قبل أن ينتشر السلاح بين الأهالي والنشطاء.

تنبع أهمية تجدّد الانتفاضات الشعبية في الدول العربية من أنها تؤكّد أولا، بمفعول رجعي، على الجوهر السلمي والمدني لهذه الثورات، وتنقض، بشكل قاطع، بذاءة التفسير المؤامراتي الذي سعت إلى إشاعته أبواق النظم الدموية وأنصارها من بعض “القوى التقدّمية” المحنطة التي تجاوزها الزمن، وتعيش في فقاعةٍ من صنعها، وهو التفسير الذي تعيد تدويره اليوم، بسبب ما جرّته حرب النظم على الشعوب من خراب وأهوال ومذابح وحشية، قطاعات أوسع من الرأي العام الدولي والعربي، لإقناع الشعوب بأن طلب الحرية مغامرةٌ وخيمة العواقب، وأن السلام يكمن في الاستسلام للأمر الواقع.

وتبرهن ثانيا أن الديمقراطية ليست اليوم مطلبا حقيقيا في المجتمعات العربية المعاصرة فحسب، 

ولكنها ممكنة أيضا، بل إنها البند الأول على جدول أعمال الشعوب العربية التاريخي، والذي من دونه لن تكون هناك أي إمكانيةٍ لتحقيق أي إنجاز وطني، اجتماعي أو اقتصادي أو ثقافي وأخلاقي.

إن ما طبع الحياة السياسية في البلاد العربية لنصف القرن الماضي هو القطيعة بين النخب الاجتماعية، المتولدة من عملية النهضة والتقدم ذاتها، والشعوب، وانفصال هذه النخب عنها واشتراكها، نظما ومعارضاتٍ، في التشكيك بقدرات الناس، وتنمية انعدام الثقة بالإنسان، وإصرارها على وضع شعوبها تحت الوصاية الفكرية والسياسية، وفرض قاعدة التبعية والطاعة عليها.

كسرت الثورة هذه الوصاية المتعدّدة الأطراف، وفتحت ثغرةً في جدار العزل والتهميش والتشكيك بالنفس الذي غذته النخب الاجتماعية لضمان استسلام الشعب للأمر الواقع وانقياده. لكن الديمقراطية لم تصبح ثمرة ناضجة، ولا في متناول اليد. ما أنجزته الثورة أو المعركة الدموية السابقة، مهما بدت نتائجها المباشرة محدودة، في سورية كما هو الحال في بقية بلدان الربيع العربي، هو تغيير قاعدة الاشتباك، ونوعية العلاقة بين الشعب والنخب التي فقدت جميعا ثقة الجمهور بها، كما خسرت وحدتها واستقرارها. فلم يعد هناك منذ الآن من يستطيع أن يمنع الشعب من التدخل في السياسة، والنزول إلى الشارع، والضغط، من خلال مسيراته السلمية في الساحات العامة، لتأكيد وجوده ورأيه ومصالحه، والدفاع عن حقوقه. ولن تستطيع أي نخبة حاكمة بعد اليوم أن تفرض الأمن والاستقرار، وتستمر في الحكم، من دون أن تأخذ رأي الشعب ومصالحه ووجوده في الاعتبار. ولم يعد هناك من يستطيع أن يمنع الشعب من التظاهر والتعبير عن حضوره ومواقفه، على الرغم من الخسائر التي تكبدها في معركة التحرّر من الوصاية والاستعمار الداخلي، بل بسبب هذه الخسائر والتضحيات العظيمة التي قدّمها لانتزاع سيادته وحقه في الوجود والمشاركة في القرار.

هذا ما تثبته مسيرات المدن السودانية وصمودها أمام مناورات عمر البشير وتهديداته، وما تؤكد على مضمونه أيضا انتفاضة الجزائريين ضد العهدة الخامسة لرئيسٍ أرادت الطغمة الحاكمة أن تفرضه حاكما أبديا رغم مرضه، معتمدة على آثار حرب الإجهاض التي خاضتها لحرمانه من ممارسة حقوقه في ما سميت العشرية السوداء، وبالأحرى الدموية، في التسعينيات. هنا أيضا لم ينس الشعب تضحياته، ولا الثمن الذي دفعه من دم أبنائه لانتزاع حقه في المشاركة في القرار، ولم يكن بإمكان النخبة الحاكمة أن تفرض إرادتها بالقوة مرة ثانية، كما لو أن التاريخ لا يعرف التقدم، وليس سوى دوران دائم في الفراغ. ما دفعه الجزائريون في التسعينيات من تضحياتٍ هو الذي مكّنهم من ثني ذراع النخبة الحاكمة، وأجبرها على التراجع، وحرمها من أي أمل في استخدام العنف ذاته لفرض الطاعة من جديد على المتظاهرين.

وهذا ما أكّدته مسيرات درعا في الذكرى الثامنة للثورة السورية، ردا على إعادة نصب تمثال 

الطاغية حافظ الأسد في المدينة، في محاولةٍ من بقايا دولة الأسد لإحياء رموز القهر والإذلال التي أراد النظام من جديد فرضها لتفريغ تضحيات الشعب من مضمونها، ومحو ذاكرة الكفاح المرير والطويل لسنوات الثورة الدامية، وإعادة الشعب إلى حظيرة السيطرة والاستسلام.

ومع ذلك، يشكل تغيير طبيعة العلاقة وقاعدة التعامل بين النخبة والشعب المدخل الضروري لبدء حياة سياسية حقيقية، لكنه ليس الخاتمة لهذه الحياة، وليس نهاية المطاف نحو بناء نظم ديمقراطية مستقرّة وناجزة. سيستمر الصراع فترة طويلة بين النخب الحاكمة التي سوف تحاول أن تحتفظ بأقصى هامش لنفسها في اتخاذ القرار، وتهميش الجمهور الشعبي ما أمكن، والشعب الذي لن يتوقف عن التدخل في تظاهراتٍ وانتفاضاتٍ سلمية متواصلة لفرض إرادته، فالمنظومة الديمقراطية ليست جاهزة، أو لا تتشكل بضربة واحدة، فكريا وسياسيا وأخلاقيا وبنيويا، في أي مجتمع سياسي. إنها تنمو وتتبلور وتتحدد معالمها من خلال هذا الصراع الجدلي بين الطرفين، بمقدار ما يشكل الصراع ذاته الطريق الحتمي لتطوير وعي الشعب، وبلورة تصوره لمصالحه وحقوقه وتمثل قيم الحرية والديمقراطية أيضا، والتعمق في فهم متطلبات ممارستها الفكرية والقانونية، من جهة، وتطوير وعي النخب الاجتماعية وتحطيم الجدار الذي حاولت أن تقيمه عازلا بينها وبين الشعب، من جهة ثانية، أي لتطوير علاقة احترام وانسجام وتفاعل بين النخبة والجمهور، بحيث تتحول النخبة إلى معبر بالفعل عن إرادة الشعب المتبلورة، لا عالما ولا مجتمعا مستقلا قائما بذاته يخرج من الشعب، ليفرض سيطرته عليه. في المنظومة الديمقراطية، تصبح النخبة الاجتماعية، الحاكمة والمعارضة معا، نخبة الشعب، لأنها نابعة منه، ولا تستمد شرعية سلطتها وحكمها إلا بمقدار ما تعكس تطلعاته، وتمثل إرادته وتجسّد قواه الحية.

كسر حلقة الوصاية، وهو ما تهدف إليه وتقوم به الثورات والانتفاضات الشعبية، هو الشرط الضروري لفتح باب الجدل والصراع للسير نحو الديمقراطية، بمقدار ما يشكّل شرطا لكسر حلقة الوصاية الخارجية بالنسبة للشعب، لكنه ليس كافيا لإقامة الديمقراطية، فالديمقراطية لا تولد دفعة واحدة، وإنما هي ثمرة تراكم في الوعي والشعور والقيم ومفهوم السلطة والعلاقة بها وبنية الدولة وتوزيع سلطاتها، وإيجاد توازناتٍ جديدةٍ داخل المجتمع نفسه. ولا يتم ذلك كله دفعةً واحدة، وإنما هو ثمرة صراع جدلي، يفضي إلى تغيير سلوك النخبة والشعب معا، وتكوين 

المواطنة بالمعنى الحقيقي للكلمة، وإنتاج نخبةٍ من نوع مختلف بمقدار وبموازاة تغير طبيعة الشعب وعلاقته بنفسه، وتصوره لدوره، وتعامل افراده في ما بينهم، وتصورهم لوجودهم السياسي المشترك. هذه عملية تنمية متبادلة، مستمرة وطويلة، للنخب والجمهور، أي للشعب، وهي معرّضة للانتكاس والتراجع والتقدم. لكن الثورة فاتحة أساسية، ومن دونها ليس هناك سوى حكم الوصاية والاستعمار، داخليا أو خارجيا، لا فرق.

لذلك، لا ينفصل النجاح في تحقيق رهان الديمقراطية عن إنجاز ثوراتٍ موازية ثقافية وفكرية واجتماعية واقتصادية أيضا، فالثورات تفتح صفحة جديدة في تاريخ الأمم والشعوب، لكنها لا تحسم مصيرها. وبمقدار ما تتعلم الشعوب من تجاربها، وتراكم من الخبرة والمعرفة النظرية، لكن أيضا وأهم منها، العملية، تضمن وصولها إلى الحالة المدنية التي تميّز الشعوب الحرّة والأمم والديمقراطيات الناجزة. لذلك كل ثورة هي مشروع أمة، ودولة حرة، وبالتالي هي مهمة لم تكتمل ولا تكتمل إلا بثوراتٍ متتالية ومستمرة، ولو بوسائل مختلفة في كل حقبة. وهي عملية تغير وتغيير متواصلين، لا تشكّل الانتفاضة الكبرى فيها سوى لحظة القطع مع الماضي الاجتماعي والسياسي، الضرورية لتحويل نظر المجتمعات ومسارها إلى سكّة جديدة، يصبح فيها تحرير الإنسان، أي بناء قدراته للسيطرة على ذاته ومحيطه، غاية الاجتماع، ومحرّك إبداعه في الوقت نفسه. بتكاليف باهظة غالبا، لكن لا محيد عنها في معظم الأحيان.

العربي الجديد

في سر نجاح الحراك الجزائري/ راتب شعبو

شكل الحراك الجزائري، حتى الآن، قصة نجاح غير مسبوقة في الثورات العربية المجاورة أو البعيدة. ضغط الشارع السلمي يجبر الرئيس عبد العزيز بوتفليقة على سحب ترشيحه لولاية خامسة. الشارع يرى في هذا القرار مناورةً قد تفضي إلى ما هو أسوأ من الإبقاء على الترشيح، عن طريق تعطيل الانتخابات الرئاسية وتمديد الولاية الرابعة إلى أجل غير محدود. المظاهرات تتصاعد، على العكس مما توقع أهل القصر، بوتفليقة يقدّم استقالته مكرهاً قبل نهاية مدته الرئاسية في 28 أبريل/ نيسان الجاري، بعد كلمة صارمة من رئيس الأركان، أحمد قايد صالح.

افترقت الحركة الجزائرية عن أمثالها العربيات بأنها انطلقت وراء شعار واحد، “لا للعهدة الخامسة”. ميزة هذا الشعار أنه محدّد وعملي، أي لا يحتاج تطبيقه إلى أكثر من سحب ترشيح بوتفليقة، وهو، إلى ذلك شعار مفهوم، وله مقبولية كبيرة في الشارع، لأن الرئيس غير قادر صحياً وبدنياً منذ سنوات، وعاجز عن مخاطبة شعبه. وقد سبق أن شهد ترشيحه للولاية الرابعة، وكان مقعداً حينها، اعتراضاتٍ شعبية غير قليلة، فمن المفهوم إذن أن يثير ترشيحه لولاية خامسة هذا الرفض الواسع. بساطة هذا الشعار وعمليته أطلقت عمليتين أو آليتين لهما الاتجاه نفسه، الأولى اشتغلت على مستوى زيادة التعبئة الشعبية واتساع الحركة أفقياً، والثانية على مستوى إيجاد خط انقسام في دائرة الحكم الضيقة، وبالتحديد بين مؤسستي الجيش والرئاسة.

كان لافتاً المستوى “الحضاري” الذي تعاملت به السلطات الجزائرية مع المتظاهرين. سبعة

أسابيع من الاحتجاجات وتحقيق مطلب مهم كاستقالة الرئيس، من دون إراقة قطرة دم واحدة. “بساطة” المطلب، أو جزئيته، ساهمت في “هدوء أعصاب” أجهزة الأمن الجزائرية، لكن العامل الأهم الذي ساهم في شل عنف السلطات ضد المتظاهرين قدرة الشعار على زرع انقسام في السلطة، وتأثيره التفكيكي على صانعي القرار الرئيسيين، وهما دائرة الرئيس الذي سبق أن انتزع جهاز المخابرات وألحقه به في عام 2015، والجيش الذي يحافظ في الجزائر على كيانيةٍ له مستقلة عن القصر، لم يتمكّن بوتفليقة من إلحاقها به، على الرغم من أنه سار شوطاً على هذا الطريق. من الخطوات الواسعة على هذا الطريق كان فصل جهاز المخابرات عن وزارة الدفاع، وإلحاقه بالقصر، الأمر الذي أنهته وزارة الدفاع، بعد استقالة بوتفليقة، من خلال عزل مدير المخابرات، اللواء عثمان طرطاق، الحليف لبوتفليقة، وإعادة جهاز المخابرات إلى وضعه الطبيعي هيئة تابعة لوزارة الدفاع. ومن الخطوات أيضاً المحاولة الفاشلة لعزل رئيس الأركان الذي هدم الجسر مع مؤسسة رئاسة بوتفليقة، حين وصف محيط الرئيس بالعصابة.

جاء تراجع بوتفليقة عن الترشيح لولاية خامسة، بعد أن كانت المظاهرات قد اكتسبت زخماً، أي أن التراجع عن الترشيح جاء نصراً يغذّي الشارع الذي لم يرض من قبل بمناورة بوتفليقة، من خلال الوعد الذي قطعه على نفسه بأن لا يبقى في العهدة الخامسة أكثر من سنة، يجري فيها إصلاحات ضرورية، ثم يعلن انتخاباتٍ رئاسية مبكرة. لنا أن نرجّح أن الشارع كان سيخسر زخمه، لو سحب بوتفليقة ترشيحه مع بداية الاحتجاجات، بدلاً من استعراض الشعبية وإرسال الشاحنات إلى مركز استلام الترشيحات، محملةً بأكداس أوراقٍ عليها ملايين التواقيع التي ترشح بوتفليقة. هذا ما يعيد التأكيد على أن في جينات السلطة المستبدة ما يقودها إلى ما يشبه العمى التاريخي، واختيار النهايات السيئة والمهينة.

لم يرض المتظاهرون بعد ذلك بسحب الترشيح، واستمروا بالضغط، حتى فازوا بالاستقالة الكاملة للرئيس في الثاني من شهر إبريل/ نيسان الحالي. والمرجّح أن يستمر الشارع في الضغط، وفي تصعيد المطالب، كما شهد يوم الجمعة الأول بعد الاستقالة، وكما نرى من مطالب للمتظاهرين بعزل من يسمونهم “الباءات الثلاث”: عبدالقادر بن صالح (رجل بوتفليقة ورئيس مجلس الأمة منذ 16 عاماً) والطيب بلعيز (مقرب من بوتفليقة ورئيس المجلس الدستوري) ونور الدين بدوي (وزير الداخلية الوفي لبوتفليقة الذي عينه رئيساً للوزراء في غضون الحراك)، وسوف تكون للشارع الجزائري مطالب أخرى، مشتقة جميعاً من تطلع الحراك إلى الخلاص من “النظام”.

من عوامل نجاح الحركة الجزائرية، حتى الآن، الحفاظ على الطابع الشعبي السلمي، متعدد الأطياف، والابتعاد عن الأحزاب السياسية، لكن العامل الحاسم في نجاح الحركة الجزائرية، في الواقع، وجود كيانية مستقلة للجيش الجزائري، تعطيه هامشاً للتدخل بين الشارع والقصر، كما حصل حتى الآن في الجزائر. تكرارنا تعبير “حتى الآن” يعني أن هذا الوئام بين الشعب والجيش في الجزائر لن يستمر طويلاً، وأن الجيش الذي يتخلى عن بوتفليقة اليوم هو الجيش الذي سوف يحمي النظام، أي إن التخوّف من المسار المصري له من الأسس ما يبرّره. ونقول “حتى الآن” أيضاً لأن نقطة القوة في الحراك اليوم، وهي، كما سبقت الإشارة، شعبيته وابتعاده عن الأحزاب السياسية وغياب القيادة فيه، سوف تتحول لاحقاً إلى نقطة ضعف، إذا بلغت الحركة حداً يتطلب منها الدخول في حوار وفرض شروط على “النظام”، أو تقديم البديل السياسي والقيادي. على هذا، فإن مأزقاً شبيهاً بمأزق السترات الصفراء في فرنسا ينتظر الحركة الجزائرية. حينها سوف تلعب الذاكرة الجزائرية، المسكونة بإرهاب العشرية السوداء، دوراً مضاداً للشارع الجزائري، وسوف يجد الجيش الذي يحمي اليوم الحراك لحماية الأمة أن واجبه في “حماية الأمة” يقتضي منه سحق هذا الحراك.

في لحظة ممكنةٍ ومتوقعة كهذه، وعند مفصلٍ حساس كهذا، قد تدخل الجزائر نفقاً أسود آخر، ويكون بوتفليقة قد أخرج الجزائر من النفق، كي يتسبّب في إعادتها إليه بعد عقدين. سوف يصعب تفادي خطر الانزلاق في صراع مسلح بعد حراك سلمي (على النموذج السوري)، أو خطر سحق الحراك بقوة الجيش، وتحت أعين جزائرية راضية أو متغاضية (على النموذج المصري في ميدان رابعة العدوية)، ما لم يجتهد الحراك الجزائري في تحديد مطالب عملية متناسبة مع مستوى تطور الحركة، وما لم يعمل على بلورة هيئة قيادية موثوقة من الحراك، وقادرة أن تتكلم باسمه، وأن تترجم الضغط الشعبي إلى قوة مطلبية سياسية، من دون الدخول مع النظام الجزائري في صراع وجودي، من شأنه أن يتحوّل إلى صراع عدمي، وأن يفجر المجتمع الجزائري مجدّداً، وأن يحقن بالتالي النظام القديم نفسه بأسباب حياةٍ إضافية.

العربي الجديد

الثورات العربية وعسكر الأمس واليوم/ عمار ديوب

يُغري ضعف السلطة العسكر بالتقدّم لتسلّم الحكم. قادة جيوش كلّ من السودان والجزائر يجرّبون حظّهم، هم بذلك يحاولون إنقاذ نظام الحكم، لا تسهيل الانتقال إلى الديموقراطية والدولة المستقرّة، إذ لا برامج محدّدة يتحرّكون وفقها! هم بذلك يتطلعون لجديدٍ، يختلف عن دور العسكر في الخمسينيات، حين كانوا هم من قام بالانقلاب، وسيطروا على الدولة، وحوّلوها بما يستجيب لشروط الداخل، وحاجات أكثرية الشعب، وضمن إطار الأيديولوجيات السائدة حينها، وأقصد القومية والاشتراكية. الآن في الدولتين المذكورتين، وفي سورية وبقية الدول العربية، يقف العسكر ضد الثورات، ويحاول تأخير انتصاراتها، ويقف ضد الشعب مباشرة. في الخمسينات، كانوا يُحاصرَون من الغرب والخليج، الآن يُدعمون من ذلك الغرب والخليج؛ هذه ملاحظة يجب الوقوف عندها طويلاً. أقصد أن العسكر حاول أن يكون ثورياً في الخمسينيات، بينما هو حالياً يحاول أن يكون أداة للتبعية ولقمع الثورات، بكل ما يتملك من وسائل قوة وعنف وقهر. هنا من الخطأ التمييز الكبير بين العسكر وأجهزة الأمن، فكلاهما يرفض المدنية والديموقراطية، ويتحرّك بتراتبية منضبطة، وبتنسيقٍ كبير بينهما.

يوصف الجيش والأمن بالدولة العميقة. الحقيقة أن الدولة العميقة هي الطبقات الثرية ومصالحها وتسوياتها وعلاقاتها العالمية. الجيش والأمن أداة تلك الطبقات بالتحديد، وربما يكونون أداة للخارج كذلك. المشكلة العميقة التي تواجهنا هي عدم احتكام الجيش أو الطبقات المالكة للمشاريع الوطنية، وعلى كل مستويات المجتمع، ورؤيتهم القائمة على التبعية. في هذا، نجد أن الاختلافات بين الجيوش العربية ليست هي الأساس. وعلى الرغم من أن حصة الجيش المصري في الاقتصاد أكبر من تونس مثلاً، فالقضية تكمن في غياب رؤية وطنية لدورهم، ولكيفية النهوض بأوضاع الدولة بشكل عام. لنلاحظ أنّ التونسي ابتعد عن المشاركة في الدفاع عن النظام أو الثورة، ولكنه لم يفعل شيئاً حينما عادت رموز النظام القديم إلى الحكم، وكذلك فعل الجيش المصري، وأقام انقلاباً وأعاد النظام القديم.

بشكل حاد، وليس من مصلحة هذه الفئات حصول أيَّ تغييرٍ في السلطة، ولكن قوة الثورة أجبرت النظام بكل مكوناته، على التبعية وتسليم البلاد للاحتلالات (إيران وروسيا)، وهو ما يفعله خليفة حفتر في ليبيا مثلاً، وقادة جيوش عربية، إذ تنظر إلى الخارج وحاجاته، وتتحرك وفقَ مصالحه. ما يُحدث الفروق بين دولة وأخرى هو قوة الثورات فقط؛ إذ إن قوة الثورتين السودانية والجزائرية، والتخوف من تكرار مجازر سورية وليبيا واليمن، وربما المجازر الداخلية في تلك البلدان ذاتها، أقول كل ذلك يُجبر جيوش السودان والجزائر على طرح التسويات والمساومات مع الأحزاب السياسية، وكذلك البحث عن خيارات ترضي الشعوب الثائرة.

إنّ تقدّم الجيش ليتسلم الحكم يعني أمرين أساسيين: ضعف الطبقة المالكة، والفاسدة والناهبة للثروات، وضعف الطبقات الثائرة من ناحية أخرى. ذلك الضعف متعدّد الأشكال، وجذره هو غياب بنية صناعية متقدمة وغير مأزومة، وقادرة على تأمين فرص عمل لأغلبية السكان. أيضاً تقدّم الجيش للحكم يعني ضعف الطبقة النقيض، فليس من نقاباتٍ فاعلة، ولا من أحزابٍ قوية تتبنّى مصالحها. وفي هذا الإطار يتقدم الجيش، ويمكن إضافة التراتبية فيه، وخضوعه للانضباط الحديدي. هنا أسّ القضية، وهذا منذ الخمسينيات، وما حدث في الثورات العربية بعد 2011 يؤكد ذلك بالتحديد. نسبية الأمر في تونس عائدة، بدرجةٍ معينة، إلى قوة النقابات، وإلى تهميش الجيش لصالح أجهزة الأمن ومؤسسة الرئاسة حينها، وكذلك وبدرجةٍ معينةٍ إلى قوة الأحزاب السياسية. ولكن ذلك كما أشرت، لم يمنعه من حماية النظام من جديد، وتضخمَ دوره بعد 2011، إذ بدأت تُلاحظ مساهمته في قمع الاحتجاجات في أكثر من مدينة.

فكّكت قوة الثورة في الجزائر مؤسسة الرئاسة، وتحالف الأحزاب الحاكمة، وساهم تشتت أحزاب المعارضة، وسلمية الثورة، بتقدّم الجيش ليقرّر مستقبل الجزائر، ولكن أيضاً بتخوفٍ شديدٍ، ووفق ضغط الشارع! وكذلك الأمر في السودان، وعلى الرغم من أن الوضع لم يستقر للجيش السوداني، ويتغير يومياً، حيث الأزمة أشدّ، والجيش أضعف، والثورة تقودها قوى سياسية ونقابية صلبة، ولديها برنامج للحكم، معلنة بشكل مسبق. ما سيُحدث فرقاً، في حالتي الجزائر والسودان، أن كل قوى السلطة والمعارضة والشعب استفادوا من تجارب سورية واليمن وليبيا، وخطورة الخيار العسكري والأمني، ويحاولون تدوير الزوايا من أجل انتقال ديموقراطي هزيل. صحيح أن الجيش يحاول تجريب مواجهة الثورة، وتحجيمها وتشتيت قواها، ولكنه ينتقل من خسارةٍ إلى خسارةٍ، وهذا واضح في السودان، ولن يستقر أبداً لرئيس المجلس العسكري الانتقالي عبد الفتاح برهان، والآن يتركز التفاوض على تسليم السلطة لمجلس رئاسي مدني مصغر، وحكومة كفاءات من شخصياتٍ نزيهة، وتقود العملية الانتقالية، وصولاً إلى الانتخابات العامّة بعد بضع سنوات.

مؤسسة الجيش هي الأكثر تنظيماً وانضباطاً، وهي الحائزة أدوات القوة والقمع، ولها الحق

باحتكار العنف. ويؤكد علم السياسة ضرورة ذلك، وهذا ربما ما سهّل على الجيش أن يتدخل، وقد اشتدت أزمة نظامي كلّ من الجزائر والسودان. ضعف إمكانية تسلّمه الحكم يتعلق بغياب برنامج وطني للنهوض بالمجتمعات، وفي هذا هو يختلف عن دور العسكر في الخمسينيات، حين داعب العسكر حينها مصالح الأكثر فقراً (الإصلاح الزراعي، والتعليم العام، والعمل)، وهي مطالب حقيقية، ولم تستطع الطبقات القديمة تلبيتَها، بل هي سبب عدم تلبيتها، وأيضاً عدم التصدّي للقضية الوطنية والقومية. هذا ليس على طاولة رئيس أركان الجيش الجزائري أحمد قايد صالح، ولا على طاولة عبد الفتاح برهان في السودان، ولا عبد الفتاح السيسي في مصر ولا خليفة حفتر في ليبيا ولا سواهم. وبالتالي هناك أسباب حقيقة، تؤكد عدم قدرة الجيش على تسلّم الحكم، وكونه مدعوماً من دول إقليمية وعالمية فهذا قد يؤجل إبعاده عن الحكم، ولكنه سيحصل بالضرورة.

إذاً ليس في مقدور الجيش مصادرة الثورات على المديين المتوسط والطويل، ولكن أين هي برامج الطبقات الحاكمة أو المفقرة، وكيف سيلبّون حاجات الشعوب؟ هنا القضية وهي في غاية التعقيد، وربما هي سببٌ مركزي لفشل الدولة التي شُكلت بعد الثورات، ولا سيما تونس ومصر. تدفعنا الفكرة السابقة إلى القول إن الثورات العربية لن تتوقف، ولكنها ما زالت تفتقر للرؤى والبرامج التي تسمح لها بتجاوز الأزمات المركّبة، وهي ليست فقط ما ذكرنا، وهذا حديث آخر.

العربي الجديد

الجزائر بين العسكر والسياسة/ عمار ديوب

لو لم تفعل فعلها البيولوجيا، لكان الرئيس الجزائري المستقيل، عبد العزيز بوتفليقة، أجهزَ على مؤسسة الجيش، ولا سيما أنه أقال الرؤوس الحامية في الجيش والمخابرات، وهمّش مؤسسة الأخيرة وألحقها بالرئاسة، بعد أن كانت ملحقةً بالجيش. أعاد رئيس الأركان، أحمد قايد صالح، مؤسسة المخابرات إلى وزارة الدفاع، وسَمّى المستفيدين من رئاسة بوتفليقة بالعصابة، وبالتالي قطع شوطاً مع مؤسسة الرئاسة، واقترب من الشعب المُطالب برحيل الباءات الثلاث (عبد القادر بن صالح، والطيب بلعيز، ونور الدين بدوي)، بعد أن أجبرت الثورة الشعبية بوتفليقة على الاستقالة. الشعب الآن في موقع القوة، وكذلك مؤسسة الجيش. النظام القديم وليس فقط مؤسسة الرئاسة تتفكّك تباعاً، وتظهر مؤسسة الجيش بوصفها أقوى مؤسّسة متماسكة من النظام القديم، وحامية له وللدولة وللشعب في آن. هنا تبرز مشكلة حقيقية، كيف سيمتنع الجيش عن لعب دور الحامي للدولة وتسليم السلطة للشعب؟ المشكلة هنا أن مؤسسات الشعب “الثورية” لم تتبلور، والنظام القديم يتفكّك، وليس من ثقةٍ فيه. هذا الوضع هو ما يفتح على سيناريوهاتٍ مخيفةٍ يتناولها الإعلام، كاستلام الجيش ورئيس الأركان فيه قايد صالح الحكم، ويدعم ذلك عدم ظهور بديل من الثورة، أو غياب بديل سياسي من قوى المعارضة أو قوى السلطة. هذه النقاط، قد تسمح لأقوى مؤسسة متماسكة بالتقدم، واستلام الحكم، ومن هنا الخوف من الثورة المضادة، كما حال السيسي والنظام السوري وسواه.

لكن هل حقاً، وبعد كل التطورات الجزائرية، ورفض الجيش الانجرار إلى الخيار العسكري، يمكن للجيش أن يتقدّم، ويستلم الحكم كما فعلها في مصر عبد الفتاح السيسي؟ تتجاهل مقارنات كهذه الطابع المميز للثورة الجزائرية، ولطبيعة النظام هناك، ولما أحدثه بوتفليقة ذاته.

أولاً، همش بوتفليقة الرؤوس الحامية في الجيش والأمن، أي الذين لعبوا دوراً كارثياً في العشرية السوداء. وفي الإطار نفسه، فكّك التيار الإسلامي، وحاول دمجه بمؤسسات الأحزاب الدائرة في فلك السلطة منذ 1999. وهذا يعني أنّه طوى صفحة التسعينيات، وقياداتها من المؤسسات العسكرية والأمنية والمعارضة الإسلامية.

ثانياً، كانت الثورة الجزائرية الجديدة واعية لكل المشكلات العميقة، وبالتالي لم تعطِ للمعارضة القديمة القيادة، ولم تتقدّم، هي ذاتها، بقيادة سياسية وببرنامج محدّد، وساهم ذلك بتفاعل كل

القوى الفاعلة وتفكيك النظام، بل والمعارضة. هذا كان مهما من قبل، ولكن استمرار ذلك، أي استمرار غياب رؤية للحل السياسي، ولشكل إدارة النظام القادم، أصبح أمراً خاطئاً مع تتالي تفكّك النظام القديم، ومحاولة قيادة الجيش الإمساك بأوراق قوية بيده “إلحاق مؤسسة الأمن بوزارة الدفاع، وإحالة شخصيات مالية، مقربة من بوتفليقة إلى المحاكم” وسواه كثير.

ثالثاً، كانت تجارب سورية واليمن وليبيا كارثية أمام أعين كل الدول، وذلك في حال تجاهل مطالب الشعب، واعتماد الخيار العسكري. وبالتالي كانت “مجزرة سورية خصوصا واليمن وليبيا” والتي أرادتها الدول العظمى، وسمحت بها، إنذاراً لكل الشعوب بألّا تثور مجدّداً. الجزائر والسودان تعلمتا الدرس جيداً، وذلك بألا تعتمدا ذلك الخيار؛ فهو خيار الدمار الكامل، وتسليم البلاد للخارج، الإقليمي والدولي.

رابعاً، يشكل التخوف الأوروبي، وليس الفرنسي فقط، من أزمة مهاجرين جديدة، مشكلة حقيقية في أنظمة الاتحاد الأوروبي، سيما أن هناك مشكلات سياسية كبرى بين اليمين الأوروبي الشعبوي والسياسات الليبرالية. وبالتالي هناك رغبة حقيقية في الانتقال من الاستبداد إلى الديمقراطية. نقول ذلك، على الرغم من أن فرنسا دعمت زين العابدين بن علي قبل أن يسقطه الشعب التونسي 2011، ودعمت القذافي، والآن تدعم خليفة حفتر، وهي بذلك تدعم مصالحها في تلك البلدان، وترفض حدوث تغيير حقيقي محمول على الثورات الشعبية. فرنسا تريد انتقالاً ديمقراطياً هامشياً، وبذلك تغلق أبواب الجزائر أمام المصالح الأميركية تحديدا.

خامساً، ربما يشكل إرث الثورة الجزائرية، وكثرة التجارب في هذا البلد، ومنذ الاستقلال، من تجربة الاشتراكية إلى الليبرالية إلى العشرية السوداء، إلى فشل التزاوج بين السياسات الليبرالية ودور الدولة المركزي، كما الحال مع بوتفليقة، دافعاً لإدارة الظهر كلية لهذه التجارب، وإشراك الشعب في إدارة شؤون الدولة، وتأسيس مؤسسات دولتية بامتياز. وضمن ذلك الانتقال النهائي للديمقراطية شكلا سياسيا لإدارة الصراعات السياسية، والتوسع بأشكال ممارستها، بما يشرك الشعب في إقرار أفضل أشكال الإدارة والمؤسسات. لن نذهب نحو اليوتوبيا في تحليل الوضع المتحرك يومياً في هذا البلد. ولكن من العبث أن نغمض أعيننا عن التفكك الحاد في نظام هذا البلد، وعن إرث الجيش، وعن مميزات خاصة للجزائر.

سادساً، الشعب هو مفتاح كل ما يحدث في الجزائر، فهو القوة الحقيقية التي فكّكت النظام، 

وأعطت لقيادة الجيش دوراً مركزياً، سيما بعد 22 فبراير/ شباط، حيث كان قبل ذلك لمؤسسة الرئاسة وأحزابها وحيتان المال فيها. هذا أمر تعرفه جيداً مؤسسة الجيش، وتخشاه، فهي راقبت تفكّك النظام، وتعرف جيداً كارثية ما حصل في العشرية السوداء (1991-2002)، وبالتالي يتحدّد دورها، في تدوير الزوايا، وبما يمنع إعادة إحياء النظام القديم، الذي همشها، وليس من مصلحتها انتهاج الخيار العسكري، والبلاد بأزمةٍ شديدة، وعلى المستويات كافة.

سابعاً، السيناريو الوحيد الممكن والمرغوب حالياً هو الانتقال الديمقراطي، والبدء بتأسيس هيئة انتخابية نزيهة، وألّا ترتبط بالنظام، كما أشار باحثون كثيرون، وأن يُعدل الدستور أو يؤتى بدستور جديد عبر البرلمان الحالي، وتشكيل جمعية تأسيسية، ولاحقاً إجراء انتخابات نيابية، وبعدها رئاسية، حيث من أكبر الأخطاء الذهاب نحو فراغٍ مؤسساتي، وهو أفضل السيناريوهات لأسوأ الخيارات، ومنها إحكام الجيش قبضته على البلاد، أو حرب أهلية وتدخل إقليمي ودولي واسع.

درس الجزائر خصوصا، وكذلك السودان، يقول إن للثورات أسبابا عميقة، ولا تُختصر بالسياسي “من الاستبداد إلى الديمقراطية”، فهناك الاقتصادي، وهو سبب طرحته الثورة السودانية بوضوح. لن تنتهي موجة الثورات قبل تحقيق مطالب الأكثرية الشعبية المُبعدة عن المساهمة في إدارة شؤون الدولة، وعن الثروة، وتحقيق ذلك يتطلب بالضرورة اعتماد سياسات اقتصادية غير ليبرالية “جديدة” وديمقراطية حقيقية، وتأمينا كاملا لحقوق المفقرين في التعليم والصحة والسكن والعمل.

العربي الجديد

دزاير ماشي سوريا”.. ونحن نقول: آمين!/ موفق نيربية

أثارت إعجاب العالم، وعجبه، سرعة استجابة النظام الجزائري لمطالب المتظاهرين، وفرضه الاستقالة باستجابة لافتة على بلعيز وتعيين رئيس جديد للمجلس الدستوري، ربما قبل انتهاء المذيع من خبر استقالة الأول. ومن أهم ما أثار الاهتمام كون المعيّن حديثاً- كمال فنّيش- شخصية مجهولة إلى حدٍّ كبير. وكان العديد من عقلاء الحراك الشعبي قد اقترحوا تعيين شخص آخر مكان بلعيز حتى يستقيل رئيس الجمهورية المؤقت ويكون رئيس المجلس الدستوري رئيساً مقبولاً وخالياً من العيب والعوار والشبهات التي تلحق بشخصيات النظام للمرحلة الانتقالية، وتخلو الساحة عندئذٍ مما أسموه “الباءات الثلاث”: بن صالح وبدوي وبلعيز، وتكون عملية التغيير “دستورية” كما يتطلع أغلب أهل النظام، ومعهم أغلب الدول التي تريد تجنب الصداع لاحقاً.

لا بدّ أن المسارات والخيارات في الجزائر أشد حساسيةً وصعوبة من أي بلدٍ آخر في المنطقة. وينعكس ذلك مثلاً على سياق خطة إجراء انتخابات رئاسية في تموز المقبل. حيث يتزايد حرج القوى السياسية تدريجياً أما زخم الحراك وحرارته، فتلجأ إلى إعلان مقاطعة تلك الانتخابات، بانتظار استكمال عدة العملية الانتقالية الأكثر عمقاً، بحيث ترضي الجمهور المتوثب، الذي خرج من صندوقه ولن يعود خائب الرجاء كما يبدو.

في مقابل صمود الناس في الشوارع، وما يعنيه من قوة فعل هائلة لا يستطيع نظام مقاومتها في هذا العصر المفتوح، هنالك نظام “عريق” جعبته عميقة تحوي ألعاباً معروفة وأخرى مجهولة، بعد!

من تلك الأساليب المعروفة، دغدغة الناس بتاريخ التحرير والاستقلال، وعظمة “جبهة التحرير الوطنية” وممثليها السياسيين الحاليين، الذين لا يوجد غالباً في صفوفهم أحد من المجاهدين الأصلاء. وقد انهار حاجز كبير من هذه الدفاعات، بانسحاب بوتفليقة نفسه من الميدان، وهو من أواخر الذين يمكن استثمار تاريخهم الوطني الذي مرّت عليه أحقاب وأزمان.

ومنها ما يتعلّق بالعروبة والممانعة والقضية الفلسطينية أيضاً، وهي القضية التي طالما كان لها موقع متميز في ضمير الشعب الجزائري. منذ فترة قريبة جداً، تخوّفت شخصية معارضة يسارية بارزة انضمت إلى خيارات الناس من أن “تُفرض على الجزائر تنازلات قاتلة، بدءاً بموقفها المبدئي من القضية الفلسطينية، وحتى التطبيع مع الكيان الصهيوني”. ذلك مع تكرار القول بأن الحراك الحالي هو استمرار لمعركة “الاستقلال الوطني”، وتلك بلاغة معروفة في الشرق العربي، قد تنفع في تخفيف الجانب الثوري — الوطني- الديموقراطي من الحراك.

ولكن الاستراتيجية الأكثر فاعلية، والتي أثبتت ذلك دائماً رغم استهلاكها وتحولها إلى خرقة بالية، هي الحديث عن الأمن والاستقرار، وإثارة المخاوف من الفوضى والإرهاب وعودة الإسلاميين المتطرفين إلى العمل. ورغم كل السخرية التي تستبطنها تلك الفزاعة المتكررة، إلا أنها صاحبة القول الفصل، الذي يدفع بقيادات الحراك الشعبي إلى التأني والصبر أمام ما تمثّله الدولة والدستور والجيش.

وقد مرّت فترة الآن، على رئيس الوزراء السابق  أويحيى حين قال إن “تظاهرات السوريين أيضاً قد بدأت بالورود”، مشيراً إلى سنوات السوريين السوداء لاحقاً، ومثيراً عصبية الآلاف في الشوارع الذين هتفوا بشتيمة لأويحيى، أتبعوها بالقول “دزاير ماشي سوريا”. وأحزن ذلك العديد من السوريين الذين أنعشتهم في غمرة اكتئابهم انتفاضةُ الجزائر، قبل أن يتلمّسوا عملياً ما كان قد حدث، ويعودوا لحماسهم في متابعة ما يجري لعله يحمل شيئاً مختلفاً عن مصادر أحزانهم.

ابتدأت “عبادة” الأمن والاستقرار والتبشير بهما مع معاهدة وستفاليا غالباً، مع استمرار التسليم بفجور الأقوى دائماً بالطبع. وذلك الاستقرار الذي كان سائداً قبل الحرب الكونية الأولى، تمّ تلغيمه ببساطة في معاهدة فرساي بعدها. ولكن العهد الذهبي لتك العبادة جاء في العصر الحديث، مع نهاية الحرب الكونية الثانية وحلول الحرب الباردة مكانها بالتوافق. آنذاك، عمت منطقتنا كرامات الأمن والاستقرار مع تكريس الهيمنة الأميركية بالكامل بدورها الرئيس في الحرب. عمّت، مع التركيز طبعاً على دعائم ذلك الأمن المثلثة: إسرائيل والنفط، وتأبيد الاستبداد السلطاني، جمهورياتٍ وممالك، بما يليق برؤية استشراقية وعنصرية أصيلة.

ولم تستقر وتأمن تلك الاستراتيجيا إلا مع مجيء البعث في دمشق وبغداد٫ وخصوصاً مع صدام والأسد. حيث استقرّ القوم وأمنوا.. واستقرّينا ولم نأمن.. من الخوف الدائم على الخصوص.

لكننا، على عادة المحكومين بالعبودية، نركن إليها ونتقمّص روح استمرار الحكم لدى حكامنا، وتصيبنا فوبيا الأمن والاستقرار بدورنا، حتى يستطيع أولئك الحكام أن يستخدموها فزاعة دائمة. وهي تنفع على الجهتين، إخراس أي صوت مقاوم في الداخل، وتخميد أية اقتراحات وبحوث في الخارج، قد تقترح مخرجاً لينابيع الأزمات في المنطقة هذه، من خلال التغيير والتحديث الحقيقي.

وكان حافظ الأسد عبقريّ تلك الاستراتيجيا، إلا أنه ليس وحيد زمانه في ذلك. فالكل من مدرسة واحدة، ولو اختلفت اللغات، بل اللهجات المستخدمة في التعليم.

يستخدم النظام الجزائري لهذا الهدف ذاكرة الجزائريين في “العشرية السوداء”. يومَ اختار النظام إلغاء نتائج الانتخابات التي جاءت بالإسلاميين في يناير/ كانون الثاني 1992، ودخلت البلاد في عشر سنواتٍ من العنف والعنف المضاد، من الدماء والركود والخوف، وفقد الجزائريون حوالي مئتي ألف من أبنائهم.

يستخدم النظام أيضاً المثال السوري، ويتجاوز الليبي، ربما لغياب “الورود” هناك. وربما أيضاً للفائض من شراسة وبشاعة المثال السوري، الذي شهد تشريد نصف السكان، و”تحييد” عُشرهم، وتدمير البلاد بالمعنى المباشر. ربما أيضاً للتذكير، بما يمكن أن يصل إليه النظام من آفاق غير محدودة من العنف.. للتخويف والإرهاب باختصار.

والدرس السوري الآخر في السياق الجزائري، هو استثمار “الخارج” بشكل مفيد. وقد ابتدأ النظام بالتحرك في هذا الحقل من خلال زيارات لوزير خارجيته، واتصالات محمومة موازية، وإن بتردد وارتباك بسبب تسارع الحراك والاضطرار خطوة خطوة إلى ملاقاته في منتصف الطريق. ولعل فشله في ذلك يعود أيضاً إلى علاقته السابقة المريبة بالنظام السوري والدفاع عنه وعن متطلبات استمراره، بشكل سبق كل  الأنظمة التي تضمر مثل هذا الموقف وتحمله في “وجدانها”. تلفت هنا سخرية القدر. التي جعلت من بشير السودان أول طائر عربي غير ميمون يحطّ في مطار الشام يحمل البشائر لنظامها بفكّ الحصار عنه.

وكنا قد أشرنا أعلاه، إلى درس عربي شامل، ولو كان السوريون هم الأكثر تفوقاً فيه، وهو درس فلسطين وغزة والمقاومة والممانعة.. ويبدو أن هذا السياق ما زال ناجحاً يتوافق عليه النظام والثائرون عليه.. ولعل طبيعته لا تسمح له بأن يكون عاملاً حاسماً في موازين القوى، إضافة إلى ذلك التوافق عليه.

رغم ذلك، لا بدّ من التأكيد على أن “دزاير ماشي سوريا”.. وعلى أن لكل شعب موسيقاه التي يرقص علي أنغامها، حتى يصل ويرسو إلى بر الأمان والسلام المصحوبين بالحرية والديموقراطية والتقدم، حتى لا نلفظ كلمتي الأمن والاستقرار، ونستحضر إبليس اللعين!

المدن

سقط الأسد ولم ينتصر/ محمود الوهب

لعلَّ معظم التحليلات المعنية بأحداث كل من الجزائر والسودان، والاعتراف بمطالب المتظاهرين وأحقيتها، تؤكد أنّ الأمر يعود إلى قيادتي جيشي البلدين اللذين آثرا عدم التدخل، والوقوف إلى جانب شعبيهما، وبالتالي عدم إراقة نقطة دم واحدة. وتثير الروحية التي تعامل بها الجيشان تجاه المتظاهرين السلميين، على الرغم من تباين موقفيهما، تساؤلاتٍ كثيرة بشأن الجيش العربي السوري (الباسل) الذي لم يقف إلى جانب شعبه منذ الأيام الأولى للمظاهرات السلمية التي طالبت بإصلاحاتٍ عامة، كان رئيس البلاد قد رفعها شعاراتٍ رئيسةً، لكنه لم ينفذ منها شيئاً، منذ مجيئه وارثاً للحكم بتعديل دستوري (لا مبرّر له في بلد جمهوري)، بل إنه لم يقم بأي إنجازٍ، يُحسب له على مدى عشر سنوات كاملة، وهو الذي جاء باسم التحديث والتطوير ومحاربة الفساد الذي تنامى على زمنه، مرتبطاً بالمقرّبين منه تحديداً، ويفترض بالجيش الموصوف بـ “الباسل” أن يكون معنياً بالشعب أكثر من غيره، إذ توكل إليه مهمة استرداد الأرض المحتلة، ويعلن قائده، في الليل والنهار، عن مقاومته أو ممانعته. وكلا الشعارين يحتاج إلى ظهيرٍ يقف بقوة خلف الجيش، حين يأتي أمر الردِّ في “مكانه وزمانه المناسبين..!”.

واضحٌ أن القادة في كل من السودان والجزائر قد استفادا كثيراً من التجربة السورية، إذ جرت تلميحات، في بداية الأحداث، إلى أنهم لن يكونوا مثل سورية، ما يعني أنهما استنارا بمجريات الحدث السوري في أمورٍ صارت حقائق على الأرض:

أولاً: إنَّ قادة الجيشين المذكورين يدركون أن الشعب السوري محقٌ في مطالبه، وأنَّ تدخل الجيش على النحو الذي جرى أضعفه كثيراً، وأضاع هيبته أكثر مما هو في واقع الحال، فهو جيشٌ مهزومٌ منذ خمسين عاماً وأكثر. وما استطاعت قيادته أن توفر له المناخ المناسب لاسترداد أرضٍ خسرها، بل إن قيادته وقَّعت اتفاقاً مع إسرائيل مكّنتها، على نحو أو آخر، من تلك الأرض، إذ منع الاتفاق الذي وقعه حافظ الأسد في 31 مايو/ أيار عام 1974 الجيش السوري من أن يطلق طلقة واحدة حال رفض العدو إرجاع الأرض بالطرق السلمية، ووفق قرار مجلس الأمن رقم 338 تاريخ 22 أكتوبر/ تشرين الأول.

ثانياً: إنهما يدركان أن بشار الأسد قد سقط حقيقة، بما ارتكبه من جرائم، لا من أعين شعبه

فحسب، بل من أعين العالم أجمع. أما مسألة سقوطه الفيزيائي فتتوقف على الوقت الذي ينفق في تحقق مصالح المتدخلين الأجانب، سواء الذين جلبهم بشار الأسد أم هؤلاء الذين دفعوا من بعض الدول العربية والإقليمية.

ثالثاً: النصر الذي يزعمه الأسد في بقائه على رأس السلطة هو هزيمة ربما أشد خطراً من هزيمتي 1967 و1973، فالشعب الذي كان يحكُمُه أملٌ باستعادة أرضه قد انطفأ اليوم، إن لم يكن كلياً، فلعقود مقبلة، بعد أن تحولت سورية إلى أنقاضٍ طاولت الحجر والبشر والمقدّرات كافة، وأولها الجيش الذي فقد هيبته، وتضاءل كثيراً في عيون أبناء شعبه، ودليل ذلك هروب الشباب من التجنيد الذي شمل المحافظات كافة، بما فيها محافظتا طرطوس واللاذقية، إذ يدرك الشباب أن هذه المعركة ليست معركتهم الوطنية! أما إسرائيل التي كانت محكومةً بقلق دائم من أن ينهض الشعب السوري ذات يوم متحرّراً من استبداد حكّامه، ليطالب بأراضيه، فقد صارت تنعم بالراحة وهدوء البال.

رابعاً: أيَّ مراقب للحدث السوري اليوم لا بد أن يتساءل عندما يسمع من الإعلام السوري كلمة نصر: أيّ نصر هذا، وثمّة مليون قتيل لم يولدوا من حجر أو شجر، بل لهم أمهات وآباء وأخوة وأعمام وأخوال ما زالوا يعيشون أحزانهم ويتساءلون: لماذا وما الأسباب الجوهرية؟ إضافة إلى ملايين المهجرين ممن هُدّمت بيوتهم ويعاني معظمهم الأمَرين في المخيمات وبلدان اللجوء، فهؤلاء وأولئك لا يمكن أن تهدئ نفوسهم عبارة مكافحة الإرهاب، إذ هم على دراية بالإرهاب وصانعه، وخصوصاً أنه توالد كالفطر بين عشية وضحاها؟

خامساً: لم يبق أحد في العالم لا يرى بعينيه أن سورية التي كافحت لنيل استقلالها الوطني في السابع عشر من إبريل/ نيسان عام 1946، وراحت تبني دولتها اقتصاداً ومجتمعاً، قد جعلها حزب البعث وآل الأسد مشاعاً لدول طامعة، يقتلون ويهدمون ويمثلون، وهم اليوم أصحاب السيادة والقرار. ويكفي الأسد ذلاً اليوم فيما فعله الروس من تسليم لرفات الجندي الإسرائيلي، بعيد إعطاء الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، رئيس الحكومة الإسرائيلية، بنيامين نتنياهو، “صك” إقرار بضم الجولان إلى إسرائيل. وينعم الأميركيون اليوم بشرق سورية، وخيراتها من بترول وسواه، إضافة إلى مليشيا حزب العمال الكردستاني التي مكَّن لها حافظ الأسد في سورية ولبنان، فيما يتلظى السوريون على ليتر بنزين أو جرّة غاز.

سادساً: وضع السوريين في الداخل اليوم هو أسوأ حالاً من أيِّ وقت مرَّ على سورية منذ ما قبل استقلالها عن الدولة العثمانية، فالغلاء غير المقدور عليه، إضافة إلى فقدان المحروقات وفقدان الأمن وتعدّيات المليشيات على المواطنين، وخصوصا على الأطفال والمراهقين وإفسادهم بالمخدرات وسواها، وهذا الواقع على لسان كل مواطن، فقد حصل الأسد على مجتمع التجانس، لكنه لم يستطع أن يؤمّن له الحد الأدنى من ضرورات الحياة.

وأخيراً، يمكن أن يقول بعضهم إنَّ وقائع اليوم لا تشير إلى استبدال الأسد، على الرغم من أن

المشكلة ليست متعلقة بفرد، بل بنظام متكامل، إذ إنَّ المعارضة اليوم أعجز من أي وقت مضى على الفعل، ويبدو أنَّ من يناصرها مقيدٌ بمصالحه وشركائه! كذلك يبدو أنَّ لدى الروس والإيرانيين رغبة بإبقائه حفاظاً على مصالحهم، وتنفيذاً للاتفاقات الاقتصادية التي وُقّعت، وكان الجانب السوري فيها الأضعف، إذ هو الممنون عليه ببقائه رئيساً، علماً ومن خلال الوقائع على الأرض ليسا وحدهما من يقرّر الوضع السوري. وتبقى للوقائع التي ذكرت أعلاه القول الفصل الذي ينتظر ظرفه القادم من قلب المأساة التي يعانيها كلُّ من هم في الداخل والخارج. ولنمعن في مغزى هذا الجزء من رسالة موجهة إلى المستشارة في الرئاسة، بثينة شعبان (بصيغة الجماعة)، نشرها أحد سوريي الداخل (م .ع) على “فيسبوك”: “دُمرت سورية وبيعت دماء الناس بالمزاد، بل وسحقت إلى الأبد. ومات بشرها وحجرها وشجرها. ومع ذلك لا تخجلون من التصريحات بأنكم انتصرتم؟! في الحقيقة معكم حق.. لقد انهزمنا شعباً ووطناً، وانتصرتم أنتم. لا أحد منكم يقبض راتباً مقداره (30000 أو 40000) ولم يُقتل أحد من أبنائكم، ولم تُهدم بيوتكم. بإمكانكم أن تعتزوا بكرامتكم لأنكم لم تُذلوا بسبب جرة غاز، أو لتر بنزين، أو تكسروا أنفسكم لتستدينوا بضع ليرات من أجل طعامكم. بل جمعتم كل ما تستطيعون من أموال”.

العربي الجديد

الجيش والثورة.. التقاطع والتنافر/ طارق الكحلاوي

توجد فرادة في أي دينامية ثورية عربية. لا شك في ذلك، لكن الفرادة لا تمنع التقاطع بين مختلف التجارب الثورية في ظروف نشأتها وفي مآلاتها. وعموما أصبحت تطورات الثورات العربية الآن تكرّر سردية عامة كلاسيكية: حراك شعبي يخرق جدار الخوف، يصل سقف مطالبه إلى “إسقاط النظام”، يقابله صدّ متفاوت الحدّة من النظام، تليه تضحية النظام برأسه، وتجديد “المنظومة” برأس جديد لاستيعاب الشارع. وفي ذلك، معادلة الجيش والثورة ثابتة، والمتغيّر فيها طريقة سلوك الجيش. ومع كل التمايزات، ما يحصل في الجزائر والسودان تعبير مثالي على ذلك.

والسؤال التاريخي والاستراتيجي الأكبر هو بشأن العلاقة الملتبسة بين الجيش والثورة، فرغم حيوية الحراك الشعبي وثباته، لا يمكن إسقاط رأس النظام بدون تواطؤ ما من الجيش، سواء بالتصرّف السلبي أو بالتدخل الانقلابي المباشر، لكن هذا التدخل يكون تحديداً “قبلة الأفعى”. إنها العلاقة – المفارقة بين الحاجة للتقاطع ثم التنافر الجوهري. ننتقل من النقيض إلى النقيض، من شعار “الجيش والشعب خاوة/ إيد وحدة” إلى شعار “يسقط يسقط حكم العسكر”.

أحد الكتب السياسية الكلاسيكية، والتي كتبت في سياق واحدة من أكبر الثورات في التاريخ المعاصر (أكتوبر 1917)، الثورة الروسية البلشفية، كتاب إيليتش لينين “الدولة والثورة”. الفكرة الأساسية فيه هي حاجة الثورة الوجودية للدولة، لكي تستطيع فرض مشروعها، ثم حاجة الثورة لـ”اضمحلال” الدولة، حتى تتحقق مثلُها النهائية. و”الدولة”، بالمعنى الماركسي الكلاسيكي، هي احتكار الطبقة المهيمنة وسائل احتكار العنف، وليست ألبتة وسيطاً لـ”التوفيق” بين الطبقات. والعنف الرسمي هنا في أقصى تمظهراته هو الجيش.

بمعزل عن المصادرات الماركسية الخلافية بشأن الصراع الطبقي ومعنى الثورة فيها، فإن قراءة دور الجيش في التجربة العربية يحيلنا إلى خصوصية بطبيعة الحال، لكنها لا تبتعد جذرياً عن هذه المفردات. لو غيرنا مفردة “الدولة” بـ”الجيش”، يمكن أن نرى العلاقة الملتبسة نفسها. لو عدنا إلى موجات الثورات في خمسينيات القرن الماضي، والتي ركّزت “الشرعية الثورية” لأنظمة عربية عديدة، كان الجيش فيها حجر الزاوية. كانت “الثورة”، عبر مؤسسة الجيش، منهجية متعارفاً عليها بين مختلف العائلات الفكرية والسياسية و”مشروعة”. التجربة التأسيسية المرجع “ثورة يوليو” المصرية الناصرية القومية، وآخرها بالمناسبة “ثورة الإنقاذ” التي قادتها “الجبهة الإسلامية” سنة 1989 في السودان، والتي أطاح رأسَها، في 11 إبريل/ نيسان الحالي، تقاطع الحراك الشعبي والجيش السوداني الحاكم.

التجربة السودانية في الثورات عظيمة. ربما من أكثر المجتمعات العربية دينامية ثورية وتنوعاً وثراء، إذ كان التحرّر من الاحتلال، وأيضاً من الطغمات العسكرية، يمرّ عبر الشارع. وكان الجيش مؤسّساً للدولة الوطنية مع الأحزاب.

تاريخ السودان المعاصر منذ انقلاب إبراهيم عبود في الخمسينيات مميز بنجاح الجيش في قطف الثمرة، وتجديد حضوره في السلطة. السودان، عكس ربما ما يعتقد بعضهم، ثري بالتحرّكات الشعبية التي ساهمت في إسقاط مستبدين. ولكن إما انتهى إلى انقلاب عسكري أو إلى حكم مدني هشّ، يتم الانقلاب عليه عسكرياً.

انتهى البشير، لكن الجيش من قام بالنقلة الأخيرة التي أطاحته. والسؤال الكبير: هل سيستفيد الحراك الشعبي في ميادين السودان من تجربته التاريخية الثرية، ويؤسس حكماً مدنياً مستديماً، أم سيهيمن الجيش كما هي العادة، ويجدد قيادته الدولة؟ وهذه المرة، القيادة الحزبية للحراك الشعبي ضعيفة، عكس ما حدث في الخمسينيات والستينيات والثمانينيات.

الجيش والحراك الشعبي، التقاطع والسباق المتكرر لقطف الثمرة نجدهما أيضاً في الجزائر. جيش التحرير الشعبي الوطني عمد موقعه في الثورة التحريرية بدماء مليون ونصف مليون  شهيد. لا يوجد وضع أكثر شرعية ورسوخاً من ذلك في السياق العربي، لكنه أيضا تورّط تاريخيا، خصوصا منذ الزعيم التاريخي، هواري بومدين، في السلطة وعسكرتها. والتنافر مع الديمقراطية.

الحالة الجزائرية ذات خصوصية أخرى. تم التلاقي مع الجيش إلى أن ضحّى برأس النظام، ليبقى بعدها ضمن أطر الواجهة المدنية، متشبثاً بالشرعية الدستورية، على عكس الشارع الذي يتمسك بشرعة الشارع، ويطالب بـ”ارحلوا قاع” (ارحلوا جميعاً). كل جمعة ستتزايد مؤشرات القمع للمسيرات في العاصمة والمدن الجزائرية، وسيبرز الجيش أنيابه الأمنية بشكل متصاعد. ولن يسمح بإفساد مسار “4 جويلية الرئاسي”. (موعد الانتخابات الرئاسية المقرر في 4 يوليو/ تموز المقبل). ومن غير الواضح إن كان سيحافظ الشارع على تماسكه، وهل سيتواصل اندماج المعارضة مع الشارع. مثلما أشير سابقاً، معضلة الحراك الشعبي بلا قيادة هي معضلة خلو الرفض الشعبي من خططٍ بديلةٍ تناور رداً على مناورات المنظومة. في المقابل، للجيش ملعب واضح، هو الاستمرار في الضغط واللعب على الوقت وتعب الشارع من التكرار وغياب الإجماع على خطة بديلة، ومن ثمة الاضطراب بين التسليم والركون إلى القصووية.

إزاء كل هذه التجارب، يمتثل النموذج التونسي، حيث الجيش عطل قدرة الدولة على القمع، وتواطأ مع الشارع إلى هذا الحد أو ذاك، من دون التسليم في النظام، من دون أن يستولي على السلطة. ربما يقول بعضهم، في النهاية، حسناً فعل بورقيبة حينما حجّم دور الجيش منذ تأسيس دولة الاستقلال. حينما حصلت الثورة، لم تكن هناك مؤسسة حاملة للسلاح طاغية، ومالكة للدولة، مثلما هي مصر وبقية الدول الواقعة تحت هيمنة تاريخية للجيش.

وفي النهاية، ماذا قدمت الجيوش العربية، بوصفها حاميةً من عدوان الخارج؟ حتى الانتصارات الأكبر التي تحققت ضد العدوان الخارجي الأبرز، أي الإسرائيلي، حققتها حركات مقاومة شعبية، وليس الجيوش المنظمة.

وبشأن الرئيس السوداني العسكري المعزول، عمر البشير، هو رمز مأساوي للعلاقة المتنافرة والمتقاطعة بين الجيش والثورة، إذ بقي الآن يتيماً من دون ولي. يتبرأ منه بعض الإسلاميين، على الرغم من أنه جاء إلى السلطة سنة 1989 في انقلاب عسكري (ثورة الإنقاذ) ضد حكومة ديمقراطية، قاده الإسلاميون (حسن الترابي والجبهة الإسلامية). يتبرأ منه بعض “القوميين”، على الرغم من أنه في خاتمة عهده، كان الرئيس العربي الوحيد الذي زار بشار الأسد في دمشق، ولقي منهم احتفاءً كبيراً بخطوته تلك. كان البشير، في النهاية، عسكرياً سلطوياً أكثر منه إسلامياً أو قومياً. خصمه الدائم شعبه، وجرائمه في إقليم دارفور شاهد على ذلك.

الدرس أن الحامي الوحيد هو شعبك، حتى إن انهزمت فستفعل بشرف. الجيش والثورة علاقة حب وكراهية درامية، لن تنتهي، وإنما ستتغير باضمحلال الجيش بوصفه مؤسسة مالكة للدولة. وتحولها إلى حامية لها، بوصفها دولة الجميع، دولة ديمقراطية.

العربي الجديد

الأسدية ليست نظاماً دكتاتورياً فقط…/ أحمد عيشة

لم تكن فدوى سليمان أقلّ حماسة وثورية، من آلاء صالح “الكنداكة السودانية”، فكلتاهما ألهبتا حناجر الثوار، في حمص والخرطوم، وهم يصدحون بأناشيد الحرية في الساحات. ولم تختلف الثورة السورية عن الثورات العربية التي سبقتها (تونس ومصر)، ولا عن التي لحقتها مؤخراً في السودان والجزائر، فقد كانت ثورة سلمية بمطالب واضحة كعين الشمس، تنشد الكرامة والحرية وطالبت بالإصلاحات أولاً، وعندما لم يستجب النظام لمطالبها، رفع المتظاهرون شعار: الشعب يريد إسقاط النظام، الذي واجه الناسَ بالرصاص والاعتقال.

وزّع الثوار في ريف دمشق (داريّا والمعضمية) الورود والمياه على عناصر الجيش، ظانين أنه جيشهم الذي يحميهم ويدافع عنهم، لكن تلك الورود لم تمنع جيش النظام من الرد عليهم بالرصاص، وتكرر المشهد نفسه في حمص، وهي المدينة التي تعكس بتنوعها إلى حد ما التركيبة السكانية في سورية، (التي كانت وبالاً عليها فيما بعد) والتي شهدت اعتصاماً دعا إليه الثوار عصر يوم 18 نيسان 2011، وأنشدت فيه فدوى سليمان والساروت أغاني الثورة، لكن ما فعله النظام -متمثلاً بعناصر الفرقة الرابعة والمخابرات الجوية- مع المتظاهرين في ساحة الساعة معروف للجميع: الرصاص مقابل الورود والحرية، وجرف الجثث إلى مكان مجهول.

لم تخلُ مدينة سورية تقريباً من المظاهرات السلمية، ففي مدينة حماة، في الأول من تموز 2011، احتشد مئات الآلاف في ساحاتها ينشدون مع القاشوش بصوت هادر: الشعب يريد إسقاط النظام، و(يالله ارحل يا بشار)، تلك المظاهرة التي أرعبت النظام، وكانت سبباً لاقتلاع حنجرة القاشوش فيما بعد وقتله، وفي حلب حيث تجمع في ساحة جامعتها في أيار 2012 الآلاف، بالتزامن مع وجود بعثة المراقبين الدوليين، حيث رفعوا علم الثورة على مدخلها، وتكرر الأمر نفسه في معظم المدن السورية.

كان رد النظام واحداً: ارتكاب المجازر بأشكال مختلفة، على كامل الجغرافيا السورية الثائرة عليه تقريباً، وبصنوف الأسلحة المختلفة حتى الكيمياوي، وبعد مجيء الحليف الروسي، اُستخدمت حتى الصواريخ بعيدة المدى، وطائرات السوخوي الحديثة، حيث تم تجريب حوالي 300 صنف من الأسلحة الجديدة الروسية، باعتراف الروس أنفسهم، وعاثت الميليشيات التي أنشأتها إيران من كل شيعة العالم فساداً، بذريعة حماية المزارات المقدسة، أما في المعتقلات فلم يترك النظام وسيلة تعذيب إلا مارسها، حتى الحرق في الفرن (صيدنايا)، فضلاً عمّا ارتكبه بحق النساء، من جرائم لم تعرف البشرية لها مثيلاً، وهو الأمر الذي كان أحد العوامل في صناعة التطرف، ونجاح التنظيمات المتطرفة في الاستثمار في سورية.

من المؤكد أن الثورات اللاحقة التي تجري في هذه الأيام، في كل من السودان والجزائر، قد استلهمت الكثير من ثورات الربيع العربي التي سبقتها، ومنها الثورة السورية، كما استفادت كثيراً من مجرياتها، فلم تكن الصبية السودانية، بزيها التقليدي وأنشودتها الجميلة، أجمل من فدوى سليمان التي أخافت الطاغية بكوفيتها ويدها اليمنى ترتفع وتنزل وهي تصدح: “الشعب السوري واحد”، وبرفضها للتنميط الطائفي الذي أراد النظام منه حشر الطائفة داخله، فاضطرت إلى مغادرة البلاد، ثم فارقت الحياة بعيداً من أرضها، حيث كرمتها باريس بينما تبرأت منها عائلتها، لأسباب طائفية. كما لم تكن الملايين التي غطت شوارع الجزائر أكثر من جماهير سورية في مدنها كلها.

المختلف هو أن النظام الأسدي بنى جيشه ومخابراته على أسس طائفية، وساهم في تعميق الصدوع الاجتماعية القائمة على أسس مذهبية وعرقية والتي ساهمت فيما بعد بإضافة عامل مدمر للثورة، فمعظم قيادات الفرق العسكرية من العلويين، ورؤساء الفروع المخابراتية أيضاً، وفي بعض الفروع حتى العناصر والأطباء، بينما لا تعرف الجيوش في البلدان الأخرى مثل هذه التركيبة الديموغرافية الطائفية الطابع، حيث وقفت الجيوش في أغلب بلدان الربيع العربي على الحياد، إن لم تكن انحازت إلى جانب الشعوب، ولم يواجهوا المتظاهرين بالرصاص والدبابات.

يعود تشكيل الجيش السوري إلى فترة الاستقلال، اعتماداً على نواته “جيش الشرق” الذي شكلته فرنسا المعروف بتركيبته الأقلوية، ثم مرحلة التكتل العقائدي والمناطقي التي تمكنت خلالها لجنة البعث العسكرية الأقلوية من السيطرة عليه، ولتصبح المتحكم في سياسة البلد والقائد لانقلاباته، ليطيح الأسد الأب بها في انقلابه عام 1970 ويعيد هيكلة الجيش، إضافة إلى أجهزة المخابرات، على أسس طائفية، حيث أصبح القادة من الموالين الطائفيين.

عند استلام الأسد الوريث للسلطة عام 2000، كان المشهد مكتملاً بطائفيته وهيمنته على مختلف مجالات النشاط البشري، بعد أن استكمل الهيمنة على الجانب الاقتصادي، عبر نظام المحسوبيات الذي سنّه مع ابن خاله رامي مخلوف. وفي عشية الثورة عام 2011، كان معظم قادة الجيش، بكل فروعه وأقسامه، ورؤساء أجهزة المخابرات وخاصة الجوية والعسكرية، من العلويين المندمجين عضوياً مع نظام الأسد، فهذا هو الأمر المختلف عن الجيوش العربية التي اندلعت فيها ثورات الحرية والكرامة، التي لم يواجهها الجيش بالرصاص والنار، فلا شبيه لجميل الحسن، رئيس المخابرات الجوية الذي طالب باعتماد نموذج تدمير مدينة حماة عام 1982 كأسلوب لتعامل النظام مع المتظاهرين، بين الجيوش العربية.

عبّرَ هؤلاء الضباط القادة في الأجهزة الأمنية وقيادة الجيش عن عدوانية وإجرام تجاه المتظاهرين، لا مثيل له على مرّ التاريخ، ليس لأنهم من أبناء الطائفة العلوية فقط، وإنما لأنهم اندمجوا في السياسة الطائفية التي اتبعها النظام، ووجدوا مصالحهم ضمن تلك العملية المقيتة، حيث الثراء الفاحش نتيجة الفساد والمحسوبية السائدتين ضمن تراتبية النظام برمته، تحت غطاء من الأيديولوجية الطائفية القائمة على مظلوميات قديمة، وأخرى مُتخيّلة تُصوّر البقية أعداء، وخاصة الذين يثورون على نظام العائلة الأسدية، واضعين أنفسهم ومصيرهم مع نظام الطاغية.

بغض النظر عمّا آلت إليه الثورة السورية، نتيجة لعوامل عديدة داخلية وخارجية، حيث تحولت البلاد إلى ساحة لتصارع القوى الإقليمية والدولية، كما صارت مرتعاً للميليشيات الطائفية التي أدخلها النظام، والتي دخلت عنوة عن إرادة شعبه، تبقى الثورة السورية من أكثر الثورات شجاعة، حيث نادى السوريون بإسقاط أكثر الأنظمة وحشية، وقدّموا مقابل ذلك مئات الآلاف من الضحايا ومثلهم من المعتقلين، أما حكاية النساء النسوريات فلم تبلغها أي تجربة أخرى في الربيع العربي، ومن المؤكد أنها ألهمت ثورات الربيع العربي التي تلتها.

بالتأكيد ثورة كهذه لن تموت، رغم كل ما حلّ بها، وستنال ما نادت به، وستبلغ غايتها لا محالة، لأنها عبدت الطريق نحو الحرية بالآلام والدماء، وستزهر هذه التضحيات يوماً، مهما طال الزمن.

تلفزيون سوريا

العسكر والإسلاميون أمام موج الربيع العربي الذي لا يهدأ/ منير الربيع

تقول الحكمة التاريخية إن الأنظمة تقع في شرور أعمالها. وحكمة أخرى تؤكد أن مسار تكريس الاستعصاء لا بد له أن يتوقف، ويحصل انفجار اجتماعي سياسي يطيح بكل ما هو سائد على قاعدة القمع والإجبار. عاش المجتمع العربي أكثر من ستين سنة استعصاءً سياسياً واجتماعيا، تحت مظلّات كبيرة كالقومية، ومواجهة الرجعية وتحقيق التقدمية. جاءت الأنظمة العسكرية تحت شعار مواجهة العدو وتمكين المجتمع، وتعزيز الديمقراطية، بالإضافة إلى مواجهة التخلف وتعزيز التنمية الاجتماعية والبشرية، لكن النتائج المتحققة جاءت معاكسة لذلك، وكان لا بد من انتظار لحظة الانفجار.

انفجر الربيع العربي الذي سعت الأنظمة إلى تحويله إلى مقبرة للمجتمعات، عبر إغراقها بالمواجهات العسكرية أو بالتنظيمات المتطرفة، وكان الهدف وأد الثورات في مهدها، وإعادة إنتاج الأنظمة القمعية، تحت شعار الاستقرار وتوفيره في مواجهة الإرهاب. على مدى ستين سنة، انحسر الصراع في الدول العربية بين العسكر من جهة والقوى الإسلامية من جهة أخرى، هذا الصراع هو الذي أدى إلى الانفجار السياسي والاجتماعي في العام 2011.

ولمواجهة المدّ الثوري هذا، أعيد إنتاج الصراع ذاته، عبر القمع الذي مورس ضد قوى التغيير والشباب الثائر في الميادين، وكان الدليل البارز

على ذلك، ما جرى في مصر عبر الانقلاب العسكري. صحيح أن تحرّك العسكر في مصر، جاء مستنداً إلى تحركات احتجاجية واسعة في الشوارع ضد الإخوان المسلمين وممارستهم، لكن العنف العسكري الذي مورس من شأنه إعادة إغراق المجتمع بحالة قمعية من شأنها أن تعزز وعضيات القوى الإسلامية للمستقبل. تماماً كما أدى القمع العسكري للإسلاميين طوال السنوات الفائتة إلى اكتساحهم للساحات والمواقع عند أول لحظة تحرّك فيها المجتمع، فظهروا الأكثر تنظيماً وتأثيراً. لو ترك الرئيس المصري محمد مرسي في منصبه بانتظار الانتخابات ولم يتم الانقلاب عليه، لكانت سجّلت هزيمة الإسلام السياسي بأيديه، وليس بأياد قمعية، وكان بإمكان الانتخابات أن تنتج قوى مدنية تغيرية خارج إطار العسكرة أو الأسلمة.

تعرف هذه الأنظمة ما تفعل وتقوم به. تعتبر أن ثنائية العسكر بمواجهة الإسلام السياسي هي أحد أسباب وجودها وتجلياتها. فالطرفان يحتاجان إلى بعضهما البعض. إذ تبدو هذه الثنائية حاجة للطرفين، لأن أي مشروع آخر بديل، لأن أي ديمقراطية أو مشروع مدني سيفتح آفاقاً لقوى بديلة خارج هذا الاصطفاف الذي نشأ في الخمسينيات. ولا يختلف هذا الانقسام عن البعد الإقليمي، ما يحتم حاجة الطرفين إلى استمرار هذه الثنائية لأن أي صيغة ثالثة ستكشف إلى حدّ كبير خواء المشروعين. خاصة أن الطابع الإيديولوجي الإسلاموي هو درة التاج لدى الفئة المناصرة لها، مقابل طابع التسلط والقمع والإمساك بالأفكار والثروات لدى الطرف الآخر، بينما يفتقد الطرفان إلى أي إجابات على أسئلة المواطن العربي وحاجاته.

وفي استعجال نعي الربيع العربي، جاء موقف الرئيس اللبناني ميشال عون، الذي يعبّر عن رغبة تلك الأنظمة السائدة في المنطقة، معلناً أن الربيع العربي هو جهنّم عربي، وفي هذا الموقف انقلاب على الذات وعلى الحقيقة أيضاً، ودليل فصام لدى أصحاب هذه النظرية، خاصة أن العسكر الرافض للثورات وصل إلى السلطة بانقلابات أطلق عليها اسم ثورات غايتها تحسين الأوضاع السياسية والمعيشية في المجتمعات. وتناسى عون أنه كان من أوائل الذي يقدمون أنفسهم “ثائرين” على المنطق السائد في إطلاقه حرب التحرير ضد الجيش السوري في ثمانينات القرن الفائت. وينسى عون أيضاً أن الثورة الفرنسية التي يتباها بها، استمرت على مدى 100 عام لأجل تحقيق أهدافها وإعلان الجمهورية وتحقيق الديمقراطية، وكانت ثورة عنفية. وكل تاريخ الثورات لا يخلو من العنف.

لكن الردّ على استعجال إعلان وأد الربيع العربي، جاء سريعاً من الجزائر والسودان. ما يحتم على الطرفين الوقوف أمام تحديات من نوع آخر، تتعلق ببناء الدولة والحريات والتنمية. فيما تقف هذه القوى عاجزة عن إيجاد أي أجوبة أو حلول لها، وليس لدى الطرفين ما يوحي بأن هناك رؤى لجذب الناس عن قناعة نحو هذه الاتجاهات.

والجديد في تحركات الجزائر والسودان هو تحول عام في مفهوم النظرة الدولية للأوضاع السياسية العالمية وخاصة في الشرق الأوسط. فالسنوات الأخيرة والأزمات التي مرّ بها العالم ويعيدها البعض إلى تدفق اللاجئين، فرضت تغيراً في التوجهات الدولية، التي تبدّي الاستقرار الاجتماعي والاقتصادي على الاستقرار السياسي في هذه المنطقة من العالم. بروز عناوين “انعزالية” لدى الأميركيين والأوروبيين، على غرار “أميركا أولاً” أو إعادة إحياء مفهوم الدول القومية في أوروبا ووقف تدفق اللاجئين، ستحتم تغييراً في التعاطي الدولي مع التحركات الشعبية السائدة في المنطقة حالياً.

وتبرز رغبة دولية حول تطورات السودان والجزائر، بأن يحصل التغيير بشكل سلس، وعدم الذهاب نحو العنف، وهذا عبارة عن تحول في النظرة العالمية للأوضاع، ويتجلى ذلك بمواقف دولية عديدة حول رفض الانقلاب الذي جرى بالسودان والتأكيد على وجوب تأمين انتقال السلطة إلى جهات مدنية. وهذا سيفرض تحديات أمام غياب الديمقراطية والتنمية الحقيقية الذي يؤدي إلى وقوف عشرات آلاف الشبان على أبواب أوروبا للذهاب إليها، فتجد الدول الكبرى ضرورة في توفير أدنى مقومات العيش الكريم لهؤلاء داخل دولهم.

ولذلك لا يبدو التدخل الأجنبي بارزاً في أحداث السودان والجزائر، كما كان سابقاً، بل من خلال التركيز على تمكين الشبان داخل مواطنهم. وبالتالي فإن العامل الاقتصادي الاجتماعي وغياب الحريات، هو الأساس في مطالب الحراك الشعبي، على الرغم من أن هناك انهيارا على المستوى القومي، بينما جلّ المطالب تتركز حول تحسين الاوضاع السياسية والمعيشية. وفي مقابل هذه التحديات هناك من يريد أن يفرض عناوين أخرى للمعركة، كمواجهة الإرهاب أو الإسلام السياسي لصالح إيديولوجيا عسكرية، لكن يغيب عن بال هؤلاء أن تلك الشعارات أصبحت من الماضي.

ومهما حاول هؤلاء اللعب على هذه الأوتار، فلا بد لكل الاستحقاقات التي يعجزون عن الإجابة عليها، أن تفرض نفسها في النهاية، فتبدو هذه الأسئلة قاتلة لهذه الأنظمة، خاصة عندما يطرح سؤال ماذا بعد الادعاءات بتحقيق الانتصار أو سحق الثورات؟ كل المؤشرات تدلّ إلى أنه لا بد من الانتقال إلى نوع من الصيغ، التي تتماشى مع التحديات التي لم تعد قابعة في نظرية متنازعة بين “مؤامرات إسلامية أو مؤامرات سلطوية”. فالتحدي الأساسي يبقى في التوجه نحو الشباب وطموحاتهم وآمالهم، والتطلع إلى ما تفكر به هذه الأجيال.

الغرب عموماً بدأ يفكر جدياً في وقف تدفق المهاجرين انطلاقا من تنامي النظرية العنصرية، أو عدم التعاطي بسهولة مع موجات الهجرة، وهذه وحدها ستفرض تحديات كبيرة أمام أنظمة المنطقة، لتوفير الاستقرار ليس الأمني، بل السياسي والاقتصادي والاجتماعي. وهذه وحدها ستكون رافداً أمام إعادة تجديد التحركات الشعبية الثورية، التي لا بد من انتصارها ولو بعد حين، ومهما عرقل طريقها التعثّر.

تلفزيون سوريا

مخرج” الثوار والعسكر و”مأزق” التغيير والتدوير/ رفيق خوري

“ابريل أقسى الشهور”، كما في قصيدة شهيرة للشاعر ت. س. إليوت. وعلى العكس، فان ابريل (نيسان) الحالي كان في السودان الشهر الذي تفتحت فيه براعم “ثورة ديسمبر” امام مبنى القيادة العامة للجيش. لكن من الصعب في الموجة الثانية من ثورات ما سمي “الربيع العربي” تجاهل سيناريوهات الموجة الأولى التي لم تصبح وراءنا بعد ثماني سنوات بمقدار ما بقيت امامنا ومن حولنا. والقاسم المشترك بينها هو التعرض بشكل أو بآخر الى شيء من “الشتاء الاسلامي” وشيء من “الصيف العسكري”. وحده السيناريو التونسي لم يتكرر حيث بقي العسكر خارج اللعبة وجرى التعايش بين تيار الاسلام السياسي وتيار العلمانية والمجتمع المدني. السيناريوهات السورية والليبية واليمنية والعراقية شملت حروباً متعددة الوجوه وأكبر المعارك مع داعش وأوسع تدخل لقوى اقليمية ودولية وتنظيمات متطرفة. السيناريو المصري بدأ بمجلس عسكري استرد “الأمانة” من الرئيس حسني مبارك، ثم سيطر الأخوان المسلمون على السلطة قبل ان يستعيدها الجيش وسط “ملحق” الحراك الشعبي.

الربيع العربي الثاني

الموجة الثانية من “الربيع العربي” في الجزائر كشفت ضعف تيار الاسلام السياسي وتعاظم تيارات المجتمع المدني. وهي في السودان تبدو كأنها خروج من “شتاء اسلامي” طويل على مدى ثلاثين سنة من المشاركة والخلاف بين الدكتور حسن الترابي والفريق عمر البشير. والسيناريو، حتى إشعار آخر، هو: الشعب يثور، والجيش يمسك باللعبة. وليس تاريخ السودان منذ الاستقلال 1956 سوى تناوب بين الحكم المدني والحكم العسكري. الثورة الشعبية الحالية هي الثالثة. وعلى مدى 63 عاماً من عمر الاستقلال، فان فترات الحكم المدني لم تتجاوز 11 عاماً. الحكم المدني الأول دام عامين، قبل ان يسقطه انقلاب الفريق ابراهيم عبود عام 1958. عام 1964 اعيد الحكم المدني بعد ثورة شعبية اسقطت الانقلاب ورفعت شعاراً معبّراً: “الى الثكنات يا حشرات”. عام 1969 سقط الحكم المدني بانقلاب قادة من أصبح المشير جعفر النميري. عام 1985 اسقطته ثورة شعبية وتولى السلطة الانتقالية لمدة عام الجنرال سوار الذهب الذي أجرى انتخابات وسلّم السلطة الى المدنيين في الموعد المحدد. عام 1989 استولى على السلطة تيار الاسلام السياسي بقيادة حسن الترابي والضابط عمر البشير الذي قال له الترابي: “انت الى القصر، وانا الى السجن” ضمن لعبة لإخفاء سيطرة الاخوان المسلمين. وفي ابريل 2019 يسترد الجيش السلطة من البشير وسط أكبر ثورة سلمية شعبية.

السودان وفرادته السياسية

لكن “المخرج” الذي فتحته الثورة امام الجيش لا يزال يتضمن نوعاً من “المأزق”. فلا الانقلاب العسكري هو انقلاب كامل الأوصاف في الشكل والمضمون، ولا الثورة هي ثورة اكتملت بالقبض على السلطة. في الشكل، لولا الثورة الشعبية لما حدث الانقلاب ولو تنحى البشير عندما طالبه الشعب بذلك لما كان هناك مجال لانقلاب. وفي المضمون، فإن من المبالغة الاشارة في البيان الأول للمجلس العسكري إلى “اقتلاع النظام”، لأن ما حصل هو الاضطرار إلى التخلي عن رأس النظام وبعض معاونيه. شيء تختصره إشكالية التدوير والتغيير. ومن هنا، فان الإنقلابيين لا يستطيعون التصرف كأنهم وحدهم أصحاب السلطة متجاهلين الحراك الشعبي. ولا الثوار وصلوا الى السلطة التي عملوا لإسقاطها بأقدامهم على الأرض ومواجهتهم للعنف وحال الطوارئ. وما يدور حالياً من حوار بين الثوار والمجلس العسكري برئاسته الجديدة محكوم بنوع من التوازن بين قوة الجيش وقوة الشرعية الثورية الشعبية. مطالب الثوار راديكالية: مجلس سيادي مدني بوجود عسكري محدود، حكم ديموقراطي مستدام، حكومة مدنية ذات صلاحيات كاملة خلال 15 يوماً. محاكمة البشير وأعوانه، حلّ حزب المؤتمر الوطني. حلّ الميليشيات والتنظيمات الأمنية الخطيرة التي انشأها النظام من خارج القوات المسلحة والأجهزة الرسمية. وما يقرره ويعد به المجلس العسكري محدود: تجميل سياسي، قرارات تقنية. واستعداد لتشكيل حكومة مدنية يختار الثوار رئيسها والأعضاء، ولكن السلطة الفعلية والسيادة للمجلس العسكري.

والمأزق دقيق: الحكم العسكري ليس حلاً ولو لعامين. والثوار المصرون على استمرار الاعتصام لكي يبقى الحوار على إيقاع القوة الشعبية، يفتقرون إلى آلية متكاملة لتطبيق المطالب الراديكالية. وليس أصعب على العسكر من “احتواء” الثورة الشعبية أو الإلتفاف عليها سوى تحقيق كل مطالبها. وأكبر خطر على الثورة ان يتوسع الخلاف بين اركانها على تكتيك الحوار مع العسكر وبالتالي على مرحلية تحقيق المطالب. فضلاً عن ان اللعبة في السودان ليست، ولم تكن، مجرد لعبة داخلية من دون أدوار خارجية. ومن الوهم تجاهل أمرين: حاجة لاعبين اقليميين ودوليين الى وضع سوداني يحافظون من خلاله على مصالحهم أو أقله لا يشكل خطراً على تلك المصالح. وحاجة السودان الى دعم سياسي واقتصادي عربي ودولي. إذ هو عانى خلال ثلاثة عقود من نظام فعل كل شيء لممارسة السلطة للسلطة فقط: عاش على الأزمات السياسية. ساهم في صنع الأزمة الاقتصادية وتنامي الفساد والسطو على المال العام. خاض حروباً ضد شعبه في دارفور وكردڤان وخسر جنوب السودان والنفط بعد حرب طويلة.  لعب على كل الحبال. وصار رئيسه مطلوباً للمحكمة الدولية، وعندما وجد نفسه محشوراً عيّن رجل الجنجويد والمذابح في دارفور والمطلوب من المحكمة الدولية أيضاً نائباً له ورئيساً لحزب.

لا أحد يجهل بالطبع تحديات الانتقال من نظام سلطوي إلى نظام ديموقراطي. فالتجارب حتى في اوروبا بدت صعبة، وبعضها انتكس كما في حال المجر وبولونيا وبقية البلدان المضروبة بالشعبوية. وفي القرن التاسع عشر قال الكسيس دو توكفيل “ان أخطر شيء بالنسبة الى السلطة التوتاليتارية هو ان تبدأ بإصلاح نفسها”.

رئيس.. رئيس سابق.. رئيس مخلوع/ بكر صدقي

في أسبوع واحد تم خلع رئيسين عربيين في كل من الجزائر والسودان، فيما يذكّر بمناخات بداية العام 2011 حين تم خلع زين العابدين بن علي في تونس وحسني مبارك في مصر، عن طريق ثورات شعبية كما هي حال الثورتين الجزائرية والسودانية اليوم. مع الأمل بـ “خلع” مزيد من الأنظمة الدكتاتورية في هذه المنطقة المبتلية بها، لا بأس بشيء من التنظير حول مفاهيم “الرئيس” و”الرئيس السابق” و”الرئيس المخلوع”.

لا يمكن للنظام الرئاسي أن يخلو من شخصنة، بما أنه يقوم على افتراض أن شخصاً واحداً يمكنه أن يمثل دولة أو أمة أو شعباً (وهي مفاهيم متباينة) وأن يدير شؤونها العامة، سواء تمتع بسلطات مطلقة، كحال الدكتاتوريات، أو مقيدة كحال الديموقراطيات، وما بين الحالتين من تدرجات.

حتى في أرقى الأنظمة الديموقراطية حيث الدستور يقيد صلاحيات الرئيس ضمن حدود صارمة، نرى أن “الشخص” حاضر بقوة بوصفه صاحب قرارات عامة مصيرية، وتسمى فترة

ولايته باسمه، كالقول “في عهد الرئيس فلان”. ربما لهذا السبب قامت الدساتير الخاضعة لمراجعات و”تحسينات” دائمة بوضع إطار زمني للولاية الرئاسية لإبعاد احتمالات “الأبد” أو التوريث عن مصائر النظم الجمهورية القائمة على مبدأ “سيادة الشعب”. كذلك وضعت قيوداً إضافية على صلاحيات الرئيس من خلال مبدأ الفصل بين السلطات، ليصبح بوسع قاض في محكمة أن يستدعي الرئيس للمساءلة أو الحكم عليه، وبوسع المجلس التشريعي المنبثق عن انتخابات عامة أن يفرض على الرئيس احترام ما يسنه من قوانين، وأن يشكل حكومة تحظى بموافقة المجلس، مع احتمال أن تكون بخلاف رغبات الرئيس. وفي بعض الدساتير يقوم المجلس بانتخاب الرئيس وعزله، وفي بعضها الآخر ينتخبه الشعب مباشرةً. وفي كلا الحالين يستمد الرئيس مشروعيته وسلطاته من ناخبيه، فهو مرغم، نظرياً، على الخضوع لإرادتهم.

كل هذه القيود وضروب الخضوع لإرادات خارجية بالنسبة لإرادته الشخصية، بما يجعل من منصب الرئاسة نوعاً من الخدمة مدفوعة الأجر لمخدوم هو الشعب السيد في الأنظمة الجمهورية، لم يحل دون تهافت السياسيين على هذا المنصب واستماتتهم في الوصول إليه كما لو كان مغنماً أو مكسباً لا يعلوهما شيء. وسبب ذلك أن ممارسة الرئاسة في الواقع تقوم بقلب الأمور فيتحول الرئيس من خادم إلى سيد، ومن مأمور إلى آمر، ومن موظف مقيد الصلاحيات إلى “رأس الدولة” وصدارتها وواجهتها.

في الدول ذات النظام الديموقراطي القائم على تداول السلطة، يكون الرئيس ذو الصلاحيات المحدودة سيداً لمدة دورة انتخابية واحدة أو دورتين على الأكثر، ثم يتحول إلى “رئيس سابق” ليحل محله شخص آخر. والرئيس السابق هو مواطن عادي، وإن كان يتمتع ببعض المزايا كالراتب التقاعدي الكبير أو أفضلية الحصول على وظائف رفيعة في مؤسسات أو شركات أو منظمات أو مواقع مهمة في أحزاب سياسية، لكنه في جميع الأحوال يصبح خارج سلطة الدولة بالمعنى المباشر.

معظم الأنظمة الدكتاتورية تحافظ على شكليات النظام الجمهوري الموصوفة أعلاه، من حكومة تنفيذية ومجلس تشريعي منتخب وصلاحيات رئاسية محددة وفصل بين السلطات وغيرها، ويكمن الفارق في أنها، هنا، لا تتجاوز الشكليات، في حين أن السلطة الحقيقية تكون دائماً بيد شخص واحد أو مجموعة ضيقة تستظل بظله وتشاركه الحكم من وراء الستار، فإذا حدث تعارض بينه وبينهم أطاح أحد الطرفين بالآخر، مستخدماً في ذلك صلاحياته الدستورية أو قوته العارية بحسب الحاجة والاضطرار.

تنفر الأنظمة الدكتاتورية، بمختلف أشكالها، من التغيير، وكلما امتد بها المقام في السلطة ازداد تكالبها على البقاء واستشرست في التمسك بموقعها المميز. عنصران جاذبان يجعلان جميع الدكتاتوريين متشابهين عموماً في مسالكهم، وهما السلطة والثروة الملازمة لها، أضيفت إليها في العقود الأخيرة الشهرة وأضواء الإعلام. هناك تعلق مرضي لدى رؤساء الأنظمة الدكتاتورية بالظهور الإعلامي، وبخاصة في عصر التلفزيون، يحوّل الشخص إلى كائن افتراضي يعيش في عالم موهوم موازٍ منفصلاً عن الواقع. وهم ساهم بالذات في صنعه ثم صدقه فبات لا يعرف نفسه. هذا التحول السيكولوجي الخطر ينتج كوارث نشاهد أمثلة متواترة عليها، وخاصة في لحظات فارقة كالثورات أو الانقلابات العسكرية أو الحروب الكبيرة. فالدكتاتور الذي تحايل على الدستور فمدد بقاءه في منصب الرئاسة “إلى الأبد” يتوهم أنه فعلاً الشخص الوحيد المؤهل لـ”قيادة” البلد والدولة، فهو الأذكى والأكثر حكمة وصلاحاً وثقافةً والأقدر على اختيار القرارات الصائبة واجتراح المعجزات، وصولاً إلى هذيانات من نوع أن الشخص باقٍ والأمة عارض زائل، في تناقض مع سنن الطبيعة ذاتها.

في هذا النوع من الأنظمة ليس هناك شيء اسمه “رئيس سابق”، بل رئيس مخلوع ما لم يسبق الموت فينقذه من هذا المصير. وهو مصير مأساوي وكاريكاتوري معاً. مأساوي بالنسبة له بالمعنى الشخصي، حين يتحول، في لحظة واحدة، من الآمر الناهي الذي تطاع رغباته كأوامر، إلى شخص مرذول متهم يقرر آخرون مصيره، سجناً أو إعداماً أو قتلاً بلا محاكمة، وهذا غير الإهانات وأطنان البصاق التي يتلقاها من ملايين الناس ممن كانت حياتهم أو موتهم متعلقين بكلمة تصدر من بين شفتيه. وكاريكاتوري من منظور التاريخ الذي لا يرحم أحداً، حين يظهر خواء الشخص وتفاهته على الملأ بعدما كانا من علامات كينونته الفائقة للبشر.

أصحاب السلطات المطلقة، وأبرز أمثلتهم رؤساء الأنظمة الدكتاتورية الذين يحكمون عملياً على مثال الأنظمة الملكية المطلقة، من المحتمل جداً أنهم يؤمنون بألوهتهم الذاتية، بسبب الوهم الناجم عن قدرتهم على فعل أي شيء، وتحررهم المطلق من أي قيود أو اعتبارات. وهذا ما يدفعهم للنظر إلى سائر الناس، بمن فيهم أركان حكمه، بوصفهم عبيداً أو روبوتات. فلا يحسبون حساباً إلا لأشباههم في الدول الأخرى. وكلما كانت الدولة الأخرى أقوى كلما تعاملوا معها ومع ممثليها “من تحت”، أي من موقع الوضيع. هنا فقط يمارس الحاكم الدكتاتور “السياسة”، فيتودد ظاهرياً لأقوياء يكرههم في قرارة نفسه، وإن كان “يتنمر” عليهم على شاشات التلفزيون وأمام الميكروفونات، إذا لمس أن ذلك لا يكلفه شيئاً، مقابل كسب مزيد من “إعجاب” عبيده أو رهبتهم. بهذا المعنى كانت “السياسة” لدى النظام الأسدي، مثلاً، تعني دائماً وحصراً السياسة الخارجية، أي “اللعب مع الكبار”. أما الشؤون الداخلية فتتكفل بها “الحكومة” التي تدير شؤون “الخدمات العامة” وحسب. معروف تلك الواقعة التي سخر فيها حافظ الأسد من رئيس وزرائه محمود الزعبي المشهور بانتحاره بثلاث رصاصات، حين قال عنه إنه “يظن نفسه رئيس حكومة فعلاً”.

حتى في دول ذات أنظمة ديموقراطية عريقة، كالولايات المتحدة، تظهر عيوب النظام الرئاسي حين يحتل أشخاص من طينة ترامب أو بوش الابن أو غيرهما منصب الرئيس. ألم يئن أوان تجاوز هذا الشكل من الحكم؟ هل ثمة ضرورة حقاً لـ”مرياع” فائق يقود القطيع؟    

تلفزيون سوريا

سقط رئيسان أثناء انتظار الغاز/ عمر قدور

هي النكتة القادمة من داخل سوريا، يسخر فيها سوري بالقول: لقد سقط رئيسان عربيان، بينما أنتظر مجيء دوري للحصول على الغاز. المقصود هو الحصول على أسطوانة غاز منزلي، كانت عادة تكفي للاستهلاك بين أسبوعين وشهر بحسب حجم الأسرة، وبات الحصول عليها يتطلب الآن زمناً أطول بكثير من مدة استخدامها القصوى، أي أن نسبة ضخمة من السوريين تبقى لفترات طويلة محرومة منها كلياً. كذلك تشهد حركة النقل أزمة متصاعدة بسبب شح الوقود وتوزيعه بكميات لا تفي بالحاجة، ما يربك ويزيد في كلفة حركة النقل بواسطة السيارات الخاصة أو المخصصة للنقل الجماعي.

تذمّر السوريين من تردي الواقع المعيشي بمستوى أخف من هذه النكتة، بما فيه تذمر بعض المعروفين بموالاتهم، يُقابل باحتمالات تتراوح بين القمع والاعتقال، أو بالتجاهل الذي يصل حد الإهانة، وفي أحسن الأحوال بإعلان العجز والإفلاس التامين. لا وعود كاذبة تُطلق اليوم من كبار المسؤولين، ولا آمال تُعلّق كالسابق على معونات ستصل من الوصيّ الإيراني أو الروسي، مثلما توارت بحكم الواقع تلك الوعود عن عودة الأحوال الطبيعية بعد الانتصار على “الإرهابيين”، فالانتصار الموعود تحقق بمعظمه، والحصيلة التي رافقته أتت تدهوراً معيشياً إلى أدنى من المستويات التي سادت أيام المأزق العسكري لقوات الأسد.

هذه النتيجة لم تكن لتحتاج سوى القليل من التفكير، لأن حجم الدمار الذي أوقعته وحشية الأسد لا بد أن ينعكس معيشياً. لا بد أيضاً من تغير السلوك الإيراني والروسي بعد تحقيق هدف الإبقاء على بشار في السلطة، فالمساعدات التي قُدّمت من قبلهما أثناء الحرب، بما فيها الاقتصادية بهدف الحفاظ على ولاء المؤيدين، قد حان وقت استردادها، إن لم يكن استردادها مع الفوائد. فوق ذلك، يعاني الاقتصادان الإيراني والروسي من العقوبات الاقتصادية الغربية، وكما نعلم لا يبدي هذان النظامان اهتماماً بالأمور المعيشية لمواطنيهما كي يبديان اهتماماً أقل بسوريين لا ينظران إليهم سوى كخاضعين عنوة أو كمرتزقة.

عدم تبرّع مسؤولي الأسد بوعود للتسويف، وقبل ذلك عدم إعطاء وعود من بشار نفسه في حديث أشار فيه للأزمة المعيشية، لا يعكسان فقط الفساد المعهود والأزمة الاقتصادية لما يُسمى الحلفاء. ذلك يعكس أيضاً نوعية العلاقة الجديدة بين الأسد وجمهوره، ونخطئ إذا نظرنا إليها كمعطى ثابت لدى طرفيها. الأسد وزمرته لا يرون أنفسهم مدينين لذلك الجمهور بشيء، رغم التضحيات الهائلة التي قدّمها، فالمعيار لدى الزمرة الأسدية هو في الدعم الحاسم الذي أبقاها في السلطة، ومن المعلوم أن مصدره هو طهران وموسكو. تالياً لا وليّ للزمرة الأسدية سوى ذلك الخارج الذي أبقى عليها، بما فيه قوى لم تتخذ قرار ترحيلها من السلطة مثل واشنطن وتل أبيب.

شيئاً فشيئاً أدرك “وسيدرك” جمهور الموالاة هذا الواقع؛ فلا الطائفية “لدى الشريحة الطائفية منه” تجمعه بعصابة تغيّر جلدها بما تقتضيه مصالحها، ولا شبكة المصالح الاقتصادية القديمة “التي أمّنت ولاء البعض” ستبقى قائمة مع بروز أثرياء الحرب الجدد، ومنهم من يحظى برعاية طهران أو موسكو، ولا أولئك الذين كان بقاء الأسد يعني لهم المحافظة على عتبة من الأمان في وجه المجهول سيسترجعون مستوى العيش القانعين بهم قبل الثورة. ما بدأ إدراكه هو أن الأسدية سقطت بكل ما تمثّله للذين دافعوا عنها، باستثناء الشبيحة المستفيدين من حالة الصراع أو الصاعدين بسببها. بقاء بشار في السلطة لم يعد رمزاً لبقاء الأسدية، ولا استمراراً لها في عيون من كانوا يرون فيه استمراراً للأب المؤسِّس.

ربما علينا الانتباه مجدداً إلى أن الأسدية في أذهان غالبية مؤيديها اقترنت بالأب أكثر من اقترانها بالابن، وبعيداً عن الإعلام لطالما نُظر إلى الأخير كوريث متواضع الكفاءة. أي أن بقاءه الشخصي على ركام الأسدية لا يحمل ثقلاً أو معنى معتبراً بالنسبة لكثر من أنصارها، وهؤلاء بدأوا مواجهة جثتها المتفسخة حتى إذا عزّ عليهم الاعتراف بموتها، وهم في مطلق الأحوال لن يحملوا إلى الأبد على أكتافهم ذلك العفن طالما تبين أن لا رجاء منه.

لعل قادة الكبار يعزون أنفسهم باستذكار التصحر التام الذي تلا المواجهة مع الإخوان في مستهل الثمانينات، فحينها تدهورت الأوضاع المعيشية بسرعة شديدة جداً مع العزلة الخارجية، وساد جو معمم من الإرهاب والخوف، واستقر الأمر تماماً لولا صراع الأخوين حافظ ورفعت. الاختلاف بين الأمس واليوم ليس في الدرجة فقط، لأن التدهور الحالي يفوق السابق بعشرات المرات، وإنما لأن الأسدية انتصرت في المرة الأولى بقواها الذاتية، بينما هي الآن تحت رحمة الخارج الذي يملك إعلان وفاتها، أو تأجيله كما هو حاصل.

إذا استمرت الأمور على ما هي عليه، قد نتجه حثيثاً إلى مناخ عام يتمنى فيه أنصار الأسدية أن يبادر الخارج إلى إخراجها من غرفة الإنعاش أو إطلاق رصاصة الرحمة عليهم، رحمة بهم أنفسهم قبل أي اعتبار آخر. لا يوجد أفق مغاير متاح، لا لأن هؤلاء لم يعتادوا التفكير في المطالبة بحقوقهم، أو لن يتجرؤوا عليه، وإنما لأنهم رأوا كيف لم تنفع ثورة سوريين آخرين، وكيف كان العامل الخارجي مرجِّحاً في النهاية، وكيف بقي حتى الآن كابحاً لإمكانيات التغيير بخلاف دول أخرى كالجزائر والسودان اللذين سقط فيهما رئيسان مؤخراً، واستطاع شعباهما النزول إلى الشارع دون أن يطلق عليهما الجيش والمخابرات الرصاص، في حين التجمعات الوحيدة المتاحة في سوريا هي التجمعات الضخمة لأولئك الذين ينتظرون الحصول على المحروقات أو سواها من المواد الأساسية.

إننا لو كنا أمام مخطط مدروس للقضاء على الأسدية من داخل جمهورها لما حدث لها أكثر مما يحدث، لكننا نعلم حرص الخارج على الإبقاء على الجثة ولو أصبحت جيفة حتى تنتهي ترتيبات اقتسام التركة، الترتيبات التي تمضي بتمهل شديد جداً. ربما يكون جزء من مصيبة الموالين ظنهم أن أذى الأسدية سيقتصر على الثائرين عليها ولن يطالهم في ما بعد، وربما لن يتذكروا شماتتهم بالثائرين الذين تلقوا خذلان “أصدقائهم” وقد أتى دورهم لتلقي الخذلان من “حلفائهم”؛ الأقسى مما سبق أن يكون الدرس السوري نافعاً لغيرهم فحسب.

المدن

سودانيون وجزائريون..لماذا نعرفهم؟/ رشا الأطرش

خلال جلسة أصدقاء، حضرت فيها سيرة سقوط الرئيسين عبدالعزيز بوتفليقة وعمر البشير، وتطورات الحدَثين الجزائري والسوداني، ذهب الحديث إلى فكرة أن التغطيات الصحافية والصور التي جلبتها وكالات الأنباء العالمية نبّهتنا كم أننا لا نعرف الجزائريين والسودانيين. وخصَصنا بالذِّكْر السودانيات اللواتي فرضن أجسادهن وأصواتهن وهتافاتهن على الحيز العام، وبرهنّ عن جرأة وقوة وجمال قيادي مبهر، يبدو أنه كان مطموراً بجلهنا بهنّ أولاً، وبقلّة الحضور السوداني عموماً في ما نتابع.

وفي غمرة الكلام، تساءل صديق سوري: “ولماذا كنا لنعرفهم؟”.

في البداية، قد يتحفّز واحدنا للإجابة بأننا كان يمكن أن نبذل جهداً، إن أردنا ألا ننغلق في بوتقاتنا وقضايانا المحلية والإقليمية. والإجابة بأنهم عرب أيضاً. والمشترك بيننا، حتى من خارج الأدلجة، يدعم مسعى المعرفة هذا، ولو في أوساط النخبة. وأن المعرفة التي تتسرّب إلينا من لقاءات على هامش مؤتمرات التنمية والجندر والحريات، وفعاليات الجوائز الأدبية والفنية، قد تتحول اختزالية، وربما أيضاً تنميطية، رغم الافتراض بأن الهدف الأساس من تلك النشاطات هو كسر القوالب.

لكن، وبعد هنيهات من التفكير، قد لا تبدو بسيطة الإجابةُ على سؤال الصديق. والسبب أن ما بعد “الربيع العربي”، رغم كل الأزمات والنجاحات القليلة والفشل الكثير، ليس كما قبله.

فالحقيقة، أننا، قبل العام 2011، لم نكن، نحن أبناء المشرق العربي، نعرف الكثير مما له وزن، عن تونس وليبيا، ولا حتى عن سوريا ومصر المركزيتين في هذا المشرق. والأمر نفسه قد ينسحب على معرفة المغرب العربي بأطرافه، ومعرفة السوريين بالمصريين، والعكس، ومعرفة اللبنانيين بالبقية، والعكس،… وذلك رغم التشابك العميق جداً، بين لبنان وسوريا مثلاً، ليس فقط بسبب التداخل التاريخي والعائلي والإثني والطائفي والجغرافي، بل أيضاً السياسي والعسكري، في الحرب الأهلية اللبنانية الآفلة، وفي الحرب السورية الراهنة، وبينهما الوصاية الأسدية على لبنان التي تفجَّرَ مطلبُ كسرها مع اغتيال رفيق الحريري، وغيّر الكثير في المعادلات اللبنانية الداخلية، ويبدو أننا اليوم إزاء عودتها.

الثورة السورية، مثلاً، عرّفتنا بمناطق سوريّة لطالما كانت إشكالياتها وحكاياتها المدهشة، مجهولة. وعرّفتنا بشابات وشبان من الصنف الذي لم نكن ندرك -إلا قليلاً- حجمه الهائل وجذوره العميقة، في الفن والسياسة والثقافة والصحافة. بل أكثر من ذلك، لعل الثورة السورية زادت معرفة السوريين ببعضهم البعض، في بلد قطّع “البعث الأسدي” أوصاله وخصوصيات أبنائه لصالح دمغة واحدة وحيدة حُفرت في جِباه الجميع. أذكر كيف أن صديقاً سورياً آخر، من السويداء في الجنوب السوري، أخبرني ذات مرة، كيف دعاه صديقه لزيارة معرض للكتاب في اللاذقية، وذلك قبل عشر سنوات من الثورة. فذهب، ودُهش بالكثير مما رآه وسمعه، وليس أقلّه اللهجة العلوية التي بثت فيه توتراً لا ينساه، رغم أنه كان آنذاك في منطقة لاذقانية سنّية، ورغم أنه كان له أصدقاء علويون في دمشق. غير أن لهجة الأصدقاء بدت مخففة في العاصمة، وكونهم أصدقاؤه فقد كانت القواسم المشتركة بينه وبينهم معبَراً لتجاوز الصبغة الأمنية المرعبة للهجة والناطقين بها.

وكثيرة هي القصص المشابهة التي يرويها سوريون، وربما مصريون تعارفوا في ميدان التحرير وغيره.. وتعرفنا نحن أيضاً على نمط “جديد” من المصريين. وما كانت دروبنا لتتقاطع –رغم كل التلاقح المعروف في السينما والأدب والموسيقى والتلفزيون وحتى الذاكرة السياسية– لولا أحداث يناير 2011 ووسائل التواصل الاجتماعي التي كرّست نفسها واحدةً من أبرز رافعات الثورات. عرفنا هؤلاء جميعاً لأنهم كانوا يفعلون ما اشتهيناه، سرّاً وعلانية، ثورة حقيقية كانت آنذاك، ثم فشلت، لكن الصلة كانت قد انعقدت، وهذا ما لا يمكن إلغاؤه.

قد يصح القول إن مرحلة صعود القومية العربية، وخصوصاً الناصرية، إضافة إلى غليان القضية الفلسطينية ونشاط “منظمة التحرير”، كانت آخر المراحل التي عرف خلالها العرب بعضهم بعضاً. لكنها، كما يشهد تاريخ الخمسينات والستينات، وأفلامه وأغانيه وحروبه وعقائده، كانت معرفة من فوق إلى تحت، من القيادة إلى الشوارع. معرفة ما يفرضه الأمر الواقع على “الجماهير”، والتي، حكماً، لن يسعهم أن يهضموها إلا فرادى، ولم يهضموها. معرفة الواجب القومي، مناهضة “الاستعمار” وتحقيق المشروع الكبير، الوحدة التي يذوب فيها الكل في الكل، تحت قيادة استبدادية واحدة. ومعرفة مقاومة هذا الذوبان (لصالح قيادة استبدادية أخرى؟)، وحبّه، في آن واحد. معرفة الإيديولوجيا والـ”نحن” التي يجب أن نكونها، أو نرفضها. كانت هناك أيضاً معرفة الغناء والشِّعر والحب، وأحياناً الزواج.. لكنها ظلت استثناءات، والغالب الأعم هو المشوب بالوهم والهذيان الجماعي.

لكن “الربيع العربي”، الذي يبدو أنه يتجدد الآن، والذي لا يمكن لأحد الجزم إن كان التجدد هذا سيتفادى أخطاء سابقه، يدفعنا اليوم لمعرفة السودانيين والجزائريين، كما عرّفنا من قبلهم بالسوريين والمصريين والتوانسة. وذلك لأننا، على الأرجح، نريد أن نطمئن على أنفسنا، ولأننا بتنا نهتم بما يقوله لنا هؤلاء الأشخاص في الصور. “الكنداكات” السودانيات، الصحافيون الجزائريون، المسيحيون السودانيون، النقابيون الجزائريون، أساتذة الجامعة ورسامو الغرافيتي السودانيون، والمحامون والقضاة الجزائريون.. الأفراد ضمن كل من هذه الفئات وغيرها. نريد أن نعرفهم ونعرفهن، كما عرفنا أصحاب لافتات كفرنبل السورية، لأننا لم نجد إجابات على الكثير من تساؤلاتنا: هل راحت سدى كل التضحيات المتواصلة منذ ثماني سنوات؟ أم أن الأمل حيّ؟ هل راكمت التجربة؟ هل أسس نقدها لتجربة أخرى؟ نريد أن نعرفهم لأننا نرى في وجوههم، كأشخاص لا كحشود، هموماً تشبه همومنا، تحاكيها، ونتماهى معها. إنهم اليوم مرايانا، وغداً يوم آخر.

المدن

الجيوش والثورات: قراءة في الحالة السودانية/ إبراهيم بديوي

ليس أضر ولا أبعث على الخجل بالنسبة إلى الراعي من أن يُربي ويُغذي، من أجل حماية قُطعانه، كلابًا تدفعهم شراستهم وجوعهم، أو أي عادة سيئة أخرى تعوّدوها، إلى التعرّض بالأذى للماشية، فيتحولون من كلابٍ إلى ما يشبه الذئاب.

أفلاطون – «جمهورية أفلاطون»

لأول مرة في تاريخها واجهت الولايات المتحدة تحديًا خطيرًا إبان الحرب الباردة؛ ففي ظل المعضلة الكورية، والتمدد السوفياتي، اضطرت الولايات المتحدة للاحتفاظ بقوات عسكرية كبيرة لأول مرة في تاريخها خلال أوقات السلم، وكان الجنرال دوغلاس ماكارثر على خلافٍ معلن مع استراتيجية الرئيس ترومان، ماكارثر صاحب الشعبية الجارفة، المتيم بإلقاء الخطب والاستعراض، تمرد على أوامر قائده، واختلف معه في نظريته للحرب المحدودة.

لأول مرة كانت الولايات المتحدة على بعد خطوة واحدة من مصير الإمبراطورية الرومانية، قائد عسكري قوي يتحدى الزعيم السياسي للبلاد، يتمثل ماكارثر دور يوليوس قيصر، غير أن ترومان عاجله بكسب ود رؤسائه من القادة العسكريين ومن ثم طرده من الخدمة. [1] مثلت تلك اللحظة بداية التساؤل الجاد حول العلاقات المدنية العسكرية في أمريكا، ومن أبرز من نظروا لهذه العلاقات، عالِم السياسة الأمريكي صامويل هنتنغتون.

يشكل الضباط – في تنظير صامويل هنتنغتون للعلاقات المدنية العسكرية- مهنة، شأنهم شأن المحامين والأطباء، والمهنة ليست عكس الهواية كما هو دارج، إنما هي اصطلاح يعبّر عن انتماء لمهنة تقوم على مجموعة من القواعد والأخلاقيات، يلخصها هنتنغتون في ثلاثة مكونات؛ الخبرة والمسؤولية والكوربوراتية (التعاضد، أو الجسد الواحد).

يرى هنتنغتون أن احتراف المهنة يؤدي إلى نشوء أخلاقيات مهنية، مشتقة من طبيعة الوظيفة، بغض النظر عن أخلاقيات الأفراد وخلفياتهم وميولهم، وفي حالة المهنة العسكرية تضم هذه الأخلاقيات الطاعة والانضباط وتقديم الجماعة على الأفراد ورفع مصالح الدولة فوق مصالح الجماعات واحترام التراتبية، وبهذه القواعد يتحتم على محترف العسكرية أن يسحق ذاته للصالح العام، مما يعني اتباع نمط واقعي محافظ، هو عكس الأيديولوجيا الليبرالية السائدة في الولايات المتحدة.

هذا التضاد بين النمطين، استوجب الحفاظ على القواعد العسكرية بعيدًا عن الحياة المدنية والسياسية، والطريقة الوحيدة لتحقيق ذلك أن يُمنع العساكر عن التدخل في السياسة، ويُمنح الجيش استقلاليته ليدير شؤونه، والهدف من وراء هذا الفصل بين المدني والعسكري الحفاظ على العسكري، يرى عزمي بشارة في هذا حفاظًا على المدني أيضًا كما العسكري. [2]

هذا النمط النموذجي الذي صاغه هنتنغتون، في كتابه «الجندي والدولة، نظرية العلاقات المدنية العسكرية وسياستها»، ينطوي على إشارات مهمة؛ أبرزها اعتبار الجيش طبقة مهنية، تعي مصالحها وموقعها من الطبقات الأخرى، وبالتالي هي واحدة من جماعات الضغط داخل الدولة الأمريكية، ومُقدمة على غيرها بما في يدها من القوة المادية.

انحياز المؤسسة العسكرية شرط لنجاح الثورة

لا يمكن لثورة أن تفوز على جيش حديث، إذا ما حاول الجيش إخمادها بكامل قوته

كاثرين شورلي – من كتاب «كيف تستجيب الجيوش للثورات ولماذا؟»

يناير/ كانون الثاني 1959، بشكلٍ درامي هرب فولغينسيو باتستا من العاصمة الكوبية هافانا، معلنًا بهروبه نجاح واحدة من أهم الثورات الشعبية في التاريخ الحديث، وأكثرهم إلهامًا وتأثيرًا. أدهشت الثورة الكوبية العالم، وسرعان ما هرع المثقفون والطلاب والصحافيون الأجانب إلى كوبا، يبغون دراستها والاطلاع على تجربتها.

من بين هؤلاء كريستيان رايت ميلز، عالم الاجتماع الأمريكي «الراديكالي» في جامعة كولومبيا، وصاحب عدد من الإسهامات الكلاسيكية في علم الاجتماع؛ أصحاب الياقات البيضاء «White Collar»، ونخبة السلطة «The power elite».

تأثر ميلز بالثورة الوليدة، ولأسبوعين في أغسطس/ آب 1960 جاب البلاد شرقًا وغربًا – بعضها كان بصحبة عقل الثورة فيديل كاسترو- على أمل أن يكتب عنها كتابًا، يعمد من خلاله إلى تشريحها والوقوف على أبرز محطاتها الفكرية والحركية.

في كتابه نخبة السلطة، يرى ميلز أن هرم السلطة في المجتمع الأمريكي يتشكل من أضلاع ثلاثة، مؤسسات الدولة، والمؤسسات الرأسمالية التي تتحكم في الاقتصاد الأمريكي وأخيرًا المؤسسة العسكرية، لكنه ومع ذلك في تشريحه للثورة الكوبية – في كتابه- خلص إلى هذه النتيجة: [3]

إن المجموعات الثورية التي يقودها رجال من ذوي العزائم، يقف الفلاحون بجوارهم، ويتحصنون بجبل قريب، تستطيع هزيمة كتائب الطاغية المنظمة جيدة التسليح، حتى لو امتلكت الأخيرة قنلة نووية.

لا يرى ميلز إذن من خلال هذه الكلمات أن انحياز المؤسسة العسكرية للثورة عامل أساسي ومُلح لإنجاحها، يوافقه في هذا المؤرخ البريطاني الشهير إيريك هوبسباوم، وكلاهما يستند في هذه الخلاصة إلى الثورة الكوبية (1959) ونظيرتها الصينية (1949)، لكن ما لا يفطن إليه ميلز وهوبسباوم أن الثورتين، كلتيهما، وقع بعد الحرب العالمية الثانية – في أتون الحرب الباردة- وكلتيهما كان نتاجًا لعمل مسلح وحرب أهلية استمرت سنوات ودعمتها دول كبرى كالاتحاد السوفيتي، فلا يصح الاعتماد عليهما في التنظير للثورة، في العلاقات المدنية – العسكرية بالذات.

أعطى الربيع العربي درسًا قاسيًا لرايت ميلز وهوبسباوم، حين تأطرت ثوراته وفق تصورات جيوش الدول التي قامت فيها الثورات. فتونس مثلًا، لما قرر الجيش أنه لن يتدخل لحماية نظام ابن علي، ورفض الفريق أول رشيد عمار قائد أركان جيش البر الامتثال لأوامر الرئيس بالتصدي للتظاهرات وقمعها، حققت الثورة مأربها، وفي مصر بصورة مماثلة لم تكن انتفاضة يناير 2011 لتنجح لولا انحياز الجيش الواضح لها، لما نزلت دبابابته ميدان التحرير يوم 28 يناير (جمعة الغضب) وبدا واضحًا أن الجيش يرفض أو يتململ حيال إنقاذ الرئيس مبارك، لولا هذا الانحياز، لاستطاعت الأجهزة القمعية الأخرى (الشرطة وعدد من المأجورين، يسميهم ماركس البروليتاريا الرثة) القضاء على الانتفاضة، وذلك بدا واضحًا فيما أعقب ذلك من تحركات، سواء أحداث محمد محمود أو أحداث رابعة والنهضة، وغيرهما الكثير. وخلافًا للنموذجين التونسي والمصري، فإن لدينا نماذج أكثر سوداوية، كالسوري والليبي واليمني.

يقول أستاذ العلوم السياسية في جامعة تكساس، زولتان باراني، إن جُل الدراسات المعنية بدراسة الثورة لم تتطرق لتفاعلات الجيش مع الثورة إلا في أُطر محددة، كأنْ تحدو الثورة بالبلاد إلى تغيرات جذرية مؤداها الحرب، أو كما في حالة التمرد المسلح، يكون الجيش يد النظام التي يضرب بها، لكن قليلاً من الدراسات اهتمت بدور الجيوش في إنجاح الثورات، والحالة التي عليها السودان والجزائر اليوم تستدعي منا الاهتمام بهذا الجانب، لما تبديه المؤسسة العسكرية في كلا البلدين من تململ تجاه الانتفاضة الحالية، ففي السودان اعتصم المتظاهرون أمام القيادة العامة للجيش السوداني، وكان مفاجئًا تدخل بعض أفراد الجيش لحماية المتظاهرين من رصاص الشرطة [4]، كذلك في الجزائر فإن الجيش سكت عن التظاهرات ولم يتدخل لقمعها، مع بعض التصريحات المؤيدة لها ولأهدافها.

في كتابه، يوضح زولتان أن أبرز من تبنّوا حتمية انحياز الجيش أو فريق منه للثورة كضمان لنجاحها، كاثرين شورلي في كتابها «الجيوش وفن الثورة» الصادر عام 1943، وديانا راسل في كتابها «التمرد والثورة والقوة المسلحة»، صحيح أنه ليس دعم المؤسسات العسكرية هو ما يجعل الثورة ناجحة، لكن الثورة لن تنجحه إلا به [5].

وخلاصة هذا الكلام، أن الثورة لكي تنجح لابد لها من دعم أحد الأطراف القوية من داخل النظام، ليكون قادرًا – في المقام الأول- على تثبيت باقي الأطراف من داخل النظام أو نخبة السلطة -على حد تعبير رايت ميلز- وأقوى هذه الأطراف (من الناحية المعنوية لما له من مراتب الشرف والوطنية، ومن الناحية المادية لما بيده من أسباب القوة الحقيقية) هو الطرف المسلح (الجيش).

الجيوش والربيع العربي

في ورقة بعنوان «مقارنة بين الثورات العربية من حيث دور المؤسسة العسكرية»، نُشرت في 2011، فصّل زولتان مواقف الجيوش العربية من الثورات العربية الست: تونس ومصر والبحرين واليمن وسوريا وليبيا، وكيف أن العامل الحاسم في نجاح بعضها وفشل الأخرى تمحور حول رد فعل المؤسسة العسكرية، لا يتعلق الأمر بما طلبه الرئيس من الجيش، بل بما أجابه الجيش.

في مصر وتونس انحازت المؤسسة العسكرية لصف الثوار، وفي ليبيا واليمن كان الانقسام هو رد المؤسسة، لكن في البحرين وسوريا حسم الجيش موقفه بالاصطفاف إلى جانب السلطة السياسية، وأدار بنادقه في صدور المحتجين، بشيء من الإيجاز نحاول عرض مقارنات بين الحالات الست.

إذا قمنا بتشريح الحالة المدنية العسكرية في مصر، كمثال، فإن الدولة التي تأسست عام 1952 إنما تأسست على يد ضباط من الجيش «الضباط الأحرار»، وبذلك كانت نخبة السلطة جميعها متركزة في المؤسسة العسكرية، ثم تضاءل دور الجيش رويدًا في ظل حكم السادات، الذي عمد إلى الانفتاح الاقتصادي وسمح بتكون طبقة من البرجوازيين (برجوازية الدولة وبرجوازية السوق) ليبدأ مثلث نخبة السلطة – كما يُعرفه رايت ميلز- في التشكل؛ الجيش، والرئيس، والطبقة الرأسمالية حديثة التشكّل، حتى أن السادات اضطر مع تغيير النمط الاقتصادي من اشتراكية عبدالناصر إلى النيوليبرالية، اضطر، للتصدي إلى قمم الأجهزة السيادية من موروثات سلفه، وبالفعل قام بتصفيتهم فيما عُرف بـ«ثورة التصحيح» مايو/ آيار 1971 [6].

في عهد مبارك اتسع الخرق على الراتق، وتكونت طبقة واسعة من برجوازية السوق، صارت أقرب إلى عائلة مبارك من الجيش، الذي أخذ دوره في التضاؤل، فما إن قامت الثورة على نظام مبارك، إلا واستفادت من تناقضات هذه النخبة، فوجد فيها الجيش مأربه بالتخلص من الطبقة المدنية الحاكمة، ولا يتعارض أبدًا كونها مدنية مع كونها كانت فاسدة، لكن الجيش المصري اليوم قام بتوسيع نشاطه الاقتصادي، بما يؤكد وعي قادته الكامل بتلك التوازنات، وتأثيراتها على قوة النظام وفرص إسقاطه أو تحجيم سلطته.

في تونس، دفع الفريق أول رشيد عمار، قائد أركان جيش البر التونسي، بقواته للفصل بين القوات الشرطية والبلطجية من ناحية والمتظاهرين من ناحية أخرى، بعدما رفض أوامر زين العابدين بن علي بالدفع عن النظام في وجه الاحتجاجات، وفُهم هذا التصرف على أنه حماية للثورة والثوار، فما الذي دفع الرجل إلى هذا الانحياز؟

يقول زولتان إن سَلَف الرئيس ابن علي، الحبيب بورقيبة، عمد إلى تحجيم الجيش وإبعاده تمامًا عن العملية السياسية، وهي المكانة التي ارتضاها الجيش لنفسه، فلم يتدخل في السلطة طيلة ثلاثين عامًا (1957 – 87)، اللهم إلا تدخله لقمع احتجاجات شعبية اندلعت بين الشغيلة ونظام الرئيس بورقيبة في الفترة ما بين (1978 – 84)، ولم يتململ الجيش إزاء العودة إلى الثكنات بعدما هدأت الأمور، ويُذكر أن الجيش التونسي هو الجيش الوحيد في شمال أفريقيا الذي لم يحاول الانقلاب على السلطة السياسية ولم ينازعها الأمر.

انقلب ابن علي، وكان وزيرًا للداخلية ثم رئيسًا للوزراء، على الرئيس بورقيبة سنة 1987، وحافظ على وضعية الجيش خارج المسار السياسي، فلم يمكّن الجيش من أدوات السياسة أو الاقتصاد، وبدلًا من ذلك عمد إلى موازنة العلاقة الحميمية بين ضباط الجيش ونظرائهم الفرنسيين فأرسل بهم إلى الولايات المتحدة، في بعثات تدريبية بعضها اشتملت على برامج للعلاقات المدنية العسكرية في ظل النظام الديمقراطي الأمريكي. [7]

ولما كانت الثورة على نظام بن علي في أواخر 2010، لم يجد الجيش ما يدفعه للتدخل في أتون تلك المعركة، لا سيما وأن كبار ضباطه قد ضاقوا ذرعًا بفساد حاشية ابن علي، فلم يستجيبوا لنداءاته، وبدلًا من ذلك تدخلوا لحماية الثوار من بطش نظامه الشُرطي.

ما نريد قوله، إنه في النموذجين المصري والتونسي، تدخل الجيش لدعم الثورة، مدفوعًا بأهداف متباينة، وفي ظل ظروف متناقضة؛ المهم أن الثوار المدنيين في كلتا الحالتين استفادوا من تضارب المصالح بين الجيش ومؤسسة الرئاسة.

لماذا تتحرك الجيوش لدعم الثورات؟

من المهم قبل الإجابة على هذا السؤال، الوقوف على تعريف الثورة. وتعريفها يقتضي ذكر تلك الليلة الحالكة، ليلة الـ14 من يوليو/ تموز 1789، عندما سمع لويس السادس عشر – آخر ملوك فرنسا قبل الثورة- بسقوط الباستيل [8]، وتمرد القوات الملكية، فصاح لويس: «إنه تمرّد»، فرد عليه أحد معاونيه -يُعتقد أنه قائد جيشه: «كلا يا صاحب الجلالة، إنها ثورة» [9].

ورغم وضوح دلالة اللفظ في ذلك المقام، فإنه أعجز علماء الاجتماع فلم يتفقوا على تعريف واضح لمعنى الثورة، غير أننا نختار من بين التعريفات الكثيرة، تعريف ستيفن والت – أستاذ العلاقات الدولية في جامعة هارفارد الأمريكية:

الثورة هي تدمير الدولة القائمة على يد أفراد من مجتمعها، متبوعة بإقامة نظام سياسي جديد.

فوفق هذا التعريف البسيط، فإن الثورة هي أي فعل فجائي مكون من شقين، الهدم والبناء. وعنصر المفاجأة يجعل التنبؤ بالثورة من المستحيلات، غير أن التنبؤ بنجاحها أو فشلها يخضع لعدد من المعايير، من هذه المعايير – كما يميل أستاذ العلوم السياسية في جامعة تكساس زولتان باراني- انحياز الجيش أو جزء منه إلى جهة الثوار.

فما الذي يجعل جيشًا ينحاز للثورة وآخر للنظام؟تحتاج الإجابة على هذا التساؤل إدراك عدد من العوامل المؤثرة في العلاقات المدنية العسكرية، يخلُص زولتان بتأطيرها في أربعة أعمدة رئيسية؛ تأتي في المرتبة الأولى العوامل العسكرية، وتاليًا عوامل تتعلق بالدولة والمجتمع وأخيرًا تلك التي تتعلق بالظروف الخارجية.[10]

أولًا: العوامل العسكرية

يركز علماء الاجتماع كثيرًا حينما يتعرضون للعلاقات المدنية العسكرية على مدى احترافية الجيش، فالجيوش الأكثر احترافية والتي تحكمها قوانين المؤسسة لا تكون أكثر ميلًا لدعم الأنظمة المستبدة، على العكس، هذا مفترض دائمًا في الجيوش التي يحكمها المنطق الأبوي «patrimonialism»، لكن هذه النظرية أثبتت قصورًا شديدًا في بلدان الشرق الأوروبي، بلدان الكتلة الشيوعية، فكانت على درجة عالية من الكفاءة والاحترافية، لكنها ومع ذلك دعمت أنظمة شديدة التسلط والقسوة.

يمثل تماسك البناء الداخلي للجيش أحد أهم العوامل المؤثرة في موقفه من الثورة، لأنه بهذا التماسك يمكن إقناع الضباط، كبارهم وصغارهم، بقرار المؤسسة ودفعهم لتبنيه، وأهم ما يؤثر في هذا التماسك، الاختلافات الإثنية والدينية والجهوية، والثورة الليبية خير دليل على هذا. كذلك يمكن أن تؤثر الاختلافات الجيلية والاختلافات بين الضباط وضباط الصف والمجندين، في درجة تماسك الجيش. أضف إليها ما يمكن أن تحدثه وحدات النخبة في درجة تماسك الجيش، لما لها من أفضلية في المهام والامتيازات الخاصة بها على باقي الجيش.

من أهم الفرضيات التي على أساسها يمكن توقّع موقف الجيش من الثورة على الإطلاق؛ رؤية الجيش للنظام من حيث الشرعية. والشرعية السياسية للنظام بشكل عام تُستمد من مدى رضا الشعب عن الفئة الحاكمة. في الأنظمة الديمقراطية تتكفل الانتخابات النزيهة بهذه المهمة، لكن في ظل أنظمة شمولية وديكتاتورية كأغلب الأنظمة العربية يظل تململ الفئة العريضة من الشعب هو المحدد الأكثر وضوحًا، وتكون الثورات هي الأفق الوحيد للتغيير.

أحد أهم المحددات التي يُتوقع من خلالها موقف الجيش من الثورة أيضًا، السمعة العسكرية، فالجيوش التي تتمتع بسمعة عسكرية سيئة تميل في الغالب لدعم الأنظمة على حساب الثورات، لأنها تكون والنظام في خندق واحد، ومثال على ذلك الحالة السورية. [11]

ثانيًا، عوامل تتعلق بالدولة

تعد نظرة الدولة للجيش واحدة من أهم العوامل الحاسمة لولاء الأخير في أوقات الاضطرابات؛ الاهتمام بالوضع المادي للأفراد وضمان رفاهية الضباط وعوائلهم، وأيضًا المهام المنوطة بالجيش فلا تورطه الدولة في حروب لا ناقة له فيها ولا جمل، أو توكل إليه مهام لا تكافئ جهوزيته القتالية، لأن مثل هذه المهام تبعث على التململ داخل صفوف الجيش.

ومن أهم ما يؤثر في قرار الجيش لحظة الاضطرابات، حاجته لأن يتلقى أوامر واضحة من قيادة حازمة، فلا يفضل العسكريون الأوامر الغامضة في الأوقات العصيبة، وخير مثال على هذا، تصرف الجيش الإمبراطوري الروسي في ثورة 1905 [12] ثم نقيض ذلك في ثورة 1917، التي نجحت في الإطاحة بالنظام القيصري.

ثالثًا: العوامل المجتمعية

خلافًا للعوامل المتعلقة بالنظام العسكري والسياسي في البلد، فإن طبيعة التظاهرات (حجمها، وتكوينها، وماهية مطالبها) نفسها قد تكون الفارق في استجابة الجيش للثورة، فمثلًا في انتفاضة البحرين 2011، كون التظاهرات عبّرت عن مكوّن واحد من مكونات المجتمع – أو هكذا جرى تصوريها للقيادة العسكرية- ساعد ذلك الجيش البحريني على حسم قراره بقمعها والانحياز إلى السلطة الملكية في البلاد.

ربما أيضًا تكون هناك علاقة بين حجم التظاهرات ومكانتها من العاطفة الشعبية وانحياز المؤسسة العسكرية لها أو عليها، فكلما كانت التظاهرات أكبر من حيث الحجم كان انحياز الجيش لها أقرب.

رابعًا وأخيرًا: العوامل الخارجية

وهذه يمكن حصرها في اثنين من المتغيرات ذات الصلة، فعندما تخشى المؤسسة العسكرية تدخلًا خارجيًا ذا طابع عسكري معاد يكون حرصها على استقرار البلاد من الداخل أكثر من دعمها تحركات الشارع، ويكون ذلك عادةً في الدول التي تخشى عداءً وجوديًا، كما في البلدان حديثة العهد بالتحرر من الاستعمار، وخير مثال ما فعله الجيش المصري لما استعان به النظام الساداتي لقمع انتفاضة الخبز 1977 [13]، بعدما روج لمحاولات شيوعية مدعومة من الاتحاد السوفيتي تعمل على قلب نظام الحكم وتعطيل مسيرة الانفتاح المصري على عالم السوق الحرة [14]. وما يفعله الجيش السعودي في المنطقة الشرقية حيال مظالم الأقلية الشيعية مثال آخر أكثر وضوحًا. [15]

المتغير الثاني، هو المتغير المباشر بتدخل خارجي مباشر في فعل الثورة نفسها، ولدينا مثالان متضادان، في أتون الثورة الليبية ساعد تدخل حلف الناتو العسكري في إحداث انقسام في الجيش حول شخصية القذافي، وفي البحرين كان تدخل قوات درع الجزيرة دافعًا للقمع الدموي من قبل الجيش البحريني للثورة. والتضاد في المثالين السابقين إن كانت له دلالة، فهي أن التدخل الخارجي ليس بالعامل الحاسم في مصير الثورات بقدر ما هي رغبة المؤسسة العسكرية ومدى صلتها بمؤسسة الرئاسة وشخص الرئيس.

انحاز الجيش أخيرًا للثورة السودانية، مزيحًا نظام عمر البشير، وحقق الثوار المعادلة مستفيدين بتصدع النظام من داخله وانقسامه على نفسه.

لم تعرف السودان دولة واحدة قبل غزو محمد علي 1819، وكان قبله دولًا متفرقة، يغير بعضها على بعض، بُغية توطيد الحكم وتوسيع النفوذ، وحده محمد علي وضمه لبلاده، التي توسعت شرقًا وغربًا.

سرعان ما ضاق السودانيون ذرعًا بهذا الحكم، للغلو في الضرائب، وكثرة المظالم، فقامت الثورة المهدية عام 1881، أحكمت قبضتها على الخرطوم 1885، وتأسست بهذا دولة لم تدم سوى 14 عامًا (الدولة المهدية 1885 – 1899). استعادت قوة مشتركة من الجيشين المصري والإنجليزي (كانت مصر حينها تحت الانتداب البريطاني) السيطرة على السودان، وظل الحكم عسكريًا في تلك الفترة، لضمان استتباب النظام والقضاء على أي ثورة في مهدها، حتى عام 1926.

كانت المملكة البريطانية في أوج اتساعها بعد الحرب العالمية الأولى، لكنها كانت قد أُثقلت بتكاليف الحرب، فعمدت إلى سحب الجزء الأكبر من جيشها بالسودان، وبدأ تأسيس الجيش السوداني فعليًا عام 1925،  كان أشبه ما يكون بالانكشارية العثمانية والمماليك في مصر، شكل هؤلاء القسم الأكبر من الجيش، لكن من الرتب المتدنية، فكان الجيش السوداني في أعلى قمته إنجليز يليهم المصريون ثم السودانيون. وحتى السودانيون لم يكونوا مرتبة واحدة، فكانت الرتب الأعلى لأبناء العاصمة وجوارها من مدن الشمال، وأبناء الأقاليم والأطراف؛ جبال النوبة ودارفور والسودان الجنوبية.

في الحرب العالمية الثانية، حارب هذا الجيش إلى جوار الجيش البريطاني في شمال أفريقيا والشرق الأوسط، واكتسب بعدها الاستقلال عام 1956؛ وهنا لابد من الإشارة إلى أن الجيش السوداني كان الجيش الوحيد الحديث والمحترف في الدول الأفريقية جنوب الصحراء، لما اكتسبه من ملازمة الجيش البريطاني قبل الاستقلال.

تشكلت أول حكومة بعد الاستقلال بقيادة مدنية، من حزبي الأمة والأشقاء (الحزب الوطني الاتحادي لاحقًا)، لكنها فشلت في تسوية النزاعات بين مختلف التيارات وفشلت معها أول تجربة مدنية في الحكم بعد الاستقلال، إذ انحاز الجيش بقيادة إبراهيم عبود لصفوف الجماهير، وانقلب على الحكومة المدنية سنة 1958. اهتم عبود بعدد من الإصلاحات الاقتصادية وعمليات التحديث لكن مجموعة من الضباط متأثرين بتجربة عبدالناصر في مصر، انحازوا لتظاهرات مناوئة لحكومة عبود سنة 1964، وأنهوا حكمه.

حكم مدني ضعيف وغير متوازن أعقب انقلاب 1964، لم يستمر إلا وأعقبه انقلاب النميري 1969.

من الأحداث المهمة في دلالتها، حاول مجموعة من الضباط الشيوعيين في يوليو/تموز 1971 الانقلاب على النميري بدعوى مقاومة سياسات النميري المؤيدة للانفتاح على الغرب، استمر نظامهم فقط ثلاثة أيام قبل أن تتدخل الشركة الإنجليزية العابرة للقارات، لونرهو، بشكل فعّال لإنقاذ نظام النميري، بالتنسيق مع النظام المصري الساداتي والليبي القذافي.

فيما بعد طورت دولة النميري العسكرية نظامًا عسكريًا اقتصاديًا، وقدّمت لنخبة رجال الجيش تسهيلات اقتصادية مكنتهم من السيطرة على قطاعات اقتصادية مهمة في البلاد، وزاوج الكثير منهم بين الانتماء العسكري ورأس المال، وتحول الجيش مع الوقت إلى مؤسسة اقتصادية، مستفيدين من أجواء الانفتاح الاقتصادي التي رعاها النميري.

مر نظام النميري بعدة تقلبات فبدأ وكأنه صنيعة يسارية، ثم ما لبث أن ضم رموزًا سياسية غير مؤدلجة إلى مركبه، وفي الأخير ضم إلى معسكره إسلاميين، وكانت إحدى أبرز مشكلاته تطبيق قوانين الشريعة الإسلامية بداية من سبتمبر/ أيلول 1980.

أبريل/نيسان 1985، انقلب وزير الدفاع عبدالرحمن سوار الذهب على النميري، بعدما بلغ نظامه الديكتاتوري نهايته، وسلم سوار الذهب الحكم لحكومة مدنية، لم يلبث أن انقلب الجيش عليها في 1989، فيما يعرف بالانقلاب الإسلامي، الذي أفرز نظام الإنقاذ (نظام عمر البشير «1989 – 2019»). [16]

الخلاصة

تتركز فرضيتنا حول أهمية انحياز الجيش للثورة، وأكثر من ذلك أنه الأكثر قدرة على إدارة عملية انتقال سلس السلطة، بالتأكيد لا نقصد أنه ضامن لعملية التحول الديمقراطي، لأن الديمقراطية في الأساس لا تتوافق مع شروط المهنة العسكرية، كما أوضحنا في تقدمة هنتنغتون.

فينبغي أن تتركز الاستراتيجية الثورية على مرحلتين؛ الاستعانة بالجيش لإزاحة الطغمة الحاكمة بأقل الخسائر الممكنة، استنادًا على التصدعات الداخلية البينية في الدولة وغيرها من العوامل – سالفة الذكر- التي تؤثر في قرار المؤسسة العسكرية، ثم بناء تيار مدني واسع وقوي يحيّد المؤسسة العسكرية ويفصلها تدريجيًا عن الحياة السياسية، فقط لحمايتها والحفاظ على احترافيتها، يحفظ نظامها «المحافظ» من الليبرالية السياسية المرجوة من وراء الثورة، ويحمي النظام السياسي من ديكتاتورية العساكر.

في التجربة السودانية وقع الشق الأول، وانحاز الجيش للثورة، فتمت إزاحة الرئيس البشير بأقل الخسائر الممكنة، وبقي أن يناضل الثوار لدمقرطة النظام السياسي بعيدًا عن وصاية الجيش.

وقد تتعلم الشعوب أيضا/ عمرو حمزاوي

قد تتوقف الشعوب مرحليا عن طلب الحرية تحت ضغط الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية الصعبة، وقد يساوم المواطنون على حقوقهم السياسية نظير الوعد بتحسين ظروفهم المعيشية. يحدث ذلك في منطقتنا العربية وقريبا منها وبعيدا عنها، حين يشوه وعي الناس بحيث يخلطون بين طلب الحرية وبين خطري الفوضى وغياب الاستقرار وحين تتمكن حكومات غير ديمقراطية من توظيف الخوف لإبعاد المواطن عن شؤون السياسة وقضايا الحقوق ودفعه إلى قبول الأمر الواقع وليس به سوى طغيان لحكم الفرد وغياب للتداول السلمي للسلطة ووعود غائمة بإصلاح الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية. يحدث ذلك أيضا، حين تعمل حكومات غير ديمقراطية أدوات العنف في الناس وتجبرهم تحت وطأة القمع إما على التسليم صاغرين باستحالة التغيير أو تزج بهم إلى مواقع عنف مضاد. يحدث ذلك ثالثا، حين تعجز الحركات الاجتماعية والأحزاب السياسية ومنظمات المجتمع المدني الداعية إلى الحرية عن إقناع قطاعات شعبية مؤثرة بقدرتها على تقديم بدائل فعلية للحكومات غير الديمقراطية.

في منطقتنا العربية، اختبرت بلدان الانتفاضات الديمقراطية 2011 هذه الحقائق بقسوة وانتهت الأمور، مرحليا، إما إلى فشل التداول السلمي للسلطة والارتداد إلى حكم الفرد كما في مصر أو إلى تفجر الحروب الأهلية وتفكك أجهزة الخدمة العامة ومؤسسات الدولة كسوريا وليبيا واليمن أو إلى تحول ديمقراطي متعثر يراوح الناس فيما خصه بين التخلي عنه والتمسك به كما هو حال تونس.

في منطقتنا العربية، دللت التجارب السلبية لبلدان الانتفاضات الديمقراطية 2011 على استحالة التخلص من السلطوية هنا والاستبداد هناك في غضون سنوات قليلة وكذلك على استعداد قطاعات شعبية مؤثرة للانسحاب من طلب الحرية والالتفاف مجددا حول حكومات تعد بالخبز والأمن والاستقرار بينما هي تسفه من حقوق الناس السياسية وتعلمهم باستحالة التداول السلمي للسلطة هنا وتهددهم بالعنف والقمع الممنهجين هناك. في منطقتنا العربية، اكتشفت بلدان الانتفاضات الديمقراطية 2011 من جهة أن الدساتير والقوانين لا تشكل الضمانات النهائية للحريات والحقوق وأنها تظل إما سهلة التغيير والتعديل وفقا لرغبات الحكومات أو مجرد واجهات خالية من المضمون ومحدودة التأثير، وتبينت من جهة أخرى أن انتصار المؤسسات التشريعية والقضائية للحريات والحقوق يصعب توقعه إن في ظروف طغيان الحكومات السلطوية والمستبدة أو حين ينفض الناس من حول التحول الديمقراطي المتعثر.

ثم كان أن جاء خروج الناس في الجزائر والسودان 2019 ليذكرنا جميعا بالوجه الآخر لتوقف الشعوب مرحليا عن طلب الحرية واستعدادها إما للالتفاف حول حكومات غير ديمقراطية أو للصبر عليها أملا في الخبز والأمن والاستقرار. جاء خروج الناس في الجزائر والسودان 2019 ليذكرنا جميعا بكون الشعوب تعود إلى طلب الحرية حين تمعن الحكومات في التسفيه من حرياتها وحقوقها السياسية وتتلاعب بالدساتير والقوانين وتكوين المؤسسات التشريعية والقضائية كيفما شاءت أو حين تضيع كل آمال الناس في غد أفضل تحت وطأة شيوع الفساد وغياب قيم الشفافية والمساءلة والمحاسبة.

بل أن خروج الناس في الجزائر والسودان 2019 جاء ليدلل على قدرة شعوب المنطقة العربية على التعلم من التجارب السلبية لبلدان الانتفاضات الديمقراطية 2011، إن لجهة إدراك أن التخلص من السلطوية والاستبداد لا يتحقق بمجرد إجبار الحكام السلطويين والمستبدين على الرحيل أو فيما خص التحسب من الآثار السلبية لخطري الفوضى وغياب الاستقرار على تمسك الناس بطلب الحرية. ليس هذا فقط، بل أن المواطنين الجزائريين والسودانيين الذين يواصلون الخروج إلى الفضاء العام بمطالب سياسية محددة يظهر الكثير منهم وعيا حقيقيا بكون تشريع أبواب بلادهم على تحولات ديمقراطية مستدامة لا يرتبط بتغيير وتعديل الدساتير والقوانين ولا بتعجل إجراء الاستفتاءات والانتخابات، بل بالبحث عن صيغ آمنة وتوافقية لتجاوز حكم الفرد دون السقوط في خانات الصراع المفتوح بين نخب «النظام القديم» وبين نخب الحراك الشعبي وكذلك دون السقوط في غياهب الحروب الأهلية وتفكك مؤسسات الدولة.

تسمع تلك الأصوات العاقلة في ساحات الحراك الشعبي في الجزائر والسودان، مثلما تسمع أيضا أصوات أخرى تظن أنها قادرة على صرع «النظام القديم» بالضربة القاضية ومن غير احتياج للبحث عن صيغ الانتقال الآمنة والتوافقية التي يسفهون منها. إلا أن حضور الأصوات العاقلة في البلدين والرشادة التي تطرح بها مطالب الحد من نفوذ رموز فساد النخبة القديمة في الجزائر ومطالب نقل السلطة إلى حكومة مدنية في السودان يقطعان بتعلم الشعوب العربية من بعضها البعض وبقدرتها على القراءة الواعية لأحداث وتقلبات ما بعد 2011 وفهمها النقدي للخانات التي منها نفذ فشل التداول السلمي للسلطة أو غرقت البلاد في الحروب الأهلية أو تعثرت عمليات التحول الديمقراطي وفقدت القبول الشعبي.

وعلى هذه العناصر، التعلم من تجارب بلدان الانتفاضات الديمقراطية 2011 والقراءة الواعية لأحداثها والفهم النقدي لتقلباتها، ينهض الأمل المتواضع في مسارات أكثر نجاحا للموجة العربية الثانية للحراك الشعبي وطلب الحرية 2019. ليس الخلاص من السلطوية والاستبداد بالأمر الهين لا في منطقتنا ولا قريبا منها أو بعيدا عنها، ويظل الارتداد المصري إلى حكم الفرد ماثلا أمام الأعين مثلما يحضر أمامها الانهيار السوري والليبي واليمني في دوامات الحروب الأهلية والتعثر التونسي المستمر. غير أن الأمل أيضا ليس بغائب وفرص نجاة الجزائر والسودان من أزمات ما بعد الانتفاضات الديمقراطية قطعا قائمة.

كاتب من مصر

القدس العربي

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى