أبحاث

الليبرالية السياسية في الثورات العربية/ عمر كوش

(1/2)

دشّنت الثورات العربية، والتي انطلقت من تونس في 17 كانون الأول/ ديسمبر 2010، بداية لحظة استفاقة الحرية في البلدان العربية، وذلك بعد أكثر خمسين سنة من هيمنة الأنظمة الديكتاتورية والشمولية الكليانية، والرثّة والفاسدة، على مقاليد السلطة ومقدّرات الدولة في هذه البلدان التي وصلت إليها بانقلابات عسكرية، كانت دموية في الغالب، وقضت على تجارب نظم ليبرالية ديمقراطية ودستورية، كانت في طور النشوء والتجذّر، في كل من مصر وبلاد الشام، وسواهما.

ومع امتداد الثورات إلى كل من ليبيا ومصر واليمن وسورية، أعادت شعارات المحتجين الاعتبار لمفاهيم (وقيم) الحرية والديمقراطية والدستور والتعددية السياسية وسوى ذلك، وجرت خلال السنوات القليلة الماضية محاولاتٌ لاعادة النظر في مفهوم الدولة بشكل عام، هذه التي تشكلت في مختلف صورها وأقلماتها في الحالة العربية، والأسس التي بُنيت عليها، وفي نموذج الدولة الدستورية الديموقراطية التي أسس لها مفكرو “عصر النهضة العربي”، في كل من سورية ومصر وتونس وسواها، الأمر الذي يفرض على المفكرين والباحثين إعادة النظر في أقلمات مفاهيم الحرية والديمقراطية والمواطنة والفكرة الدستورية، ودراسة ارتباطها بالليبرالية على مختلف الصعد، إضافة إلى دراسة العناصر التكوينية لبنية الدولة الليبرالية الديموقراطية التي تتنفس في النصوص التنويرية النهضوية، وكانت تتكرّر لازمةً في الحديث عن الدولة الوطنية.

وشكلت الشعارات التي رفعت في الثورات العربية، وخصوصا في الثورة السورية، ظاهرة غنية ومبدعة، تدعو إلى التأمل والبحث عن مكنونات مخزونها ومصادره التي تنهل من ذاكرة الإنسان السوري، ومما أنتجه عقله، رداً على سنوات الرعب والصمت والقهر والإذلال والكبت والحرمان من مختلف أشكال التعبير، وخصوصا التعبير السياسي، في ظل عهود الاستبداد الثقيلة.

وتتحدّد مرحلة التأسيس والتظاهر السلمي في الثورة السورية بفترة معينة، تبدأ من الشرارة الأولى للثورة مع مظاهرة الحريقة في 17 فبراير/ شباط 2011، في القلب التجاري للعاصمة دمشق، ثم انطلاقتها الفعلية في تظاهرة سوق الحميدية، ثم في درعا البلد بتاريخ 18 مارس/آذار 2011.

وتمتد مرحلة التأسيس والتظاهر السلمي على طوال سبعة أشهر، أو أكثر قليلاً، وتميّزت بمظاهرات واسعة وبالحراك السلمي لناس عزّل، وتنتهي في جمعة “ماضون حتى إسقاط

النظام”، في 16 سبتمبر/ أيلول 2011، ورفعت خلالها شعارات عديدة، أهمها: “عندما نُقتل.. نزداد إصراراً”، و”عندما نُعتقل.. نزداد إصراراً”، والأهم هو شعار “الثورة انطلقت.. ولن يوقفها، سوى إسقاط النظام”، بوصفه الشعار الذي نفترض أنه أعلن اكتمال مرحلة التظاهر السلمي في الثورة السورية، وسيرها نحو مسارات متعدّدة ومختلفة.

ولا تغادر لغة شعارات الثورة السورية ومركباتها تأثيرات الثورات العربية الأخرى، لكنها أظهرت عمق ارتباطها بجذورٍ عميقة، تمتد إلى المخزون الثقافي السوري، وتنهل من المعرفي والحسّي، السياسي والاجتماعي، ومن خلال ارتباطها بالزمن السوري الضارب عميقاً في التاريخ، وفي الوجدان الإنساني، حيث الأشواق والأمنيات والأحلام، ترقد دافئةً في ثنايا الذاكرة الجمعية.

وصدحت حناجر المحتجين في التظاهرات السلمية بشعاراتٍ عفويةٍ أحياناً، ومفكّر فيها في غالب الأحيان، لكنها اكتسبت حمولاتٍ عديدةً مع تحول التظاهرات اليومية إلى مشهدياتٍ بصريةٍ وجسدية، وتشكيلاتٍ فنية، تمازجت فيها شعارات الثورة الجديدة وأغانيها مع ما يختزنه الموروث الشعبي، من أغانٍ وأهازيج وعراضات، محلية شعبية، مع ابتكاراتٍ فنيةٍ جديدة، لم تشهد سائر ثورات العالم الحديث مثيلا لها.

وركزت الشعارات المرفوعة على الحرية والكرامة، حيث انطلق شعار “الشعب السوري ما بينذل” بوصفه أول شعار في الثورة السورية، هتفت به جموع من السوريين في منطقة الحريقة في دمشق، وتأقلم الشعار نفسه في درعا في صيغة “الموت ولا المذلة”، بعد سقوط عدد من الشهداء، ثم تحولت لغة الشعارات من رفض المذلة وإعلاء قيمة الكرامة، وتفضيل الموت على الخضوع، إلى المطالبة بالحرية، وجعلها مقام تشييد للغة الثوار، وذلك بالتلازم مع رفض الاستمرار في العيش في ظل الوضع القائم. وبات شعار “الله سورية حرية وبس”، يكمل ثنائية الكرامة والحرية، بوصفهما مركبي التأسيس للثورة السورية.

وقد نظر الفيلسوف الألماني، مارتن هايدغر، إلى اللغة، بوصفها “مسكن الوجود الذي يقيم في كنفها الإنسان”، وأحد المكوِّنات الأساسية التي لا تشكل وسيلة للتواصل بين الناس فحسب، بل إطارًا ينظم المفاهيم الثقافية والسياسية والاجتماعية التي تشكل المنظومة الفلسفية لمجتمعٍ ما. ولعل من بين هذه المفاهيم ما يرتبط، إلى حد ما، بمسألة “رمزية” اللغة، وهي مسألة يغوص فيها البشر من دون إدراك لها، أي بشكل لا واعٍ.

وفي شعارات التأسيس للثورة السورية، اختُصر الشعار السياسي في أبسط صوره، في كلمةٍ واحدة، هي “حرية”، يؤطّرها الترداد وحركات الأيادي والأجساد، وتصدح بها حناجر المحتجين، صغاراً وكبار، نساء ورجالاً.

ويستمد اقتضاب الشكل روحيته من تركيب المعنى، بالنظر إلى أن هذا اللفظ البسيط يحيل، في البداية، إلى معرفة ثقافية خاصة في اللغة العربية، لكن هذه المعرفة تتجاوز حدود ما تمثله الدائرة اللسانية، لأنه اكتسب بعداً عربياً ثم بعداً عالمياً. والفضل يعود إلى الثورات العربية في تحول الشعار إلى مفهومٍ له أبعاد إجرائية متنوعة على مستوى القراءة، حتى باتت كلماتٌ مثل “حرية” و”ارحل” مقروءة عالمياً، وغدا كل منها علامةً من غير تركيب، تقترح خطاباتٍ عالمية، وتدرك ضمن المقولات المشكلة.

ولا يغيب عن لغة شعارات الثورة عنصرا الذات والذاكرة، فـ “أنا” المحتج ليست حاضرةً في صرخاته فقط، بل حاضرة في أكثر من خطاطة وشعار، مثل شعار “علمني التاريخ.. الذي يكتب بالدم لا يمحى”، وتحول العديد منها إلى مقولاتٍ مفهوميةٍ في الثورة، حولت أصحابها إلى أيقونات.

كوجيتو الثورة

شكلت الصرخة التي خرجت من أعماق أحمد عبد الوهاب “أنا إنسان.. ماني حيوان”

كوجيتو الثورة السورية بامتياز، ودخلت قاموسها الفلسفي، بوصفها المفهوم – الحدث المؤسس للثورة التي انبثقت عن حراك احتجاجي سلمي عام، احتجاجاً على ممارسات النظام. وراح أبناؤها ينشدون الأغاني ويردّدون الشعارات، ويطالبون بالخلاص من ثقل الاستبداد المقيم على صدورهم.

ومثل عامة السوريين، فإن أحمد عبد الوهاب لا يتعدى عن كونه إنساناً ينشد الحرية واسترجاع كرامته، وهو ليس فيلسوفاً ولا عالماً، بل شابٌ وجد نفسه في الثورة السورية، بوصفها المكان الذي تحقق فيه كينونته، ثم تحول فيها إلى أيقونةٍ من أيقوناتها، بعد أن دشنت عبارته كوجيتو كينونة الثورة، بوصفها مفهوماً رصفت مركباته مقام الثورة، ودمجت عناصره الذات والذاكرة، وأعلن اكتشاف الذات والصوت واللسان، الأمر الذي يشي بأن “أنا” المحتج باتت حاضرةً ليس فقط في صرخاته، بل حاضرة كذلك في لغة الشعارات والكتابات التي خطها أطفال درعا ومبدعو كفرنبل، وزينوا فيها شوارع وساحات في سورية.

ويمكن استخراج من عبارة: “أنا إنسان.. ماني حيوان” معان ومركباتٍ ودلالاتٍ كثيرة لا حصر لها، ونحملها بحمولاتٍ متعدّدة، تتكاثر أو تتكثر مكوناتها وتتوالد الواحدة من الأخرى، بتغير الفعل وزمنه، والفاعل وضميره، أو بتغيير صيغة الجملة. ذلك أن اللغة العربية، شأن لغاتٍ كثيرة، تمتلك سياقات كثيرة بمعنى واحد أو بمعان كثيرة، هذه القدرة الهائلة على استخراج التعدّد والاختلاف في المعاني والدلالات، أسماها الفلاسفة القدرة على التفلسف.

في هذه العبارة، يؤسس كوجيتو الثورة السورية مفهوماً فلسفياً، أو لنقل مفهوماً ثورياً، يمكن استعراض مستويين يؤطّرانه، الأول: في صيغة “أنا إنسان” التي تجمع بين الذات والوجود الإنساني، إذ حين تُمتهن الكرامة يعتصر القلب ألماً، ويصرخ الإنسان بكل جوارحه: أنا إنسان، بوصفها مقولة تأكيد وجود حرّ. أما المستوى الثاني، فيتحدّد في صيغة “ماني حيوان” التي تنفي عن الإنسان الفرد صفة الحيوانية، ليس انتقاصاً من الحيوان، بل تمييزاً عنه، بامتلاك الكرامة. ومن يمتلك الكرامة يشعر بوجوده الإنساني المعزّز، ويتحرّر من العبودية، حيث الكرامة والحرية، هما مركبا التأسيس في الثورة السورية، جمعتهما أنا الثائر كي تجسد كينونته، فالوجود هنا وجود كينونة، والكرامة هي كرامة إنسانية. لذلك نهضت الثورة السورية على كينونة حرة، رافضة للإذلال والإهانة، الأمر الذي يفسّر أن شعار التأسيس، منذ الشرارة الأولى للثورة، انطلق في صيغة “الشعب السوري ما بينذل” في ساحة الحريقة، في قلب دمشق، ثم وجد أقلمته في مدينة درعا في صيغة “الموت ولا المذلة”، وترادف مع شعار “حرية .. حرية”، حين راحت جموع المحتجين العزّل تردّده في سائر أحياء المدن وشوارع البلدات والمناطق السورية.

ويحيل المستوى الأول لكوجيتو الثورة السورية على الذات الإنسانية الحرّة التي يكتمل وجودها في المستوى الثاني، بوصفه وجود كينونةٍ كريمةٍ أيضاً، ولا أسبقية فيما بين مكونات الكوجيتو، بل ترابط، لا يحيل إلى بناء تراتبيةٍ ما، حيث الكرامة والحرية هما شرطا تحقق الكينونة، فيما الثورة فعلٌ هادفٌ لتحقق الحرية والتحرر، أي شرط تحقق للكينونة، بوصفه شرط وجود الذات، وناظم علاقتها وجودها بالآخر، والعالم والأشياء، وضمن ذلك وجود الوطن والبشر والإقليم والتاريخ.. إلخ.

وعلى الإجمال، يحيل كوجيتو الثورة السورية ذاته إلى قول إشاري حواري، يأخذ صيغة جملةٍ شرطية، ويحتوي على مكونات الكينونة والحرية والكرامة التي تتجسّد في قول: “أنا إنسان ماني حيوان”، بوصفه مفهوماً، تقدّم مكوناته ومركباته نفسها في مركبات قيم تستند إلى الموروث الإنساني، وليس فقط إلى الموروث الثقافي السوري. أما مرجعها فيعود إلى مفاهيم الليبرالية والحداثة وإنجازاتها المعرفية المتعددة.

فهم الثورات

ربما من الأهمية النظرية، أن نمعن النظر ونوسع التفكير في الجوانب الدالة على مطالب

الحرية ومركباتها في الثورات العربية، وعلى أقلمات مختلف قيم الليبرالية السياسية، وأن نسبر مكنوناتها في التراث التنويري الليبرالي في بلداننا، كي لا نقع في التفسير الشائع للثورات، وتفسيراتها الاقتصادوية والتنموية وسواها، والتي تقودنا إلى استنساخ مقولات الهيغلية والماركسية وسواهما، بوصفها مقولاتٍ متقادمة، كان لها وجاهتها وأهليتها في عصر معين، لكنها لا تصلح في عصر الثورات العربية، وليس هذا مجالها. مع ذلك، لم يمنع لجوء بعض الباحثين والكتاب إلى استنساخ مقولاتٍ من العدّة المعرفية القديمة لتراث الثورات الأخرى، وأسقطوها على الثورات العربية.

وظهرت الثورات العربية التي قادها الشباب، بوصفها ثورات جمهورٍ عام، مشتتٍ ولا مركز له، جسمه الأساسي تشكّل من مجموعات كبيرة من أفراد، معظمهم من الشباب، انخرطوا في أشكالٍ تنظيمية جديدة، تجسّدت في التنسيقيات واللجان المحلية، وليس في أحزابٍ وتنظيماتٍ تقليدية، إذ لم تكن الأحزاب السياسية سوى كيانات التحقت بالثورات، بغية استغلالها والركوب على ظهرها، وبالتالي أعلنت التنسيقيات واللجان عن ظهور هياكل تنظيمية مرنة، لا يجمع أعضاءها سوى تنسيق العمل، والتحضير لمختلف فعاليات الحراك الاحتجاجي اليومي والأسبوعي، وخصوصا تنظيم المظاهرات في الساحات والشوارع، وكتابة الشعارت المطالبة بالتغيير السياسي وسواه.

ولم ترفع الثورات العربية شعارات قومية أو دينية، ولا يسارية أو يمينية، بل رفعت شعارات الليبرالية السياسية، وعملت على أقلمتها وفق فسحات المجال التداولي العربي، على الرغم من أنها لا تسنتد إلى تراث تنويري وإصلاحي عميق ومتجذّر، كما الثورات الليبرالية الأوروبية الحديثة، ولكن ذلك لا يلغي تأثيرات تراث التنويريين والنهضويين في ذلك العصر الذي عُرف باسم “عصر النهضة العربي”، وما تلاه من محاولات تحرّرية، للخلاص من براثن الاستبداد.

ولعل من الأمور الأساسية، في أيامنا هذه، أن نفهم الثورات التي اجتاحت دول الاستبداد العربي، من حيث ارتباطها بفكرة الحرية، الملازمة لثورات العصر الحديث، بمختلف أبعادها العامة والشخصية، وإدراك مدى التلازم ما بين مطالب الحريات وتجربة كل بلد عربي، حيث زيّنت شعارات الحرية شوارع تونس ومصر وليبيا واليمن وسورية وساحاتها، وصدحت بها أفواه الثائرين السوريين شهورا عديدة.

وقد يعيننا في هذ المجال الالتفات والبحث إلى جديد الحراك الاحتجاجي للثورات، وربط شعاراتها بفكرة الحرية، ومن ثم ربطها بفكرة التحرّر من سلطة الاستبداد المقيم منذ عقود عديدة، خصوصا في الحالة السورية، وتلمس خصوصيتها وفرادتها.

وجرى نقاشٌ واسع بشأن مفهوم الثورة في العصر الحديث، ومدى ارتباطه بالحرية، وهو ما يسم الثورات العربية أيضاً. وربما، ارتباط الثورة السورية بالكرامة أرجح من ارتباطها

بالعدالة، لكنه لا يفوق ارتباطها بالحرية، ذلك أن الحرية باتت الفكرة الحاضرة في عالم اليوم، وأكثر مما كان الحال عليه في عالم ما بعد الثورة الفرنسية، بوصفها، أي الحرية، تمثل المعيار الأعلى للحكم على شرعية الأنظمة السياسية وأهليتها وأفضليتها. وبالتالي ليس فهمنا للثورة وحده، بل مفهومنا كذلك للحرية، وهو ثوري بالأصل، هما اللذان يتوقف عليهما قبولنا أو رفضنا الترابط والتلازم بين الثورة والحرية.

في الحالة السورية، يفرض واقع حال القضية السورية، ومآلاتها التي وصلت إليها، حاجة ملحة، تقتضي ضرورة القيام بخطواتٍ جادة باتجاه بحثٍ معمق عن قيم الحرية والتحرّر، حيث كشفت الثورة السورية طبيعة احتلال السلطة الدولة والمجتمع، إذ لم تتردّد السلطة في إقحام قطعات الجيش للهجوم على مناطق المدنيين في مختلف مناطق سورية وبلداتها ومدنها، وأطلقت العنان لأجهزة الأمن وفرق الشبيحة لقتل الناشطين والتنكيل بأي شخص غير موالٍ للنظام، فتزايدت المجازر والجرائم، وتزايدت أعداد القتلى والجرحى والمعطبوين والمعتقلين والمهجّرين، وتزايد الدمار والخراب، وظهرت الانشقاقات في الجيش، ولجأ سوريون كثيرون إلى التسلح، دفاعاً عن أنفسهم وأحيائهم وأماكن سكناهم، وبالتالي أُدخلت الثورة في غياهب العمل المسلح الذي لم يكن خياراً لها، لمواجهة جيش النظام وأجهزة أمنه وشبيحته والمليشيات الإيرانية والقوات الروسية وسواها.

ولعل من بين خصوصيات الثورة السورية أن التطور الحاسم الذي طرأ على مسارها، وللأسف، لم يكتمل تماماً لأسباب عديدة (لا مجال لذكرها هنا)، تجسّد في تحولها من ثورةٍ تنشد الحرية إلى ثورة تنشد التحرّر والحرية معاً، الأمر الذي يستلزم النظر في علاقة الثورة بالتحرّر، مع الأخذ بالاعتبار أن معنى الثورة الشعبية يكمن في أنها فعل مقاوم للظلم والقهر والقمع، أي أنها فعلٌ مناهض للاستبداد في مختلف صوره، وبالتالي مناهضٌ للاحتلال بمختلف أشكاله وتجسيداته.

ولا شك في اختلاف التحرّر عن الحرية، مع أن التحرّر هو شرط بلوغ الحرية، لكنه لا يقود إليها بشكل آلي، كما أن الرغبة في الحرية مختلفةٌ عن الرغبة في التحرّر، مع أن التداخل في القضية السورية كان واضحاً بين الحرية والتحرّر، بل ويمتلك مؤشراتٍ واقعية عديدة.

إجهاض الثورات

لقد حملت الثورات العربية ربيعاً ليبرالياً، واعداً، شكل تهديداً جذرياً لبنى نظم مستبدة،

واستدعى ذلك رداً من طرف قوى الثورة المضادة التي كانت تشكل عماد نظم الاستبداد، ولم تتردد في الاستعانة بقوى خارجية، دولية وإقليمية، كي تجهض الثورات الناشئة، الأمر الذي تولدّت عنه هزاتٌ وإرهاصاتٌ عنيفة، أخذت مظاهر فتن مذهبية أهلية، ونزعات وحركات تطرّف ديني متصاعدة، بالنظر إلى الصراع الدائر على المنطقة وفيها، منذ دخولها لحظة الحرية وتجسدياتها الليبرالية، وكانت نتائج إجهاض الثورات كارثية، بمختلف تداعياتها التدميرية ومخاضها العنيف.

وإذا كانت الثورات قد مثلّت استجابةً لاستغاثات الخلاص من نير نظم مستبدة، والتغيير نحو مستقبل أفضل، فإن إجهاضها أدى إلى إحداث شروخٍ اجتماعيةٍ عميقة، وأزماتٍ متعدّدة وحادة، عصفت بدول عربية عديدةٍ لم تستطع نظمها السياسية إدارة الملفات الإصلاحية المطلوبة، فأفضت التحولات المفاجئة إلى تقويض مقومات الاستقرار والأمن في هذه البلدان.

وبينت تجارب الدول الأوروبية أن الحالة الليبرالية سبقتها لحظة بناء الدولة الوطنية القوية، بوصفها درعاً حال دون أن تتحوّل التعدّدية السياسية إلى منصة للصراع الأهلي، بمختلف تجلياته الدينية والطائفية والقبلية، وأن غيابها لا يعطي أي معنىً للذات الفردية الحرّة، بوصفها مرتكز المنظور الليبرالي. ولذلك اتفقت مدارس الليبرالية على مبادئ الحرية الفردية والتسامح ودولة القانون وسوى ذلك.

وبرهنت الثورات العربية أن الديمقراطية من دون أفق ليبرالي متعيّن وواضح، لا يتجلى في الليبرالية السياسية فقط، بل في نظام الحريات الفعلي والواقعي، من غير الممكن أن تحل مسألة إشكال التغيير السياسي، ذلك أن الشخصيات الليبرالية في الثورات العربية تصورت الديمقراطية وكأنها حكم الأغلبية بشكل كامل ومطلق، ولم يتلازم هذا التصور مع الأخذ في الاعتبار مسائل الحقوق الفردية والمساواة وحقوق الأقليات والمرأة، بوصفها مفاهيم مؤسسة لليبرالية. وبالتالي بقيت قضية الحرية مطروحة بقوة في الثورات العربية، بالتلازم مع ضمان الحرية الفردية خصوصا.

(2 ـ 2)

المفاهيم والقيم الإنسانية كونية الطابع، إذ تجتاز الأقاليم والدول والقارات في أقلمات شتى، ولا تحدّها أو توقفها الحدود الجغرافية وسواها، لذلك أثارت، وما تزال، أقلمات الليبرالية السياسية نقاشاً مهما في عالم الثورات العربية، فضلاً عن امتلاكها جذوراً تاريخية في التربة العربية، تعود إلى ما قبل القرن التاسع عشر، ومروراً بمختلف فتراته، ووصولاً إلى ما بعد الحرب العالمية الثانية، وهي الفترة التي أطلق عليها ألبرت حوراني “العصر الليبرالي”، بوصفه العصر الذي شهد نقاشات وتساؤلات وجدلا بشأن مبادئ الليبرالية والديمقراطية، وأظهر وقوف أصحاب النزعات القومية واليسارية والإسلامية ضدها في ذلك العصر.

وبعكس ما اعتبر بعضهم أن الأيديولوجيا القومية التي سيطرت في المشرق العربي، خلال كامل فترة النصف الأول من القرن العشرين، كانت تمثّل النقيض الأساسي لقيم الليبرالية ومبادئها، فإن نظرة فاحصة تظهر أن أفكار الليبرالية، خلال تلك الفترة، وخصوصاً بداياتها، كانت تشكل جزءاً من الخطابات التحرّرية والقومية التي كانت تنادي بالاستقلال عن المستعمر، وبناء دولة المستقبل بالاستناد إلى نماذجها الأوروبية، أي نموذج الدولة الليبرالية الديمقراطية، لكن الأمر اختلف في ثلاثينيات القرن العشرين المنصرم وأربعينياته من صعود النزعات القومية الراديكالية التي كانت تنادي بالوحدة العربية والتحرّر من الاستعمار الغربي.

وبعد وصول العسكر إلى السلطة بانقلابات دموية في عدد من البلدان العربية، ساد صمت ليبرالي، حيث تردّدت قوى وشخصيات عديدة في وصف نفسها بالليبرالية، كون الليبرالية باتت تسم صاحبها، في ذلك الوقت، بالولاء للغرب الأوروبي والأميركي، لكن ذلك لم يمنع جمهورا من عامة الناس من الوقوف بوجه نظم الاستبداد وفق نهج ليبرالي، يستند إلى الحريات والحقوق الفردية، وحكم القانون، والتعددية السياسية، وسواها، وهو ما تجلى واضحا في مطالب الثورات العربية.

ويجد الناظر في البدايات الليبرالية عربياً، أن المفكرين والمثقفين العرب، وليس البرجوازيون

وقواهم، هم من تعرّفوا على الليبرالية بوصفها نموذجاً عصرياً حديثاً، يرى في الغرب صانع التاريخ ومثال التقدّم، فما دام تاريخ العالم قد عرف انتقالاً من الشرق نحو الغرب، على النحو الذي صوّره الفيلسوف “هيغل”، باعتبار أن أوروبا تمثّل، بالنسبة إليه، نهاية التاريخ على نحو مطلق، فقد تصوّر المفكرون المصريون والسوريون وسواهم أن بالإمكان اللحاق بركب التقدم الغربي، كي تركن بلدانهم بدورها إلى نهاية التاريخ، فكانت ليبراليتهم واسعةً وفضفاضةً، تتعامل مع المفاهيم الليبرالية، كالحرية والدستور وسواهما، كحاجة طبيعية، أو مجتمعية، للخلاص من التخلف والجمود والانحطاط، فركزوا على الحرية بوصفها مطلباً وعلى الدستور كذلك، ولم يتمثلوا الليبرالية نهجا نظريا، بل إن عبد الله العروي يرى أنهم استلهموا الليبرالية، من جهة أولى، “كشعار ولم يتجاوزا الشعار إلى التمثل الفلسفي، ومن جهة ثانية، تأثروا بها طويلاً إلى حد أنهم أوّلوا مذاهب أخرى تأويلاً ليبرالياً.

ويمكن القول إن ليبرالية التنويريين والنهضويين الأوائل كانت تستدعيها حاجات مجتمع يتطلع إلى الخروج من عصر طويل من الانحطاط والتأخر التاريخي، المطبوع بالاستبداد والجهل والخرافة والتزمت وإلغاء الفرد.. إلخ، إلا أنها كانت ليبراليةً واسعةً فضفاضة، تعاملت مع مفهوم الحرية باعتباره دعوة، وحاجة، وضرورة كلية، تستدعيها كلية واقع اجتماعي ثقافي فقدها منذ زمن طويل. ولذا، كانت الحرية برنامجاً مطلبياً، وليست منهجاً نظرياً. بمعنى أن التنويريين والنهضويين تصوّرا أن المجتمعات العربية والإسلامية كانت في حاجة إلى نشر دعوة الحرية أكثر مما كانت في حاجة إلى فهم مفهومها وتحليله.

وعليه، لا يعد تحول الحرية إلى شعار يخترق الخطاب النهضوي الليبرالي العربي نقلاً خارجياً غريباً عن الواقع العربي، بل أقلمة له، حيث كان الليبرالي العربي أكثر حماسةً للحرية من الليبرالي الأوروبي الذي حقق مجتمعه كثيرا من مكتسباتها. وعلى هذا، كانت خصوصية الليبرالي العربي تتجسد في أنه يطلب الحرية باندفاعٍ لم يحس به رصيفه الأوروبي، والسبب  حالة مجتمعه الذي لم تتحقق فيه أيٌّ من صور الحرية، إضافة إلى أن الليبرالية في السياق النهضوي العربي، حسبما درسها عبد الله العروي، هي تجسيد موضوعي عقلاني لمستوى التطور التاريخي الذي حققه المجتمع، ولمستوى وعيه التاريخي بهذا التطور، أو بمعنى أدق هي استجابة لما لم يحققه المجتمع بعد.

وقد انفتح المشروع النهضوي العربي على فسحاتٍ عديدة في الفكر وفي الواقع اليومي والمعيش. وتوضّح أفكار وأطروحات وحيوات دعاة التنوير والنهضة ورموزهما بعض مكونات الأحداث والوقائع التي حصلت في عصرهم، حيث كانت تمثّل أفكار الفئات الوسطى الصاعدة في البلدان العربية وطموحاتها، بوصفها المؤسس والمعبّر عن وعيها السياسي والفكري. ولكن الأفكار التي سادت، في ذلك الوقت، حملتها نخبة مجتمعية، للأسف، كانت منفصلة عن الكتلة الشعبية الواسعة في بلادها، سواء في مصر أم سورية أم في تونس والمغرب وسواها، فثمّة هوة واسعة وعميقة كانت تفصل النخب الفكرية والثقافية عن عامة الناس.

ولم تكن الليبرالية سوى مذهب اجتماعي أكثر من كونها نظرة فلسفية، فحضرت في الخطاب الليبرالي من خلال التأكيد والتشديد على أولوية الحرية، بوصفها “غرض الإنسان في الحياة” حسبما يقول أحمد لطفي السيد الذي اعتبرها باعثة التاريخ، وأفضل دواء لكل نقص أو تخلف أو فوات.

سؤال الحرية

إذا كان التنويريون والنهضويون دعاة مبادئ ومفاهيم ليبرالية مثل الحرية والدستور وسواهما،

إلا أنهم تعاملوا مع الحرية بوصفها حقاً طبيعياً، حيث رأى لطفي السيد أن “الحرية الشخصية، بل والحرية العامة، ليستا لعبة أو ميزة.. بل هما حقان طبيعيان للأفراد وللأمة، لا تقرّ بهما حكومة عادلة تحكم لا لمصلحتها ولكن لمصلحة المحكومين”. ثم جرت عملية مساواة بين الحرية والحياة في مقولة “وما الحرية إلا قرينة الحياة، وهبة من الله”، و”هي حق الفرد من يوم ولادته، وقد ولد الناس أحراراً. وهي حق المجموع من يوم وجوده”، أي أنها ترتقي إلى مرتبة الحق والوجود للفرد والجماعة.

وأكد أحمد لطفي السيد على أن الحرية مع طبع الإنسان ومعنى إنسانيته ووجوده: “خلقت نفوسنا حرة، طبعها الله على الحرية، فحريتنا هي نحن.. هي ذاتنا ومقوم ذاتنا، هي معنى أن الإنسان إنسان، وما حريتنا إلا وجودنا، وما وجودنا إلا الحرية”. وتتولد عن حرية الإنسان الفرد حرية الفكر والقول والعمل، مع الأخذ بالاعتبار أن أول أسباب التقدم في الأمم هي الحرية الاجتماعية والسياسية والدينية.

واعتبر عبد الرحمن الكواكبي “أن البلية فَقْدُنَا الحرية.. ومن فروع الحرية تساوي الحقوق، ومحاسبة الحكام.. ومنها حرية الخطابة والمطبوعات وحرية المباحثات العلمية، ومنها العدالة.. والأمن على الدين والأرواح، والأمن على الشرف والأعراض، والأمن على العلم واستثماره”. وحاول أقلمة مفهوم الحرية في القول “إنّ الحرية هي روح الدين”، سعياً منه في أرضنة هذا المفهوم الإنساني في التربة العربية، وعمل كل ما يلزم لتهيئة غرسه فيها.

وميّز بعض التنويريين العرب ما بين مختلف الحريات، مع مساواتهم بين الحريتين، الشخصية والمدنية، من خلال “القدرة الفعلية على العمل والترك.. وتعريفها أن تعمل ما تشاء بشرط ألا تضر الغير”. أما الحرية السياسية عند الكواكبي “فهي أن يشترك كل فرد في حكومة بلاده اشتراكاً تاماً، وهذا ما نسميه بسلطة الأمة”، مع اعتبارٍ يتجسّد في أن الحرية السياسية هي كفيلة الحرية الشخصية.

ويمكن القول إن مفهوم مفكري عصر النهضة العربي عن الحرية لم يخرج عن مفهوم ليبراليي القرن التاسع عشر، من جهة أن الحرية كانت تعني بالنسبة إليهم غياب رقابة الدولة غير الضرورية، واعتبار أن وظائف الدولة تتحدّد في الحفاظ على الأمن والعدل والدفاع عن الوطن ضد العدوان، ويحق لها القيام بهذه الوظائف من دون التدخل في حقوق الفرد، ومن دون العبث بحرية القضاء، أو بحرية الرأي والقول والكتابة والنشر، أو بحرية تأليف الأحزاب. كما لم يخرج فكر النهضة عن إطار دعوات الإصلاح، واعتبار الحرية قاعدته، من منطلق تحقق حرية الفكر، وحرية القول، وحرية العمل في حدود القوانين المعقولة الضرورية، مع الإدراك التام لمختلف أشكال الحرية المدنية التي رُبطت بالحقوق الأصيلة، أو حقوق الكافة أو الجماعة، وحق المساواة، ثم حق الملكية. وتتجلى “الحقوق الأصيلة” في “حق الحرية الشخصية بمعناها العام: حرية الفكر والاعتقاد، حرية الكلام والكتابة، حرية التربية والتعليم في حدود لا تضر الغير”. في حين أن حق المساواة يتجسّد في أن يكون الناس في المعاملة سواء أمام القانون، فليس للشارع أن يميز طائفة على الأخرى في المغانم أو في المغارم التي تقتضيها الجمعية.

مفهوم الدولة

عمل دعاة الليبرالية على بلورة مفهوم الحرية، بوصفها أصل وجود الإنسان ومبرّر تكليفه. وقد ارتفع صوت دعاة الليبرالية بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى، تزامناً مع بداية التفكير السياسي في بناء الدولة الحديثة، والنضال من أجل الحصول على الاستقلال. وكان عماد الدولة الحديثة، وفق تصورات الليبراليين العرب، قائما على الدستور، بوصفه الميثاق التعاقدي الناظم لعلاقة الحاكم بالمحكوم، حسبما فهمه عبد الرحمن الكواكبي الذي اجترح تصوراً خاصاً لمفهوم الدولة، وجد أقلمتها في الحكومة، وكان مسعاه لا ينفصل عن مسعى أغلب رموز الليبرالية العربية، حيث استطاع، في أوائل القرن العشرين، أن يلتقط الفكرة الدستورية، بوصفها الحل الذيٍ لا مفر منه للخلاص من وباء الاستبداد المستحكم، وبيّن من خلال كتابه “طبائع الاستبداد” أسباب هذا الداء وصفاته وتمظهراته.

واعتبر الكواكبي أن “شكل الحكومة هو أعظم وأقدم مشكلة في البشر، وهو المعترك الأكبر لأفكار الباحثين”، وأن جوهر فكرة بناء الدولة يكمن في العلاقة ما بين الحاكم والمحكومين، معرّفاً الاستبداد أنه “الحكومة التي لا يوجد بينها وبين الأمة رابطة معينة معلومة مصونة بقانون نافذ الحكم”، ثم راح ينظر في المباحث المتعلقة به، فيعدّدها ويشرحها، ويطرح عليها الأسئلة سبل الخلاص. وتساءل، في هذا المجال، عن الأمة أو الشعب، وعن الروابط التي تجمع بين مكونات الأمة، وماهية الروابط المتعلقة بالدين أو الجنس أو اللغة والوطن والحقوق المشتركة والجامعة السياسية الاختيارية. ونظر إلى الحكومة بالتساؤل عمّا إذا كانت سلطة امتلاك فرد لجمع، أم وكالة تقام بإرادة الأمة لأجل إدارة شؤونها المشتركة العمومية، ثم راح يبحث في ماهية الحقوق العمومية، وعما إذا كانت حقوق آحاد الملوك، أم حقوق جمع الأمم. وكذلك نظر في معنى التساوي في الحقوق، ومنها الحقوق الشخصية، وفي نوعية الحكومة ووظائفها، حيث ذكر عدداً من هذه الوظائف، مثل حفظ الأمن العام وحفظ السلطة في القانون، وتأمين العدالة القضائية، وحفظ الدين والآداب، وتعيين الأعمال بقوانين. ولم ينس الكواكبي في البحث عن تعريف القانون وقوته، وضرورة التفريق بين السلطات السياسية والدينية والتعليم.

وفي المنحى نفسه، ذهب أحمد لطفي السيد في تصوره لواجبات الحكومة الثلاثة التي حددها في البوليس، وإقامة العدل وحماية البلاد. واعتبر أن كل ما يخرج من هذه الدائرة لا يحل لها المداخلة فيه. ويردّ عبد الإله بلقزيز هذا الحصر “إلى نطاق السلطة المسموح بها للدولة إلى مبدأ نظريّ مجرد يقول بالحرية فحسب، بل يقوم على الحاجة إليه دليل من الواقع ومن التجربة التاريخية”. ولذلك نجد أن السيد أخذ يجادل بأن التجربة والأمثلة اليومية أثبتت أن الحكومة في كل أمة إذا ما وليت عملاً خارجاً عن دائرة واجباتها الثلاث التي ذكرها أساءت فيه تصرفاً، وفشلت نتائجه.

وتمحورت الأقلمة العربية لـ”الليبرالية” على تعزيز الفكرة الدستورية، وبنائها في الفكر السياسي العربي، بوصفها فكرة جديدة عليه، وحاجة له، أملتها ضرورات المجتمع في الحداثة والتقدم. وكان لافتاً أن يترجم، أو بالأحرى يُعرّب، رفاعة الطهطاوي، الدستور الفرنسي إلى اللغة العربية في لحظة مبكرة، وذات دلالات معبرة، إذ لم يكتف بترجمة دستور فرنسا، وإنما أبدى إعجابه الشديد بالمواد التي يتضمنها عن الحرية والديمقراطية، وخصوصا المادة الأولى فيه التي تنص على مساواة الجميع أمام القانون، ولم يخف إنبهاره عندما وجد أن تلك المساواة، تصل إلى حدّ أن الدعوة القضائية (الشرعية) يمكن أن تقام على الملك، وينفذ عليه الحكم كغيره من الناس، واعتبرها دلالةً على وصول العدل عند الفرنسيين إلى درجة عالية.

غير أن لطفي السيد ركز على أهمية الدستور في الدولة، كي تكون أجهزتها مسؤولة وتخضع للمساءلة والمحاسبة، ويقول في هذا المجال: “طلبنا الدستور ونطلبه لتكون الوزارة مسؤولة عن تصرفاتها، مسؤولية ذات أثر فعلي أمام المجلس لتكون الأمة في أمن على حقوقها وحريتها، فلا ينفى أحد إلى السودان من الليمان أو من غير الليمان إلا بحكم قضائي بالأوضاع القانونية”، أي أن السيد كان يريد دولة القانون، كي يفصل القانون ويحكم بين الجميع، وخصوصاً أجهزة الدولة، مهما كانت مستوياتها التي تتقيد بالقانون وتحترم الحريات، ذلك أن الدستور هو ضمانة الحريات ومقيدها، وهو الفاصل بين السلطات.

واجترح لطفي السيد مفهوم سلطة الأمة بالتقابل مع سلطة الدولة، بوصفه تقليد الأمم المتمدنة، ورفض أن يكون في مصر حكومة تتمتع بشدة الحكومة المستبدة وعدل الحكومة النيابية، والحل في نظره هو الدستور الذي لا يتخذ كزينة في الحياة، ولكن مرقاة للتقدم وأماناً من الاستبداد. وبالتالي، كانت فكرة المستبد العادل التي روّجها مفكرون إصلاحيون عرب عديدون مرفوضة بالنسبة إليه. وأفضل ضمان من الوقوع الاستبداد هو الدستور، بوصفه قرينة على الحريات المضمونة التي تقرّ بها الدولة أو الحكومة للمواطنين، كي يكون واجبها حماية حرياتهم وأمنهم وممتلكاتهم. وتلتقي الدعوة إلى الدستور مع الدعوة إلى الحرية، إذ لا يمكن أن يسود الدستور إلا في مجتمع من الأحرار، وليس في مجتمعٍ تنتفي فيه الحريات. وعليه، تؤسس الحرية السياسية الدستور وتتأسس به. وكان هدف ذلك كله الخلاص من نظام الاستبداد، المقيم في التربة العربية.

أقلمات ليبرالية

أعادت الثورات العربية مفهوم الدولة إلى النقاش من جديد، حيث طرحت تساؤلاتٍ، طاولت

الأسباب التي جعلت مفهوم الدولة مضمراً في الوعي العربي المعاصر، وأفضى إلى نتائج عكسية في نمط ولاء الناس، حتى بات عصياً استقرارها في الوعي الجماعي، بسبب ضعف أقلماتها النظرية، وفقر خبرتها في التجربة التاريخية، حيث لم تتأرضن الدولة وعاءً مشتركا، وحاضنا للجميع، في المخيال الجماعي لمختلف الجماعات العربية.

وعلى الرغم من تعرّف المفكرين العرب الأوائل على النموذج الحديث للدولة في البلدان الأوروبية، إلا أنهم لم يؤقلموا مركبات هذا المفهوم في المجال التداولي العربي، فعالجوا قضايا تلامس مسألة الدولة، أو تدور حولها، حيث تحدث رفاعة الطهطاوي عن دولةٍ تنهض على القوة الحاكمة والقوى المحكومة، بوصفهما ركنين أساسيين للدولة، والدستور هو الناظم للعلاقة بينهما، فيما راح الأفغاني ومحمد عبده وسواهما يتناولون عناصر الدولة ووظائفها من دون تحديد دقيق لمفهومها، وبقيت مقارباتهم محدودة وضعيفة، وبعيدة عن الأقلمة النظرية.

ولم يتمكّن نموذج “الدولة الوطنية” في البلدان العربية، من إيجاد سلطةٍ منظمةٍ للمجتمع، بل أنتج سلطة متسلطة ومسيطرة على المجتمع والأفراد، فغاب التفاعل الإيجابي السلمي بين الفئات المدنية والأهلية ومختلف المكونات والقوى الاجتماعية، وبقي المجتمع بحاجة للدولة المنشودة، لذلك ينصرف التفكير إلى العلاقة السياسية التأسيسية في النظام السياسي التي تختصر، في مرحلة الثورات العربية، في علاقة المواطنة، حيث تجد المواطنة متحققها في المواطنين، بوصفهم أفراداً أحرارا، متساوين أمام القانون في حقوقهم السياسية، ومتكافئين في أداء ما عليهم من واجباتٍ للدولة. وبالتالي، لا يمكن التفكير في الدولة الديمقراطية، ومن داخل منظومة الفكر السياسي الليبرالي الحديث، إلا مع التسليم بمركزية الفرد في هذه الدولة.

وكان مسعى المفكرين النهضويين الليبراليين لا ينفكّ يصّب في محاولة أقلمة بعض الأفكار الليبرالية، ولا سيما الحرية، في عمق المجتمعات العربية والتاريخ الإسلامي، مع عدم القطع، كليبراليين عرب، مع تصوّرات المفكرين الليبراليين الأوروبيين، وخصوصاً جون ستيوارت ميل الذي نهل عدد منهم من كتاباته وأفكاره، مع أن دعوة ستيوارت ميل إلى الحرية كانت محكومة تاريخياً وموضوعياً بعصر النهضة الأوروبية، بينما توجب على الليبراليين العرب البحث عن متحقّق له في تفاصيل التاريخ الإسلامي القديم وتضاريسه، فحاولوا الاستعانة بمواقف أبو حنيفة وأقواله، بوصفه بطل الحرية والتسامح، وأبو ذر بوصفه بطل الديمقراطية.. إلخ.

وكانت أقلمة مفاهيم الليبرالية توظف لديهم توظيفاتٍ شتى، فاستخدموها سلاحاً ضد الخصوم الداخليين من خلال المشترك الثقافي الإسلامي، وحاولوا إثبات أن الدعوة إلى الحرية من صميم الإسلام، بتأكيدهم مقولة إن الناس يولدون أحراراً، وإن جميع الذين يناهضون الحرية من المسلمين ليسوا من الإسلام الحقيقي أو الإسلام الأصيل، الأمر الذي يشي أن الليبرالي العربي كان يضمر طموحاً وظيفياً للخطاب، يتجسّد في تطلعه إلى أقلمة منظومته الفكرية والسياسية، وجعلها تدخل في نسيج الثقافة المحلية وبنيتها، بهدف أرضنتها وأقلمتها.

وبدأت أقلمة مفهوم الحرية عربياً بالفرد، بوصفه ذاتاً عاقلة حرة مستقلة، أي بوصف هذا الفرد قادراً على الولاية على نفسه، وذلك هو أسّ المشروع الديمقراطي في الغرب حيث الأمم لا تتقدم إلا بتقدم أفرادها، والحكومات الحرة لا تقوم إلا بشرائع عادلة تسنها المجالس النيابية، لا بأوامر يصدرها الملوك والسلاطين. وأول حقوق الإنسان هي الحرية: حرية الفكر، وحرية القول، وحرية العمل، ولعل من أهم أسباب التقدّم في الأمم يتجسّد في صون وممارسة الحريات الاجتماعية والسياسية والدينية، ومن أكبر دعائم الحكومات الحرة قانون يكفل لشعوبها حقوقهم الأولية، ويوجب عليهم الدفاع عنها، حين يحاول المتسلطون من الحكام انتهاكها أو قتلها.

والواقع هو أن الليبراليين التنويريين تعاملوا مع الليبرالية، ليس بوصفها مجرد فكرة، بل كمخرج للوطن، ومنقذ له، يأخذه إلى أرضنة مفاهيم العقل والعلم والتقدّم والحرية في التربة العربية، لكنهم لم يخرجوا عن خانة التوجه الانتقائي، وكانوا يواجهون لحظات وأعاصير زمن محمَّلٍ باختيارات عديدة في الفكر، وتراكمات تأخر وفوات موسومة بالجمود والتقليد، كما واجهوا، في الوقت نفسه، تيارات الفكر الحديث بطابعها المركب، لكنهم عجزوا، في النهاية، مثل سائر أضرابهم النهضويين عن تمثل معطيات هذا الفكر في صيغ سيرورته الفكرية المتحولة والمعقدة، فلجأوا إلى الانتقاء والتوفيق والتلفيق، ودخلوا جملةً من المعارك الجزئية، المرتبطة بقضايا مفصولة عن حواملها الفكرية وسياقاتها التاريخية.

والحاصل أن الأقلمة الليبرالية تمحورت، في العصر الليبرالي العربي، حول مفاهيم الحريات، خصوصا فيما يتصل بالفرد وحقوقه في التعبير والرأي، وفي الدستور والحكومة والدولة وسواها. ومع تطور المجتمعات تحولت الليبرالية، سيما في جانبها السياسي، إلى التركيز على حماية الحريات والحقوق بواسطة ضمانات دستورية متنوعة، وأقلمت نفسها أوروبياً في الانتخابات الديمقراطية التمثيلية، كي تستقر على حكم الأغلبية في ظل وجود ضمانات لحقوق واضحة للأقليات الاجتماعية والسياسية، لكن مع استمرار نشوب الثورات وحركات الاحتجاج العالمي، حاولت الليبرالية إيجاد نوعٍ من التوازن في المجتمعات ما بين الفرد وحقوقه ودور الدولة، مع ضمان قدر من العدالة الاجتماعية، غير أن الثورات المضادة أفرزت النيوليبرالية التي حاولت الانتقاص من مكانة العدالة الاقتصاية والسياسية وحقوق الإنسان التي حققتها الثورات وحركات الاحتجاجية على مختلف الصعد.

وجاءت الثورات العربية، كي تشكل رداً خلاصياً على نظم الاستبداد، فرفعت شعارات ومطالب ليبرالية، على الرغم من أن حركات الاحتجاج العربية لم تنطلق من تربة ليبرالية، أي أن مطالبها وشعاراتها كانت ليبرالية الطابع، من دون أن تحسب على الليبرالية، وتجسد ذلك في أقلمات جديدة لمفاهيم الليبرالية، من خلال مطالبتها بالحريات السياسية، وحرية التعبير والرأي، مع مطالبتها بالعدالة الاجتماعية والمواطنة والمساواة أمام القانون وسوى ذلك. ولعل من اللافت أن تتمحور أقلمة الليبرالية السياسية في الثورات العربية حول مفهومي الحرية والعدالة، بما يعني الانتقال بالليبرالية السياسية من الاهتمام بالإنسان، بوصفه ذلك الكائن الفرد، إلى الإنسان، بوصفه كائناً أخلاقياً اجتماعياً، لا شيء يعلو لديه على قضايا الحرية والعدالة.

العربي الجديد

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى