مقالات

التشذيب وإعادة الكتابة.. تجارب وشهادات/ صدام الزيدي

(4)

لماذا يُعيد الأدباء والكتّاب النظر في أعمال ونصوص منجزة لتصدر ثانيةً إما في “طبعاتٍ منقّحة” أو في مجلات وصحف ومواقع للنشر الإلكتروني، تحت استدراك/تنويه: “كتابة ثانية”؟!. عربياً وعالمياً هناك أسماء وتجارب لافتة، اتسمت مسيراتها بالعودة إلى تشطيب شبه جذري لكتب وأعمال منجزة، كما أن البعض منهم (في غير مناسبة) تمنّى لو أنه عاد لتنقيح وغربلة كتاب ما.

عندما تُنجز دراسات وبحوث حول تجارب وإصدارات، ثم بعد حين يتغيّر شكل ومضمون تلك الإصدارات والنصوص بسبب أنها خضعت لكتابة ثانية، هل يفضي هذا بالضرورة إلى متغيرات جديدة في سياق القراءة والتحليل والدراسة والتقييم؟ هل البدايات هي من يفرض الأمر (بدايات تجربة ابداعية ما ليست بالطبع كمراحل لاحقة تصل فيها التجربة إلى النضج)؟ كيف أن أمر إعادة النظر في نتاج إبداعيّ مرّت عليه فترة من الزمن يكون وارداً لدى البعض وغير وارد لدى آخرين؟ كيف ينظر الأدباء والكتّاب إلى ظاهرة التشطيب وغربلة النصوص والمؤلفات من جديد أو ما عرف قديما بـ”التحكيك”؟ وما هي شهاداتهم من زاوية التجربة الشخصية حول “إعادة الكتابة”؟ 

هذه الأسئلة نطرحها في هذا الملف على أدباء وكتّاب وباحثين أكاديميين. هنا الجزء الرابع منه:

مصطفى ملح (شاعر وروائي/المغرب): رغبة الاكتمال وعدم الرضى عن التجربة الأولى يقودان إلى التنقيح

إن الحديث عن تنقيح الشاعر لمنجزه ومساءلته بالحذف والزيادة والترميم، هو أمر ناجم عن قلق الشاعر وحرصه على أن يكون نصه قريبا من الاكتمال بناء ورؤية وإيقاعا.

غير أنه يجب التمييز بين نوعين من الشعراء، فثمة صنف يكتب تجربته الأولى، رغم ما يعتورها من ضعف البداية وكبوات الأحصنة الأولى وهشاشة الرؤيا، دون أن يعود إليها حاملا إزميل الحفر في معمارها البلاغي، وهو على يقين، في الحالة هذه، بأن تلك النصوص تؤشر إلى ضوء البداية، وإلى ميلاد اليرقات الشعرية الأولى، فلا يعقل بالنسبة إليه أن نئد أفكارنا الأولى ومشاعرنا الأولى، لأنها تمثل الصرخة الأولى للكائن الشعري، وتمثل أول تحليق للسرب الاستعاري فوق جغرافيا التخييل.

وثمة صنف ثان يرى العكس من ذلك، إذ أن التجربة الأولى لا تعكس إلا طفولة الوعي الشعري، حيث العلاقة بالكلمة أحادية القطب، وما زال الشاعر في تلك المرحلة غير متمكن من تفجير ما تختزنه الكلمة من ثراء دلالي ومن غنى عميق.

وبناء على ذلك، فإنهم يرون أن تنقيح الأشعار الأولى أمر ضروري، إذ أنه يمنح أوكسجين جديدا لرئة الخيال، ويمنح وردة إضافية إلى مزهرية القصيدة.

وهناك أمر يعاني منه الكثير من الشعراء، ولعلي واحد منهم، وهو غياب التداول المطلوب، إذ أن نصوص الشاعر لا تعبر إلى الضفاف الأبعد، ولا يحضنها قارئ بعيد ينتسب إلى ذائقة مختلفة، وإنما تقبع تلك النصوص فوق الرفوف مغمورة بالغبار وخيوط العناكب ورائحة الرطوبة. إن غياب تداول النصوص الشعرية الأولى، وحرمانها من أن تُقرأ بعمق ومحبة، هو دافع أساسي يقود الشاعر إلى طبع دواوينه الأولى قصد إخراجها من دائرة العتمة ونشرها فوق خضرة الأعشاب وتحت زرقة السماء.

بالنسبة إليّ، نشرت عدة مجاميع شعرية، ولم توزع جيدا. أشعر بكثير من الألم حيال الأمر. ما جدوى أن نكتب دون أن يقرأنا الآخر؟ إن الآخر، قارئا وناقدا ومتابعا، هو شريك استراتيجي في القصيدة. فلولاه صار التأليف الشعري عبثا، وصارت الكتابة في نهاية المطاف بناء أهرامات فوق الرمل سرعان ما تخرج موجة سادية فتبيدها. هذا الآخر كيف أجده وكيف أقنع دور النشر بالوصول إليه وقد صارت شركات تجارية لا تنشر مشاعر الشعراء إلا إذا دفعوا مقابل ذلك من عرقهم ودمهم؟

إنه لأمر مخز ومُؤذٍ أن نطالب – نحن الشعراء- بكل شيء: أن نتخيل ونحزن ونفرح ونحول هذه الأحاسيس إلى أشعار، ثم نبحث عن مطبعة لإخراج النسخ المتفق عليها، ثم بعد ذلك نبحث عن سيارة أو عربة خشبية لشحن الكتب، ثم توزيعها على المكتبات والأكشاك وغيرها، ثم يمر الحول والحولان وربما العقد ولا أحد يكترث بها، ثم تنال منها شمس الصيف وأمطار الشتاء، وربما تتحرش بأغلفتها يد قارئ عابر سبيل فتفسد لوحات الأغلفة، ثم نبحث من جديد عن سيارة أخرى أو عربة خشبية أخرى لنعبئ الكتب، ثم نركنها مثل جثث أو مومياوات فرعونية في إحدى غرف البيت.

هذا ما يطلب من الشاعر: أن يتخيل ويكتب ويصمم وينجز غلافا ويدفع ثمن المطبعة وينشر الكتاب.

خلاصة القول، إن رغبة الشاعر في إعادة نشر ما يكتب هو مسألة لا تنافي المنطق الذي يحكم هذه العملية: فالشاعر يملك عينا ثالثة، وهو نتيجة لذلك، دائما ما يسعى إلى الاقتراب من الاكتمال. هذا السعي يسوقه إلى التنقيح، وزرع المزيد من الجمال في أرض قصيدته، والبحث الماراثوني عن قارئ رائع يفتح قلبه ليبتلع كيمياء قصيدته.

حاتم الجوهري (شاعر وباحث/ مصر): المراجعة والتحرير والتنقيح سمات متلازمة للحلم والأمل وكل مغاير

فيما يخص مسألة التشذيب والتنقيح للأعمال قبل خروجها للنور، لي هنا تجربة طريفة على ثلاثة مستويات، المستوى البحثي العام ومستوى دراستي الأكاديمية، وأخيرا المستوى الإبداعي والأدبي باعتباري شاعرا في الأصل وقبل أي شيء.

أولا فيما يخص المستوى البحثي، هناك عملان من أهم ما قدمته في دراسة الحالة العربية والمصرية على المستوى الاجتماعي والإنساني، كانا نتاجا لإعادة تنقيح ومراجعة وتحرير، وخرجا إلى النور بعد فترة طويلة تناهز العقد من الزمان أو أكثر من البدء في كتابتهما أول مرة. وهما دراستي “المصريون بين التكيف والثورة: بحثا عن نظرية للثورة”، ودراستي “سيكولوجية الصراع السياسي: نقد آليات التشويه والاستقطاب”. الأولى صدرت في نهاية عام 2012م والثانية في بداية 2016م. فرغم أن مسودتهما كتبت أول مرة بمنطق الباحث- المشارك، ضمن سياق الحركة الطلابية المصرية الجديدة التي خرجت دعما للانتفاضة الفلسطينية تقريبا في الفترة من 2001 إلى 2003، إلا أنني عدت إليهما بعد انطلاق الثورة المصرية في يناير 2011م، لأعكف على الدراسة الأولى في علاقتها بالحراك الجديد، وأقدم استشرافا لمسار المستقبل الشعبي/السياسي من خلال تواصلي مع النمط التاريخي لحراك الشعب المصري، والجدل ومحدداته بين فكرة الثورة والتمرد، وفكرة التكيف والخضوع.

وبعد أن خرج الكتاب إلى النور عكفت على الدراسة الثانية (سيكولوجية الصراع السياسي)؛ وأنهيتها إلا فصلا! وظل هذا الفصل مستعصيا متمنّعا طوال أكثر من عام كامل وربما قاربت المدة العام ونصف العام بلياليهما الطويلة، كان في حاجة إلى هدوء شديد وثبات نفسي، وهو الفصل الذي يتعلق بالاستشراف والتدافعات النفسية والسياسية ومتطلبات أو ملكات العبور إلى المستقبل، عند النخبة الواعية بمسارات الحلم الجديد، وقدرتها على فهم سنن الحياة في فترات التحولات التاريخية التي تتطلب وقتا.

أما على المستوى الأكاديمي ففي أطروحتيّ للماجستير والدكتوراه كنت في أزمة شبيهة إلى حدّ بعيد، استخدمت مصادرَ وتناولت مواضيعَ غريبةً تماما عن المدرسة المصرية في الدراسات العبرية والصهيونية، من خلال الأدب والأبنية الثقافية في سياقها التاريخي والأيديولوجي، وكشفت فيها عن تيارين أدبيين وجذورهما في البنية الصهيونية وحاضنتها الأوروبية.

وهو كشف يخالف الفكر الأرثوذكسي في مدرسة الدراسات العبرية والصهيونية المصرية، التي تستند في المعظم إلى أفكار الصورة النمطية حول المرجعيات الدينية/القومية التاريخية لمشروع الصهيونية، دون أن تقف كثيرا على أثر الحداثة وما بعدها في احتضان المشروع الصهيوني بوصفه أحد تمثلات الحداثة الروسية تحديدا مع الصهيونية الماركسية، ثم ما بعد الحداثة مع الصهيونية الوجودية عند سارتر، وهنا كان عليّ أن أخفي الكثير من عناوين الأطروحتين الرئيسية حتى يمرا ويحصلا على الإجازة! ثم عدت إليهما بعد حصولي على الإجازة والمناقشة وحررتهما مجددا لأوضح الفكرة الخاصة بي، وقد حصلت الماجستير على جائزة ساويرس في النقد الأدبي، كما أن الدكتوراه تَرجمتُ على ضفافها كتاب سارتر المعنون: “تأملات في المسألة اليهودية” وحصل على جائزة الدولة التشجيعية.

أما على المستوى الإبداعي والأدبي وفي تجربتي الشعرية فيمكن القول إنها كانت أكثر مفارقة وطرافة؛ في ديواني الشعري الأول: “الطازجون مهما حدث”.. وبيني وبين نفسي ومع حلقة ضيقة من الأصدقاء القدامي، أخرجت ما لا يقل عن خمس أو ست مسودات للديوان، حملت كل منها عنوانا مغايرا وترتيبا مغايرا للقصائد، وفي كل مرة كنت أتخير له شكلا وأعود إليه للتنقيح والمراجعة وأختبر تلقيه عند مجموعة من الأصدقاء، أو أضع القصائد بين ضفتين فرحا في مواجهة قرار قديم اتخذته بتأخير النشر على الجمهور.

كما يمكن القول إن ديوان “الطازجون مهما حدث” وقراري بتأخير النشر ما يناهز عقدين من الزمن، جعلني أغضّ الطرف عن مجموعتين شعريتين كاملتين على الأقل تجاوزهما “الطازجون” فنيا وروحيا؛ المجموعة الأولى ربما حملت قصائد الرومانتيكية وبواكير الصدمة مع الواقع في التسعينيات، والمجموعة الثانية غريبة للغاية ارتبطت بفترة الحركة الطلابية وبعدها بقليل، وقصائد ربما أصفها الآن بوعيي النقدي بعد أن خرجت من التجربة، بقصائد شبيهة بالدراما السياسية للشعر الإسباني والذات المحاربة/الحالمة في مواجهة تكلس وجمود السياسيين.

لكن “الطازجون مهما حدث” باختياره الأساسي حول ما أسميه الآن “الرومانتيكية الثورية” تجاوز المجموعتين الشعريتين، وجعلني لا أقف عليهما كثيرا بالتحرير أو المراجعة لأنني تجاوزتهما نفسيا وروحيا.

لكن عموما المراجعة والتحرير والتنقيح سمات متلازمة للحلم والأمل وكل مغاير عند الكاتب أو المبدع، خصوصا حال كونه يبحث عن الأفضل والإضافة الفاعلة للمنجز البشري الطويل، عبر سجل التاريخ الزخم للغاية.

محسن البلاسي (شاعر وفنان تشكيلي/مصر): العمل الأدبي والفني يتنفس مثلنا لكن القاتل هو من يتعامل معه كجثة هامدة

العمل الأول هو الغلطة الأولى، العمل الثاني هو الغلطة الثانية. هكذا تعلمت من أساتذتي، العمل الأدبي والعمل الفني كائن حي ومتحرك دائما لا ينجبه المبدع كصنم مصمت أو مشلول وبمجرد انتهائه من صياغته الأولى يدخل أشخاص آخرون ليبثوا الحياة في هذا الجنين؛ مدققون لغويون، نقاد، قراء، ناشرون، باحثون إلخ…

حتى اللغة والبناء اللغوي أؤمن بأنهما كائن حي سريع التغيير والتطور.

كان أول عمل لي كتاب بعنوان “مزامير إيرو سياسية”، ونصحني أساتذة كبار بأن هذا العمل هو غلطتي الأولى ويجب أن أقف عليه بأقدامي حتى ألمح ملامح العمل الثاني في الأفق، وهذا بالفعل ما حدث فيما يخص العمل الثاني والثالث والرابع، لكن كل يوم تنتابني رغبات لإضافة المزيد وقص المزيد من داخل كل عمل كتبته.

أحيانا أشعر بشعور داخلي بالإحراج فيما يخص عملي الأول، أو أريد أن أخفيه عن الجميع، أضيف إليه المزيد وأغير ملامحه بالكامل. كان عبارة عن نصوص شعرية تصاحبها لوحات للفنانة ماجدة خوجة، كلما نظرت إلى هذا الكتاب أتساءل من الذي كتب هذه الكلمات ولا أعرفه؟ هذا شعور طبيعي ولا يمنع فخري بكل حرف كتبته. أما عملي الثاني فكان ديوان نصوص شعرية سريالية مشتركة بيني وبين غادة كمال بعنوان “آلهة القمر”. مرّ هذا الكتاب بمراحل طويلة امتدت لثلاث سنوات من التشذيب والمحو وتغيير الملامح، حتى إن مسوداته المتعاقبة لا تشبه بعضها البعض إطلاقا خصوصا أن تجربة الكتابة المشتركة تجربة معقدة وليست بسيطة، بعد ذلك بدأنا مرحلة التفكير فيما بين السطور، هل سيجلب لنا المشاكل الاجتماعية أو السياسية وربما الدينية…. إلخ، حسب نوع الرقباء في مجتمعاتنا العربية وما أكثرهم، فبدأنا في محاولة السيطرة على جموح وحرية النص وأغلبها كانت محاولات فاشلة، فلم نستطع، بعد ذلك جاءت مرحلة ملاحظات الناشر فيما يخص تفادي أي مشاكل اجتماعية أو سياسية أو دينية وبالفعل هناك مقاطع لم تنشر في الطبعة الأولى من كتاب “آلهة القمر” وهناك مقاطع محذوفة بالطبع مع الازدياد المستمر لوحشية الرقباء سواء كانت اجتماعية أو سياسية أو دينية، وكانت تلك المقاطع ربما ستثير مشاكل عديدة للكتاب وكتابه. بالطبع هذا أمر قاسٍ كواقعنا، يشبه حين تقتطع قطعة من لحمك عنوة وترميها لقطيع من الضباع، فتظل مركونة في قفص تنتظر من يطلقها من جديد. وأتحدث هنا عن ظاهرة الرقيب بشتى أشكاله ليس بصيغة الأمر الواقع الذي أرضى به لكن أتحدث عن تلك الظاهرة بمزيد من التقزز والاستياء والحزن.

جاءت بعد ذلك تجربتي الثالثة وهي “كتاب الخيال الحر”، وهو كتاب بحثي نقدي فيه بعض الأبحاث التطبيقية فيما يخص الصراع في علم الجمال بين الفلسفة المثالية والفلسفة المادية. كل يوم تزداد بداخلي رغبة في المحو والتشذيب والإضافة والتنقيح داخل هذا الكتاب خصوصا حين تتفتح طرق وسبل ومراجع جديدة في المواضيع التي أثرتها، بل أيضا تغير المواقف السياسية والاجتماعية والفكرية والإبداعية لبعض المبدعين الذين سلطت عليهم الضوءَ في هذا الكتاب، كما أنني أعدت اكتشاف المزيد فيما يخص المجلات والدوريات القديمة التي تناولتها في هذا الكتاب.

لذلك أؤمن بحتمية إصدار طبعة أخرى من كتاب “الخيال الحر” بمزيد من الإضافات والتشذيب، وأستطيع أن أقول إن كتب النقد الأدبي والفني والجمالي هي أكثر كتب من الممكن أن يشعر الكاتب برغبته في الإضافة إليها أو محو أو تشذيب ما بداخلها طوال فترة حياته الأدبية، هذا الشعور لا ينتهي، وهو واقع علمي يفرضه التغيير والتطور المستمر فيما يخص علوم الجمال والنقد. بعد ذلك جاءت تجربتي الرابعة وهو كتاب أنطولوجيا وترجمات لأعمال منسية لشعراء سرياليين. وشعوري بالرغبة في الإضافة والمحو والتشذيب في هذا الكتاب لا يأتي فيما يخص مضمون النصوص لكن يأتي فيما يخص الواقع المتغير للغة الذي يتطور ويتغير يوما بعد يوم، كلما أعدت النظر إلى هذا الكتاب أردت لو أغير لفظا إلى لفظ آخر في قصيدة ما وهكذا وكل هذا لا يعني عدم ثقتي فيما كتبته، بالعكس يعني الثقة التامة في رؤيتي لحيوية ما كتبته وثقتي بأنها كائنات حية لم تصبح جثة بعد أن انتهيت من كتابتها بل إنها فقط مساحات تستوعب المزيد من التطوير والإضافة والمحو والتشذيب طبقا لواقعها المعاصر. وبالطبع حين تنتهي عقود تلك الكتب مع دور النشر التي نشرتها سأفكر في طباعة طبعات ثانية أو ثالثة منقحة ومعدلة ومضاف عليها ما تمّ حذفه أو ما أريد أن أضيفه. العمل الأدبي والفني يتنفس مثلنا وفقط القاتل هو من يتعامل معه كجثة هامدة.

إبراهيم عبد الجليل الإمام (روائي/ليبيا): النص المنشور انتقلت ملكيته إلى القارئ والباحث والناقد وأي تغيير فيه تعدّ على حق الآخرين

لست من أهل الاختصاص في الأدب العربي حتى أدلي بدلوي بين الدلاء في قضية تشذيبه وتطويره وتحسينه. لكني سأتحدث عن تجربتي الشخصية ربما تجدون فيها ما يفيد.

لست من المؤيدين للعودة إلى نص قديم منشور ووصل إلى يد القارئ والقيام بعملية تشذيبه. هذه العملية أشبه بتزيين الفتاة بعد الزواج والحمل والولادة.

النص صار من الماضي، له ما له وعليه ما عليه. التغيير في النص القديم وتحسينه والإضافة إليه لا تخدم تجربة الأديب، خاصة عندما يشمر أحد النقاد عن ساعد الجد للبحث بين ثنايا هذا الأدب. إنه نوع من التزييف وهو أسوأ أنواع التزييف. أما عن تجربتي الشخصية فأقوم – أحيانا- بالقراءة الثانية للنص بعد اكتمال مسودته الأولى. دائما ما أجري تغييرات كثيرة على النص تصل أحيانا إلى تغييرات جذرية.

ذات مرة اضطررت إلى إجراء تعديلات كبيرة بعد أن قرأ أحد الأصدقاء المسودة المُعدّة لدار النشر. غيرت مجرى الأحداث بناء على ملاحظاته التي وجدت أنها تمنح النص بعدا جماليا آخر. لن أفشي سرا إذا قلت إن هذا حدث معي في أكثر من رواية. كما أن المراجعة قد تمنحني أفكارا جديدة، أقوم بصياغتها في عمل آخر غير الذي أقوم بتشذيبه وتهيئته للنشر.

الخلاصة: أعتبر أن النص المنشور انتقلت ملكيته مني إلى القارئ والباحث والناقد وأي تغيير فيه يعدّ تعدّيا على حق الآخرين.

(5)

عبير خالد يحيى (باحثة وناقدة سورية/مصر): التنقيح لازمة تصيب المبدعين

إن الطبعات المنقحة لأعمال منجزة يعيد كتّابها النظر فيها مردّها إلى النضوج الأدبي للكاتب أو الشاعر بتقدّم العمر وتطوّر التجربة الإبداعية لديه، بحيث لا يعود الأديب مقتنعاً بما كتبه سابقاً، ونعزو ذلك إلى استمرارية التأويل الذي ينطوي داخلَه الإصرار على تبديل العناصر اللغوية والتي تنعكس منها العناصر الجمالية بشكل متطوّر يعكس نضج التجربة الأدبية عند الكاتب أو الشاعر. وهي حالة ملاحظة بكثرة، ومصاحبة للأدباء المتمكّنين من كتابة نصوصهم، والمصرّين على أن تكون نصوصهم في أبهى حلّة، ومكتوبة على درجة عالية من الحرفية الأدبية، بمعنى أننا نجدها عند من يمكن أن نطلق عليه لقب (النصّاص) لتمكّنه من نسج نصوصه بحرفنة كبيرة، فنجدهم لا يقتنعون بما يكتبون بشكل مطلق، وإنما ينظرون دائماً إلى نصوصهم بنظرة الريبة وعدم الارتياح، فيصبح لديهم التغيير المستمر لازمة، بهدف تطوير النص نحو الأفضل، فإذا كان النص مطبوعاً، ومع الوقت تتجدّد لدى الكاتب معلومات ومكتسبات في تجربته الإبداعية فتغدو أكثر نضجاً وتبلوراً عما طبعه آنفاً، نجده يلجأ إلى عملية التنقيح والتنقية ليرضي عملية التجربة والملكة الأدبية التي لا تقف عند حد، لذلك نتمكن من اكتشاف الفوارق الإبداعية بين الأدباء، وهذا هو المؤشر الحقيقي الذي يتقدّم فيه أديب على آخر إبداعيّاً، وهي لازمة ضرورية تؤسس للعبقرية لو انتبه إليها من أُصيب بها. هل هي مرض؟ قد تكون علّة، لكنها علّة معرفية تحتاج دواءً، ودواؤها التجديد المستمر الذي لا يقف عند حد.

طبعاً بالنسبة إلى الدراسات النقدية يجب أن ترتقي بملاحقة التغيرات الحاصلة بشكل عمودي، بمتابعة المتغيرات التي تنتج تطوراً ملحوظاً في معطيات المواد الخاضعة للتحليل، وبذرائع مسنودة إلى علوم تثبت تلك المتغيرات بذلك الاتجاه المعرفي نحو الجديد، ولذلك نرى عديد النقاد الذين يخصصون الكثير من جهودهم في نقد أعمال أدباء كبار يلاحقون تلك التغييرات أو تلك اللازمة عند أولئك الأدباء بشكل دؤوب، واضعين في الاعتبار حصولهم على مكتسبات وآفاق تحليلية نقدية لا تقل عن مكتسبات الأديب الإبداعية نفسه، ولذلك يضطر العديد منهم إلى تحديد تاريخ الطبعة ورقمها التي قدّموا عليها دراستهم، فاتحين المجال لأنفسهم لاستقبال قراءات جديدة ملحقة بدراستهم تقتضيها عملية (التحكيك) المستمرة من قبل الأديب.

بالنسبة إلي تعرّضت لهذه التجربة بالنقد مع أدباء مصابين بتلك اللازمة، وكان حظي أن الأعمال لم تكن مطبوعة ما سهّل علي الأمر، فكنت أتلقى منهم العمل الأدبي مرات عديدة، وفي كل مرة أتسلّم ملفّاً يُطلب مني أن أحذف السابق وأعتمد الحالي، وأكون على يقين من أنني سأحذف الحالي قريباً، ولم يكن الموقف يستفزني، بل كنت أعتبر نفسي محظوظة لأني سأكون شاهدة على مراحل تشكّل نصّ ناضج فعلاً، ما يتيح لي التوسع العمودي بإضافة مستويات معرفية جديدة أضيفها إلى دراستي القديمة، حتى أن بعض دراساتي تجاوز فيها حقل دراسة التجربة الإبداعية العديد من النطاقات التي تدخل حيّز الابتكار.

أما عن من يكتب ويلقي ما كتب في أول فرصة في كتاب مطبوع، أو في نشر إلكتروني دون أن يجد في نفسه الرغبة في إعادة النظر فيما كتب، ويدّعي أن الإبداع وليد لحظته، دون أن يلقي بالاً إلى حقيقة أن الوليد يحتاج الكثير من الاهتمام بعد ولادته، ولعل التنظيف من الأخطاء هو أوّل هذا الاهتمام، فهو كاتب قصير النفس، غزير الإنتاج بلا طائل، ولا أعمّم طبعاً، لكن ما أراه من نصوص مطبوعة بأخطاء مروّعة، ودون أدنى اهتمام بمراعاة تقنيات الكتابة الفنية والجمالية، ما يجعل معظم تلك الأعمال ساقطة على الأقل في أحد البنائين إما الفني أو الجمالي أو كليهما معاً.

وبحال من الأحوال لن نجد النص الأول ضعيفاً أبداً عند هؤلاء المصابين بتلك اللازمة، وإنما هو -وما تلاه- فقط نص لم يبلغ حدود اقتناعهم، ولم يرضِ توثّبهم إلى فضاءات أدبية رحبة لم يبلغها أحد قبلهم.

عماد علي سعيد البريهي (شاعر وباحث يمني/المغرب): لكل مبدع ظروفه الخاصة

أسئلة عميقة وتكشف عن وعي بصير في تتبع الزوايا الشائكة والغامضة في جوانب الإبداع. كما تكشف عن وجود إشكالية مهمة من إشكاليات الفن، وهي مشكلة تستدعي الوقوف أمامها بتأمل وتدقيق لمعرفة الإبداع الفني في ماهيته وجوهره وعلاقته بأقطاب العملية الإبداعية المتمثلة بـ(المبدع، واللغة، والمتلقي، والواقع).

إن الإبداع كما نراه أو كما هو في ذاته رؤيا وجودية (فنية ومعرفية) يتسم بالإطلاق ولا ينحصر بحدود زمنية معينة، بل هو رؤيا متجددة باستمرار، وكل عمل إبداعي فعلي هو تصور خاص مقيّد في زمنٍ خاص. أي هو تقييد لصفة معينة من صفات الإبداع. والمبدع يغترف دوما من معين إطلاق الإبداع ويقيده لنا في زمن الكتابة، ومن ثمّ فكل كتابة إبداعية هي بالأساس رؤيا فنية ومعرفية للوجود.

فمن حيث الجانب الفني تجسد الكتابة مستوى الإبداع الجمالي الذي وصل إليه المبدع أثناء الكتابة، وكذلك الأمر بالنسبة إلى الجانب المعرفي. فهما يتآزران معا ليخرج النص بصورة فنية معرفية تعكس مستوى معيناً من مستويات الوعي الرؤيوي معرفة وجمالا. ولما كان الإبداع لا حدود له فإن المبدع الحقيقي يظل دائما في حالة سفرٍ دائم للاقتراب من الإبداع في مستواه الإطلاقي المثالي الذي لا يمكن أن يُستَنفَد في الكتابات والممارسات الفعلية، وهو ما يسمح لنا بالقول إن بعض المبدعين يعيدون تنقيح أعمالهم باستمرار؛ نظرا إلى أن زاوية الرؤيا الفنية والمعرفية تغيّرت لديهم، أي أن أفق توقعهم تغيّر حسب تعبير نظرية جماليات التلقي، فكان تغييرهم وتنقيحهم لأعمالهم من جديد تعبيرا عن ذلك التطور الرؤيوي الملحوظ لديهم.

وإن أخذنا بعين الاعتبار تعدد النظريات الأدبية والفنية في العصر الحديث فإننا لا نستطيع أن ننكر أثرها في تشكّل الوعي الإبداعي وتغيّره لدى المبدع من حين إلى آخر، وهو ما يدعوه إلى إعادة صياغة أعماله وتنقيحها في مراحل لاحقة. ومن زاوية ثالثة فإن العملية الإبداعية عملية شاقة ومتشابكة ومتداخلة لا يتحرك فيها المبدع بصورة مستقيمة إذ تعترضه صعوبات ودروب شائكة لغوية وفنية ومعرفية وواقعية وأيديولوجية وغيرها، وكل ذلك يجعل من إعادة العمل وتنقيحه أمرا ضروريا في مراحل متأخرة. هذا إن نظرنا إلى العمل الفني من زاوية المبدع أي صاحب العمل نفسه.

أما إذا نظرنا إلى العمل من زاوية المتلقي فهو أيضا يرتبط بطبيعة العمل الفني نفسه في جميع مراحله، وحين يُقِدم القارئ دراسات لتلك الأعمال المنجزة في شكلها ومضمونها الأول فإن تلك الدراسات تكون محكومة بالأعمال الإبداعية الأولى؛ لسببٍ بسيط هو أن القراءة تنطلق من النص وإلى النص ولا تنطلق من فراغ. وفي حالة حدوث إضافات وتعديلات لتلك الأعمال الأولى فمن الضرورة أن يعيد المتلقي القراءة للعمل الإبداعي لوجود مستجدات ومتغيرات حدثت فيه، وتكون هذه الأعمال في صورتها الجديدة أعمالا أخرى غير تلك الأعمال السابقة؛ لأن الإضافات والتعديلات التي أدخلها صاحب العمل تدل على أن الرؤيا الفنية والمعرفية تغيّرت لديه، وبذلك يجب على القارئ أن يأخذ بها في عين الاعتبار أثناء إعادة القراءة الأخرى.

أما بخصوص السؤال الذي مفاده: هل البدايات هي من يفرض الأمر (بدايات تجربة إبداعية ما ليست بالطبع كمراحل لاحقة تصل فيها التجربة إلى النضج)؟ فمن وجهة نظرنا فإن البدايات الأولى من العمل لا تفرض الأمر ولا حتى تلك المراحل المتأخرة منه، فما يفرض الأمر هو الرؤيا؛ لأنها هي الأساس في العمل الإبداعي وهي المسؤولة عن تلك المرحلة الإبداعية الأولى، وهي المسؤولة أيضا عن تلك المرحلة المتأخرة حين تطورت لدى المبدع الأدوات الإبداعية أثناء ممارسته للإبداع. وهذا خلافا لما هي عليه النظرية التكوينية (الجينية) Genetics لأنها اهتمت بالبدايات الأولى للأعمال الفنية، وبمراحل تطورها، وسعت إلى تتبع التفاصيل الأولى لولادة العمل الفني من زمن الكتابة، أي بالمراحل الأولى التي تسبق عملية النشر. وينقل الدكتور نبيل راغب في هذا السياق رأي الناقد بيير مارك دو بيازي: “إن النص النهائي للعمل الأدبي ليس المرجع الأساسي أو الوحيد في العملية النقدية التكوينية” (موسوعة النظريات الأدبية، ص235). ومن هنا جاء اهتمامهم بالمخطوطات الأولية للعمل الأدبي بوصفها البواكير الأولى للأعمال من أجل معرفة كيفية إعادة تشكّل الأعمال والنصوص في بدايتها الأولى، غير أن التطور الملحوظ في مجال الطباعة أدى إلى اختفاء فكرة المخطوط واستبداله بالمطبوع، ومن هنا أصبح النص اليدوي الذي يكتبه المؤلف بيده هو النص الأول الذي تعتمد عليه النظرية التكوينية لمعرفة مراحل تطوره إلى خروجه عبر آلة النشر، لأنه قد يمر في هذه المراحل بعقبات وإكراهات فكرية أو فلسفية أو أيدولوجية تدفع بصاحب العمل أن يعدله ويعيد صياغته بما يتناسب مع المستجدات الطارئة.

أما مسألة ورود إضافات أو تعديلات على الأعمال الإبداعية عند بعض المبدعين دون بعض فذلك راجع إلى الفروق الفردية بينهم من حيث اختلاف الرؤى واختلاف الجوانب النفسية والفكرية والجمالية والذوقية والفلسفية. وننبه إلى أن وجود تعديلات لدى بعض المبدعين دون بعض لا يعني أن من لم يعدل أعماله هو راضٍ عنها بالضرورة أو أنها وصلت مرحلة الكمال الذي لا كمال بعده! فذلك أمر مستبعد؛ لأنه يخضع كما قلنا للظروف الخاصة بكل مبدع.

إيهاب خليفة (شاعر/مصر): النص بروحه الجديدة أكثر جمالاً

يخيل إليَّ – وقد لا أكون محقا- أن النص لا يغادر الرحم التي تشكل فيها كلية، لكن شيئا ما، يظل يربط النص بقائله، فبين النص ومبدعه حبال سُّرية شتى، إذا انقطع أحدها، تجدد غيره، ولذا فمن الجائز أن يعيد المبدع ترميم نصه الإبداعي، شريطة أن تتوافر تلك الحالة الأولى التي رافقت إنتاج النص، ذلك أنه من الصعوبة -إن لم يكن مستحيلا- أن تعود الفراشة لتسكن شرنقتها مجددا، وتبدأ في حالة من التخلق، حالة جديدة ومفارقة، كيف للنص بعد أن حلق بعيدا، أن يرغّبه المرء في أن  يخضع لمبضع التعديل، مستسلما لتسلط الوعي على النص.

صناعة نص خالٍ من تحفظات القراء، قد يكون غاية كل مبدع، لكن تلقائية النص وعفويته قد تكونان معا السبيل إلى خلوده في نفوس القراء، الأمر محير إذن – يا صديقي- ويحتاج إلى مبدع جسور، قادر على النفاذ إلى روح النص، وفي لحظة إبداع حقيقية يطهر الكتابة مما تراكم عليها من دوال مجانية ويسمق بنصه إلى آفاق أكثر رحابة.

وبالنسبة إلي مرت بعض نصوصي بتعديلات بعد النشر، وكان السبب في ذلك هو أنني عانيت من تعثر نشر النصوص المطوّلة في الصحف التي قد لا تسمح بمنح حيز كبير للشعر- أو لي تحديدا-  فاضطررت أحيانا إلى إرسال مقاطع من النصوص الطويلة، وأحيانا كنت أتخير مقطعا وأضع له عنوانا خاصا وأدفع به إلى النشر، ولا أخفي عليك أنني جلست وأعدت النظر في قصائدي المنشورة، وأجريت ترميما محدودا على بعضها، اعتقادا مني أن النص على صورته الجديدة سيكون أكثر جمالا وأشد تماسكا.

على النقاد منح الغفران للمبدع الذي يخوض مغامرة جديدة مع نصه القديم، ولا يفرضون عليه أن يظل نصه في تابوته البديع، ذلك أن الكتابة نزق، وغواية وقد يكون ما كتب ونشر هو أحد أوجه النص، وقد يكون لنص واحد أوجه عديدة، تتخلق عبر أزمان عدة ومسافات شتى، لكنني لا أعرف ما مصير الدراسات النقدية التي كتبت عن نص تغير جزئيا أو كليا، ولا أعرف كيف يعتذر المبدع إلى ناقدي شعره، إذا هو جنح به بعيدا عن توقعاتهم. صيرورة كهذه حجر عثرة في طريق السلام بين المبدع وقرائه وبين النص ونقاده.

ليلى عطاء الله (شاعرة/ تونس): التغيير والدمج مظلمة

تمثل الإصدارات الأولى منجزا هاما في حياة المبدع. تلك البواكير لا تتكرر، فعلى صاحبها أن يبقي عليها مثلما هي دون تشذيب ولا تهذيب. لأن المتلقي وأقصد هنا الباحثين والنقاد يحتاجون هذه الأعمال كما هي وإلا فقدت قيمتها بوصفها منجزا فنيا ودلاليا في مرحلة ما من تاريخ الإنسانية. إن ما يقدم عليه بعض الشعراء من تغيير للعناوين أو دمج النصوص بغية الانخراط في الحداثة هو مظلمة في حق الشعر أولا وفي حق العالم ثانيا لكن الأمر ليس كذلك في الدراسات النقدية، فمن حق صاحبها أن يحينها لأنه قد يعدل رأيا وقد يطور موقفا بتوظيف مناهج البحث العلمي الحديث. ولنا مثال على ذلك كتاب الدكتور الشاعر فتحي النصري “السردي في الشعر العربي الحديث” الصادر في 2019، فقد أضاف إليه آراء عميقة نحسب أنها ستغير وجهة النقد وخاصة في قصيدة النثر.

صفوان الشويطر (كاتب وباحث/اليمن): القول باكتمال النص مناف لطبيعة الرؤية الإبداعية

أعتقد أن النص الأدبي أو العمل الابداعي عموما ليس عملا ناجزا لأن المبدع يظل يحمل قلق الاكتمال ويرى للنص بغير ما يراه المتلقي إذ يبقى النص بالنسبة لمنتجه مفتوحا على التغيير والتعديل والإضافة، فوعي الأديب أو المبدع في حالة قلق دائم وحساسية مفتوحة على التطور والنمو، وهذا يفسر كيف أن كثيراً من المبدعين ندموا على كثير من النصوص التي كتبوها لأنهم تأملوها بعد نشرها فوجدوها لا ترقى لما هم فعلا يسعون لتحقيقه على مستوى الشكل والمضمون، فما يراه المبدع الآن نصا مكتملا قد يجده لاحقا نصا تعوزه الكثير من التعديلات أو حتى قاصر رؤيويا.

ظل الشاعر الأميركي إدجار آلان بو يعدل في قصيدته الشهيرة “الغراب” حتى بعد نشرها ونشرت بـ 18 نسخة مختلفة، فالنص الأدبي ليس نصا مقدسا والنظرة للفن والأدب بأنه نص متعال فيه نوع من الإجحاف. أيضا نتذكر الخطاطة الأولى لقصيدة “الأرض اليباب” للشاعر ت. س. إليوت والتي تبدو عليها تشذيبات وتعديلات كثيرة قام بها الشاعر إزرا باوند قبل النشر النهائي للقصيدة. كما هو معروف في الغرب، على الأقل، فإن لكل كاتب شهير محرراً أو محررين يعملون على مراجعة أعماله والتدقيق فيها وقد يصل الأمر أحيانا إلى حذف صفحات كاملة من العمل بإذن من الكاتب طبعا، وذلك يشير إلى مدى التدخل الذي قد تتطلبه عملية النشر والتحرير والإصدار مراعاة لجوانب كثيرة ليست فنية فقط، فصناعة الكتاب وخروجه كسلعة ثقافية تستدعي الكثير من الصنعة والاشتغال على النص.

لقد انتهت الدعاوى الكلاسيكية التي تؤمن بالكمال الفني واتضح أن النص- على مستوى المعنى- هو حامل ثقافي وأيديولوجي لكثير من القيم والأفكار التي قد تتغير أو يعاد تشكيلها، وهو -على مستوى المبنى – خاضع للإبدالات والتشذيبات التي قد تقويه دلاليا أو تكثف فيه عناصر فنية وأسلوبية.

إن القول بالاكتمال النهائي للنص، مع امكانية ذلك بالطبع، هو قول مناف لطبيعة الرؤية الابداعية التي تؤمن دائما بالممكن والمتجاوز وترى الكمال الفني كصيرورة مستمرة وليس حالة ثابتة، لذا فالنص موقف مفتوح من العالم ورؤية مغايرة تتسم بالمرونة والاختلاف.

أمينة الصنهاجي (شاعرة/المغرب): طبيعة ما نكتبه تحدد تعاملنا مع مادته بشكل جذري

التشذيب.. كلمة تحيل على حديقة. فنفترض ابتداء أن ما نكتبه يجب أن يكون جميلا ومرتبا ويعجب المتلقي.

هنا أيضا يدخل بالصورة معطى المتلقي.. وينبثق سؤال جديد: لمن نكتب؟

يتساوق وجهان بشكل عفوي عند التفكير في الجواب: الكاتب والمتلقي في نفس الآن.

حين يبدع الشاعر أو القاص: هل يحضر المتلقي فعلا أثناء فعل الكتابة، أم هي الذات الكاتبة تمارس حقها في التعبير والتحرر.. أو التواجد عبر الكلمات؟

هل يأتي المتلقي أولا، أم الكاتب؟

يلح معطى آخر في هذه المرحلة وهو طبيعة ما ننتجه من كتابة: رسالة؛ شعر؛ قصة؛ تأريخ؛ تقرير؛ مقال…. إلخ.

أظن أن طبيعة ما نكتبه تحدد تعاملنا مع مادته بشكل جذري. فالتشذيب الوارد بالسؤال يضعنا أمام تنوعات متحركة، لا يمكن التعامل معها بصدق إن اختزلنا الجواب في صيغة محددة.

عني: لأني لا أوجه رسالة ما، فلست وصية على أحد. ثم توجيه الرسائل يقتضي ضمنا الإحساس بالتعالي والأفضلية، وهو ما لا أدعيه ولا أقبله.

ثم ما أكتبه لا أريد منه توثيقا ولا تأريخا ولا إبداء موقف ما.. هو احتياج لكينونة مضمرة باليومي الذي يطغى على ما نحن عليه حقيقة. وخروج على قدر ما تحتمله اللغة عن إطار الحياة المعلبة التي نعيشها، وهو نوع من النظر في مرآة بلا إطار تسيح في اتجاهات مختلفة وأحاول من خلال اللغة المتاحة رسم بعض ملامحها. لذا فأنا لا أغير شيئا بالمطلق. إلا إن كان خطأ إملائيا يوجهني إليه صديق ما.

التشذيب بالنسبة إلي هو محاولة للوقوف على منصة مبهرجة كي يصفق الجمهور على الحديقة التي تقدمها.. هو تجاوز لتعرية الذات بصدقها، وتحايل على المحض الذاتي كي ننشئ خطابا براغماتيا نتعالى فيه وبه عن ذواتنا أو عن الغير.

هل معنى ذاك أنني ضد التشذيب؟ لا. مطلقا.

فقط هي أرصفة متعددة وكل كاتب يختار أين يقف.

ضفة ثالثة

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى