مراجعات كتب

نهاية الشجاعة: من أجل استعادة فضيلة ديمقراطية/ سينتيا فلوري

ترجمة: عبد النبي كوارة

في كتاب نهاية الشجاعة: من أجل استعادة فضيلة ديمقراطية (La Fin du Courage) لسينتيا فلوري الذي ترجمه عبد النبي كوارة إلى اللغة العربية وصدرت ترجمته عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات (194 صفحة موثقًا ومفهرسًا)، ترى مؤلفته أن في لحظة ما، يواجه كل عصر من عصور التاريخ سقفه الكئيب، وكذلك يفعل الفرد حين تعترضه فترة إنهاك وتأكّل الذات. وتقول إن هذا هو اختبار نهاية الشجاعة، وهو اختبارٌ لا يضع ختمًا لزوال عصر أو إنسان، لكنّه يبقى في أساسه شكلًا من أشكال العبور التلقيني؛ لحظة تَقابل مع الأصالة. فنهاية الشجاعة هي لحظة تصادم مع معنى الحياة الهاربة، هي السيطرة غير الممكنة على الزمن، وهي لقاء مع المحدودية والأهلية المحتملة للزمن الطويل. فعصور تاريخنا هي عصور استعمال الشجاعة واختفائها، ليس إلّا! في هذه الحالة، لا تستطيع الديمقراطية ولا الأفراد الصمود أمام الإذلال الخُلقي والسياسي.

في آيات الشجاعة وسياستها

يقع هذا الكتاب في قسمين. الأول، آيات الشجاعة؛ والثاني، سياسة الشجاعة، ويتفرّع كل منهما إلى عناوين فرعية. في القسم الأول، وتحت العنوان الفرعي الشجاعة أو ظلمة الضوء، تقول فلوري إن جورجيو أغامبين يعرّف الإنسان المعاصر بمدى قدرته على أن يكون شجاعًا، وبمعرفته كيف يثبت ظلمة الحاضر، “بمعنى آخر، أن يبطل الأضواء التي تشع على العصر من أجل أن يكتشف الظلمات. إن الإنسان المعاصر هو من يدرك ظلمة زمنه كشيء يخصه ولا يكف عن مساءلته، شيء ما، أكثر من أي ضوء آخر، موجه ناحيته بصورة مباشرة وفردية. معاصر هو من يتلقى ملء وجهه حزمة الظلمات المتأتية من زمنه”. وتضيف: “ليس يكفي لكي نكون شجعانًا أن نثبت النظر على ظلمة العصر، لكن كذلك أن نشعر بضوء ما في داخل الظلمة نفسها، ظلمة بقدر ما هي موجهة نحونا، تبتعد عنا بصورة نهائية. أو أكثر: أن نكون مواظبين على موعد لا يمكننا إلا أن نتخلى عنه”.

في باب الشجاعة ومعنى الخوف، تقول إن الإنسان الشجاع ليس من يتجاهل الخوف، ولو كان الأمر كذلك لكانت المسألة عادية؛ إذ يكفي كي تكون شجاعًا ألا تشعر بالخوف، أن تحجبه وتتنكر له، وتخفيه هناك حيث لا تعلم. وتضيف: “توفّق الشجاعة بين الاستقامة والمرونة. هي مرنة باعتبار إمكان تطابقها تمامًا مع السعي الحثيث إلى الحياة والاستمرار في الحياة بدل الموت، لأن الاستمرار في الحياة والقبول بالموت هما سبيلان متناقضان، لكنهما ضروريان للشجاعة”.

في كوجيتو الشجاعة

تحت عنوان السويداء أو محنة الشجاعة، ترى فلوري أن أشرس خصم هو السويداء، وأقل منها الخوف، “لأنها تجعلك منبطحًا على الأرض، وقد منحتك الوهم بأنك ثاقب الفكر، لتكنسك وقد غمرتك بالإحساس على الفعل”. وهي تصف تواضع السويداء بأنه تواضع مغلوط وكبرياء نصف متأكّلة. وفي باب لتكن الشجاعة نورًا للقلب، تكتب فلوري: “إن أكبر حامل لنظرية الإنذار أمام الخوف هو نيتشه. فهو منظّر الشجاعة الذي لا يصرح باسمه، لكنه يخضع فلسفته لمقاس خيباته. ولقد مر بلحظات عسيرة في شبابه، ولهذا السبب بلا شك، وصف أصناف المتع لغياب ذوق الحقيقة. وقد تختلف فلسفات الشجاعة أحيانًا: ففي وقت يدافع بعضهم عن محرقة الحقائق، يذهب نيتشه إلى استدعاء محرقة أشكال الغرور كلها”.

تحت عنوان فن الإرادة الشجاع، تظن فلوري أن الإرادة تتميز بالتحول والتعقيد، “لأن رهان الشجاعة أصلًا هو أن نختبر طبيعة الإرادة وحرية المواطن. فهل نكون أحرارًا بمقدار اختبارنا الشجاعة؟ مع ذلك، إنه من اليقين التام أن المواطن يشعر بانهزامية بمجرد المناداة عليه للقيام بالواجب”. تضيف: “الشجاعة مسألة بداية، تعبير أكيد عن الإرادة من بين باقي التعابير، رؤية وتمظهر كامل ومرهف، وقل هي إرادة تلتقي مع إرادة الآخرين وتنعكس عندها، وليست إرادة أحادية”. وفي باب كوجيتو الشجاعة الذي لا يعوّض، الإنسان الشجاع من يفهم أن الإدراك (cogito) الأخلاقي يمارس الآن وهنا، “باعتبار أن الزمن المعاش الأوحد هو الحاضر، حيث كل شيء يتم الآن وهنا. إنها طريقة أخرى كي نعيش اللحظة الحاضرة والفرصة الملائمة من منظور مونتاين، حيث تمثل الشجاعة الوجه الآخر للحكمة؛ تلك الحكمة الآنية لذاتها، وقد تحررت من دوائرها الهوامية”.

في إبيستمولوجيا الشجاعة

تحت عنوان من أجل نظرية جمعية للشجاعة، تعترف فلوري: “إذا كان على كل واحد أن يأخذ شجاعته على عاتقه، وأن يضطلع بالأمر، فلن تعود المدينة بعدئذٍ ذلك المجال الذي يُسمح فيه لأي أحد بأن يفوض إلى الآخر ما وجب عليه أن يقوم به هو نفسه. هذا تهرب من الأخلاق، بحيث تتحول السياسة إلى ذلك المكان نفسه الذي ينتهي عنده الهروب”. وفي باب إبيستمولوجيا الشجاعة والاعتراف، أن تكون شجاعًا معناه أن تعلن القطيعة، أن تخرج من الصف، أن تكون ظاهرًا انطلاقًا من الجهد الذي تبذله؛ أي أن تكون استثنائيًا، أن تلحق ذاتك بهذا الاستثناء. وبشكل آخر، أن تقاوم نظامًا تعتبره غير فاعل و/أو غير عادل، وأن تبين أخلاقًا ليس لها من أقلية غير الدولة. وتحت عنوان الشجاعة أو وعي لاتبادلية الحق والقانون، ترى فلوري أن إبيستمولوجيا الشجاعة تتميز بأنها ذات طبيعة أدبية، بل هوغولية وبأنها التي تربط ممارسة قول الحقيقة الخالصة بلحظة المرور إلى الفعل، وهو ما يمفصل براديغمات التواصل والاعتراف. إنها أسلبة بلا تزوير كونها إجراءات للظهورية. وهي أدبية، لأنها تنتج نصًا فرديًا وجماعيًا قابلًا لأن يكون محاكاة بالنسبة إلى آخرين، محدِثةً قطيعة وحدَهُ الفعل الشعري يتقن صنعها”.

في باب إبيستمولوجيا الشجاعة – معادلة بثلاثة مداخل: الخيال الحقيقي وجبر الضرر والقوة الهزلية، يتسم صحيح القول والممارس للقول الحقيقي الحر بطبيعة أدبية، ويندرج ضمن ملكة الخيال الحقيقي. وهذه الملكة عكس المتخيل والتخيلات الصبيانية أو البربرية، والوجه المنعكس لأنا عليا مفككة أو في طريق الخسران. وفي باب الشجاعة أو إرادة الابتهاج، ترى المؤلفة أن الممارس لقول الحقيقة الخالصة ليس ساذجًا بل أكثر الناس بعدًا في النظر، وأن نراهن على التفاؤل معناه ألا نعتمد تفاؤلًا استيهاميًا، وأن نرفض المراهنة على الهروب من الواقع باعتباره منبع السعادة، وأن نتحمل مسؤولية قدَرٍ ما، فلا ينفع أن نكون مأساويين، بل يكفي أن نكون جديين.

في الشجاعة السياسية

في القسم الثاني، سياسة الشجاعة، وتحت العنوان الفرعي هل هي نهاية الشجاعة السياسية؟ تسأل فلوري: فيم تختلف نظرية الشجاعة السياسية عن نظرية الشجاعة الخلقية؟ “هكذا هي الشجاعة بوجهين، فهي سياسية وخلقية كما وجها جانوس، وأبدًا لم يكن ممكنًا حدوث هذا التجزيء بين الأخلاق والشأن السياسي مع عهد الديمقراطية الأول، وهو كان يومذاك المسمى الآخر للجمهورية، وحيث نهاية النظام القديم والقدوم السماوي لأخلاقيات الشأن السياسي”. تضيف فلوري: “إذا كان مونتسكيو وروسو وروبسبيير وسان جوست يضعون الفضيلة في قلب النظام الجمهوري الديمقراطي، فالأمر يختلف مع توكفيل الذي يفضل الحديث عن المصلحة المفروغ منها (المقررة) وعن عقيدة قليلة السمو، لكن واضحة وأكيدة، والتي لا تبحث عن تحقيق الأهداف الكبرى، لكنها تحقق تلك الأهداف التي حددتها من غير أن تبذل جهدًا كبيرًا، على اعتبار أنها في متناول أصناف الذكاء كلها، حيث يمكن لكل واحد أن يفهمها بسهولة ومن دون عناء.

لكن، هل يجب إعادة بناء نظرية الشجاعة السياسية؟ تحت هذا العنوان، تقول المؤلفة إن البحث في اختفاء الشجاعة السياسية الخلقي أمر لا يُحاكم بتشدد، في حين تبدو مناقشة طبيعتها بلا فاعلية إن لم نعلم مباشرة عن رجعتها أو عن استدامتها. مع ذلك، ليس هناك ما هو أقل ثباتًا، لأن تعقب المعنى أحيانًا يعيد توجيه السبيل في اتجاه الفعل. وفي باب تزوير الشجاعة: هل هي نهاية الشعب وخزي النخب؟ لا يكفي الإشعار بالأنموذجية السياسية المضادة لإعفاء الشعب من مسؤوليته، أو حتى مساءلته عن غيابه الخاص، لأن الديمقراطية تعرف كيف تضع الجماهير في الواجهة، كذلك تفعل مع الفرد، بيد أن الشخص الثالث بينهما يجعلنا نحس بغيابه المفجع: إن الشعب ملغز بماهيته أكثر مما هو غير موجود، إذ يبدو مغمى عليه. هو أسطوري وسيظل كذلك، لكن عقله الخلاق ليس حاضرًا.

في شجاعة قول الحقيقة

تحت عنوان ميثاق شجاعة ممارسة قول الحقيقة، على الشعب والأمير والفرد أن يقبلوا بلعبة شجاعة قول الحقيقة، وأن يعترفوا بضرورة الاستماع إلى من يخاطر بقول الحقيقة، فتترسخ لعبة ممارسة قول الحقيقة الحقيقية، وانطلاقًا من هذا النوع من الميثاق الذي يقضي بأنه إذا أظهر صاحب شجاعة قول الحقيقة شجاعته في قول الحقيقة تجاه الجميع وضدهم، فعلى الذي يستقبل هذا القول الحقيقي أن يظهر سمو نفسه في قبول الحقيقة. وفي باب الخزي الممنهج وممارسة قول الحقيقة: من قيَم الإنسان الشجاع، ليست شجاعة قول الحقيقة ثمرة نشاط تواصلي، الأمر الذي يشكل الصعوبة الكبرى للسلطة الإعلامية؛ ولأن الزمن اليوم هو زمن المطالب التواصلية شبه الشجاعة، تنزع إبيستمولوجيا الشجاعة إلى التواصل السياسي الوحيد للشجاعة ليس إلا، لتصبح الشجاعة الأداة الإستراتيجية بامتياز في المجال السياسي، أو بالأحرى في مجال التواصل السياسي، حيث يتحول ممارس القول الشجاع إلى قناع السفسطائي.

تحت عنوان لغة الشجاعة: من القول الحق إلى أخلاقية النقاش، تبدو فلوري مقتنعة أنه يصعب تبرير الكذب على الشعب، “بيد أن قول كل شيء وممارسة الجهر والبوح الكامل يبدو غير محتمل وغير مرغوب فيه من الشعب كما من الزعيم. والحق أن السياسة هي نظام للحقيقة، بل الحقائق. ثم إن القول بالنظام يعني القول بقواعد السلوك والإجراءات والدورة والمنهجية، لأن زمن الحقيقة لا يمتزج مع زمن الخطاب الأوحد”. تضيف: “إنها أخلاقية نقاش وليست قطعًا دعوة إلى الثرثرة أو الإسهال في الكلام؛ إذ لن يهم أن نتكلم من غير أن نقول شيئًا أو يكون لنا ذوق الإسهاب والإطناب في الآراء التي يتكاثر عددها”.

في الشجاعة والنضال

في باب أخلاقيات الشأن السياسي: عدم اكتمال العدالة والشجاعة، تقول فلوري إن أهم ما أثاره فيكتور هوغو هو استحالة فصل الأخلاق عن السياسة في الديمقراطية. “سموها إن شئتم فضيلة مدنية، أو مشروعية، أو وعيًا سياسيًا، أو شجاعة، لأن حصر الديمقراطية في جانبها الإجرائي الوحيد يعني إنكارها”. ويرى أمارتيا سِن أنه يتعين أن نتشاور لأسباب أخلاقية كما لأسباب موضوعية تتعلق بالفاعلية والفعلية، “فوحدها فكرة يتم تبنيها على قاعدة تعددية تكون فاعلة، لجهة التعبير الديمقراطي، ومشروعة وبالتالي فاعلة”. وتحت عنوان شجاعة ونضال ووعي، تعتبر فلوري نظرية العدالة والشجاعة إنجاز ذلك الزمن الحميم الذي يحيلنا على الوعي الخلقي، معنى الأبدية ذاك. وهي (النظرية) تمثل من ثمّ خيمياء عدم الاكتمال.

في باب الركض عبر العبث لرجل من دون شجاعة، تذكّر المؤلفة أن من عادة صغار الزعماء السياسيين أن يكونوا متحايلين ماهرين على الخير العام، “وعلى عكس الممثل الهزلي، لا يحصد المهرج الممسرِح السياسي التصفيقات فحسب، إذ تمثل أكبر شروط بقائه الانتخابي، لكنها ليست ضمانته، لهذا فهو مدعو إلى إرساء ماكينة مالية تظل مشتغلة طوال فترة التفويض لانتفاعه الشخصي”. وفي باب سلسلة الشجاعة المتصلة: شجاعة العاهل والحكومة والشعب، ترى فلوري أنه في مجال الديمقراطية، على الرغم من التباين بين السيادة والحكومة، فإنهما يرتبطان معًا تمامًا. وفن الحكم لا يعني السيادة، “ونحن نصف في الأغلب سيادة الشعب بصورة سلبية، على اعتبار أنها لا تحكم وإنما تمارس الرقابة على الحكم”.

 فيلسوفة ومحللة نفسية وأستاذة العلوم السياسية في الجامعة الأميركية في باريس. تشتغل على أدوات الضبط الديمقراطي. لها مؤلفات كثيرة، منها: أعطاب الديمقراطية وميتافيزيقا الخيال.

نهاية الشجاعة”: قول الحقيقة بين السياسة والأخلاق

في كتابها “نهاية الشجاعة: من أجل استعادة فضيلة ديمقراطية” الذي صدر عام 2010، تحاول أستاذة الفلسفة والمحلّلة النفسية الفرنسية سينتيا فلوري (1974) البحث في ما وراء إحباط النخب، خاصة في أوروبا، عبر جملة قراءات لعدد من الروائيين والفلاسفة، لفهم ذلك “الممّر السري بين الحياة والأبدي”؛ الذي يسمّى “الشجاعة”.

ترى الكاتبة في دراستها التي نقلها إلى العربية الباحث المغربي عبد النبي كوارة، وصدرت مؤخّراً عن “المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات” في الدوحة، أنه في لحظة ما، يواجه كلّ عصر من عصور التاريخ سقفه الكئيب، وكذلك يفعل الفرد حين تعترضه فترة إنهاك وتأكّل الذات، مشيرة إلى أن هذا هو اختبار نهاية الشجاعة.

وتلفت صاحبة “باثالوجيا الديمقراطية” (2005) أن “هذا الاختبار لا يضع ختماً لزوال عصر أو إنسان، لكنّه يبقى في أساسه شكلاً من أشكال العبور التلقيني؛ لحظة تَقابل مع الأصالة. فنهاية الشجاعة هي لحظة تصادم مع معنى الحياة الهاربة، هي السيطرة غير الممكنة على الزمن، وهي لقاء مع المحدودية والأهلية المحتملة للزمن الطويل. فعصور تاريخنا هي عصور استعمال الشجاعة واختفائها، ليس إلّا! في هذه الحالة، لا تستطيع الديمقراطية ولا الأفراد الصمود أمام الإذلال الخُلقي والسياسي”.

يقع الكتاب في قسمين؛ الأول بعنوان “آيات الشجاعة”، والثاني، “سياسة الشجاعة”، ويتفرّع كلّ منهما إلى عناوين فرعية. في القسم الأول، وتحت العنوان الفرعي “الشجاعة أو ظلمة الضوء”، تقول فلوري إن “الإنسان المعاصر هو من يدرك ظلمة زمنه كشيء يخصه ولا يكف عن مساءلته”، وفي باب “الشجاعة ومعنى الخوف”، تلفت إلى أن الشجاعة “توفّق بين الاستقامة والمرونة. هي مرنة باعتبار إمكان تطابقها تماماً مع السعي الحثيث إلى الحياة والاستمرار في الحياة بدل الموت، لأن الاستمرار في الحياة والقبول بالموت هما سبيلان متناقضان، لكنهما ضروريان للشجاعة”.

تحت عنوان “السويداء أو محنة الشجاعة”، تصف تواضع السويداء بأنه مغلوط وكبرياء نصف متأكّلة، وفي باب “لتكن الشجاعة نوراً للقلب”، تقارب أطروحات نيتشه الذي تعتبره منظّر الشجاعة الذي لا يصرح باسمه، لكنه يخضع فلسفته لمقاس خيباته، أما في “فن الإرادة الشجاع” فتناقش الشجاعة من منظور الإرادة.

في “كوجيتو الشجاعة الذي لا يعوّض” تتمثّل الشجاعة بوصفها الوجه الآخر للحكمة، بينما ترصد في باب “من أجل نظرية جمعية للشجاعة” علاقة السياسة بالأخلاق، وتذهب في “إبيستمولوجيا الشجاعة والاعتراف” إلى اختلاف الشجاع ومقاومته الأخلاقية، لتنقل في البابين التاليين إلى إبيستمولوجيا الشجاعة.

يطرح القسم الثاني “سياسة الشجاعة” عناوين عدّة، هي: “هل هي نهاية الشجاعة السياسية؟” وفيه تسائل فلوري الأخلاق والشأن السياسي مع عهد الديمقراطية الأول، وتبحث في “هل يجب إعادة بناء نظرية الشجاعة السياسية؟” عن اختفاء الشجاعة السياسية الخلقي، لتنتقل في “تزوير الشجاعة: هل هي نهاية الشعب وخزي النخب؟” إلى تأثيرات الديمقراطية وتداعياتها في هذا السياق.

أما “ميثاق شجاعة ممارسة قول الحقيقة” فيعاين قبول الشعب والأمير والفرد بلعبة قول الحقيقة، ويبيّن “الخزي الممنهج وممارسة قول الحقيقة” كيف يتحوّل ممارس القول الشجاع إلى قناع السفسطائي، وفي “لغة الشجاعة” تبدو الكاتبة مقتنعة أنه يصعب تبرير الكذب على الشعب، لتؤكدّ في الباب التالي ما هو أبعد من ذلك حين يستحيل فصل الأخلاق عن السياسة في الديمقراطية.

تعود فلوري في الباب قبل الأخير إلى التذكير بأن من عادة صغار الزعماء السياسيين أن يكونوا متحايلين ماهرين على الخير العام، لتختتم الكتاب بالحديث عن سلسلة الشجاعة المتصلة؛ شجاعة العاهل والحكومة والشعب.

العربي الجديد

سينتيا فلوري ومهانة الشعب وفضيلة الشجاعة الغائبة/ أحمد جابر

“نهاية الشجاعة”، نص مليء كتبته سينتيا فلوري، جمع بين الفلسفة واللغة الأدبية الأنيقة التي تحمل القارئ على الإحساس بغبطة المعنى، وعلى بذل الجهد لاستمرار الإمساك بالخط الواصل بين فكرة الكاتب وبين فضاء قصدها الذي تنيره إنسيابية دفَّاقة من تدافع المفردات.

عند الكاتبة، “نهاية الشجاعة” ذات مبتغى واضح، والهدف محدد منذ البداية، “فالنهاية” دعوة إلى الإقدام من “أجل استعادة فضيلة ديمقراطية”، يمكن معها إعادة تعريف الإنسان المعاصر، هذا الذي ربط جورجيو أغامبين تحديده، بمدى قدرته على أن يكون شجاعاً، شجاعة جعلتها الكاتبة نوراً للقلب، ثم سارت بها درساً وتحليلاً ومعاينة، من عناصر تعريفها إلى مطارح تجلياتها.

سؤالان قادا بحث سينتيا فلوري، الأول، هو ذاك الذي وضع نصب جهده إعادة صوغ نظرية خلقية للشجاعة، من دون استسلام أو تبرير، والثاني، هو ذاك المتعلق بكيفية الانتقال من نظرية خلقية إلى نظرية سياسية للشجاعة.

بداية الانطلاق في البحث، هي تأكيد كون الشجاعة فضيلة بذاتها، واعتبار المثابرة واحدة من أهم علاماتها، وهي مثابرة يظل فيها الإنسان الشجاع مناضلاً ضد الاستياء، محتفظاً بميزة الابتهاج، وبالقدرة على إحداث القطيعة ورفض التخفي، وعلى الإقدام على الاعتراف وعلى هدم التزييف.

تختصر الكاتبة الإنسان الشجاع لتجعله بإيجازٍ مكثَّف، ذاتاً تقول الحقيقة، الحقيقة العارية التي عبَّر عنها ميشال فوكو بكلمة الباريزيا، وكلمة الحقيقة ليست مهنة، بل هي موقف وطريقة، وإقدام شجاع يهيئ السبيل أمام عبور الحقيقة، ومنع اقتحام الفضاء العمومي من قبل الذين بلا معتقد سياسي، والذين تشكل “العملة” رابطهم الوحيد بالسياسة. ربما كان ذلك قدر الإنسان المعاصر، ولنقل الإنسان الحالي أيضاً، هذا إذا أردنا البقاء على جادة القصدية التي حملها الكتاب، أي هدف استعادة فضيلة الديمقراطية.

معاصرة الإنسان الحالي، ومعنى أن يكون شجاعاً، تجعله مواظباً على رؤية الضوء داخل الظلمة، ظلمة العصر التي يراها الشجاع ولا يحيد عنها، بمثابرة لكن ليس من دون خوف، فالخوف حكمة الشجاعة أيضاً، هذه التي فحصها أرسطو فميَّز بين الشجاعة الحقيقية والشجاعة المغلوطة، إذ إنه هناك مخاوف غير مبررة موجودة، وإلى جانبها هناك أنواع من الشجاعة غير الجديرة التي يكون مصدرها عدم الاكتراث أو المزاجية. في هذا المجال، يكون الأصوب مسلك ممارسة الشجاعة من دون إفراط، وفهم الشيء الذي يكبح الشجاعة، وتعلم كيف نحسب ثمن غيابها، ففي هذا الغياب تهديد للفضائل الأخرى التي تشكل فضيلة الشجاعة واسطة عقدها.

تنقل سينتيا فلوري الشجاعة من عنوان فرعي إلى عنوان آخر، لتعيد ربط تسلسلها بكليّة مختصرة تدق باب الشجاعة السياسية، هكذا يتدرج البحث من النظري إلى العملي، ومن سؤال المفهوم إلى سؤال ما العمل في نهاية المطاف. على درب الشرح التفصيلي، أو تفكيك مصطلح الشجاعة لإعادة بناء نظرية حول الشجاعة، يعبر إنسان الفعل الشجاع من محنة الشجاعة إلى كيفية اغتنام الفرصة السانحة، ومن فن الإرادة الشجاع إلى مقاومة الهمجية والعبث وتزوير الاعتراف، ولا يتوانى ذات الإنسان عن خوض تجربة الإنكار، وهو لا يتردد في اختيار خصوبة المخاطرة، ويظل محتفظاً دائماً بإرادة الابتهاج، هذا لكي تظل الشجاعة، كما سلف، نوراً للقلب، ويظل الإنسان الشجاع جديراً بالانتماء إلى عصره، من مدخل شجاعته، ومن سبل الإقدام على التصدي للمواضيع التي تواجه هذه الشجاعة، على الصعد الأخلاقية والفكرية والاجتماعية والسياسية.

من سياسة الأخلاق إلى سياسة الشجاعة، تطرح الكاتبة السؤال عن نهاية الشجاعة السياسية، فهل هي النهاية حقاً؟ ترى سينتيا فلوري أن انتساب الأمراء الحالين إلى الشجاعة هو انتساب تهريج، لذلك يصير السؤال التالي المطروح من قبلها هو: كيف يمكن إعادة تأسيس نظرية سياسية للشجاعة لا تكون في الحقيقة غير استغلال شعبوي لها؟ تحضر الإشارة هنا إلى أن الشجاعة تكون بوجهين، فهي سياسية وخلقية، ومع هذه الإشارة تبرز حقيقة غياب الفضيلة التي كانت مؤسسة للجمهورية، ودعامة أخلاقية للفعل السياسي، وجانباً مشعاً لروح الشعب، منذ جان جاك روسو، وروبسبير ومونتسكيو… أي أولئك الذين شكلوا المشهد الأول من الديمقراطية في فرنسا الجديدة. هذه الفضيلة المؤسسة التي رآها روسو وسواه في قلب النظام الجمهوري، أزاحها توكفيل الذي فضَّل الحديث عن “المصلحة المفروغ منها”… فهذه تتلاءم مع نقاط ضعف الناس، وتقع في متناول أصناف الذكاء كلها. عقيدة المصلحة غير قادرة على صنع إنسان فاضل، لكن بإمكانها أن تشكل عدداً من المواطنين القنوعين والمعتدلين والمحترسين. وفقاً لهذا المسار الذي اقترحه توكفيل، تصير الفضيلة عدواً للأنظمة، حتى ولو كانت مقاصدها حسنة. عندما تحل المصلحة المفروغ منها محل الفضيلة، تبرز مسألة تزوير الشجاعة، بحيث نكون مثلاً أمام رئيس دولة يمارس المسرحية السياسية، وبدل أن يكون شجاعاً ينجز الشيء نفسه دوماً وأكثر، فنصير أمام ديمقراطيات الفرجة، وأمام دوائر فساد سلبية تنشئ أنظمة من المقبولية يصعب كثيراً حلها لاحقاً.

التزوير على مستوى النسق الرسمي لا يعفي الشعب من مسؤوليته عن التزوير، لذلك تطرح الكاتبة السؤال في صيغته الآتية: هل هي نهاية الشعب وخزي النخب؟ واستطراداً، أو في الإجابة عن السؤال، تتم الإشارة إلى أن المجتمعات منظمة من طبقتين متعارضتين لهما رغبتان متناقضتان، فالكبار يرغبون في قمع الشعب، والشعب لا يريد أن يُقمع، وقصد الشعب هو الأكثر استقامة من قصد الكبار. في هذا المجال أحال الكبار أمر معارضة الشعب إلى النخب، هذه التي يثور خزيها عنيفاً بمصادقته على قتل التوافق الاجتماعي، ويمثل “الابتزاز” فعلها المشترك وشأنها العام. لكن أين هي عامة الشعب؟ ترى الكاتبة أن العصر ليس في مصلحتها، فقد عاد الإفقار ليخيم في ركاب العولمة، وبرزت المهانة الاقتصادية كمفهوم يجب دمجه ضمن أسس النظام العمومي والإجتماعي. هل تدل نهاية الشجاعة على نهاية الشعب؟ بالتأكيد تجيب الكاتبة، وتضيف أنه إذا كانت المهانة الوطنية تؤذن بموت الأمة، فإن مهانة الشجاعة تؤكد اختفاءها.

على وجوه شتى، كتاب نهاية الشجاعة يخاطب أوضاعنا اللبنانية والعربية، فيؤكد المهانات التي ارتدَّت إليها مجتمعاتنا، والخزي الذي تقبعُ فيه نخبنا، والخوف من القطيعة مع الخوف الذي تخضع له شعوبنا.

لقد كان صوت فيكتور هوغو صادقاً وشجاعاً عن ما اعتبره الفضيلة ومصالح الناس… نادرون “الهوغوليون” العرب الذين يذهبون بأصواتهم إلى ما بعد المسرح، وإلى ما فوق أصداء التصفيق.

(*) “نهاية الشجاعة: من أجل استعادة فضيلة ديمقراطية” (La Fin du Courage) لـ سينتيا فلوري، ترجمه عبد النبي كوارةعن “المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات” (194 صفحة موثقًا ومفهرسًا)

المدن

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى