الناس

المنطوق والهوية والعلم/ رشا عمران

إحدى الصديقات السوريات في القاهرة، لديها توأمان، عمرهما خمسة أعوام، ولدا في القاهرة، وساعدتهما في تربيتهما شابة مصرية، لديها طفل في سنهما، تُحضره معها إلى منزل صديقتي. كبر الطفلان وهما يسمعان اللهجة المصرية أكثر من السورية التي يتحدثها والداهما، ولكن وجود المربية معهما ودخولهما إلى حضانة وروضة مصريتين، وعِشرة الأطفال المصريين، جعلتهما ينطقان اللهجة المصرية كما لو أنهما مصريان فعلا. هما الآن يرفضان القول إنهما سوريان، ويرفضان الحديث باللهجة السورية: “إحنا بنتكلم مصري يبقى إحنا مصريين وانت وبابا سوريين عشان بتتكلموا سوري”.. يقول الطفلان هذا دائما، حين تخبرهما والدتهما أنهما سوريان، مع أنها لا تصر أبدا، هي ووالدهما، على جعلهما يتكلمان باللهجة السورية. تقول صديقتي إنهما اختارا هويتهما باكرا. تقول ذلك من دون مرجعياتٍ ثقافيةٍ ومقولات كبيرة عن مفهوم الهوية. تعرف من أطفالها أن اللغة التي نتكلم بها قد تكون هي الهوية أحيانا كثيرة. صديقتي وزوجها من مدينة سورية لها لهجة خاصة، وحين يتحدثان معا، حتى في الجلسات العامة، يتحدّثان بهذه اللهجة، ومع الآخرين باللهجة السورية البيضاء، بينما أولادهما يخاطبونهما باللهجة المصرية، في خلطةٍ جميلةٍ ونادرة للهويات المنطوقة، إذا ما اعتبرنا أن المنطوق هويةٌ بحد ذاته، في ضياع مفهوم الهوية الذي نعيشه، نحن السوريون، حاليا.

قبل أيام، دعتني صديقتي إلى حفل تخرج طفليها من الروضة، وانتقالهما إلى المرحلة الدراسية الأولى. ضمن فقرات الاحتفال أغنية عن مصر، يحمل الأطفال العلم المصري، ويردّدون الأغنية. كان الطفلان ضمن الجوقة التي تغني، بيد أنهما كانا يحملان العلم السوري (علم النظام)، من دون أن يدركا لماذا اختارت مدرّبتهما أن يكونا مختلفين عن باقي الأطفال! (بعد الحفل كانا يبكيان احتجاجا على عدم معاملتهما مثل باقي الأطفال الذين حملوا العلم الصري). لم تخبر المدرّبة الأم مسبقا بما كانت تنوي فعله عن حسن نية، قالت لها “عملتهالك مفاجأة”! لكنها كانت مفاجأة صادمة لنا جميعا، نحن السوريين هناك، إذ فجأة رأينا حقيقة وضعنا على ما هو عليه: نحن نعيش، ونتصرّف في البلاد التي انتقلنا إليها كما لو كنا أبناءها. حياتنا تكمل سيرها، ويومياتنا تشبه يوميات من يشبهوننا من أهل البلد. نعيش ونربّي أولادنا ونحب ونتزوج وننتقل إلى بيوت جديدة، ونسافر ونعود، ونعمل ونكتب، ونطبخ ونسهر، ونمرض ونحزن، ونتعرّض لمضايقات الشارع والجيران وكل شيء. لا شيء يختلف عما يعانيه أهل البلد، بيد أننا لسنا من أهل البلد، حتى لو تكلمنا لغتهم أو لهجتهم، ماذا نفعل هنا؟! سؤال خطر لنا، نحن السوريين، فجأة، لدى رؤية العلم السوري الذي لم يعد يشكل لنا أية قيمة، بعد أن أصبح رمزا للقتل. ليس هناك علم سوري آخر بالمناسبة يشكل رمزا لأيّ منا، حتى الذي اختير رمزا للثورة لم يعد كذلك. صار أيضا علما مأجورا تُرتكب تحته جرائم مختلفة.

من نحن الآن؟ كان سؤالا يشبه المونولوغ الشخصي لكل منا، ممزوجا بدموع مباغتة، نحاول إخفاءها من دون جدوى. عادت ثماني سنوات كاملة إلينا، بكل ما فيها من فرح وحزن وأمل ويأس وقهر وخوف وتوهان وتشرّد وشوق، وانفصام عن الواقع، ومقاومة وضعف وقوة، حين رأينا طفلين سوريين يغنيان أغنية وطنية لمصر التي يظنانها وطنهما، لكنهما يحملان علما لبلدٍ آخر، لا يعرفان عنه شيئا.

أطفال سوريون كثر ولدوا في دول اللجوء. سيكبرون وهم يتكلمون لغاتها، وغالبا سيحملون جنسيتها، ما ليس متاحا في مصر أو أية دولةٍ عربيةٍ أخرى، وهذه مفارقة مدهشة. ربما سينكر هؤلاء سوريّتهم، كونهم لا يعرفون عن سورية شيئا، لم تعطهم سورية شيئا، سيكبرون وهم يرونها على شاشات الأخبار، أو في الصور، أو في قصص وحكايا آبائهم وأمهاتهم، مثل أي بلدٍ محايدٍ لا يمت لهم بصلة. لن يكونوا معنيين يوما بسؤال الهوية، إذا ما استطاعت المجتمعات الأوروبية إدماجهم بيسر وسهولة، من دون تدخل اليمين العنصري، ومن دون تدخلاتٍ عائليةٍ لمنع اندماجهم في مجتمعاتٍ يعتبرها عربٌ ومسلمون كثيرون منحلةً ولا أخلاقية. ستعيد هذه التداخلات إنتاج سؤال الهوية، ولكن بشكل مشوّه ومريض، وهو ما لن يفيد لا الدولة التي يحملون جنسيتها، ولا سورية التي أتوا منها، وموسومون بها، كنقش أبدي.

العربي الجديد

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى