سياسة

اقبروا حافظ الأسد بذكرى وفاته العشرين!! – مقالات مختارة-

==============================

——————————-

هل يُدفن حافظ الأسد؟/ عمر قدور

في العاشر من حزيران ستمر الذكرى العشرون لموت حافظ الأسد، وهي مدة كافية ليصبح في ذمة الماضي لو لم يكن حضوره اللاحق على الوفاة بالقوة التي شهدناها. الأب القائد، بلقب صار الأكثر استخداماً في السنوات الأخيرة من حكمه، أمعن به قتلاً وتنكيلاً منذ آذار 2011 ملايينٌ من أبنائه المفترضين، بينما أمعن أبناؤه المخلصون قتلاً وتنكيلاً وتهجيراً بأولئك الذين تجرأوا على أبيهم. وفق التعبير المجازي السابق، نجح أبناء الأسد المخلصون في قتل “أشقائهم” أكثر مما نجحوا في الحفاظ على تركة أبيهم، وفشل قسم من الذين قتلوه في التخلص نهائياً من خصال أورثهم إياه.

مع انطلاق الثورة، كان يمكن بوفرة مشاهدة تلك اللافتات التي تعتبر الوقوف مع بشار ولاءً لأبيه، ما يضمر عدم الاعتداد به شخصياً كوريث. أيضاً شاع بين الموالين تهديد الثائرين ببطش أخيه ماهر الذي كان يُقال أنه “لم يشلح البيجاما بعد”، ولصورة ماهر مستويان، أولهما التعبير عن عدم الاقتناع بكفاءة بشار، وثانيهما استلهام صورة عمه رفعت الأسد؛ الصورة الدموية المتممة لحنكة حافظ الأسد المزعومة. منذ ذلك التاريخ لم تكن موالاة الأسدية لتعني موالاة بشار، وكأن قدره كرئيس بالمصادفة “بعد وفاة الوريث الأول باسل” لن يتوقف عن ملاحقته. 

لم يشلح ماهر البيجاما على نحو استعراضي يلبي تطلعات المخيال الموالي، واجتهد بشار لإثبات تفوقه الدموي على أبيه وعمه، وتفوقه الكيماوي على صدام حسين. إلا أن مثابرة الأخير الدموية ترافقت مع افتقاره إلى الكاريزما التي أفلح أبوه في صنعها خلال ثلاثة عقود من حكمه، خاصة مع نسيان الركاكة الشخصية التي ظهر بها الأخير في إطلالاته أثناء المواجهة مع الإخوان المسلمين. كان بشار “بالتواطؤ مع الموالين” قد استرجع صورة تلك المواجهة بتصوير الثائرين إرهابيين متطرفين تكفيريين، وكرر كأبيه الحديث عن المؤامرة الكونية التي تستهدفه، لكن استحضار شبح الأب بموجب المقارنة لن يكون لصالحه شخصياً بما أن النصر القديم لن يتجدد.

النصر الذي حققه بشار لم يأتِ بدعم من الإيرانيين ثم الروس، لقد أتى الإيراني ثم الروسي لتحقيقه، من دون أن نغفل موافقة دولية على قدومهما. وجود قوتي احتلال يعني في ما يعنيه الانقضاض على الأسدية باعتبارها قوة ذات استقلالية، وذات علاقة ندية إلى حد ما مع الخارج. في ما سبق لم يختبر الموالون انقسامهم بين طرفين خارجيين، وحتى انقسامهم القديم بين حافظ ورفعت جرى احتواؤه كحدث طارئ وعابر ضمن الأسرة الواحدة. الانتقال من وهم انتظار رفعت كوريث محتمل إلى القبول بالوريث الصاعد باسل كان سلساً جداً، بخلاف الانتقال من توريث باسل إلى توريث بشار الذي لم يحظَ بالقدر ذاته من السهولة ومن رضا الموالين.

باسل المثَل وبشار الأمل، هكذا قدّمت الدعاية الأسدية الانتقال بين مشروعي التوريث، وبينما المثَل والقدوة يحيلان إلى اكتمال الصفات تبقى إحالة الأمل غامضة وغير مضمونة. إثر استلامه السلطة رسمياً، سيسعى بشار إلى إظهار تمايزه عن الأب، وستنطلي خدعة انفتاحه وستريح سوريين هم بغالبيتهم من خارج ما يُسمى البنية الصلبة للأسدية؛ ذلك جعله لفترة قصيرة يبدو أقل أسدية مما ينبغي، وبقراره الشخصي لا بقلة حيلته وقلة كفاءته.

في لبنان سجّل بشار أول فشل مدوّ، فهو لم يتمكن من احتواء تداعيات اغتيال الحريري على نحو ما فعل الأب باغتيال كمال جنبلاط. العبرة كانت في اضطراره إلى ذلك الانسحاب المذل، ومن بعده الاستقواء بحزب الله بعد حقبة من تنمر الأسدية على اللبنانيين بلا استثناء. كان حافظ الأسد سيلملم آثار الاغتيال بحنكته ودهائه، وكان سيحتوي الثورة عليه بالقوة والدهاء معاً؛ هذا لسان حال الموالي الأسدي الذي يرى إرث أبيه المعنوي يتبدد على يد إبنه الحقيقي.

لا يضع الموالي نفسه أمام سؤال: إذا كان حافظ مكان بشار، ما الذي سيفعله؟ ففي عقله أنه قادر بالتأكيد على إجتراح الحلول، وهو يعفي نفسه من السؤال لأنه لا يستطيع وضعها مكان من يُفترض به وحده الإجابة. عقلية الإنكار لديه كانت تمنعه طوال الوقت من الاعتراف بانتهاء الأسدية التي يعرفها مع موت مهندسها ومؤسسها، وتمنعه من رؤية الظروف التي ساعدت على تأسيس تلك الحقبة من دون أوهام مفرطة حول حنكة المؤسس وألمعيته.

عاش الموالي، في العقد الأخير وبما يفقأ العين، انتهاء أكذوبة الدولة وانكشافها عن مجموعات من شبيحة القتل والسلب. أولئك الشبيحة الذين كانوا رمزاً للحرب على سوريين آخرين كانوا في الوقت نفسه المثال على تحلل دولته، هو الذي يروق له تصوير الدولة عليّةً فوق “الرعية”، يعلوها صانعها الأسد الأب. هي الدولة التي فيها شيء من رعاية “حالية أو مؤجلة” وإن قست، وفيها ادعاء الفضائل وإن تناهبها الأوغاد والسفلة. لقد أسفرت الدولة عن وحشيتها في غياب ذلك الأب الضامن، وتبخرت الوعود لأبنائها البارين الذين سبق لهم أن رأوا تبخرها من قبل، ولم يفقدوا الأمل كما يفقدونه اليوم.

أكثر من أي وقت مضى، يدرك الموالي انتهاء دولته بعد دفعه أثماناً باهظة من أجل بقائها، والنصر على سوريين آخرين لا يعني سوى دفع الثمن الاقتصادي الباهظ بعد نظيره من الدماء. في آخر النفق، ليس هناك من حافظ الأسد يلوّح له بيده ويطمئنه، صار من المستحيل تخيّل وجوده أو إغماض العينين والحلم بعودة زمنه. من السهل الآن أن يُشتم الوريث في بيئات لم يكن فيها أحد يتجرأ على شتم أبيه، أو على مجرد التفكير بذلك، وإذا لم تكن فكرة التغيير السياسي واردة لما فيها من مشقة نفسية فإن تمني الخلاص على أي نحو كان بات وارداً جداً.

ينتظر الموالي، مثلما ينتظر سوريون آخرون في الداخل والخارج، المصير الذي ستقرره القوى الدولية لآل الأسد بقاءً أو تنحية. ما يميز الموالي أنه أصر على الاحتفاظ بجثة الأسدية حتى شهد تفسخها أمام عينيه، ولم يقتنع بأن حافظ الأسد قد مات حقاً، ولم يقتنع لاحقاً بأن هذا المآل ليس بمثابة إرث بدّده أبناؤه بسبب قلة الكفاءة، وإنما أيضاً لأن هذا المآل كامن في ما هندسه الأب بنفسه. بعد عشرين عاماً من موته، لا يزال الاختبار الأصعب للموالي هو التجرؤ على دفن حافظ الأسد.

المدن

———————————-

عشرون حافظ الأسد: حين شهدت جنيف تلويحة العجز الأخيرة/ صبحي حديدي

لعلّ المحطة الأهمّ خلال الأسابيع القليلة التي سبقت وفاة حافظ الأسد (1930 ـ 2000) كانت لقاءه مع الرئيس الأمريكي الاسبق بيل كلنتون في جنيف، أواخر آذار (مارس) 2000؛ والتي انتهت إلى الفشل، إذا نظر المرء إلى نتائج القمّة بمنظار ما كان الأسد ينتظر منها على الأقل. قبل هذه المحطة، وبعيد مقتل باسل نجل الأسد البكر، كانت المحطة الحاسمة هي ترقية النجل الثاني، بشار، كي يتولى التوريث بعد أخيه، الأمر الذي اقتضى سلسلة تدريبات أمنية وسياسية وعسكرية وعقلية، لم تغب عنها ملفات السياسة الخارجية للنظام. وهكذا، اجتمع الوريث الأكيد مع وفد رفيع من «حزب الله»، لأنّ العلاقة مع إيران كانت ورقة أساسية في معادلات الأسد الأب الإقليمية، ولكن الداخلية أيضاً. كما جرى إرسال الفتى (وكان في الرابعة والثلاثين من العمر، للتذكير) في زيارات خارجية إلى الجزائر والسعودية والكويت وعُمان والبحرين ومصر وإيران؛ وهو نشاط «دبلوماسي» بلغ ذروته مع زيارة العاصمة الفرنسية باريس في نوفمبر 1999، والتي ـ للمفارقة الصارخة ـ كان رفيق الحريري رئيس الوزراء اللبناني يومذاك هو الوسيط خلف ترتيبها.

غير أنّ اللقاء مع كلنتون في جنيف كان مسؤولية الأسد الأب، غنيّ عن القول، رغم اشتداد المرض عليه واعتلال صحته؛ إذْ أنّ الأجندة المتفق عليها، والنتائج المحتملة، كانت أشدّ خطورة من أن تُترك للفتى غير الخبير وغير العارف وغير المدرّب بما يكفي بعد؛ حتى على مستوى الحضور الرمزي، والاستماع الصامت. وبعد انفضاض القمّة لاح أنّ السؤال الأكبر، الجلي تماماً في المقابل، هو ذاك الذي يفيد فشل القمة المعلن، أم (احتمال) نجاحها المضمر وغير المنكشف إلى حين؛ وكذلك المعيار الواجب استخدامه، منطقياً، للإجابة على السؤال: أهو انصراف كلنتون والأسد من دون الإشارة إلى استئناف قريب للمفاوضات بين النظام السوري ودولة الاحتلال؟ أم هو أوسع من مجرّد استكشاف الآفاق حول هذا البند تحديداً، وقد يكون جدول الأعمال انطوى على ما لا يُعلن، وعلى ما يبرر تصريح فاروق الشرع، وزير خارجية النظام يومذاك، بأنّ القمّة لم تفشل ولم تنجح؟ وهل يعقل أنّ الأسد تجشم عناء السفر، ومثله فعل رئيس القوّة الكونية الأعظم، لكي يقضيا ثلاث ساعات (تهبط مدتها إلى النصف إذا اقتُطع زمن الترجمة)، ثمّ يعود كلّ منهما أدراجه من دون أثر صاخب دراماتيكي مدوّ؟

المنطق غير البسيط كان، في المقابل، يشدد على أنّ تطوراً طرأ على موقف الأسد من النقاط الخلافية مع إيهود باراك، رئيس حكومة الاحتلال يومذاك؛ وأنّ ذاك التطوّر كان من طراز نوعي جدير بتشجيع كلنتون على قطع آلاف الأميال بين شبه القارّة الهندية، حيث كان يختتم جولة آسيوية، وجنيف. كذلك يجوز القول إنّ باراك أبدى تجاوباً مع التطوّر الطارئ ذاك، ولعله اعتبر أنّ لقاء كلنتون ــ الأسد قد يكون التمرين الأقصى قبيل اللقاء الرسمي الأخير الذي سوف يشهد توقيع الأسد على اتفاقية سلام سورية ــ إسرائيلية. لكنّ انقطاع المحادثات بين كلنتون والأسد بعد وقت قصير من افتتاح الجلسة الثانية عنى، والتسريبات اللاحقة أكدت، أنّ المشاورات الهاتفية بين كلنتون وباراك لم تسفر عن تنازلات تستجيب لمطالب الأسد، حول تواجد الاحتلال على الضفة الشرقية لبحيرة طبرية تحديداً؛ كما تردّد، في المقابل، أنّ ما قدّمه الأسد من تنازلات لم يكن كافياً في نظر باراك.

ولأنّ النظام السوري لم يعوّد العالم على الحدّ الأدنى من المصارحة في تبيان ما يتفاوض عليه، أو حتى ما ينجح في التوصّل إليه؛ وكذلك لأنّ كتاب بثينة شعبان «مفكرة دمشق: عرض من الداخل لدبلوماسية حافظ الأسد حول السلام، 1990 ـ 2000»، الذي صدر بالإنكليزية، بائس في هذا المستوى مثل بؤس مؤلفته في المستويات كافة؛ فإنّ المرء مضطر إلى استقراء الروايات الأمريكية والإسرائيلية، عند أمثال دنيس روس الذي كان شاهداً بوصفه أحد كبار مساعدي كلنتون، أو عند أمثال الأكاديمي الإسرائيلي إيال زيسر في كتابه «حُكْم سوريا: بشار الأسد والسنوات الأولى في السلطة». وهذه، وسواها، تثبّت حقيقة أنّ باراك تعنّت في نهاية المطاف، وأغلق باب التنازلات، بعد أن توصّل إلى يقين بأنّ تلهّف النظام السوري على إتمام اتفاق مع دولة الاحتلال لم يكن مجرّد «خيار ستراتيجي» كما صرّح الأسد نفسه، بل هو في الواقع حاجة ستراتيجية يريد الأسد الأب حمل أثقالها شخصياً في ما تبقى من عمره، قبل أن تؤول إلى وريثه في غيابه فتضيف المزيد من المخاطر أمام إمساك الفتى بزمام الأمور، وسط نظام الذئاب والضباع الذي يخلّفه لابنه.

اعتبارات بارك الأخرى كانت تستبطن، أيضاً، حقيقة أنّ الانسحاب الإسرائيلي من جنوب لبنان سوف يحوّل هذا الملفّ من ورقة ضغط رابحة في يد النظام السوري، إلى عبء ثقيل يُلقى على كاهل الأسد ووريثه من بعده. ويومذاك كان جبران تويني، رئيس تحرير صحيفة «النهار» الذي سيلاقي حتفه اغتيالاً على أيدي وكلاء النظام السوري في لبنان، قد كتب افتتاحية يطالب فيها الأسد الابن، وليس الأسد الأب، بسحب القوّات السورية من لبنان. وكان جلياً، بالتالي، أنّ الاعتبارات الجيو ــ سياسية خلف سيرورات التوريث تتجاوز مفاوضات النظام مع دولة الاحتلال إلى ملفات إقليمية شتى، بعضها ظلت زمناً طويلاً بمثابة أوراق رابحة في ألعاب النظام المختلفة.

كذلك بدا واضحاً أنّ هذا الآتي إلى جنيف، متوكئاً على أمراض عضال، ليس حافظ الأسد مطلع السبعينيات أو مطلع الثمانينيات، بل هو رأس نظام ينوء بما حمّله على كتفيه من أثقال استبداد وفساد ومجازر، فضلاً عن أرق مسابقة الزمن لترتيب البيت العاصف أمام وريث هشّ ضعيف الخبرة مضطرب التكوين؛ وليس من فضائل دولة الاحتلال أن تأخذ بيد الأب الآن، وهو في متاهات تدريب الابن! إنه، باختصار بليغ، الأسد في هذه السياقات الملموسة المكشوفة من حصيلته الراهنة، الصحية أوّلاً، وتلك التي ترسم محددات نظام «الحركة التصحيحية» بأسره ثانياً، ثمّ المعطيات الإقليمية والعالمية ثالثاً؛ وليس إقدامه على امتداح باراك، بأنه «قويّ وشجاع»، سبباً لإقبال الأخير على تفهّم الحال، إذْ تبيّن أنّ العكس كان هو الصحيح في الواقع.

كلّ هذا على الرغم من أنّ الأسد ذهب إلى جنيف ضمن اعتبارات ربما كانت طارئة في التفاصيل، ولكنها لم تكن طارئة في الجوهر الذي تبلور منذ كانون الأول (ديسمبر) 1999، حين وافق النظام على استئناف المفاوضات مع دولة الاحتلال «من حيث توقفت»، ومن دون شروط مسبقة. ولعلّ باراك أدرك، جيداً أغلب الظنّ، أنّ الأسد لا يذهب إلى جنيف من أجل شدّ الحبال، بل من أجل إرخائها؛ وأنه آتٍ لكي يعرض «حاجات» النظام وما يراه «حصّة» من مغانم السلام (مع دولة الاحتلال ومع الولايات المتحدة، في آن معاً)، ولم يذهب لتحسين مسوّدة الاتفاق الذي صاغته الخارجية الأمريكية بعد جولات شبردزتاون.

وعلى امتداد كامل إرث الأسد الأب مع دولة الاحتلال، ابتداءً من إعلانه سقوط مدينة القنيطرة سنة 1967 قبل وصول أيّ جندي إسرائيلي إليها، مروراً باتفاقيات سعسع 1974، والتواطؤ الصامت على الاجتياح الإسرائيلي في لبنان، وليس انتهاءً بمفاوضات السرّ والعلن هنا وهناك؛ لعلّ خيبة آمال الأسد، من لقاء جنيف 2000 مع كلنتون، كانت بمثابة تلويحة العجز الأخيرة.

كاتب وباحث سوري يقيم في باريس

القدس العربي

————————

حافظ الأسد… صنع دورا ولم يصنع مستقبلا/ خيرالله خيرالله

ليس أصعب من الكتابة عن ذكرى مرور 20 عاما على موت حافظ الأسد في مثل هذه الأيّام من العام 2000. كان الرجل شخصية في غاية التعقيد والذكاء والدهاء. صنع دورا لسوريا في المنطقة، لكنّه فشل في إيجاد مستقبل لسوريا. هذا ما تؤكدّه الأحداث التي تمرّ فيها سوريا وهذا ما يؤكّده الواقع الذي تشير إليه الاحتلالات الخمسة التي على الأرض السورية.

ثمّة فارق كبير بين صنع الدور وصنع المستقبل، خصوصا عندما يكون الدور على حساب بناء اقتصاد متين ودولة القانون والمؤسسات التي لا مكان فيها للاستيلاء على المال العام أو للطائفية والمذهبية وفرض الخوات على كبار التجّار والصناعيين.

استطاع حافظ الأسد أن يعمل ما لم يستطع أي رئيس سوري عمله منذ الاستقلال في العام 1946 أسّس لنظام لا يزال قائما منذ خمسين عاما. نجح في توريث السلطة، بما يذكّر بكوريا الشمالية، لكنّه فشل حيث كان يفترض أن ينجح لو فكّر ولو قليلا بأنّ فرصا كثيرة أتيحت له كي يبني اقتصادا متينا وان يعيد كبار رجال العمال السوريين إلى بلدهم والاستثمار فيه في جوّ من الحرّية وليس في ظلّ القيود التي يفرضها الشريك العلوي أو أحد أبناء الشخصيات السنّية النافذة.

لم يدرك حافظ الأسد يوما أهمّية الاقتصاد والدور الذي كان يمكن لرجال الأعمال السوريين لعبه على صعيد سوريا نفسها والمنطقة كلّها. لم يكن كافيا المحافظة على النظام كي يصبح ممكنا المحافظة على البلد. النظام شيء والبلد شيء آخر. هذا ما لم يدركه حافظ الأسد الذي عرف كيف يطوّع السوريين ويجعل من نفسه شبه إله في بلد متنوّع كان مفترضا أن يكون احد أهمّ بلدان المنطقة بسبب ثرواته الطبيعية من جهة والثروة الإنسانية من جهة أخرى.

برع حافظ الأسد في استغلال نقاط الضعف عند خصومه، مثلما برع في استخدام القمع والقسوة حيث يجب والذهاب إلى أبعد حدود في المرونة متى دعت الحاجة إلى ذلك. هل من مرونة اكبر من تلك التي أظهرها حافظ الأسد، قبيل وفاته، عندما اضطر إلى طرد الكردي التركي عبدالله أوجلان من الأراضي السورية بعدما هدّد الأتراك بأن جيشهم سيدخل الأراضي السورية من حلب ويخرج من الجولان؟

لعب حافظ الأسد كلّ الأوراق التي امتلكها بحنكة. كان وزيرا للدفاع عندما احتلّت إسرائيل الجولان في العام 1967. كوفئ على ذلك، بأن أصبح رئيسا لسوريا في شباط – فبراير 1971 بعد نجاح “الحركة التصحيحية” التي قادها في 16تشرين الثاني – نوفمبر 1970. لم يكتف بالتخلّص من خصومه، بل سجنهم طويلا ولم يطلق أيّا منهم إلّا بعدما تأكّد أنه صار على شفير الموت. هذا ما حصل مع صلاح جديد (توفّي في سجن المزّة) ويوسف زعيّن وغيرهما. كان حافظ الأسد رجلا من دون قلب وراء ضحكة هادئة وأعصاب فولاذية. لعلّ نجاحه الأوّل كان في الإمساك بالطائفة العلوية وسقوط كلّ رهانات خصومه على أنّ في استطاعتهم الرهان على منافس له من داخل الطائفة. جعل من السجين صلاح جديد ومن محمّد عمران الذي أرسل من يغتاله في طرابلس، عاصمة الشمال اللبناني في العام 1972، أمثولة لكلّ من يريد أن يعتبر.

في مرحلة لاحقة، صار، على من لم يقتنع بعد بأن لا فائدة من الدخول في مواجهة مع حافظ الأسد، أن يتذكّر مدينة حماة وما حلّ بها وبأهلها في العام 1982. لكنّ الإنجاز الأكبر لحافظ الأسد، كان على الصعيد الخارجي. استخدم الفلسطينيين أفضل استخدام كي يحتلّ لبنان ويضع المسيحيين تحت رحمته قبل أن ينتفض هؤلاء مجددا بعد اكتشافهم أنّ حلف الأقلّيات ليس في مصلحتهم، خصوصا أنّه كان عليهم أن يكونوا تابعين للرئيس السوري العلوي في إطار هذا الحلف. بدأ حافظ الأسد عهده اللبناني باغتيال الزعيم الدرزي كمال جنبلاط في العام 1977 عن طريق الضابط العلوي إبراهيم حويجة. كان اغتيال الزعيم الدرزي رسالة إلى كلّ الزعماء اللبنانيين بأنّه صارت لديهم مرجعية في دمشق. من لم يرضخ، جرى تأديبه على طريقة حافظ الأسد. اغتيل بشير الجميّل في 1982 ثم اغتيل رئيس الجمهورية الآخر رينيه معوّض في 1989… أمّا التنكيل بالزعماء السنّة، فحدّث ولا حرج…

بقي الحليف الأكبر لحافظ الأسد، في كلّ وقت، عدوّه اللدود صدّام حسين. لعب الأسد الأب في كلّ وقت ورقة البعث السوري في مواجهة البعث العراقي. لعب، أقلّه ظاهرا، ورقة صمّام الأمان في مواجهة روح المغامرة التي لدى صدّام الذي لم تكن له في يوم من الأيّام علاقة بالسياسة في أي مجال من المجالات.

لم يقطع العرب مع النظام السوري، حتّى عندما انحاز إلى إيران ودعمها في وجه العراق في حرب السنوات الثماني بين 1980 و1988. لم يرسل حافظ الأسد إلى إيران، بطريقة مباشرة، صواريخ كي تقصف بها بغداد. كلّف معمّر القذّافي بهذه المهمة.

في مرتين أنقذ صدّام حسين حافظ الأسد سياسيا. كانت المرّة الأولى عندما صالحه بعد زيارة أنور السادات للقدس في العام 1977 وذلك بغية تشكيل جبهة عربية عريضة ضدّ مصر. لا شكّ أن أحمد حسن البكر الذي كان رئيسا للجمهورية في العراق لعب دورا أساسيا في تلك المصالحة بين حزبين يحملان اسم البعث.

في المرّة الثانية أعاد صدّام الاعتبار لحافظ الأسد باحتلاله الكويت صيف العام 1990. استغلّ الأسد الأب تلك الفرصة لينضم إلى التحالف الدولي الذي تولّى تحرير الكويت بقيادة أميركا. كانت تلك خطوة في غاية الذكاء. لم يستطع حافظ الأسد من خلال مشاركته إلى جانب الأميركيين في إعادة تأهيل نظامه فحسب، بل ضمن أيضا السيطرة الكاملة على لبنان عندما اخرج ميشال عون، الذي ارتبط بعلاقة خاصة مع صدّام، من قصر بعبدا.

بين احتلال إسرائيل للجولان في حزيران – يونيو 1967 وبين تكريس احتلالها له في أيامنا هذه، يتبيّن أن هناك لغزا، اسمه سرّ صمود نظام حافظ الأسد طوال نصف قرن.

هل تُكشف أسرار هذا اللغز في يوم من الأيّام؟ هذا ليس أكيدا. ما هو أكيد أنّ التوريث كان الخطأ الذي توقف عنده دهاء حافظ الأسد. لم يدرك أن ابنه بشّار سيقضي على سوريا، قبل أن يقضي على النظام.

لم يدر أنّ سوريا كانت تحتل لبنان في السنة 2000، لكنها خرجت منه في 2005 نتيجة جريمة اغتيال رفيق الحريري. ففي السنة 2020، تفتتت سوريا. لم يعد النظام قائما. صار السؤال أي مستقبل لسوريا وهل بقي ما يورثه بشّار الأسد لابنه حافظ على الطريقة الكورية الشمالية

العرب

—————————-

حين (مات الديكتاتور)/ حسن النيفي

لعلّها من الحالات النادرة جدّاً في تاريخ سجن تدمر، أن يجرؤ أحد السجانين على إبداء أيّ نوع من أنواع التعاطف أو الانحياز في المشاعر حيال أيّ معتقل، بل على العكس من ذلك تماماً، كلّما أوغل السجّان في عنفه وجلافته ووحشيته في معاملة المعتقلين، كان أكثر حظوةً لدى رؤسائه أو القائمين عليه، بل يصحّ الذهاب إلى أن السبيل الأمثل لإثبات حُسْن السلوك ومصداقية الولاء للسلطة هو ساديّة مضاعفة، لا يحلو للسجان فقط تقمّصها، بل لعناصر المخابرات السورية بشكل عام. إلّا أن هذه السمة الناظمة لسلوك الجلّادين والسجّانين وجميع عناصر الشرطة العسكرية في سجن تدمر، نادراً ما تعرّضت لخروقات معدودة جدّاً، ومع ذلك، يحرص أصحاب هذه الخروقات – مع ندرتها – على الحيطة والحذر الشديدين، كما يحرصون على أن يبقى التلميح ورمزية الإشارة هما السبيل لإيصال شعورهم ، دون اللجوء إلى أي شكل من أشكال التصريح.

كانت إحدى أبرز هذه الخروقات يوم العاشر من حزيران عام 2000، الساعة الرابعة عصراً، حين خبط أحد عناصر الشرطة بقدمه على حافة فتحة السقف ( الشرّاقة) صائحاً:

    ولاه رئيس المهجع

    أمرك حضرة الرقيب أول، صاح رئيس المهجع، مع خبطة قوية بالقدم على الأرض، مع الوقوف باستعداد منكّس الرأس للأسفل.

    ولاه في واحد عندكن شخر.

    سيدي النوم ممنوع بالنهار، والجميع ملتزم بالتعليمات، والله يا سيدي ما في حدا نايم .

    ولاه حيوان، عم قلّك في واحد شخر، أنت جحش ما تفهم ولاه. ومشى الشرطي في سبيله.

لم يكترث أحد من السجناء لما قاله الشرطي، بل الجميع ظن أنها عملية تحرّش( كما هي العادة) من الشرطة حين يريدون معاقبة السجناء. في الخامسة قبل غروب الشمس، أي قبل موعد النوم الإجباري بساعة، ازدادت حركة السجناء داخل المهجع، منهم من يصطف ضمن الطابور للدخول إلى دورة المياه، ومنهم من يحاول أن يأخذ مكانه للنوم، متفقّداً عصبة عينيه ( الطمّاشة) التي ينبغي أن تكون محكَمةً على العينين لحظة أن يصيح رئيس المهجع: الجميع نيام.

لم يطغَ على أصوات الجلبة المنبعثة من المهجع في تلك الساعة سوى أصوات مكبرات الصوت التي انطلقت من مساجد مدينة تدمر دفعةً واحدة، تلاوة آيات من القرآن الكريم ولا شيء سواها، استمرّت لمدّة ساعتين ثم توقفت، تلتْها حركة أقدام تتراكض مسرعةً داخل السجن، وأصوات للشرطة غير واضحة، فضلاً عن عدم اقتراب السجانين من شراقات المهاجع، على غير عادتهم. هذه الحركة المضطربة داخل السجن دفعت بعض السجناء –  ممّن ينامون في أماكن منزوية لا يراها السجان من فتحة السقف – إلى التلصّص من شقوق الباب الصغيرة، لاستيضاح ما يجري، ولكنهم لا يستطيعون الكلام، لأن الجميع في وضعية النوم، وفي الوقت ذاته لا أحد نائم، بل الجميع مصلوب كالنائم، ولسان حاله يقول: ما الذي يجري هذا المساء في السجن؟.

استطاع أحد السجناء ممّن تلصصوا من شقوق الباب، وفي الدقائق التي يجري فيها تبادل نوبات الحراسة بين الشرطة، أن يوصل للسجناء المصلوبين كالنيام جملة مختصرة تلخّص مجمل ما رأى: ( جميع الشرطة والرقباء والمساعدين باللباس الميداني الكامل، بما في ذلك الخوذة والسلاح، وجميعهم يتحرك مضطرباً لا يعلم ماذا يفعل)، ثم ترك لهذه المعلومة مداها الكافي لدى السجناء، ليشبعوها تأويلاً وتفسيراً، كلّاً على حدة، ريثما تحين ساعة الاستيقاظ، لتتداخل التأويلات وتشتجر التفسيرات.

في السادسة إلّا عشر دقائق صباحاً، وفي الوقت الذي ينتظر فيه السجناء صيحة رئيس المهجع ( إستيقاظ) لينهضوا ويحرّكوا ظهورهم وأجنابهم المتخشّبة طيلة اثنتي عشرة ساعة من الالتصاق بالأرض، بدأت مكبرات الصوت من جديد، تنطلق منها تلاوة القرآن، ولم تمض دقائق، حتى توقفت جميعها، وانطلق من إحداها صوت شديد القوة والوضوح: ( على جميع العسكريين في مدينة تدمر التوجّه نحو الساحة العامة، للمشاركة في مسيرة حداد على فقيد الوطن والأمة الرئيس حافظ الأسد).

ربما هذا البلاغ الصريح والواضح هو ما جعل جميع السجناء في تلك اللحظة يستعيدون في أذهانهم، ما فهموه على أنه مجرّد تحرّش من احد أفراد الشرطة، حين قال لرئيس المهجع: (في واحد شخر).

واقع الحال آنذاك يشهد على أن ردّات فعل السجناء على موت الأسد (الأب) كانت لا تخلو من التناقضات الممزوجة بالاضطراب والذهول، لعلّ أبرز ردّات الفعل هي لجوء البعض إلى السجود الممزوج بالدموع السخيّة، تعبيراً عن الشكر لله، في حين ركن البعض الآخر خائفاً، متوقّعاً ردّة فعل انتقامية يقوم بها السجانون، وما عزّز هذا التخوف هو تعذيب جماعي انتقامي نفّذته إدارة السجن بحق السجناء ليلة مات الخميني ( 3 حزيران 1989 )، بينما اعتقد قسم آخر من السجناء، أن ردّة فعل السلطة ستكون مقرونة بطبيعة الشخص البديل عن الأسد، ومدى توجهاته السياسية الجديدة، إلّا أن الهاجس الذي لا يغيب عن جميع ردّات الفعل هذه، هو حالة الانتعاش التي بدأت تتغلغل في جميع النفوس، كما يتغلغل الماء في شقوق الأرض العطشى، إذ إن كثيرا من السجناء – آنذاك – قد شارف على إتمام عقدين من عمره في السجن، فضلاً عن أن استمرار التعذيب الممنهج داخل سجن تدمر، قد جعل الإحباط واليأس طبقات تزداد تراكماً في النفوس كلما تقدّم الزمن، أمّا وقد مات الذي – لشدّة بطشه وجبروته – ظنّه البعض بأنه لن يموت، فتلك لحظة جديرة بأن تفجّر ينابيع الأمل في يباس القلوب طيلة ستة أيام متتالية، وفي اليوم السابع، أي صباح السابع عشر من حزيران، تعمّدت إدارة السجن إدخال عدد من جريدة البعث إلى كل مهجع، ذاك العدد الذي يحمل في صفحاته خبر توريث الحكم لبشار الأسد في سوريا، إذ إنه كان خبراً صادماً، إلى درجة جعلت البعض يقول: ليتنا لم نُخبر بموت حافظ الأسد، حتى لا نُحبطَ بتوريث ابنه بشار، مضيفاً: لن يتبقى لدينا من العمر ما يكفي لموت بشار وتوريث حافظ الحفيد، بينما احتفظ البعض الآخر بشيء من تفاؤله، مُرجّحاً أن الأمور لن تبقى على ما هي عليه، وقد عزز من تفاؤل أصحاب هذا المنحى، مجيء لجنة أمنية من كبار ضباط المخابرات إلى سجن تدمر مساء ليلة السابع عشر من حزيران ذاتها، من هذه اللجنة ضابطان مشهوران( اللواء هشام الاختيار الذي قُتل في حادث تفجير خلية الأزمة عام 2012 ، واللواء حسن خليل)، حيث قابلت اللجنة الأمنية معظم سجناء تدمر على مدى يومين، مؤكِّدةً للجميع أن سوريا في عهد بشار ستكون جديدة، وعلى الجميع نسيان ما مضى، ولكن كيف؟ وما الذي سيتغيّر؟ لا أحد يدري، إلى أن جاء يوم 16 تشرين الثاني  عام 2000  ، إذ أفرج بشار الأسد عن ( 600 ) معتقل فقط، من ضمن آلاف المعتقلين، مُسَجّلاً في تاريخه الجديد أول (مكرمة) تجاه خصوم أبيه.

وقد قيل فيما بعد: إن الفترة الممتدة من موت الرئيس في العاشر من حزيران، وحتى تشرين الثاني من العام نفسه، هي الفترة ذاتها التي شهدت صراعاً بين ما يسمى بالحرس القديم والجديد، وقد حسمها محاربو النظام القدماء لصالح توجهاتهم باستمرار النهج الأمني الذي نهضت عليه دولة الأسد.

يمكن التأكيد على أن التاريخ الدموي لسجن تدمر، على امتداد واحد وعشرين عاماً، قد شهد حادثتين فقط، استطاعتا أن تخترقا جدار البؤس النفسي للسجناء، وتُدخِلا أشعة الأمل والبهجة إلى نفوسهم، الأولى كانت بموت حافظ الأسد، وقد تشظّت هذه البهجة بتوريث ابنه. والثانية هي يوم 27 تموز من العام 2001 ، حين تقرّر إخلاء سجنيْ تدمر والمزة، وتحويل جميع المعتقلين إلى سجن صيدنايا، ولتلك الحادثة قصة أخرى.

تلفزيون سوريا

——————————-

مقدمات حصر الإرث/ نهاد امبارح

لقد صارت «عظامه مكاحل» إذا استخدمنا القول السوري الدارج، ولكن رغم ذلك، يرى قول سوري دارج آخر أن حافظ الأسد ما يزال يحكم من قبره. وفي ذكرى موته العشرين، لن أعمد إلى استعادة لحظة موته وما أعقبها، لكنني سأحاول أن أضع هذه المقولة الدارجة تحت الاختبار، كي أرى مقدار المجاز فيها ومقدار الحقيقة. وإذا كان أحد شعارات الثورة السورية، «يلعن روحك يا حافظ»، رداً على هذا، فإن العودة إلى عقد التسعينات، الذي عشتُ فيه مراهقتي وبدايات شبابي، عبر ذاكرتي كما سُمح لها أن تعيش، مفيدة لتلمّس تلك السنوات العشر، سنوات تجهيز «الأوضاع» لكي يستلمها الوريث بأسلس الطرق.

جيوسياسة

دخلنا عقد التسعينات في سوريا مع حفاوة بالغة ومتزايدة تمتّعَ بها كتاب باتريك سيل؛ الأسد: الصراع على الشرق الأوسط. كان الكتاب قد نُشر عام 1988، ثم صار حديثاً رئيسياً في أوساط السوريين خلال النصف الأول من تسعينات القرن العشرين. والكتاب كان ممنوعاً بقرار رسمي، وكان أحد الأقوال الشائعة أن سبب المنع يرجع إلى احتوائه على كلام تفصيلي بشأن الطائفة العلوية وعشائرها وعائلة الأسد، لكنه كان كثير التداول رغم منعه، وربما بسبب منعه، إذ أمكنَ العثور عليه بسهولة نسبية، وتمَّ تداول النسخة الواحدة منه من بيت إلى بيت. في ذلك الوقت، كان النظام السوري يستطيع حظر تداول كتاب معين بسهولة دون شكّ، أو تخفيف تداوله إلى الحد الأدنى على الأقلّ.

تقول سيرة الكتاب في سوريا أشياء كثيرة، ذلك أن منعه وانتشاره على نطاق واسع في الوقت نفسه يبدو تكثيفاً لطبيعة النظام السوري: ثمة دولتان، رسمية لا تحكم وأخرى غير رسمية هي التي تحكم فعلاً؛ وثمة خطابان، ما نقوله في البيوت وما نقوله في العلن. وتقول هذه السيرة أيضاً أشياء عن طبيعة الرقابة في سوريا، التي يحكمها الاعتباط بوصفه أسلوبَ حكم يجعل المحكومين يتوهون بين ما يجب وما لا يجب. لا يزال هذا مستمراً حتى اللحظة في سوريا الأسد.

لكن الأهم في سيرة الكتاب أنه كان عنواناً لتكريس التفكير في سوريا بوصفها «موضوعة جيوسياسية»، لا بوصفها بلداً يقطنه ملايين البشر بأحلامهم وطموحاتهم ومعيشتهم اليومية. مقولة الكتاب الرئيسية كانت أن إنجاز حافظ الأسد العظيم هو تحويل سوريا إلى لاعب إقليمي أساسي، إلى «رقم صعب» على المستوى الجيوسياسي، مع تجاهل كامل لما ترافقَ مع هذا التحويل من سحق لحيوات البشر وأجسادهم. لا يزال هذا المنظور مستمراً في أوساط النظام وحلفائه؛ ليس مهماً أن يموت السوريون ويُسحَقوا بلا رحمة، بل المهم أن تحتفظ سوريا بدورها الجيوسياسي.

يُعرِّفُ أحد أصحابنا الجيوسياسة بأنها، في مفارقة مع الدّال الجغرافي لاسمها، تعني استبدال الفضاء بالمنطق. وترحيلُ الفضاء هنا مفيدٌ جداً، لأنه يعني الاستغناء عن الناس واجتماعهم وسياستهم واقتصادهم وثقافتهم ومعيشتهم وعواطفهم، واستبدالها بمنطقٍ ما. وثمة منطقٌ، كما نعرف ويعرف لبنانيون وفلسطينيون، أتقنه حافظ الأسد، ولعله لم يتقن غيره: التفاهم مع الحدود التي وضعها الأقوى، حتى لو عنى ذلك مشاكسة هنا ودغدغة مُستدعية للاهتمام هناك ضمن الحدود نفسها، مقابل بطش إبادي كامل بمن هو أضعف إن تجرأ على أي نقد على سلطته أو اعتراض. حافظ الأسد بارعٌ في الجيوسياسة.

كان عقد التسعينيات زمنَ التكريس الفعلي لهذه المقاربة. قُبيل مطلعه بقليل كان المناخ العالمي قد تغيّر تماماً مع انهيار الاتحاد السوفياتي وانتهاء حقبة الحرب الباردة التقليدية؛ سقطت منظومة الاتحاد السوفييتي وأشكال الحكم المرتبطة بها في أوروبا الشرقية، وعلى مستوى المنطقة  تم توقيع اتفاق الطائف، فانتهت الحرب الأهلية في لبنان أخيراً، وتم وضع لبنان في عهدة الأسد. وفي مطلعه احتلّ صدام حسين الكويت بعد انتهاء حربه مع إيران بقليل، وشاركت سوريا في التحالف الدولي ضد النظام العراقي، وحصد حافظ الأسد ثمار هذه المشاركة على أكثر من صعيد، متأقلماً كذلك وبسرعة مع كل المتغيرات العالمية الزلزالية . حصدها تكريساً لهيمنته على لبنان بتغطية أميركية، وحصدها على شكل مساعدة دولية مهمة في التمهيد لانفتاح اقتصادي، لم يكن في الواقع إلا توسيعاً ملتوياً لمجالات نشاط وعمل اقتصادات المحاسيب، وإتاحة لمجالات تواصل هؤلاء المحاسيب مع الاقتصاد الإقليمي.

على مستوى الذاكرة الشخصية، أتذكّرُ أن من بين الأثمان، غير الفادحة، التي دفعها حافظ الأسد لاستقرار حكمه ضمن اللوحة الجديدة، كان السماح بخروج من تبقى  من يهود في سوريا مطلع التسعينات، بعد منعهم طويلاً من السفر. ثم جاءت صوره في استقبال بيل كلينتون في دمشق عام 1997، وصور وفوده في واشنطن عام 1999، وصوره الأخيرة مجتمعاً مع كلينتون في جنيف عام 2000 قبل أشهر من وفاته، لتكون التأكيد البصري الأوضح على تثبيت معادلة سوريا كبطاقة جيوسياسية لا يمكن الاستغناء عنها في المعادلات الدولية التي تخص المنطقة.

كان سحقُ قوى المعارضة في المجتمع السوري قد اكتمل بالتزامن مع ذلك، ونشأت عن هذه الظروف المتشابكة قدرة غير محدودة لدى النظام على قول ما يشاء وفعل ما يشاء. يستطيع أن يتحدث عن المقاومة والصمود والتصدي، وأن يشارك الأميركيين حروبهم ويمارس الهيمنة في لبنان بموافقتهم؛ يستطيع أن يتحدث عن العمال والفلاحين ويعتقل الناس بتهمة معاداة النظام الاشتراكي، وأن يتخلى عن الاشتراكية تدريجياً؛ يستطيع أن يشتم الأنظمة العربية العميلة للغرب، وأن يهدم جزءاً من حي عشوائي في دمشق كي يضمن استقبالاً لائقاً للرئيس الأميركي بيل كلينتون… والقائمة يمكن أن تطول أكثر.

كل تفصيل يثير الريبة أو يبدو غير متسق مع الرطانة البعثية، كان يتم تفسيره فوراً بالحنكة السياسية للسيد الرئيس. ألم يصبح بلدنا برمته «موضوعة جيوسياسية» على يد الأسد، يستطيع الأسد إذاً أن يفعل ما يشاء من أجل الجيوسياسة.

في الجيوسياسة، لا يزال حافظ الأسد يحكم من قبره دون شك. يفعل النظام كل شيء ما عدا إشراك أي سوريين آخرين في السلطة؛ يتنازل عن مقدرات البلد ويتركه لاحتلالات أجنبية متنوعة، يدمر بنيته التحتية ويسلّم مطاراته وقواعده العسكرية وحقوله النفطية وموانئه لدول أجنبية، يفتح حدوده على كل أشكال الميليشيات والجماعات المسلحة، يساوم على كل شيء، ويقبل بالتنازل عن أي شيء، ما عدا قدرته على حكم السوريين وإخضاعهم بالحديد والنار. لماذا؟ لأن الأمر المهم الوحيد هو أن تبقى سوريا «موضوعة جيوسياسية» تحت رعاية السيد الرئيس، لا بشر مرئيين فيها، ولا حياة ينبغي الدفاع عنها.

سجن ومجزرة

كنتُ في مرحلة الطفولة خلال الثمانينات، ثم دخلتُ عقد التسعينات مع أحاديث غائمة عن مجزرة وقعت في حماة قبل سنوات قليلة، ومع أحاديث أكثر وضوحاً عن آلاف دخلوا السجون لأنهم «ضد الرئيس». وخلافاً للمجزرة التي تم دفن الحديث عنها تحت طبقات الرعب التي كنتُ ألمحها في عيون من هم أكبر مني، كان الحديث عن السجن السياسي أكثر وضوحاً، ذلك أننا قد بتنا في زمن الإفراج عن السجناء. كانت المجازر والمعتقلات والجيوسياسة قد أدّت مؤداها، وأصبح بإمكان النظام إزاحة بعض الهوامش، بالتزامن مع ضغوطات سياسية وحقوقية مباشرة فيما يتعلق بملف المعتقلين السياسيين، كانت تظهر في نوع الأسئلة التي يطرحها الصحفيون الأجانب على الأسد الأب في عدة مناسبات.

قامت حينئذ محكمة أمن الدولة، كشكل مؤسساتي ومقونن لنظام القمع، بإجراء محاكمات صورية لمعارضين معتقلين من الحركات اليسارية، أفرجت بعدها عن معظمهم خلال ثلاث موجات كبيرة: 1991، 1994، و1996. وبعد أن قرأنا في بداية الصبا، عام 1991، رواية عبد الرحمن منيف؛ الآن هنا أو شرق المتوسط مرة أخرى، الرواية الكابوسية والمؤسِّسة في أدب سجون المنطقة، جاءت تلك الإفراجات لتُشعر السوريين أن هناك إنفراجاً ما، وربما يكون هذا ما حدا بهم ليتوسموا خيراً في بداية جديدة وفي «الغفران» للماضي مع تسلّم بشار الأسد مقاليد السلطة عام 2000، وليس شخصه الواعد.

مع انتصاف عقد التسعينات، ثم انحداره نحو الألفية، بدا واضحاً أن حافظ الأسد كان يهيء وريث الغفلة، ويهيء له الظروف: بحث عن استمرار عملية تفاوضية مع إسرائيل، تُكلَّل باتفاق سلام، أو على الأقل تضمن إيجابية أميركية تجاه بقاء الأسدية، عبر التوريث، بعد حصول الحتمية البيولوجية المرتقبة؛ تخفيف التوترات مع كافة الجيران، العرب منهم، خصوصاً العراق والأردن، ولكن أيضاً تركيا بعد اتفاق أضنة؛ وترتيب البيت الداخلي مع استمرار الحملة على بقايا نفوذ رفعت الأسد وتسريع بعض التسريحات والتقاعدات العسكرية؛ وأخيراً محاولة، وإن غير لحوحة، لإطفاء المسألة العالقة مع الإخوان المسلمين، شملت إفراجات وتخفيف أحكام، وأحاديث عن وساطات للتفاوض على عودة المنفيين الراغبين بالعودة، شرط عودتهم كأفراد وعدم ممارستهم السياسة، وصولاً لإلغاء «العهد الشبيبي» الصباحي في طوابير المدارس، الذي كان يَعِدُ بالتصدي للإمبريالية والصهيونية والرجعية، وبسحق «أداتهم المجرمة، عصابة الأخوان المسلمين العميلة»، وذلك في آخر عام دراسي قبل وفاة حافظ الأسد.

بالرغم من كل تلك التناقضات، أو بسببها على الأرجح، وفي القلب منها ذاك الحضور الطاغي للمجزرة والسجن، أمكنَ للأسد الأب أن يمهّد لحقبة ابنه عبر نوع من الانفتاح «الآمن». إذاً، ليس الابن من «افتتح» الانفتاح كما يتم التسويق أحياناً.

خبز وانفتاح

بقيتُ سنوات طويلة أتلفّتُ حولي وأنا آكل الموز، وكأنني أقترفُ ذنباً بحق العالم أجمع. كانت سنوات الحصار قد أفرزت رمزيات فقدان كثيرة، ولعل أكثرها كاريكاتورية/ تراجيدية كان الموز، تلك الفاكهة الثمينة، الممنوعة، المُحاطة بالشائعات، والتي ليست وارداً غذائياً لا غنى عنه البتة، ولا ثمرة  صُوِّرَت في الآثار السورية القديمة كجزء أساسي لغذاء غرب ما بين الرافدين، ولكنها ارتبطت بالحصار، وبلبنان كمنفرج تهريبي لمناهضة الحصار، يصلنا منه الموز الصومالي بأسعار عالية في أحسن الأحوال، والموز الصغير الملقبّ بـ «اللبناني» في الأحوال الأقل يسراً.

لعلّ أطرف شائعة سرت حينها كانت أن الموز مفقود لأن حافظ الأسد أوعزَ بعدم استيراده، بعد معرفته أن الشركة التي تستورده للشرق الأوسط يملكها… ياسر عرفات! جيوسياسة  وموز. في تلك السنوات، سمعتُ أو قرأتُ مصطلح «جمهوريات الموز» للمرة الأولى، وكـ«رفيق شبيبي»، شعرتُ بالفخر لأن سوريا ليست من تلك الجمهوريات الواهية الفاسدة والمستباحة التي تحكمها شركات استيراد الفاكهة الأميركية. لكنَّ جانباً هرطوقياً في داخلي، يقبع على معدتي، تحسّرَ وتمنى لو أننا كنا جمهورية موز.

وبالحديث عن لبنان وموزه، لا بد من استذكار بسكويت غندور بالعلبة الحمراء الكبيرة، وأنواع الشوكولا الاجنبية التي كانت تصل لِماماً وتهريباً إلى بعض محلّات المدن. المفضلة لديَّ كانت الشوكوبرِنس بالورقة الذهبية، كان التهامها التهاماً للحصار، الحصار الذي لم يكن قاسياً بالمعنى الأول للكلمة، لم نكن جائعين، وكنا نأكل أكلاً جيداً يمكن أن نصفه بالعضوي حالياً، ولكنه كان حصاراً  محسوساً على مستوىً آخر، لم نكن نعيه تماماً حينها.

في سنوات مراهقة إخوتي الأكبر مني، في الثمانينات، كانت «المؤسسة الاستهلاكية» منفذاً على العالم، حتى أن واحداً منهم يطلق على السوبرماركت في أوروبا حيث يعيش اليوم تسمية «مؤسسة». ومن وظائف النساء الكثيرة التدبيرية في ذلك الوقت، كانت متابعة وصول المواد الأساسية من أرزّ وسكر وسمنة، وإرسال فتية العائلة للوقوف في الطوابير. كان الطابور في الثمانينات طقسَ بلوغٍ للصبيان والبنات، بالأحرى  كان طابور الغاز طقس بلوغ الصبيان، والطوابير الأخرى يمكن للبنات المشاركة فيها. عدا ذلك، كان من بين المهام في دمشق الطبقة الوسطى تقفّي آثار وصول الصفقات من الصين. حظوظ البنات من تلك الصفقات الصينية أوفر من حظوظ الصبيان، فالتطريز الصيني الآلي لفساتين «عش البلبل» كان يعطي لمسات أناقة أكثر من «بواط» الفوتبول السوداء الصينية بـ «البزابيز» للصبيان. كان الجميع يلبسون نسخاً مكررة من الفساتين المطرزة وأحذية البزابيز السوداء الرياضية. ورغم ذلك، كان من إشارات الصمود والقدرة على العيش أنَّ الناس يصنعون تمايزاتهم الصغيرة، باللون المختار للفستان الموحد مثلاً.

كانت المواد التي تأتي عبر الصفقات إياها، وأقول صفقات بمعنى أنها «جَلَبٌ» محدد لمادة استهلاكية لا تُكرَّر، تنتشر بسرعة الهشيم في البيوت القادرة على شرائها قبل أن يتم نقاش ماهيتها والحاجة إليها فعلاً، ومن أغرب تلك الصفقات في الذاكرة  كانت معلبات لمادة غذائية غير محددة المعالم، جلبها أصدقاء أهلي وفتحها الجميع في طقس احتفالي لاكتشاف كُنهها؛ طبقات عجينية تتخللها طبقة لحم غير محدد المعالم والمصدر، بدون كتابة المحتويات على العلبة، وبطعم غريب. بعد سنوات عديدة عرفنا اسمها: لازانيا.

إلا أن أكثر ما طبع ذاكرة إخوتي الأكبر عن الثمانينات، كان العام الذي قرَّرَ فيه عبد الرؤوف الكسم، رئيس الحكومة وقتها، أن يقدم الساعة الشتوية ساعتين كاملتين، فأصبحت رحلة الذهاب اليومية إلى المدرسة رحلة ليلية ، تتطلب الإضاءة. تمرين الصمود هذا لم يكن سهلاً ، حتى أنه جعل أحد أخوتي يربط  الاستيقاظ لقضاء الأعمال باكراً بـ «الأعمال الحربية» المرتبطة بالحصار.

مع بداية العقد الأخير من حكم حافظ الأسد جاء التخفّف من أعباء حصار الثمانينيات الاقتصادي، بنتيجة كل المعطيات الدولية المستجدة، وصدر عام 1991 القانون  رقم  10 لاستثمار الأموال في الجمهورية العربية السورية، وينص على استثمار أموال المواطنين العرب السوريين المقيمين والمغتربين ورعايا الدول العربية والأجنبية في المشاريع الاستثمارية، ضمن إطار خطط التنمية الاقتصادية والاجتماعية والسياسية العامة للدولة. هكذا بدأ أصحاب الأموال بالاستثمار، وحتى السوريون والفلسطينيون السوريون الذين خرجوا من الكويت بدأوا باستثمار مدخراتهم في مشاريع في سوريا.

من بين هذه الاستثمارات جاءت شركات النقل الخاصة الكثيرة، ومعها دخول السرافيس الصغيرة إلى صيغة النقل العام، بعد أن كانت الشركات التعاونية الأهلية هي التي تحكم صيغ التنقل بين القرى الصغيرة والمدن الأكبر، وبعد أن كانت شركة الكرنك تهيمن على النقل بين المحافظات. وكان لتسهيل التنقل هذا أثر مهم في نمط الاستهلاك والتفاعلات الاجتماعية في سوريا، وكان لقانون الاستثمار كذلك أثر كبير على المنتج الثقافي الجماهيري الأساسي؛ الدراما التلفزيونية التي شهدت دخول شركات إنتاجية جديدة تمكنت من طرح معايير جديدة في الإنتاج الفني، يتجاوز المعايير الأحادية للتلفزيون العربي السوري. وشهدت تلك المرحلة كذلك افتتاح أو توسع نشاطات عدد من المراكز الثقافية الأجنبية، بدايةً في دمشق وحلب، ومن ثم في المدن الأصغر مثل حمص واللاذقية.

ومن لم يكن يعرف لبنان قبل وأثناء الحرب الأهلية من الأجيال الصاعدة في سوريا التسعينيات، أصبح بإمكانه أن يزورها بعد انتهاء الحرب رسمياً، ويتعرَّفَ على أنماط عيش أكثر انفتاحاً، إما عبر الرحلات التي كانت تنظمها الهيئات المختلفة والنقابات المهنية، أو عبر العمالة السورية الجديدة مع بدء إعادة إعمار لبنان، أو للتواصل مع المناخات الثقافية اللبنانية بالنسبة للمشتغلين في الحقول الثقافية السورية.

في الواقع، التقت في عقد التسعينات عوامل عديدة، متضافرة، أشعرت الناس بتحسّن بالأوضاع: نهاية أعوام الحصار بعد تغير التموضعات السياسية للنظام؛ تحسّن علاقته مع الولايات المتحدة مع انضوائه في مؤتمر مدريد للسلام ومشاركته في تحرير الكويت وتنسيق إنهاء الحرب الأهلية اللبنانية؛ دخول الهبات والاستثمارات الخليجية بُعيد حرب الخليج؛ و«إصلاحات اقتصادية» كانت في جانب أساسي منها تهدف إلى تجهيز «بيئة الأعمال» (هذه رطانات الأسدية الثانية، البشّارية) لاستثمار الأموال المنهوبة خلال العقود السابقة، وتشغيل الأموال المنهوبة من لبنان، وفتح المجال للجيل الأسدي الثاني، لكي يكون أبناء الضباط والمسؤولين «مستثمرين» و«رجال أعمال»: أبناء عبد الحليم خدام، أبناء مصطفى طلاس، أبناء بهجت سليمان، المهربون وقادة مجموعات الشبيحة من عائلة الأسد… وأيضاً يوتيوبر وداعية ديني ومصلح اجتماعي شهير، هو ابن حوت الفساد محمد مخلوف خال بشار الأسد، واسمه رامي. سيبزغ نجمه أكثر مع مجيء الوريث، ابن عمته، إلى الحكم.

لكن هذا التحسّن الاقتصادي النسبي، وأغلبه كان نتيجة انتهاء أزمة الثمانينات، بقي دون وضع السوريين في مصاف الوضع المعيشي لمواطني دول عربية غير نفطية أخرى، غير أنه جاء أيضاً مترافقاً مع التخفّف النسبي من بعض أقسى مشاهد السلطة العارية التي حكمت الثمانينات، مثل فتح شوارع كانت مغلقة «لأسباب أمنية»، وإزالة كتل إسمنتية ومراكز حراسة، وتخفيف الحواجز الأمنية على مداخل المدن وفي الطرقات العامة، ليتمّ تقديم كلّ هذا وكأنه خلاصة الـ «باكس أسديانا»؛ السلام الأسدي الذي عنى تجميد التناقضات والصراعات، وفرض نسق من «الاستقرار»، يقوم على أنه من المسموح لك أن تعيش وفق مقدرتك على الكسب، وأن تستهلك الموجود وأن تترفّه بالممكن. نقطة. لا تبحث عن الـ «وإلا..» في نهاية هذه الجملة. لم تكن هذه مساومة. بطل الحسام والسلام لم يكن يرى سوريين يُساوم معهم، لم يكن بحاجة إلى ذلك، فتدمُر ما زالت موجودة (ما يسمّيه السياح وعلماء الآثار تدمر أو بالميرا نسمّيه نحن «آثار تدمر». تدمر حاف هي شيء آخر، هي كود التعريف عن «الحاف الأسدي»)، وحماة أيضاً ما زالت طازجة. لا وقت لدى حافظ الأسد يضيّعه، فقد كان مشغولاً بالعلاقة مع بيل كلينتون.

دراما

كان عقد التسعينات أيضاً عقد صعود الدراما التلفزيونية، لتكون شكل الإنتاج الثقافي الفني الأبرز الذي تقدمه سوريا. ولا يمكن فصل اختيار التركيز عليها، دون غيرها من أشكال الفن، عن مسألة الانفتاح الاقتصادي ذي الطبيعة النيوليبرالية، إذ أنها كانت مربحة عبر السوق الخليجي بشكل رئيسي. كما أنها كانت وسيلة التأثير الجماهيري الأولى مع شيوع التلفزيون في كل البيوت، ثم دخول عصر القنوات الفضائية.

يحضر مسلسل هجرة القلوب إلى القلوب، الذي تم بثه عبر التلفزيون السوري للمرة الأولى في ربيع 1991، بوصفه علامة فارقة في ذاكرتي. تم إنتاجه بالشراكة بين التلفزيون العربي السوري ومؤسسة الخليج للأعمال الفنية، كتبه عبد النبي حجازي وأخرجه هيثم حقي، وكان تكريساً لثيمة ستصبح أكثر حضوراً في الأعمال الدرامية السورية اللاحقة، وهي ثيمة الأعمال التي تتناول تاريخ سوريا القريب قبل وصول البعث إلى الحكم، ومنها حمام القيشاني، الذي كتبه دياب عيد وأخرجه هاني الروماني، وكان جزؤه الأول عام 1994، ثم مسلسل خان الحرير عام 1996، الذي كتبه نهاد سيريس وأخرجه هيثم حقي، وكان يحمل شيئاً من النوستالجيا لسوريا المعاصرة بُعيد الاستقلال.

لم يكن هناك شركات إنتاج تلفزيوني خاصة في سوريا وقت إنتاج هجرة القلوب إلى القلوب، وسيأتي ظهورها بعد ذلك بقليل على يد شركة الشام الدولية، التي أسسها واحدٌ من أبناء عبد الحليم خدام، والتي أنتجت لاحقاً بعضاً من أضخم الأعمال وأهمها في عقد التسعينات وما بعده؛ عيلة خمس نجوم عام 1994، الكوميديا السوداء التي تحكي  معالم انهيار الطبقة الوسطى المدينية في دمشق الثمانينات والتسعينات، وفي العام نفسه مسلسل نهاية رجل شجاع الذي لا يغيب عن ذاكرة أي سوري تقريباً بتقنيات تصويره الجديدة، وفي 1996 مسلسل يوميات مدير عام، الذي اعتُبر وقتها عملاً يفضح الفساد في أروقة الإدارة العامة السورية في إطار كوميدي، وفي العام 1998 الجزء الأول من مسلسل أخوة التراب، الذي كان عودةً إلى أواخر الحقبة العثمانية في سوريا، تم توظيفها سياسياً في سياق توتر العلاقات مع تركيا وقتها، وكانت عملاً غير مسبوق في سوريا من حيث التقنيات التي استُخدمت فيه.

ساهمت شركة الشام الدولية في تقديم نجدت أنزور كواحد من أهم المخرجين السوريين، عبر نهاية رجل شجاع والجزء الأول من أخوة التراب، وكانت لأنزور بصمة إضافية عبر مسلسلات الفنتازيا التاريخية. كان هذا النوع من المسلسلات قد ظهر قبل ذلك في أواخر الثمانينات، عبر مسلسل البركان الذي أخرجه محمد عزيزية، ومسلسل غضب الصحراء الذي أخرجه هيثم حقي، وكلاهما من تأليف هاني السعدي. لكن الصعود لهذا النوع من المسلسلات جاء عبر الجوارح، الذي كتبه السعدي نفسه وأخرجه أنزور وأنتجه مركز دبي للأعمال الفنية، وكان حتى ذلك الوقت أكثر الأعمال الدرامية السورية انتشاراً في العالم العربي.

كان مطلع عقد التسعينات قد شهد ولادة «خط إنتاج» درامي آخر، سيحتفظ بحضوره البارز حتى اليوم خلافاً لخط الفنتازيا التاريخية الذي خبا نجمه لاحقاً، وهو خط مسلسلات البيئة الشامية، الذي كان مسلسل أيام شامية عام 1992 نقطة انطلاقه الرئيسية، وكان من كتابة أكرم شريم وإخراج بسام الملا، ومن إنتاج التلفزيون السوري. باتت مسلسلات البيئة الشامية لاحقاً أشبه بمنجم ذهب لسهولة تسويقها في العالم العربي، والأهم أنها كانت موضعاً مميزاً لتكوين وتحميل خطاب سياسي يتعلق بالحارة المغلقة على نفسها طلباً للأمن، أو لنقل بالحارة كسوريا وكوطن.

ولدت الدراما التلفزيونية السورية من جديد إذاً في العقد الأخير من حكم حافظ الأسد، وبإمكانيات وتأهيلات أفضل، بعد أن كبر المعهد العالي للفنون المسرحية بانتقاله من دُمّر إلى ساحة الأمويين عام 1986، حين صار يخرّج دفعات من ممثلين مؤهلين مسرحياً على مستوى عالٍ بالنسبة لإمكانيات البلد. وكانت معالم ولادتها الرئيسية هي إنتاج ما يصلح للتسويق وجني الأرباح في السوق الخليجي، وإيكال مهمة الإنتاجات الضخمة إلى شركات خاصة يملكها محاسيب النظام في الغالب، ومقاربة التاريخ السوري باستثناء حقبة تمكين الأسدية في السبعينات والثمانينات، وتناول الزمن الحاضر بفساده وانهياراته الاجتماعية والاقتصادية، دون تجاوز خطوط حمراء، رسمها باقتدار مسلسل يوميات مدير عام، عندما تحدَّثَ عن الفساد دون المسّ بأي مناصب قيادية عليا، وعلى نحو مخادع يبدو فيه الفساد عطباً أخلاقياً لا مسألة سياسية.

ستحدث تغييرات طفيفة فقط في هذه المعالم خلال عهد الوريث، أهمها تعدد الشركات الخاصة وتشابك العلاقة أكثر مع شركات إنتاج عربية، وتقديم إنتاجات أكثر ضخامة تناولت حقباً متنوعة من تاريخ المنطقة البعيد، لعلّ من أبرز أمثلتها ثلاثية حاتم علي ووليد سيف الأندلسية. ومن التغيرات المهمة أيضاً تَوسُّعُ إنتاج الدراما المعاصرة، وتقديمها بشكل شديد التركيب والعمق في بعض الأعمال، على نحو يناور بذكاء عند الخطوط الحمراء دون أن يقطعها، وهو ما مكّنَ حتى من تناول حقبة الثمانينات المخيفة في بعض الأعمال، كما في مسلسل لعنة الطين عام 2010، للكاتب سامر رضوان والمخرج أحمد ابراهيم أحمد. كما مكّنَ هذا من الحديث عن فساد في دوائر القيادة العليا في أعمال عديدة، مع إحالات إلى فاسدين خونة كبار من عيار محمود الزعبي وعبد الحليم خدام، دون ذكر الأسماء طبعاً في أي وقت.

والحال أن الدراما كثقافة جماهيرية، وعنصر جامع في ذاكرة السوريين المعاصرة، كانت السطح المقروء الأكثر مباشرة، الذي يُعبِّرُ عن «روتشة» النظام لمظهره ببعض الانفتاح، وهو ما بدأ بوضوح منذ بداية العقد الأخير لحكم حافظ الأسد. كانت الدراما كذلك مؤشر عباد الشمس الذي امتهن السوريون قراءته عن الخطوط الحمراء وفنون الرقابة، والتي على الرغم من ذلك ما فتئت تصنع لنا مفاجاءات، على مستويات أخرى، كما حصل مثلاً عند منع عرض فيلم نجوم النهار للمخرج أسامة محمد، وهو الفيلم الذي صُنع في المؤسسة العامة للسينما، المؤسسة الحكومية التابعة لوزارة الثقافة.

هكذا تم التأسيس في عهد حافظ الأسد لترك المساحات الثقافية الحيوية في سوريا في واحاتها الضيقة، على ألّا تصنع حقلاً عاماً للثقافة السورية، وأن تبقى واحات محصورة ضمن خطوط، لكنها خطوط متراوحة أصبح الفاعلون في الحقل يحددونها بأنفسهم بانضباط.

يحكم من قبر

قلتُ في أكثر من موضع إن حافظ الأسد يحكم من قبره، أو إنه لم يمت بعد. وليست هذه العبارات من إنتاجي ولا خاصة بي، ولهذه العبارات ترجمة أكثر شعبية، وهي لعنُ روح حافظ الأسد في المظاهرات وفي أحاديث المعارضين منذ العام 2011. هل لدى الرجل قدرات استثنائية فوق بشرية تجعله يحكم من غياب، على طريقة خطابات بعض الأنظمة الثيوقراطية؟ أم أنه كان عبقرياً إلى درجة أنه «خطط» ما يجب أن يُفعل لعقود تلي موته؟ في الحقيقة، لا هذا ولا ذاك.

يُفهم لعن المعارضين لروح حافظ الأسد أكثر حين نرى أن معسكر النظام يسمّيه «القائد المؤسس». مؤسس لأي شيء؟ كانت سوريا ما بعد الاستقلال ناجزة حين أتى حافظ الأسد (ولو ناقصة التراب بسبب احتلال الجولان عام 1967، وحافظ الأسد كان وزير دفاع حينها). ونظام الحكم، البعثي، كان قائماً، و«الحركة التصحيحية» لحافظ الأسد غيّرت فيه، ظاهرياً، مجرد رتوش؛ فماذا «أسس» حافظ الأسد بالضبط؟

لقد أسَّسَ حافظ الأسد الأسدية، لمركّب العنف والمال والولاء الذي يحكم فعلاً، ويسعى للأبد، وجاعلاً أي شكل مؤسساتي للدولة، جيشاً وأمناً وقضاءً وحكومة.. الخ عبارة عن منفّذ روتيني لقراراتها، بأحسن الأحوال. وأهم أركان الأسدية نجدها في عقيدة إخراج السلطة من أي سياق صراعي أو سجالي من أي نوع، وجعلها ناظمة لكل نسق يأتي تحته. فبالعنف السخي، وبالوعود بعنف أكبر وأكثر لا حدود له إن لزم الأمر، جَعَلَ السلطة شأناً راسخاً، وجَعَلَ إمساكه بها من «طبيعة الأشياء» في بلد ذي علاقة هوسيّة بالانقلابات، بلد كان عصياً حتى على جمال عبد الناصر في أوج لحظات قوّته، ولم تكن علاقة أهله بالسلطة وتغيّراتها بالغة الدموية.

كثيراً ما يتندر السوريون على فترة عدم الاستقرار والانقلابات السياسية، كان فيها اعتقال، وكان يحصل أن يقع قتلى أحياناً، لكن لا الكم ولا النوع مشابهان لما أتى بعدها بعقود. أحد معارفي، من قُدامى المناضلين الشيوعيين منذ يفاعته أيام الاستقلال، كان يتندّر بوجود بقجة معلّقة بجانب باب البيت، إذ كان يُعتقل بعد كل انقلاب، بل كان اعتقاله الروتيني بمثابة إخطار لحارته بأن «انقلاباً» قد مكّن الحكم لجماعة جديدة، إلى حين. في كل اعتقالاته، بالكاد أكل صاحبنا صفعة أو ركلة، لكن آثار التعذيب في جسده بعد اعتقاله البعثي الأول، والأخير، الاعتقال الذي أخرجه من السياسة تماماً، هي خير تجسيد للقفزة النوعية في مدى العنف والاستباحة. إذاً، باستثناء حقبة الوحدة التي لمع فيها عبد الحميد السرّاج (وهو اليوم مزحة مقارنةً مع أي ملازم في الأمن العسكري)، فإن حافظ الأسد هو الذي «أسَّسَ» نهايات واقع الرعب الشّال والرضّ النفسي المديد: الاقتراب من السلطة ثمنه الدم، ولا دم في سوريا ولا في المشرق يكفيان لسداد هذا الثمن.

وقد لاقى «تأسيس» حافظ الأسد هذا طلباً دولياً. القوى الكبرى تُفضّل الحديث مع حافظ الأسد طوال 30 عاماً، على أن تحكي مع بلد غير مستقر، ومع حكام متغيرين كل سنتين أو ثلاث أو أربع. وهذا التفضيل يُمكّن القوى الدولية، اللاعبة الفعلية في شطرنج الجيوسياسة، من أن تبلع حتى معمر القذافي، فما بالك بشخص «يفهم» عليهم جيداً مثل حافظ الأسد، بغضّ النظر عن مناوراته ضمن الحدود المقبولة لهذا «الفهم»؟

تحويلُ سوريا إلى موضوعة جيوسياسية، إلى لاعب بحت، وبلد صامت يحكي باسمه شخص واحد، هو مأساتنا كسوريين، وهو ما أسَّسه حافظ الأسد. ولم يكن ذلك نتاج عبقرية استثنائية، بل كان نتاج امتزاج الوحشية المفرطة مع «شطارة» غريزية في الحفاظ على البقاء. إذا كان  ثمة «ذكاء» في سيرة حافظ الأسد ونظامه، فهو متعلقٌ بمسألة واحدة فقط؛ تأسيس النظام كلّه على الانضباط في مبدأ واحد لا محيد عنه؛ المهم هو الاحتفاظ  بالسلطة بأي ثمن، ولا شيء آخر.

بالاستناد إلى هذا المبدأ، قام حافظ الأسد بـ «تجهيزنا» خلال عقد التسعينات. فكّكَ الألغام الإقليمية والمحلية التي قد تعترض سبيل التوريث، وقام برسم المعالم الرئيسية لحياتنا بما يتناسب مع تأبيد الحكم، وفتح أمام وريثه طرقات تسير باتجاه واحد؛ كل السلطة على السوريين وحياتهم، وأي شيء آخر قابلٌ للمساومة مع الأقوياء الذين يديرون العالم. نقول بعد عشرين عاماً إن حافظ يحكم من قبره، لأن الحصاد الدموي خلال العقد الماضي كان ثمرة الزرع الذي نثر بذوره حافظ الأسد.

وعليَّ أن أعترف أنني تعبت من أن يحكمني حافظ الأسد، حيّاً كان أم ميتاً.

موقع الجمهورية

———————————-

سورية التي أسقطت صور الدكتاتور بعد وفاته/ فاطمة ياسين

بانقضاء عشرين عاماً على وفاة حافظ الأسد، يكون قد مضى نصف قرن على سيطرة عائلة الأسد على الحكم في سورية، و75 عاماً على انتهاء الانتداب، وخروج آخر جندي فرنسي من سورية، بما يعني أن السوريين قد قضوا “ثلاثة أرباع” مدة الاستقلال في ظل حكم الأب والابن. وقد تستدعي عبارة ثلاثة أرباع المدة حديثاً بعيداً عن الحرية وذاكرة مثقلة بقصص السجون والاعتقالات والتعذيب.. كان دور السلطة في هذه المرحلة هو المراقبة والتضييق، وإحصاء الأنفاس، أما الإمدادات فكانت عموماً بما يكفي لهذا المواطن/ السجين للتحمُّل، فالطعام والشراب واللباس والطبابة وحتى التعليم كانت بمقادير مضبوطة ومدروسة، بحيث تبقي المواطن مطيعاً ومنقاداً، وعلى قيد الحياة إن أمكن.

كان لدى الأسد الأب ملعب في الداخل وآخر في الخارج، وكان لديه أيضاً كرات كثيرة، بحيث أبقى الجميع مشغولاً بملاحقة ما يتدحرج أمامه. لعب في الداخل مع الجيش والمجتمع والحزب. وعزل كل فئة على حدة، وحرص ألا تقترب من الأخرى، وقسّم الفئات إلى فئات أصغر، فقرّب ضباطاً كباراً في الجيش وسلمهم ألقاباً فخمة، بعد أن نزع أظافرهم بإعطاء الصلاحيات لضباطٍ أصغر، يتمتعون بصفاتٍ طائفيةٍ أكثر ولاءً. وفي المجتمع، صنع طبقة جديدة ممن قبل التعامل معه من العائلات التقليدية، فقد كان في يده تعيين جيوشٍ من الموظفين في رتبٍ ترضي طموح من يرغب بالاستثمار غير التقليدي، كالمحافظين والسفراء في بلاد معينة، والمدراء العامين لشركات كبرى أصبحت كلها ملكاً للدولة، وهي لا تسعى إلى الربح بقدر ما تسعى إلى إبقاء أكبر عدد من الموظفين صامتاً أو مشغولاً بما بين يديه، وكان الحزب مرتعاً خصيباً لهواة الأيديولوجيا، فهؤلاء تسلحوا بوهم القبض على السلطة، وعقْدِ مؤتمرات استطاعوا، في بداية حكم الأسدية، التحدث فيها بسقف حريةٍ معقول، ثم توقف هذا النوع من المؤتمرات بشكل مطلق، ليصبح الحزب جهازاً بيروقراطياً ضخماً، ومكاناً لاحتواء العاطلين عن العمل، واقتصرت الخطابات على التحدّث عن المنجزات والصفات الاستثنائية للقائد الذي بقي صامداً كل هذا الوقت.

في السياسة الخارجية، رضي الأسد الأب أن يكون عميلاً للاتحاد السوفييتي طوال فترة الحرب الباردة، ورضي أن يعقد مع السوفييت معاهدة صداقة، ومنحَهم موطئ قدم دائما على ضفاف المتوسط، حصد نتيجة ذلك ابنُه الذي تلقى دعماً لامتناهياً من الروس في الحرب الشعواء التي يخوضها مع الشعب منذ عقد.

انحاز حافظ الأسد أيضاً إلى جانب أميركا وإسرائيل، عندما اشترك معهما في التحالف ضد العراق عام 1990، واشترك في مباحثات سلام مباشرة وغير مباشرة مع إسرائيل في مؤتمر مدريد وبعده في واشنطن، كان مخطِطاً للسلام أن يدوم أطول فترة ممكنة، وكان خلال كل تلك الفترة قادراً على التوفيق بين علاقاته الوثيقة مع إيران بشكلها الخميني ومع دول الخليج التي كانت تساند حرب صدام حسين ضد إيران وتمويلها، على الجبهة الشرقية للوطن العربي. ويجد راهناً وريثُه بشار في دولة إيران سنداً قوياً كان حاسماً في معركة تمسّكه بكرسيه حتى هذه اللحظة. كانت رهانات الأسد الأب “صائبةً” بالقدر الكافي، ليسجل اسم عائلة مقترناً بسورية طوال الخمسين عاماً الماضية..

أما بحسابات الأرقام، فسورية خسرت كثيراً من تاريخها وحضارتها وفرص نموها، وكانت معزولة عن جوارها، ومفصولة عن التيار الحضاري، ورازحةً تحت خنق اقتصادي مقصود، بنهب كل ما فيها وتحويله إلى أرصدة جامدة في الخارج. سنوات الأسد الأب هي الركيزة الأساسية التي قادت إلى الحرب التي تعيشها سورية الآن، وكارثة السوريين الكبرى، بسبب سياسة إقصاء المجتمع وإخماد روحه، لتحويله إلى جوقة، جوقة أسدية منضبطة، لا يزال السوريون يحاولون كسرها، ونحن في الذكرى العشرين لوفاة مؤسّسها.

العربي الجديد

————————————

حافظ الأسد.. ثلاثة عقود في حكم سوريا

تقرير وكالة الصحافة الفرنسية حرفيا من بيروت،

بيروت, 9-6-2020 (أ ف ب) -حكم الرئيس السابق حافظ الأسد سوريا بقبضة من حديد على مدى ثلاثة عقود حتى وفاته في العاشر من حزيران/يونيو 2000.

أدناه أبرز المحطات التي طبعت مسيرته:

-تولي سدّة الحكم-

في 16 تشرين الثاني/نوفمبر 1970، نفّذ الأسد الذي تولّى منصب وزير الدفاع انقلاباً عسكرياً عُرف بـ”الحركة التصحيحية” وأطاح برئيس الجمهورية حينها نور الدين الأتاسي.

في 12 آذار/مارس 1971، انتخب الأسد الذي كان يترأس حزب البعث العربي الاشتراكي، رئيساً للجمهورية ضمن انتخابات لم يكن فيها مرشحٌ سواه.

وأصبح أول رئيس للبلاد من الطائفة العلوية، إحدى الأقليات الإسلامية التي تضمّ عشرة في المئة من تعداد السكان.

-الحرب ضد إسرائيل-

في السادس من تشرين الأول/أكتوبر 1973، شنّت مصر وسوريا هجوماً مفاجئاً على إسرائيل من جهة قناة السويس غرباً، ومرتفعات الجولان شرقاً، في محاولة لاستعادة ما خسره العرب من أراض خلال نكسة حزيران/يونيو 1967، لكن تمّ صدهما.

في أيار/مايو 1974، انتهت الحرب رسمياً بتوقيع اتفاقية فضّ الاشتباك في مرتفعات الجولان.

-التدخّل في لبنان-

في حزيران/يونيو 1974، زار الرئيس الأميركي ريتشارد نيكسون العاصمة السورية، معلناً إعادة إرساء العلاقات الدبلوماسية مع سوريا، بعدما كانت مجمّدة منذ العام 1967.

بعد عامين، تدخّلت القوات السورية في الحرب الأهلية اللبنانية بموافقة أميركية، بناء على طلب من قوى مسيحية محاصرة.

ومنذ أيار/مايو 1977، بدأت المواجهات بين القوات السورية، التي انتشرت في معظم أجزاء البلاد ما عدا المنطقة الحدودية مع إسرائيل، والقوات المسيحية التي احتجت على الوجود السوري في مناطق كانت تحت نفوذها.

وطيلة ثلاثة عقود، بقيت سوريا قوة مهيمنة على المستوى العسكري في لبنان وتحكمت بكافة مفاصل الحياة السياسية حتى انسحابها عام 2005.

-التباين مع العراق-

عام 1979، تدهورت العلاقات بين سوريا والعراق، اللذين حكمهما فرعان متنافسان من حزب البعث العربي الاشتراكي، بعد اتهام الرئيس العراقي آنذاك صدام حسين الوافد حديثاً إلى السلطة دمشق بالتآمر.

وقطعت بغداد علاقتها الدبلوماسية مع دمشق في تشرين الأول/أكتوبر 1980، بعدما دعمت الأخيرة طهران في نزاعها مع العراق.

-قمع وحشي –

في شباط/فبراير 1982، تصدى النظام السوري لانتفاضة مسلّحة قادها الإخوان المسلمون في مدينة حماه (وسط)، وذهب ضحيتها بين عشرة آلاف وأربعين ألف شخص.

وجاء ذلك بعد قرابة ثلاث سنوات من هجوم بالرصاص والقنابل اليدوية على الكلية الحربية في مدينة حلب، أدى إلى مقتل ثمانين جندياً سورياً من الطائفة العلوية. وتوجّهت حينها أصابع الاتهام إلى الإخوان المسلمين بالوقوف خلف الهجوم.

-تنافس أخوي-

في شهر تشرين الثاني/نوفمبر 1983، أصيب الأسد بأزمة قلبية نقل على إثرها إلى أحد مشافي دمشق. ودخل في غيبوبة لساعات عدّة، حاول خلالها شقيقه الأصغر رفعت الاستيلاء على السلطة عبر انقلاب فاشل، قبل أن يستعيد الأسد عافيته. وبعد عام، أُجبر رفعت على مغادرة سوريا.

-التودّد إلى الغرب-

خلال عامي 1990 و1991، بدأ الجليد الذي شاب علاقات سوريا مع الولايات المتحدة بالذوبان، عقب انهيار الاتحاد السوفياتي الذي وقعت سوريا معه اتفاقية صداقة وتعاون عام 1980.

انضمت سوريا إلى القوات المتعددة الجنسيات في التحالف الذي قادته الولايات المتحدة ضد صدام حسين بعد غزو العراق للكويت. وفي تشرين الأول/أكتوبر 1994، زار الرئيس الأميركي بيل كلينتون الأسد في دمشق.

بعد أربع سنوات، زار الأسد فرنسا في أول زيارة له إلى بلد غربي منذ 22 عاماً، واستقبل بحفاوة من نظيره الفرنسي جاك شيراك.

-تولي الإبن السلطة-

توفي الأسد في 10 حزيران/يونيو 2000، عن عمر ناهز 69 عاماً، وكان شيراك الرئيس الغربي الوحيد الذي حضر جنازته.

وبعد شهر، تولّى نجله بشار السلطة، بعد تعديل دستوري سمح له بالترشّح. وحاز في استفتاء لم يضم أي مرشح آخر سواه على 97 في المئة من الأصوات.

اشم-ايب/مون/لار/نور

—————————————

بذكرى وفاته الـ20.. هذا ما جرى للرضيع حافظ الأسد/ عهد فاضل

تحل اليوم الأربعاء، الذكرى العشرون لوفاة الرئيس السوري السابق، حافظ الأسد، والد بشار، رئيس النظام الحالي.

وأعلنت وفاة حافظ الأسد، في العاشر من شهر حزيران/ يونيو عام 2000، بعد تدهور في صحته، تناقلته وسائل الإعلام في ذلك الوقت، مشيرة إلى تغير واضح طرأ عليه، خاصة بعدما بدت عليه صعوبة في التكلم.

حافظ علي سليمان أحمد إبراهيم، هو الاسم الكامل للأسد الأب. الذي ولد في اللاذقية، عام 1930 لأسرة تنحدر من الطائفة العلوية. وتدّعي بعض أدبيات حزب البعث العربي الاشتراكي، أن جد الأسد الأكبر، إبراهيم، زعيم من أصول يمنية، أمّا لقب “الأسد” الذي حمله الأب والابن، فتقول نفس المصادر التي عمل البعثيون كثيرا على تأصيلها بشتى السبل، فإنه مكتسب عن سليمان، جد حافظ، حيث وصِف بالقوة البدنية والبطش.

تسلّم الأسد السلطة عام 1970، عندما كان وقتها رئيسا للوزراء. إلا أن الاستفتاء الذي جرى على شخصه، ليتسلم رئاسة البلاد، كان عام 1971، وهو التاريخ الرسمي لمنصب رئيس الجمهورية العربية السورية، الذي حمله الأسد الأب من عام1971 إلى 10 يونيو من عام 2000 تاريخ وفاته.

عاشق الحلويات المصاب بالسكري

وساورت الأطباء شكوك بإصابته بمرض في القلب، في الثاني عشر من شهر تشرين الثاني نوفمبر عام 1982، وأخضع للعناية المشددة في ذلك التاريخ، ليتبين أنه مصاب بمرض السكري، مع وجود اضطرابات في نبضات قلبه.

ويذكر باتريك سيل في كتابه “الأسد والصراع على الشرق الأوسط” أن حافظ الأسد كان يعشق تناول الحلويات، الأمر الذي فاقم لديه الإصابة بالسكري. وقال إنه ومنذ أيام شبابه، كان يشكو من صداع، ومن توتر يصيب إحدى عينيه.

كتب الكثير عن حافظ الأسد، فإضافة إلى شخصيته الإشكالية، فهناك السياق التاريخي الذي مهّد لمثل هذا النوع من الديكتاتوريات، كان حافظ أشهرها، والدموي الذي أنتج استقرارا على حساب بقية القيم الإنسانية والسياسية والأخلاقية الأخرى. ولهذا عندما مات، في مثل هذا اليوم، كان بعض السوريين غير مصدّق بأن مثل هذا الرعب يمكن له أن يموت، كما يموت أبناؤهم هم في سجونه أو تحت التعذيب في أقبيته. لكنه، ببساطة، مات.

من خلال بعض المصادر التاريخية، فإن حافظ الأسد، كان إشكاليا منذ البداية، بل منذ طفولته الأولى: تتحدث رواية عن أنه سقط في بئر عميقة، وتم إنقاذه منها.

جزء مجهول: سقط رضيعاً في بئر

تقول موسوعة “تاريخ العلويين في بلاد الشام منذ فجر الإسلام إلى تاريخنا المعاصر” إن ما وصفته بمآثر والدة حافظ الأسد، وتدعى ناعسة، أن سقط لها ابنٌ في بئر، فقامت ناعسة برمي نفسها إلى تلك البئر لإنقاذ ابنها. وبرواية الموسوعة فإن “مشيئة إلهية تبدّت لها أن هذا المولود سيكون له شأن عظيم في المستقبل”. وهو حافظ الأسد الذي كان يشكو، بحسب باتريك سيل، من صداع دائم، في شبابه، قد يكون بسبب ذلك السقوط في تلك البئر. خاصة وأن رواية تاريخ العلويين استخدمت كلمة “المولود” إشارة إليه، ما يرجح أنه عندما سقط، قد كان رضيعاً يحبو.

رواية تاريخ العلويين، غامضة عن سقوط الرضيع حافظ الأسد في بئر، ثم قيام أمه برمي نفسها فيها، لإنقاذه.

في المقابل، توجد رواية متداولة في الساحل السوري، عن الغضب الشديد الذي كان يميز والد حافظ، علي. الرواية تقول إنه تسبب بقتل ابنه كونه أضاع مبلغا ماليا، فصفعه وضربه أمام عامة الناس وأمام فتاة كان يبادلها الحب. تقول الرواية إن هذا الشاب، التقط بندقية الصيد ووضعها في فمه وانتحر بعد الإهانة التي تلقاها على يد والده.

حافظ، مزيج متعدد من الإشكاليات، وتزوّج فرفض. ذلك أن عائلة زوجته، أنيسة، من آل مخلوف، من إقطاع المنطقة القديم. أصر حافظ وتزوج بها. فعوقب وسجن، وساهمت بعض العائلات بإخراجه من محبسه على كفالتها. وبقي حافظ مخلصا لكل من ساهم بإخراجه من هذا الحبس، حتى آخر يوم في حياته.

الاحتفال بالمجزرة

تعبير باتريك سيل، عن مزيج العنف والعاطفة، ليس في شخص حافظ فقط، بل مجمل رجال نظامه، ينسجم مع مسيرة الرجل، طيلة حياته. مفرط القسوة والعنف مع الخصوم، يقتل، يفتك، يعدم، يصفي، أحداث محافظة “حماة” عام 1982، مثالاً، قتل فيها عشرات الآلاف، واحتفل أيضا بقتلهم. وهي من نوادر السياسة الدولية. عادة مثل مجازر “حماة” لا تكتب حتى في الدفاتر، ولا يتم الحديث بشأنها بعد دفن عشرات الآلاف من قتلاها. إلا مع حافظ: تم الاحتفال بما ارتكب فيها، حتى وقت قريب من وفاته، وكان طلاب مدارس سوريا يمتحنون فيها، بصفتها درساً تاريخيا!

مفرط العنف والدموية، ومفرط العاطفة. ومثل هذا الانقسام الحاد في الشخصية، يؤدي إلى صوغ ديكتاتور عنيف، مثله. هذا التطرف في التركيب، سببه عائلي. بحسب الرواية الرائجة في الساحل السوري عن انتحار شقيق لحافظ بسبب قسوة الأب، قد تفسح في المجال لتوقع التركيبة التي جاء منها.

كان حافظ يكنّي نفسه، بأبي سليمان، على اسم جدّه لا على اسم أبيه، علي. ولم يعرف السبب. هنا يمكن العودة إلى رواية الساحل السوري عن قساوة الأب وانتحار الابن.

لم يندم حافظ الأسد على أي عملية قتل جماعي ارتكبها بحق أي طرف سوري.

بشار سرّ أبيه

الجانب الآخر، للديكتاتور، العاطفة. كل من قدم خدمة لحافظ الأسد، كوفئ عليها أضعاف ما قدم. وتعود قوة علاقة حافظ الأسد، بفصيل سياسي مسلّح، كونه أعطاه معلومات عام 1968، عن مسعى فريق مخابراتي سوري، لخطف أولاده جميعا، ومنهم بشار، معاقبة له على دوره في ما يعرف بالنكسة سنة 1967. فأجهض المخطط وكافأ الطرف الواشي.

يتباكى البعض على زمن حافظ الأسد، لا حبا به، بل كرها بابنه بشار. بحسب آراء سوريين موالين أو بين بين. آخرون يقولون إن عنف حافظ الأسد أصبح هوية للنظام، فجاء بشار من بعده ورغم أنه طبيب، مارس العنف، كثقافة، كأسلوب، كتربية. وأيضا كان بشار كأبيه، يحتفل بالقتل الجماعي بحق شعبه، ويعتبره انتصاراً، هو الآخر.

فكما احتفل حافظ الأسد، بارتكابه مجزرة حماة، حتى وقت قريب من وفاته. كذلك بشار يحتفل بكل المجازر التي ارتكبها جيشه سواء في حلب أو ريف دمشق ريف حمص الشمالي، وأماكن أخرى منذ عام الثورة عليه في 2011. بحسب مراقبين يقولون إن الابن، حقاً، سرّ أبيه. ودمار سوريا على يد بشار، أدل ما يمكن في هذا السياق. بحسب آراء مختلفة.

————————————–

التاريخ الغامض لنظام الأسد… إزالة المعارضين وإخراج الروايات/ ماجد كيالي

ثمة تاريخاً غامضاً للنظام السوري، في الحقبة الأسدية، هو التاريخ المحجوب، لمصلحة سردية تحيل كل شيء في سوريا، للنظام الذي أسسه، أو سيطر عليه، حافظ الأسد…

تفتقر القصة التي أبطالها بشار الأسد الرئيس، وأسماء الأخرس زوجة الرئيس، ورامي مخلوف ابن خال الرئيس، إلى الحوادث الدرامية، المثيرة، والجاذبة، والتي تحرّض المخيّلة، على غرار الروايات الشيّقة التي قرأنا عنها، أو شاهدناها في المخيال السينمائي، والتي رصدت مؤامرات أو صراعات أو غراميات أو فروسيات سادة القصور، مثلاً، آل بوربون في قصر فرساي في فرنسا، وآل وندستور في قصر باكنغهام أو وندستور في بريطانيا، وآل رومانوف في قصر الكرملين أو “الشتاء” في روسيا.

في ذلك الافتقار يمكن الحديث عن أسباب، أهمها، أن تلك القصة تأتي في طور انحطاط النظام السياسي الأسدي في سوريا، وتكشف عن التحلّل الأخلاقي لأهل الحكم، الذين هيمنوا على حياة السوريين، منذ نصف قرن، لقبضهم على السلطة السياسية والأمنية والمالية في ذلك البلد، مع كل ما في ذلك من جشع وأنانية ورياء وغدر، كأن الأمر يتعلق بعصابة سيطرت على دولة، وفوق كل ما تقدم، لأن مخيلة السوريين لم تعد تتّسع لقصص كهذه، بعماد باتت تغص بقصص الهول السوري، القتل والاعتقال والتدمير والحرمان والتشرد.

ربما المّيزة الوحيدة لتلك القصة تتعلق بالشكل الذي يمكن أن تنتهي إليه، على غرار حكايات أخرى، مماثلة، ميّزت حقبة السلطة الأسدية، في التاريخ السوري. مثلاً، هل ستنتهي تلك القصة باغتيال مخلوف أو انتحاره أو اعتقاله أو نفيه، على نحو ما حصل مع غيره من أقطاب تلك السلطة، التي أكلتهم، ضمن ما أكلت من الشعب السوري، ومن تاريخ سوريا ومواردها؟

تاريخ محجوب

الفكرة هنا أن ثمة تاريخاً غامضاً للنظام السوري، في الحقبة الأسدية، هو التاريخ المحجوب، لمصلحة سردية تحيل كل شيء في سوريا، للنظام الذي أسسه، أو سيطر عليه، حافظ الأسد (1970)، عبر انقلاب عسكري سُمّي، مراوغة، “الحركة التصحيحية”، وتحت تغطية شعارات: الوحدة والحرية والاشتراكية، ومقاومة إسرائيل والإمبريالية، في حين أن ذلك الانقلاب أنجب واحداً من أكثر الأنظمة العربية تسلطاً وفساداً، في مختلف المجالات، ناهيك بأنه حول الجمهورية إلى نظام وراثي.

بدأت حكاية ذلك النظام مع تشكيل ما سمي “اللجنة العسكرية”، وكانت تضم مجموعة من الضباط من مثل صلاح جديد وحافظ الأسد وعبد الكريم الجندي وأحمد المير ملحم ومحمد عمران،

إلا أن أعضاء اللجنة العسكرية (ومعظم القادة السياسيين)، باستثناء أحمد المير، تمت إزاحتهم، بالقتل أو بالاعتقال أو بالنفي، بعد سيطرة الأسد (الأب) على السلطة، أي أنه بدأ حياته بالبطش برفاقه المقربين الذين ساهموا في صنعه وفي صعوده في الجيش. مثلاً، أمضى صلاح الجديد، الذي كان يعتبر أهم شخص في تلك اللجنة، 23 سنة في السجن إلى حين وفاته (1970- 1993)، وهذا ينطبق على عبد الكريم الجندي، الذي اختلف مع حافظ الأسد في فترة مبكرة، وكانت النتيجة أنه قضى نحبه بطريقة غامضة، في مكتبه بدمشق (يوم 2/3/1969)، وهو ما شهدناه في ما بعد مع مصرع رئيس الوزراء محمود الزعبي، وغازي كنعان وزير الداخلية. أما محمد عمران، فاغتيل في طرابلس (لبنان) يوم 14/3/1972. أيضاً ينطبق ذلك على اللواء احمد السويداني، رئيس أركان الجيش السوري في الفترة بين 1966 – 1968، الذي أمضى 25 عاماً في السجن (اعتقل عام 1969 لخلاف مع الأسد)، ولم يفرج عنه إلا قبيل وفاته، عام 1994.

طبعاً لم يكتف الأسد بإزاحة رفاقه في “اللجنة العسكرية”، وإنما استكمل ذلك بالإطاحة برفاقه في القيادة السياسية، أو قيادة حزب البعث. هكذا فبعد انقلابه تم اعتقال رئيس الجمهورية (وقتها) نور الدين الأتاسي، الذي كان تبوّأ منصبَي الأمين العام للحزب ورئيس الدولة، أيضاً، إذ أمضى 22 عاماً في السجن، ولم يطلق سراحه إلا بعدما تفشى مرض السرطان في جسده (توفي أواخر 1992). وقد حصل الأمر ذاته مع يوسف زعين، الذي كان من القيادات البارزة في الدولة والحزب، وشغل منصب رئيس الحكومة، إذ اعتقل 11 عاماً، وتم الإفراج عنه عام 1981 بسبب إصابته بالسرطان، ليغادر البلد للعلاج، وقد بقي خارج سوريا حتى وفاته (صيف 2016). وحصل الأمر ذاته مع ضافي الجمعاني، من القيادات القومية لـ”حزب البعث”، وهو أردني الجنسية، إذ أمضى 23 عاماً في السجن، وأطلق سراحه عام 1993 (توفي أوائل نيسان/ أبريل الماضي في الأردن).

شهدنا في فترة منتصف الثمانينات إزاحة رفعت الأسد، أخ الرئيس ونائبة للشؤون العسكرية، بطريقة ناعمة، اشتملت على تسوية مالية ونفي خارج البلد.

في أي حال فإن سيرة الأسد الأب، تكررت مع سيرة الأسد الابن في السلطة، ففي عهده (في ظل مرض الأسد الأب) تمت إزاحة القادة الكبار، رفاق الأسد الأب، من مثل علي دوبا وعلي حيدر وعلى أصلان، بطريقة ناعمة، كما تمت إزاحة عبد الحليم خدام، الذي غادر البلد، وحُجزت أمواله وممتلكاته.

وبشكل أكثر تحديداً، فإن عهد الأسد الابن شهد الكثير من حوادث الإزاحة الغامضة، ضمنها، مثلاً، مصرع محمود الزعبي، رئيس وزراء سوريا (1987- 2000)، في منزله، بادعاء أنه أقدم على الانتحار بعد وصول دورية أمنيه لأخذه إلى التحقيق لاتهامات بالفساد. وتكررت قصة الانتحار مع مصرع اللواء غازي كنعان (2005)، وزير الداخلية في حينه، والذي كان بمثابة حاكم للبنان، وذلك في مكتبه في الوزارة.

بيد أن القصة الأكثر غموضاً وإثارة للريبة تجلت في حادثة تفجير ما يسمى “خلية الأزمة” (صيف 2012)، في مكتب الأمن القومي بدمشق، والتي أدت إلى مصرع كل من: اللواء آصف شوكت صهر الرئيس، واللواء هشام الاختيار مسؤول الأمن القومي، واللواء حسن تركماني رئيس الأركان واللواء داوود راجحة وزير الدفاع، والتي تم التعتيم عليها في خضم الصراع السوري الجاري، وإخراجها بطريقة مريبة، إذ تم فيها التخلص من حلقة مهمة من القادة الأمنيين، الذين أثيرت حولهم الشكوك بشأن إيجاد بديل للأسد.

أيضاً، هناك قصة مقتل رستم غزالة (2015)، الذي كان واحداً من اهم أدوات النظام الأمنية البشعة، والذي كان اسمه يلقي الرعب في قلوب اللبنانيين، والطبقة السياسية في لبنان، إذ تم إخراج مقتله برواية عن خلاف “شخصي” بينه وبين اللواء رفيق شحادة، رئيس شعبة المخابرات العسكرية، نجم عنه قيام مرافقي شحادة بضربه ضرباً مبرحاً، أدى إلى مصرعه.

ولعل تلك القسوة والروح الاستئصالية، التي اتسم بها النظام الأسدي، تذكرنا بمسؤوليته عن مصرع مئات الآلاف، وتشريد ملايين السوريين، كما تذكرنا بمسؤوليته عن اغتيال الزعيم اللبناني كمال جنبلاط (1977)، ومفتي الجمهورية اللبنانية حسن خالد ورينيه معوض الرئيس اللبناني الأسبق (1989)، ثم الرئيس رفيق الحريري (2005) مع الوزير باسل فريحان، وأيضاً سمير قصير وجورج حاوي وجبران تويني وبيار الجميل ووليد عيدو وأنطوان غانم ووسام الحسن.

الآن، هل ستنتهي قصة رامي بمجرد نزع أملاكه، وعائلته، أم ستدخل في أطوار أخرى؟

درج

————————————

اقبروه! بدنا نعيش!/ يحيى العريضي

بعد يومين، يكون قد مرّ عقدان بالتمام والكمال على غياب جثة حافظ الأسد؛ ولكن هناك مَن لا يريده أن يموت. بهذه المناسبة، حضرت في ذهني رواية الكاتب الإنكليزي “جورج أرويل” 1984، التي يتحدث فيها عن انسحاق إنسان ذلك الزمن، الذي كتب عنه أرويل، أمام آلة الاستبداد.

يقول “أرويل”: ” ….. إن الطريقة الوحيدة لجعل (وينستون- أحد شخصيات روايته) يعتقد أن ٢+٢=٥، هي بكسرِه، وإلغاء شخصيته، وأي منظومة منطق أو محاكمة لديه؛ إلى درجة فقدانه تبرير ذاته لذاته”.

في سوريا، وبعد سنوات من الخوف والقتل والاعتقال والتدمير والتشريد والذل والإهانة والعوز؛ ما زال “ونستون” سوريا يقف إلى جانب مَن تسبب بكل ذلك؛ ولا يستطيع تجرع موت حافظ الأسد. فهل من أمل بأن يترك هكذا مُستَلَب ذلك المخلوق يموت؟! قبل الدخول بالمأمول المحتَّم أو القدري، لا بد من البحث في كيفية تشكُّل تلك الظواهر في /سوريا الأسد/ عبر رصد حوادث من “التربية العقائدية” التي أوصلت السوريين إلى حال كهذا، فأنتجت منظومات ذهنية غريبة سيطرت على عقل وموقف وسلوك أولئك البشر، وأي آلة جهنمية تكمن وراء سحق تلك الشخصية السورية بهذه الطريقة، كي تفعل ما تفعل.

تنقل الكاتبة الأميركية “ليز ويدن- Liz Weeden” في كتابها عن سوريا  The Ambiguities of Domination (غموض الهيمنة) رواية عن زيارة قام بها ضابط “التوجيه المعنوي” في “الجيش السوري”؛ وطلبه الاستماع إلى /أحلام/ ضباط تخرجوا حديثاً. قال الأول:

“يا سيدي رأيت القائد المفدى (يقصد الأسد) يشع بنوره في السماء، وبدأت أضع سلماً فوق سلم، وأصعد عليها؛ كي أقترب، وألمح وجهه الوضاء، والنور الذي يشع من محيّاه.”

زميله الثاني أراد أن يفوقه بقصة حلمه، فقال:

“لقد شاهدت القائد الخالد المفدى العظيم في السماء يمسك الشمس بيمينه فيدمرها، ويسود للحظة الظلام الحالك، ثم يشع نور لم أرَ مثله في حياتي، ويضيء الأرض والسما، وكان نور وجهه”.

في القصة نمذجة أساسية ميّزت الحياة السياسية السورية، تتمثل بمطلب النظام الخفي بأن يأتي المواطن بدليل خارجي يثبت ولاءه لمعبود الجماهير ويكرس طقوس الطاعة، حتى ولو كانت خلبيّة. تتجلى تلك الطقوس بسبغ الألقاب بشكل آلي لاشعوري على القائد؛ فهو “المعلم الأول” “المهندس الأول” “الطالب الأول” “الكيميائي الأول” “الفارس الأول” “محرر لبنان” “القائد الأبدي”؛ أي تحويله إلى أيقونة تخليد أبدية تجدها على الجدران والسيارات والمؤسسات، ويقال حتى في القلوب؛ فالمنظمات الشعبية والنقابات المهنية والمؤسسات الحزبية والأمنية والعسكرية والاقتصادية تتداعى لتمجيد القائد وتكريس العبادة في طقوس لا مثيل لها إلا في كوريا الشمالية.

في ظل كل ما حدث في سوريا، ظاهرة الانمساخ هذه تستدعي التفكير والبحث في كنه وطبيعة النمط الذهني السائد والمزمن لدى مواطنين لم يرهم النظام يوماً إلا جراثيم ومشاريع أعداء -إن هم خرجوا قليلاً عن مسار العبودية التي كرسها على مدار عقود زمنية. إن مسالة الخوف مفهومة، وحالات الخبث والتقية والكذب ليست عصية على الرصد؛ ولكن هل هناك نوع آخر من الخلق وصلوا إلى درجة من الانسحاق الذاتي، الذي عادة ما يصيب السجين أو الأسير أو الرهينة أو المختطف أو العبد، بحيث يطوّر في داخله نوعاً من القوة القمعية الداخلية التي تجعله يزرع شرطياً في دماغه يراقبه ويأمره ويتحكم بمسلكه حتى بمشاعره وأفكاره، ويدفع به باتجاه الخضوع والاستسلام لجلاده، ليرى فيه المنقذ والمخلّص والأقوى والأعظم؟!

لا شيء تمكّن من تغيير هكذا “عقول”؛ صعبٌ على هؤلاء أن يقبلوا أن حافظ الأسد شبع موتاً؛ لكن ما استُنسِخ عنه (وريثه) لم يشبع دماً بعد. يصعب على هؤلاء أن يدركوا أن هناك نسخة واحدة من حافظ الأسد لا تصلح لكل زمان ومكان وحدث إلا في العقول المخالفة للكينونة الآدمية ومسار حياتها. تلك البصمة الأسدية ليست قانوناً رياضياً أو فيزيائياً.

أرادت تلك “الأدمغة” أن تستنسخ حافظ الأسد بابنه باسل، ولكن القدر عاكسها؛ وماتت النسخة. ثم أتى الاستنساخ على طريقة “دولي”، فكانت صادمة. رغم ذلك لم ييأس المطبّلون. عام ثمانية وتسعين سمعت أحدهم يقول: “إننا نظلم بشار عندما نقارنه بباسل؛ فخلال عامين (من إعداده)، تجاوز ما فعله باسل بأعوام”.

بعد خمسة أعوام من حكم النسخة “دولي”، كان الخروج المُذل من لبنان؛ وكان الاهتزاز الأول لعرش الأسدية. بعدها بست سنوات، كان الاهتزاز الأكبر؛ حيث أن مجرد دخول قوى مسلحة خارجية لإنقاذ السلطة في سوريا، قد دقَّ المسمار الأكبر في نعش الأسدية، التي لم تهددها قوة خلال أربعة عقود. صمد عرش الاستبداد، لكن جذور بقائه اهتزت.

مع انطلاقة الثورة السورية، كانت اللعنات تنزل على البصمة الأساس: “حافظ”؛ فثأر له العبَدَة بالقتل والتدمير والاعتقال والتشريد لكل مَن لعن؛ والتصقوا أكثر بالمستنسخ كرما للبصمة الأساس. ونتيجة لمركبات النقص لدى “النسخة دولي”، شهد السوريون محاولات التميّز عند استخدام السلاح الكيماوي مع الاحتفاظ بتكرار سردية “المؤامرة الكونية” ومحاربة الإرهاب من دفاتر النسخة الأساس.

عشاق الأسدية وعبيدها استحضروا روح الأب المؤسس، لأنه يصعب عليهم التسليم بانتهاء تلك النسخة من الأسدية؛ فترى كثيرون منهم يقول: لو كان حافظ – أو حتى باسل- لسارت الأمور غير ذلك. وهذا أيضاً حَرَقَ الكثير من أوراق النسخة الممسوخة. لقد كان الحرق النهائي لتلك الروح، عندما قام مَن يعبدها بقتل السوري الآخر؛ ليس فقط انتقاماً لها، بل أملاً بعودتها وعدم التسليم بنهايتها.

ما يشهده السوريون مؤخراً -وربما العالم- هو أنه ولأول مرة ربما يدرك عَبَدة حافظ الأسد بأنه لن يعود. بقي ربما أن تُدفَن روحه التي تلبّستهم مع الجسد الراقد في القرداحة. وهاهم كأي سوري ينتظرون خلاصاً من نوع ما. ولكن لا بد لتلك  سوريا من لاعب إلى ملعب (تحليل إخباري)

الذكرى الـ20 لرحيل حافظ الأسد

إبراهيم حميدي

لم يشارك الرئيس فلاديمير بوتين في جنازة الرئيس الراحل حافظ الأسد قبل عقدين. لكن القوات الروسية باتت، في الذكرى العشرين لرحيله، موجودة في سوريا ومعززة بقواعد عسكرية، يطمح بوتين إلى توسيعها وتعزيزها بـ«إقامة ناعمة» في الاقتصاد والثقافة والسياسة.

حضر الرئيس التركي السابق نجدت سيزر في تشييع الأسد. وها هي قواته تنتشر حالياً في جيوب واسعة في شمال غربي سوريا وشمالها وشمالها الشرقي. كما هو الحال مع الرئيس الإيراني الأسبق محمد خاتمي، حيث إن «الحرس» الإيراني يقيم «دولة ظل» ويدرب وينشئ ميليشيات سورية وغير سورية. أيضاً، الجيش الأميركي موجود بعدته وقواعده في شرق الفرات، بعد عشرين سنة على مشاركة وزيرة الخارجية مادلين أولبرايت في الجنازة.

وعندما حضر الرئيس الفرنسي الراحل جاك شيراك أو وزير الخارجية البريطاني روبن كوك إلى دمشق لوداع الأسد، لم يتوقعا أن قوات بلديهما ستكون أيضاً في عداد التحالف الدولي الذي يملك سماء شمال شرقي سوريا ويمنع الطيران السوري منها.

التحالف يدعم في الأرض، حلفاءه من «قوات سوريا الديمقراطية» التي تضم «وحدات حماية الشعب» الكردية. هذه «الوحدات» التي تدرب بعض عناصر على أيدي «حزب العمال الكردستاني» وزعيمه عبد الله أوجلان، الذي يقيم في سجن تركي بعد قرار الأسد فتح الباب له للخروج من سوريا، لتجنب حرب مع تركيا في منتصف 1998. أيضاً، لم يكن الرئيس اللبناني الأسبق إميل لحود الذي كان آخر من تحدث مع الأسد قبل وفاته وأول الواصلين للإقامة في دمشق والمشاركة في العزاء، يتوقع أن يتدخل حليفه «حزب الله» في سوريا في 2012 للمساهمة في «إنقاذ النظام» وتنتشر قواته في مناطق مختلفة من سوريا ويكون صاحب الكلمة والهامش لـ«الدور السوري في لبنان»، في شكل تصاعدي بدءاً من مشاركة زعيمه حسن نصر الله في مراسم التشييع في القرداحة في يونيو (حزيران) قبل عقدين.

استعراض قائمة المشاركين في تشييع الرئيس الأسد بعد وفاته في 10 يونيو 2000، تدل على حجم التغيير الذي طرأ في سوريا ودورها. كانت لاعباً إقليمياً وتتمتع بعلاقات دولية واسعة، تحولت إلى ملعب تتصارع فيه دول إقليمية ودولية. كان «وكلاؤها» وعناصر جيشها وضباطه واستخباراته يقيمون في دول مجاورة وأخرى بعيدة. أما، الآن، فإن «وكلاء» الآخرين وجيوشهم يقيمون في أرضها وجوها.

– «التصحيح»

بعدما لعب دوراً في اللجنة العسكرية في حزب «البعث» الحاكم، نفذ بصفته وزيراً للدفاع في 16 نوفمبر (تشرين الثاني) انقلاباً عسكرياً عُرف بـ«الحركة التصحيحية» وأطاح برئيس الجمهورية حينها نور الدين الأتاسي ووضعه في السجن، ثم أصبح رئيساً في مارس (آذار) في العام اللاحق. وفي 6 أكتوبر (تشرين الأول) 1973، خاض مع الرئيس المصري أنور السادات «حرب تشرين» ضد إسرائيل، وقّع بعدها بسنة «اتفاق فك الاشتباك» مع إسرائيل في الجولان برعاية أميركية. وفي يونيو، زار الرئيس الأميركي ريتشارد نيكسون دمشق لاستعادة العلاقات الدبلوماسية المجمدة بعد «نكسة حزيران» 1967.

وأول تدخل خارجي مباشر لسوريا، كان في 1976 لدى دخول الجيش السوري في الحرب الأهلية اللبنانية بضوء أخضر أميركي ومباركة سوفياتية. وبعد ذلك بعام، انتشر في معظم الأراضي اللبنانية. بقيت القوات والاستخبارات السورية في لبنان إلى أبريل (نيسان) 2005، لدى خروجها وتنفيذها القرار 1559 تحت ضغوط دولية هائلة بعد اغتيال رئيس وزراء لبنان رفيق الحريري.

وإذا كانت العلاقات مع الجار الجنوبي، الأردن، اتخذت منحى آخر بعد تسلم الأسد السلطة من «اليسار» في «البعث»، فإن العلاقات مع الجار على الحدود الشرقية كانت أكثر تعقيداً. في عام 1979، اتهم الرئيس العراقي صدام حسين، الذي برز دوره في بغداد، الأسد بـ«التآمر». دخل البلدان، اللذان يحكمهما فرعان متنافسان لـ«البعث»، في صراع وتنافس وتآمر. لكن السنوات الأخيرة، من حكم الأسد شهدت عودة العلاقات التجارية بين البلدين بفعل حاجة الطرفين، ثم استئناف العلاقات الدبلوماسية التي قطعت في 1980 بعد دعم دمشق لطهران في الحرب العراقية – الإيرانية.

– «التوازن»

ومجرد وصول علي الخميني إلى الحكم بعد «الثورة» في طهران في 1979، فتحت صفحة استراتيجية في العلاقات السورية – الإيرانية ستترك آثارها في الشرق الأوسط لعقود. لكن الأسد، كان يوازنها في التسعينات بعلاقات مع «الحضن العربي» والدولتين العربيتين الكبيرتين، السعودية ومصر، وما عرف لاحقاً بـ«الحلف الثلاثي» السوري – السعودي – المصري، الذي شكل ركيزة أساسية للعمل العربي ووفّر خيمة لقرارات وتنسيق في منعطفات أساسية.

وفي فبراير (شباط) 1982، تصدى الأسد لانتفاضة قادها «الإخوان المسلمون» في مدينة حماة، وذهب ضحيتها بين عشرة آلاف وأربعين ألف شخص. وفي نهاية 1983، أصيب الأسد بأزمة قلبية نقل على إثرها إلى مستشفى في دمشق. وقتذاك، حاول شقيقه رفعت الاستيلاء على السلطة عبر انقلاب، قبل أن يستعيد الشقيق الأكبر عافيته. وبعد عام، أُجبر رفعت على مغادرة سوريا بتسوية إقليمية دولية. ولا يزال مقيماً في أوروبا رغم محاولته الانغماس بعد وفاة شقيقه في 2000.

– من دون غطاء

وبعد انهيار الاتحاد السوفياتي، الذي وقّعت سوريا معه اتفاقية صداقة وتعاون عام 1980، اتجه الأسد إلى الغرب وحسّن علاقته مع أميركا. هو كان امتنع عن توقيع اتفاق استراتيجي مع «السوفيات» أو إعطائهم قواعد عسكرية دائمة باستثناء ميناء صغير في طرطوس، كي يترك خياراته مفتوحة مع الغرب. واستفاد من هذا القرار بعد زيارته إلى موسكو في أيامه الأخيرة ولقائه الرئيس السوفياتي الأخير، ميخائيل غورباتشوف، حيث أيقن بانهيار حليفه الأكبر وضرورة الاتجاه غرباً بحثاً عن غطاء جديد. وفي بداية التسعينات، انضمت سوريا إلى القوات المتعددة الجنسيات في التحالف الذي قادته الولايات المتحدة ضد صدام بعد غزو العراق للكويت. وفي نهاية 1991، شاركت سوريا في افتتاح مؤتمر مدريد لإطلاق المفاوضات العربية – الإسرائيلية.

وفي أكتوبر 1994، التقى الرئيس الأميركي بيل كلنتون الأسد في دمشق التي كان زارها عشرات المرات وزراء خارجية أميركا لتطوير العلاقات الثنائية وتحريك مفاوضات السلام مع إسرائيل، علماً بأن الأسد كان يلتقي الرؤساء الأميركيين في جنيف. وبعد أربع سنوات، زار الأسد باريس في أول زيارة له إلى بلد غربي منذ 22 عاماً، واستقبل بحفاوة من شيراك، الذي لعب دوراً رئيسياً في فتح الباب أمام الأسد أوروبياً.

– 5 وزراء… 5 جيوش

قبل وفاة الأسد، كانت القوات السورية في لبنان، ودمشق صاحبة «كلمة السر» فيه. كانت سوريا جزءاً من المحور الثلاثي مع تركيا وإيران للتنسيق ضد إقامة كيان كردي شمال العراق. في الوقت نفسه، كانت ضمن مجموعة «إعلان دمشق» التي تضم السعودية ومصر والدول العربية و«الحلف الثلاثي» مع السعودية ومصر. كانت فتحت الباب مع صدام، وتركت معارضيه لديها.

كانت سوريا تستضيف المنظمات المعارضة لإسرائيل، وكانت تفاوض إسرائيل برعاية أميركية. وفي نهاية مارس عقدت قمة بين الأسد وكلنتون في جنيف في آخر محاولة لإنجاز السلام.

وفي ربيع 1996، كان في دمشق في آن واحد، وزراء الخارجية لخمس دول متناقضة المصالح، الأميركي والروسي والفرنسي والإيراني والاتحاد الأوروبي لإنجاز «تفاهم نيسان» بعد عملية «عناقيد الغضب» الإسرائيلية في جنوب لبنان.

الآن، سوريا خارج الجامعة العربية. هناك عزلة وعقوبات أميركية وأوروبية. فيها خمسة جيوش، الأميركي والروسي والإيراني والتركي والإسرائيلي (جواً). بعد احتجاجات 2011، نصف الشعب السوري خارج منازله و690 ألف ضحية وخسائر اقتصادية بقيمة 530 مليار دولار أميركي، حسب مركز أبحاث. فيها مظاهرات وأزمة غذاء ودواء وماء.

سوريا التي كانت تصارع في خارج حدودها، باتت مسرحاً لصراعات الآخرين. من لاعب إلى ملعب. ربما الشيء الوحيد الذي ارتفع سعره، هو الدولار الأميركي. كان يساوي 44 ليرة قبل عشرين سنة، أصبح الآن 3000 ليرة.

الشرق الأوسطالجثة أن تُدفَن؛ وأقصد الجثة العفنة التي تحتل أدمغتهم؛ وليُدفن “ونستون” معها. سوريا تقول لهؤلاء: ادفنوه! اقبروه! بدنا نعيش.

تلفزيون سوريا

——————————-

سوريا من لاعب إلى ملعب (تحليل إخباري)

الذكرى الـ20 لرحيل حافظ الأسد

إبراهيم حميدي

لم يشارك الرئيس فلاديمير بوتين في جنازة الرئيس الراحل حافظ الأسد قبل عقدين. لكن القوات الروسية باتت، في الذكرى العشرين لرحيله، موجودة في سوريا ومعززة بقواعد عسكرية، يطمح بوتين إلى توسيعها وتعزيزها بـ«إقامة ناعمة» في الاقتصاد والثقافة والسياسة.

حضر الرئيس التركي السابق نجدت سيزر في تشييع الأسد. وها هي قواته تنتشر حالياً في جيوب واسعة في شمال غربي سوريا وشمالها وشمالها الشرقي. كما هو الحال مع الرئيس الإيراني الأسبق محمد خاتمي، حيث إن «الحرس» الإيراني يقيم «دولة ظل» ويدرب وينشئ ميليشيات سورية وغير سورية. أيضاً، الجيش الأميركي موجود بعدته وقواعده في شرق الفرات، بعد عشرين سنة على مشاركة وزيرة الخارجية مادلين أولبرايت في الجنازة.

وعندما حضر الرئيس الفرنسي الراحل جاك شيراك أو وزير الخارجية البريطاني روبن كوك إلى دمشق لوداع الأسد، لم يتوقعا أن قوات بلديهما ستكون أيضاً في عداد التحالف الدولي الذي يملك سماء شمال شرقي سوريا ويمنع الطيران السوري منها.

التحالف يدعم في الأرض، حلفاءه من «قوات سوريا الديمقراطية» التي تضم «وحدات حماية الشعب» الكردية. هذه «الوحدات» التي تدرب بعض عناصر على أيدي «حزب العمال الكردستاني» وزعيمه عبد الله أوجلان، الذي يقيم في سجن تركي بعد قرار الأسد فتح الباب له للخروج من سوريا، لتجنب حرب مع تركيا في منتصف 1998. أيضاً، لم يكن الرئيس اللبناني الأسبق إميل لحود الذي كان آخر من تحدث مع الأسد قبل وفاته وأول الواصلين للإقامة في دمشق والمشاركة في العزاء، يتوقع أن يتدخل حليفه «حزب الله» في سوريا في 2012 للمساهمة في «إنقاذ النظام» وتنتشر قواته في مناطق مختلفة من سوريا ويكون صاحب الكلمة والهامش لـ«الدور السوري في لبنان»، في شكل تصاعدي بدءاً من مشاركة زعيمه حسن نصر الله في مراسم التشييع في القرداحة في يونيو (حزيران) قبل عقدين.

استعراض قائمة المشاركين في تشييع الرئيس الأسد بعد وفاته في 10 يونيو 2000، تدل على حجم التغيير الذي طرأ في سوريا ودورها. كانت لاعباً إقليمياً وتتمتع بعلاقات دولية واسعة، تحولت إلى ملعب تتصارع فيه دول إقليمية ودولية. كان «وكلاؤها» وعناصر جيشها وضباطه واستخباراته يقيمون في دول مجاورة وأخرى بعيدة. أما، الآن، فإن «وكلاء» الآخرين وجيوشهم يقيمون في أرضها وجوها.

– «التصحيح»

بعدما لعب دوراً في اللجنة العسكرية في حزب «البعث» الحاكم، نفذ بصفته وزيراً للدفاع في 16 نوفمبر (تشرين الثاني) انقلاباً عسكرياً عُرف بـ«الحركة التصحيحية» وأطاح برئيس الجمهورية حينها نور الدين الأتاسي ووضعه في السجن، ثم أصبح رئيساً في مارس (آذار) في العام اللاحق. وفي 6 أكتوبر (تشرين الأول) 1973، خاض مع الرئيس المصري أنور السادات «حرب تشرين» ضد إسرائيل، وقّع بعدها بسنة «اتفاق فك الاشتباك» مع إسرائيل في الجولان برعاية أميركية. وفي يونيو، زار الرئيس الأميركي ريتشارد نيكسون دمشق لاستعادة العلاقات الدبلوماسية المجمدة بعد «نكسة حزيران» 1967.

وأول تدخل خارجي مباشر لسوريا، كان في 1976 لدى دخول الجيش السوري في الحرب الأهلية اللبنانية بضوء أخضر أميركي ومباركة سوفياتية. وبعد ذلك بعام، انتشر في معظم الأراضي اللبنانية. بقيت القوات والاستخبارات السورية في لبنان إلى أبريل (نيسان) 2005، لدى خروجها وتنفيذها القرار 1559 تحت ضغوط دولية هائلة بعد اغتيال رئيس وزراء لبنان رفيق الحريري.

وإذا كانت العلاقات مع الجار الجنوبي، الأردن، اتخذت منحى آخر بعد تسلم الأسد السلطة من «اليسار» في «البعث»، فإن العلاقات مع الجار على الحدود الشرقية كانت أكثر تعقيداً. في عام 1979، اتهم الرئيس العراقي صدام حسين، الذي برز دوره في بغداد، الأسد بـ«التآمر». دخل البلدان، اللذان يحكمهما فرعان متنافسان لـ«البعث»، في صراع وتنافس وتآمر. لكن السنوات الأخيرة، من حكم الأسد شهدت عودة العلاقات التجارية بين البلدين بفعل حاجة الطرفين، ثم استئناف العلاقات الدبلوماسية التي قطعت في 1980 بعد دعم دمشق لطهران في الحرب العراقية – الإيرانية.

– «التوازن»

ومجرد وصول علي الخميني إلى الحكم بعد «الثورة» في طهران في 1979، فتحت صفحة استراتيجية في العلاقات السورية – الإيرانية ستترك آثارها في الشرق الأوسط لعقود. لكن الأسد، كان يوازنها في التسعينات بعلاقات مع «الحضن العربي» والدولتين العربيتين الكبيرتين، السعودية ومصر، وما عرف لاحقاً بـ«الحلف الثلاثي» السوري – السعودي – المصري، الذي شكل ركيزة أساسية للعمل العربي ووفّر خيمة لقرارات وتنسيق في منعطفات أساسية.

وفي فبراير (شباط) 1982، تصدى الأسد لانتفاضة قادها «الإخوان المسلمون» في مدينة حماة، وذهب ضحيتها بين عشرة آلاف وأربعين ألف شخص. وفي نهاية 1983، أصيب الأسد بأزمة قلبية نقل على إثرها إلى مستشفى في دمشق. وقتذاك، حاول شقيقه رفعت الاستيلاء على السلطة عبر انقلاب، قبل أن يستعيد الشقيق الأكبر عافيته. وبعد عام، أُجبر رفعت على مغادرة سوريا بتسوية إقليمية دولية. ولا يزال مقيماً في أوروبا رغم محاولته الانغماس بعد وفاة شقيقه في 2000.

– من دون غطاء

وبعد انهيار الاتحاد السوفياتي، الذي وقّعت سوريا معه اتفاقية صداقة وتعاون عام 1980، اتجه الأسد إلى الغرب وحسّن علاقته مع أميركا. هو كان امتنع عن توقيع اتفاق استراتيجي مع «السوفيات» أو إعطائهم قواعد عسكرية دائمة باستثناء ميناء صغير في طرطوس، كي يترك خياراته مفتوحة مع الغرب. واستفاد من هذا القرار بعد زيارته إلى موسكو في أيامه الأخيرة ولقائه الرئيس السوفياتي الأخير، ميخائيل غورباتشوف، حيث أيقن بانهيار حليفه الأكبر وضرورة الاتجاه غرباً بحثاً عن غطاء جديد. وفي بداية التسعينات، انضمت سوريا إلى القوات المتعددة الجنسيات في التحالف الذي قادته الولايات المتحدة ضد صدام بعد غزو العراق للكويت. وفي نهاية 1991، شاركت سوريا في افتتاح مؤتمر مدريد لإطلاق المفاوضات العربية – الإسرائيلية.

وفي أكتوبر 1994، التقى الرئيس الأميركي بيل كلنتون الأسد في دمشق التي كان زارها عشرات المرات وزراء خارجية أميركا لتطوير العلاقات الثنائية وتحريك مفاوضات السلام مع إسرائيل، علماً بأن الأسد كان يلتقي الرؤساء الأميركيين في جنيف. وبعد أربع سنوات، زار الأسد باريس في أول زيارة له إلى بلد غربي منذ 22 عاماً، واستقبل بحفاوة من شيراك، الذي لعب دوراً رئيسياً في فتح الباب أمام الأسد أوروبياً.

– 5 وزراء… 5 جيوش

قبل وفاة الأسد، كانت القوات السورية في لبنان، ودمشق صاحبة «كلمة السر» فيه. كانت سوريا جزءاً من المحور الثلاثي مع تركيا وإيران للتنسيق ضد إقامة كيان كردي شمال العراق. في الوقت نفسه، كانت ضمن مجموعة «إعلان دمشق» التي تضم السعودية ومصر والدول العربية و«الحلف الثلاثي» مع السعودية ومصر. كانت فتحت الباب مع صدام، وتركت معارضيه لديها.

كانت سوريا تستضيف المنظمات المعارضة لإسرائيل، وكانت تفاوض إسرائيل برعاية أميركية. وفي نهاية مارس عقدت قمة بين الأسد وكلنتون في جنيف في آخر محاولة لإنجاز السلام.

وفي ربيع 1996، كان في دمشق في آن واحد، وزراء الخارجية لخمس دول متناقضة المصالح، الأميركي والروسي والفرنسي والإيراني والاتحاد الأوروبي لإنجاز «تفاهم نيسان» بعد عملية «عناقيد الغضب» الإسرائيلية في جنوب لبنان.

الآن، سوريا خارج الجامعة العربية. هناك عزلة وعقوبات أميركية وأوروبية. فيها خمسة جيوش، الأميركي والروسي والإيراني والتركي والإسرائيلي (جواً). بعد احتجاجات 2011، نصف الشعب السوري خارج منازله و690 ألف ضحية وخسائر اقتصادية بقيمة 530 مليار دولار أميركي، حسب مركز أبحاث. فيها مظاهرات وأزمة غذاء ودواء وماء.

سوريا التي كانت تصارع في خارج حدودها، باتت مسرحاً لصراعات الآخرين. من لاعب إلى ملعب. ربما الشيء الوحيد الذي ارتفع سعره، هو الدولار الأميركي. كان يساوي 44 ليرة قبل عشرين سنة، أصبح الآن 3000 ليرة.

الشرق الأوسط

————————————-

من حافظ الأسد إلى حسن نصرالله/ يوسف بزي

“مؤتمر قمة الصمود والتصدي الخامس يبدأ أعماله في بنغازي. القائد الأسد يجري سلسلة من الاجتماعات مع قادة الصمود لدراسة التطورات الخطيرة وتعزيز الموقف العربي في مواجهة الأخطار الناجمة عن تصعيد الهجمة الامبريالية الصهيونية على الوطن العربي ولزيادة القدرة العربية على الصمود والتصدي. اهتمام عربي وعالمي كبير بدعوة القائد الأسد إلى إحباط المخططات الأميركية”.

من يتخيل أن هذه الفقرة بأكملها كانت “مانشيت” صحيفة “تشرين” السورية ذات يوم من العام 1981؟! وقد نشر صورتها على الفايسبوك الشاعر والطبيب الحلبي فؤاد محمد فؤاد، تدليلاً على أن بؤس حالنا وفجور أنظمتنا وتهافت سياساتنا (وإعلامنا) ليس صنيع اليوم، بل هو مديد وقديم ومستأنف ابتذالاً وضحالة وقهراً عنيفاً ومُذِلّاً من غير خلاص ولا خاتمة.

على الأرجح، هي المانشيت الأطول في تاريخ الصحافة. والمؤكد أنها هي نفسها تتكرر انمساخاً وتحويراً منذ خمسين عاماً في خطب “القادة” أو عناوين الصحف ومقالاتها وافتتاحيات النشرات الإخبارية التلفزيونية والإذاعية. ومن نسلها أيضاً هتافات التأييد والمبايعة. ومن فتاتها “التغريدات” و”البوستات” لجماهير الممانعة. ومن وحيها الأغاني “الوطنية” والقصائد النضالية. وعلى منوالها كُتبت أطروحاتنا الجامعية. بل على هديها تتوالى قوافل “الشهداء”، وتتربى الأجيال وترسم مستقبلها.

بهذا الهراء الكامل اقتيدت شعوب عربية إلى مسالخ الحروب، وإلى خراب عمرانها واقتصادها وعلمها وتبديد ثرواتها ودفن ملايين قتلاها، واستبيحت كراماتها، وسحقت بالطغيان والقمع. بهذا الكذب الفاحش صُنع ماضينا التراجيدي البائس ويُصنع حاضرنا المنحط والمدقع. بهذا اللغو الأجوف العديم الخيال، تقرر مصيرنا مرات ومرات موتاً وتشريداً وإفقاراً وخيبات ساحقة. بهذه الكلمات الخالية من المعنى، حكمتنا زمرة من القساة والعنيفين والدمويين، وأخذتنا عمداً إلى المهانة اليومية، أو الموت بالبراميل أو بتنشق الغازات السامة.

على مثال عنوان صحيفة “تشرين” وصورته، أتتنا “الانتصارات الإلهية” وأصحابها الذين ارتقوا ممارسة وأداء في الاستبداد والجريمة والإرهاب واحتراف “الصمود والتصدي” كعقيدة أو هوس جنوني في مقارعة العالم، إصراراً على تصنيع البؤس والخراب وتعميمهما.

من رحم هذا الهذر الخاوي والقاتل، تستأنف “الممانعة” سياستها وخطابها اليوم في لبنان وسوريا، على نحو عنيد وبعدوانية أشد وأمضى، وتجدد حروبها وفتنها وضغائنها ودسائسها.

ومن تلك اللغة الميتة الجوفاء، وقد حُقنت بعصبية دينية مذهبية وثأرية، تجدد الممانعة خطابها الذي نسمعه اليوم، تهديداً ووعيداً ينزل مصائب يومية تحيلنا إلى كائنات تحلم بالهجرة أو بتأمين قوت يومي وحسب. كائنات تنام على كوابيس حروب أهلية وتستفيق على مستقبل مظلم.

من مانشيت “تشرين” الملحمي والمبتذل إلى الإطلالات التلفزيونية المهيبة والمشؤومة، ارتسم تاريخنا كله خالياً من الكرامة الإنسانية

المدن

=========================

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى