مراجعات كتب

ثلاثة مراجعات لكتاب “عَطَب الذات… وقائع ثورة لم تكتمل” لبرهان غليون

عطب الذات” لبرهان غليون… عن الثورة ودمشق ومثقفيها/ موفق نيربية

بداية، لا بدّ من تسجيل قصب السبق لبرهان غليون على تسجيل حصيلة تجربته مع المجلس الوطني السوري والمسألة السورية عموماً، وإصدار كتابه القيم، “عَطَب الذات… وقائع ثورة لم تكتمل”، والصادر عن الشبكة العربية للأبحاث والنشر، في أكثر من 500 صفحة.

ومن الواضح أن هذا الكتاب قد استغرق العامين الأخيرين قبل صدوره، كتابةً وبحثاً وحفراً، وتشغيلاً للذاكرة وتقليباً للأمور وتقييمها، حتى لا تكون النتيجة خاضعة لمبادئ رد الفعل، ولا للهوى وعوامل الكآبة التي أصابت الجميع تقريباً إلى هذا الحد أو ذاك… ولماذا العامان؟ لأنهما الفاصلان عن مرحلة أواخر عام 2016، الذي شلّت خلاله مسارات معركة حلب، أي فرصة راهنة للنهوض الوطني الديموقراطي، وتحققت فضيحة الإسلام السياسي السوري، الذي كان الحرص على دوره الإيجابي يدفع الجميع إلى الصمت أو التهاون مع ما قام ويقوم به.

وبالتواقت والتشابك مع ذلك آنذاك أيضاً، ثبوت استعصاء مؤسسة المعارضة الأكبر، الائتلاف الوطني، على أي فرصة للإصلاح والمراجعة، مع مؤسساتها الأخرى أيضاً. وقتها انسحبنا من الائتلاف، ويبدو أن برهان غليون انسحب حينها إلى أوراقه، ليخرج علينا بكتابه هذا.

لا يمكن طرح كل ما يدور في الذهن من خواطر حول الكتاب في مقالة، ولذلك لا بدّ من الانتقاء والتركيز على ما هو أهم في رأيي، أو ما يتقاطع عرضاً مع الأمر في تجربتي وفكري. وسأختار التعليق على موقف الكتاب وتقييمه قوى المعارضة الأساسية، مثل “إعلان دمشق” و”المثقفين”.

لا ريب في أن لسياسات زعامة إعلان دمشق أثراً بالغاً ومؤلماً على الكاتب، وهو يشرح بالتفصيل ما حدث في ربيع دمشق، وفي تأسيس إعلان دمشق 2005 ومساره، ودور الإعلان في تأسيس المجلس الوطني، والسياق المكثف لاحقاً. ذلك مع أنه يقول إنه لم يوقع على إعلان دمشق أساساً، لكنه لم يكن بعيداً أبداً منه ومن تطوراته. وحين يتحدث عن دعوة له إلى ندوة في منزل رياض سيف عام 2010- والحقيقة أن ذاكرته والسياق يخونانه هنا لأن ذلك حدث عام 2007- يعبّر عن استهداف غير مباشر له من قبل رياض الترك في ذلك اللقاء. وفي ما بعد يذكر “زعيم إعلان دمشق” في معظم المرات التي احتاج فيها إلى ذكر الاسم…

ورد أيضاً في الكتاب أن “مسألة القيادة هي محور اهتمام إعلان دمشق ومركز تفكيره” (ص99)، وذلك خطأ صغير من الكاتب ربما، لكنه مهم، لأن همَّ إعلان دمشق- كمؤسسة- آنذاك كان منصباً على المضمون السياسي، أكثر من تحديد اسم الرئيس. انعكس ذلك في الموافقة على خيار اسم برهان غليون لرئاسة المجلس من دون توقف كبير، ما عدا بعض المناقشات في الأمانة العامة أو جانبياً، كان برهان يطلع عليها من طريقي وطريق غيري، لأنه كان يتواصل معي يومياً تقريباً، لتيسير مسألة انتخابه، ومسائل أخرى بالطبع. وهنا، أجد الفرصة مناسبة لأذكر شيئاً طالما كتمته، وهو أن الدكتور برهان انقطع عن التواصل معي بشكل شبه كامل، منذ انتخب رئيساً للمجلس، وكانت لذلك دلالات أثّرت ربما في مواقفي اللاحقة!

في حين أن الكتاب يشير إلى مسألة أخرى، وهي تَحسُّب الكثيرين، وزعيم إعلان دمشق خصوصاً، من مواقف غليون التي كانوا يرون فيها احتمال “تساهل” مع النظام آنذاك، أو تيسيراً لأمور هيئة التنسيق الموصومة بالتخاذل من قبل البعض، وهي التي كانت قامت بتسميته منسقاً عاماً في المهجر لها قبل فترة قصيرة- من دون علمه كما قال- واعتذر عن ذلك. هذا “الحكم” المشار إليه هنا هو جوهر موقف الإعلان، يقول بعد صفحتين مؤكّداً- عن حق- أن “الذي حكم موقف جماعة الإعلان في المجلس، هو شك قادتها بإخلاص بقية أطراف المعارضة، وإيمانهم باستعدادهم للمساومة مع النظام”، وأن “هذا ما يفسّر الفظاظة خلال مراحل ترشيحي ورئاستي”.

لذلك كله لم تلن مواقف الأمانة العامة للإعلان، و”زعيمها” خصوصاً في ما يخص اقتراحنا داخلها بتوليه الرئاسة، إلا بعد إضافة التمسك بأن تكون الرئاسة دورية وقصيرة المدة، الأمر الذي يقول غليون إنه فاجأه يوم اختياره للرئاسة، مع إصرار ممثل الإعلان على أن تكون مدتها شهراً واحداً قابلاً للتمديد مرة واحدة، قبل تعديلها لتصبح ثلاثة أشهر.

الكاتب برهان غليون

باعتقادي الشخصي، أن هذه المسألة هي الخلفية التي تفرز كلَّ هذه المرارة على لسان برهان غليون، في بحث أسباب التدهور والضعف، إذ يعود دائماً إلى مقولة إن عدم السماح لوجود قيادة مستمرة وفعالة للمعارضة منذ البداية هو أساس العطب والخلل، أو أنه العامل الرئيس في أحيان أخرى.

وهو، حين يفسّر أيضاً خروج جورج صبرا من الداخل، يخطئ باعتباره مبعوثاً من “الزعيم” لتصفية الحساب واستكمال التآمر، لأن صبرا لم يخرج إلا من خلال قرار لأمانة الإعلان، كان وراءه في الحقيقة اقتراح جانبي من رياض سيف، الذي كان جورج من المفضلين لديه آنذاك، وحين التقت هذه الرغبة مع مصلحة جورج بالخروج لأسباب عائلية قاهرة- كما فهمت- أيضاً. وقف زعيم الإعلان بقوة ضد الاقتراح (بتأثير معرفة رياض بأن رياضاً الآخر متوافق معي على الأمر، وكان بين الرياضين ما صنع الحداد)، وتوليت شخصياً “إقناعه” بذلك، من خلال خبرتنا الطويلة وأدواتنا المشتركة، وبعد تأكده من أن جورج، ذاك الذي كان يصمه بأوصاف قاسية- تعني عدم الثقة به وبالتزامه-، سوف ينضبط، وسوف يكون حصاناً رابحاً في النتيجة. وقد أجبر لجنة الحزب المركزية – كما علمت- على تجاوز الأمر حتى من دون تصويت، مندداً بأن اختياره كان لكونه مسيحياً وحسب، وليس لأنه ممثل للحزب. (وهذا حديث آخر، لأنني بمعرفتي طريقة تفكير رياض، أكاد أجزم أن منعه التصويت كان حتى يستطيع اعتبار أن جورج لا يمثل الحزب وقد خرج من تلقاء نفسه).

أما في ما يخص الموقف الوارد في الكتاب حول المثقف والمثقفين، فيأتي في بابين، أولهما تفسير برهان تصديه لمهمة القيادة السياسية على رغم كونه بعيداً من سوريا ومن العمل السياسي فيها، منذ زمن طويل آنذاك، علماً أن كثيرين من القادة الناجحين والعظماء كانوا من كبار المثقفين أساساً. ولكن الأمر الأهم الوارد في مكان آخر، هو لومه الشديد لغياب المثقفين السوريين عن المساهمة والمساعدة، وهو يفترض أن هذه المساعدة كانت ستكون عوناً له في وحدته أمام كل الهجمات من أطراف المعارضة المتوافقة ضده. وهذا صحيح إلى حدٍّ كبير.

تفسيره هذا لا تمكن معالجته في عجالة. وهو محق أيضاً، لأن المثقفين السوريين الديموقراطيين كانوا مكوناً أساسياً في حراك عام 1980، بجانبه السلمي، مع التجمع الديموقراطي والنقابات المهنية، بقيادة ميشيل كيلو وممدوح عدوان وآخرين. وكانوا مع غيرهم من المعارضين أساس ربيع دمشق المتين، اعتماداً على ثلاث بؤر، أولاها في لجان إحياء المجتمع المدني مع ميشيل كيلو وصادق جلال العظم وجاد الكريم جباعي وحسين العودات وعلى العبدالله وآخرين من أهم مثقفي سوريا، والثانية في حركة المنتديات والمجموعة التي كان رياض سيف عنوانها الأبرز. والثالثة تضم سينمائيين مثل أسامة محمد وعمر أميرالاي مع آخرين- من مثلي- كانوا وراء بيان الـ99، منذ البداية ويعملون بصمت نسبي فلا يمكن الجزم بشيء حول غياب المثقفين في مسار الثورة، بل يمكن التأكيد أن دورهم أساسي في المرحلة الأولى الناصعة، مع غلبة الروح السلمية عليهم، وتململهم من تسارع الانحدار نحو العسكرة والأسلمة الذي حدث. وهم انسجاماً مع ذلك كانوا جزئياً في إطار هيئة التنسيق أو المنبر الديموقراطي أو تيار مواطنة أو متوزعين في أكثر من موقع لا ضجيج له، في حين اعتصم بعضهم بالكتابة وحدها، أو بالصمت. والأهم أنهم ربما رأوا في اندفاع برهان غليون ظاهرة مستعجلة لم تسبقهم وحسب، بل انفصلت عنهم حتى الانعزال.

هناك بعض الأخطاء في ذاكرة برهان غليون، وهذا مفهوم بالطبع. ولكن الشيء اللافت هو الاندفاع في الرواية والتحليل والرأي، مع أن القوى الرئيسة الثلاث في المجلس كانت تعمل بمعزل عنه، فلا يعلم دائماً حقائق الوضع، بدليل أنه حين قاد تحركاً قوياً باتجاه التقارب مع هيئة التنسيق ووقع اتفاقاً مع الوفد المرافق له معها في القاهرة، تلبية لتدخل الأمين العام لجامعة الدول العربية وتوطئة لمؤتمر شامل يفتح الطريق أمام احتلال المعارضة لمقعد سوريا في الجامعة العربية، هوجم مباشرة بعنف من الأطراف المكونة للمجلس جميعها وأجبر على التخلي عن توقيعه وإنجازه. واستمرّ يومها رئيساً أكثر ضعفاً وتعرضاً للتهجم، وربما ضيّع آنذاك فرصة كبيرة لأن يستقيل ويحافظ على مركزه الكبير، فيساعد، على إعادة تأسيس أكثر نجاحاً لمعارضة أدمنت الفشل واعتادت عليه بعد ذلك.

تبقى مسألة رؤيته لموقف الإخوان المسلمين وجماعة الـ74، بحاجة أيضاً إلى وقفة قريبة، إلا أن الأهم والأكثر ضرورة هنا هو تأكيد أهمية ما قام به برهان غليون من نقد، وربما ما سيقوم به لاحقاً أيضاً. فتحية له!

درج

عطب الذات” لبرهان غليون.. مقدمات للمآلات السورية/ مصطفى ديب

لم يكن أمرًا سهلًا ولا اعتياديًا أن يجد أكاديمي ومثقّف يعيش في الغربة منذ أكثر من أربعين عامًا نفسه، بين ليلة وضحاها، في قلب الصراعات السياسية السورية والإقليمية والدولية، مدفوعًا لتنسيق أعمال واحدة من أكبر الثورات الشعبية وأكثرها من بين ثورات الربيع العربيّ تراجيدية وتضحية وإثارة للجدل في الوقت نفسه. هكذا يبدأ المفكّر السوريّ برهان غليون، رئيس المجلس الوطني السوريّ السابق، كتابه الجديد “عطب الذات: وقائع ثورة لم تكتمل/ سورية 2011-2012” (الشبكة العربية للأبحاث والنشر).

المناصب السياسية وكذلك العمل السياسي بصورةٍ عامّة يُصادران حريّة واستقلالية المثقّف، ذلك أنّها ستضعه بصورةٍ مستمرّة في خضمّ الصراعات على مواقع السلطة والنفوذ. لهذا السبب، يقول غليون إنّ على المثقّف إن أراد البقاء بعيدًا عن هذه الصراعات، وأن يظلّ صوته مسموعًا كذلك، وله مصداقية عند الناس في هذه الفترة المضطّربة تحديدًا؛ ألّا يقبل بأي منصبٍ يُضيّق من دائرة حريّته، ويقوّض من استقلاليته، يخلّق فجوة بينه وبين الشعب.

من هذه المسألة الإشكالية والشائكة بطبيعة الحال، أي من علاقة المثقّف بالعمل السياسي، وموقعه من التحوّلات الكبيرة التي تتطلّب مواقف واضحة، يبدأ غليون فصول مراجعة الذات وتجارب المعارضة السياسية قبل الثورة وبعدها. ويبيّن لنا هنا بأنّ الانتفاضة السورية كانت لها جدليتها الخاصّة التي ألغت الفوارق بين السياسة والفكر، وبين السياسيّ والمفكّر، حيث وضعت الجميع أمام مسؤوليات وجودية يتبدّى فيها المصير الجمعي والتاريخي على المصير المهني والفردي، دون التزاماتٍ تُذكر بذلك من جانب قادة وكوادر المعارضة السورية.

هكذا، تُصبح أي ممارسة سياسية منفصلة عن الالتزامات الأخلاقية والشعور العميق بهموم ومصائر الناس أوّلًا، والفكر ثانيًا، أي الثقافة الإنسانية؛ فساد مُطلق يجعل المنصب، أي منصب، لا يوحي لمن يشغله بأي معنى من معاني المسؤولية والالتزام، بقدر ما يتحوّل إلى مصدرٍ للثراء والارتزاق فقط.

المعارضة والحياة السياسية قبل الثورة

يقول برهان غليون إنّه عدا عن الخيبة الكبيرة التي صابت النخب المعارضة بعد فترة ربيع دمشق التي تلت موت حافظ الأسد، وانتقال السلطة إلى الأسد الابن، وكذلك سياسة القمع والدكتاتورية التي عادت لتتكرّس في عهد الأسد الابن سريعًا، تكرّست كذلك في تلك الفترة نزاعات وانقسامات أحزاب المعارضة السياسية التي نصبت بين بعضها البعض حواجز وعوائق تمنع وتحول دون التوصّل إلى أي اتفاقٍ فيما بينها. هكذا، تحوّلت المهمّة الرئيسية من العمل لإيجاد حلول تتعلّق بكيفية التعامل مع النظام، إلى تشجيع الأحزاب والقوى السياسية والناشطين على الخروج من السريّة لأجل فرض فكرة وجود معارضة. ولكن، قبل ذلك، مساعدة هذه الأحزاب على تجاوز خلافاتها وتذليل العقبات التي تحول دون تشكيل قطب ديمقراطي من شأنه أن يضمّ الجميع تحت جناحه.

يقول غليون في هذا السياق إنّ جهده آنذاك كان منصبًّا على التقريب شخصيتين كان لهما التأثير الأكبر والمسؤولية المُطلقة في الانقسام الذي أصاب المعارضة. أي رياض الترك، وحسن عبد العظيم. يصف الأوّل بأنّه كان رجلًا شجاعًا وجاهزًا دائمًا للعراك والسير على حافة الهاوية. ولكنّه في الوقت نفسه، وفي العمق، كان رجلًا قاسيًا لا يرحم مساعديه، ولا منافسيه، أوتوقراطيًا نموذجيًا، ووسواسيًا مسكونًا بالظنون، لا يطمئن لأحد.

الطرف أو الرجل الثاني، أي حسن عبد العظيم الذي احتلّ منصب الأمين العام لحزب الاتّحاد الاشتراكي مكان جمال الأتاسي، يقول غليون إنّه كان رجلًا متأنيًا بطيء الحركة، ويكره المخاطرة، يفضّل السير بمحاذاة الجدار. وإصلاحيًا يكره العنف والمواجهة، ويبحث عن الحلول الوسط، أو تحت الوسط، كي يضمن الاستمرار في العمل السياسي في كلّ الظروف. أما الصفة المشتركة بين الطرفين، فهي التمسّك بالسلطة والقيادة وعدم الاستعداد للتنازل عنها بأي ثمن ولأي أحد. هكذا، اصطفّ خلف رياض الترك الراديكاليون والباحثون عن التميّز في تحدّي السلطة، ويقول غليون إنّهم كانوا غالبًا أحزابًا ذات اتّجاهات يمينية إسلامية وليبرالية. بينما اصطّف خلف عبد العظيم أصحاب التوجّهات القومية واليسارية والإسلامية، ممن يهابون المواجهة.

لا يتوانى من قدّم “المحنة العربية: الدولة ضدّ الأمّة” عن إظهار دهشته لجهة أنّ رياض الترك الشيوعي، على الأقل في الأصل والتكوين الفكري والسياسي، بدا كأنّه طلّق اليسار من أجل التحالف مع الليبراليين والإخوان المسلمين كذلك، بروح براغماتية صرفة. ولم يكن مستعدًّا للتعاون مع من لا يشاطره الرأي لجهة العلاقة مع النظام، ولهذا كان يشعر أنّ الإسلاميين أقرب إليه سياسيًا من اليساريين. بدوره، مثّل حسن عبد العظيم القوى القومية الشعبوية من أصحاب التوجّهات الإسلامية والمحافظة. بالإضافة إلى أصحاب التوجّهات اليسارية، والشخصيات الماركسية التي تردّدت في الانخراط في الحركة الشعبية خوفًا من أن يُساهم ذلك في مساعدة التيّارات الإسلامية على نيل الشرعية. إذًا، وكما يقول غليون، كان هذان الرجلان قُطبي المعارضة السياسية، ومشكلتها في الوقت نفسه.

ظلّت الخلافات بين قطبي المعارضة السورية، تكتل إعلان دمشق وهيئة التنسيق الوطني، قائمةً حتّى بعد انطلاق الثورة التي أدرك الجميع حاجتها لقيادة سياسية تحوّل ما يحدث على أرض الواقع إلى إنجازات سياسية. وتؤمّن الاعتراف بها كانتفاضة شعبية بمطالب محقّة. يقول برهان غليون إنّ الرهان كان معقود على تكتل إعلان دمشق لجهة تشكيل قيادة سياسية للانتفاضة. ولكن الخلافات حول مسألة القيادة تحديدًا حالت دون التوصّل إلى اتفاق سياسي بين الأحزاب والقوى والتجمعات والشخصيات الناشطة في الداخل. هكذا، أعلنت المعارضة السياسية مبكّرًا إفلاسها، وخرجت بتكريس انقسام قصم ظهر الثورة بحسب تعبيره، وجعل من صراع المعارضة فيما بينها، أقوى من صراعها مع خصومها.

المعارضة السياسية السورية بعد الثورة

الخلافات بين المعارضة وارتفاع حدّتها كانت تُقابل بالأمل في إحداث أي تغييرات تجمعها معًا في صفٍّ واحد وإن لوقتٍ قصير. وبرهان غليون، كما يُخبرنا في هذا الكتاب، كان واحدًا من أشدّ المصابين بالأمل. ولهذا السبب، عمل طويلًا على مبادرات مشتركة مع ناشطين سوريين لتوحيد المعارضة، أبرزها اللقاء التشاوري الذي شارك فيه إعلان دمشق وهيئة التنسيق والتيار الإسلامي المستقل ومجموعة العمل الوطني.

يذكر المؤلف أنّ هناك اتفاقًا حصل بين المجتمعين ينصّ على إصدار بيان يعلن ائتلاف وطني سوريّ يجمع شتات المعارضة، باستثناء مجموعة العمل الوطني التي رفض ممثّلوها التوقيع وانسحبوا من اللقاء متمسكّين بمشروعهم الخاص لتشكيل مجلسٍ وطني. كان اللقاء الحدث الأوّل الذي يتّفق فيه إعلان دمشق وهيئة التنسيق على بيان مشترك منذ سنواتٍ طويلة، برفقة الإخوان المسلمين أيضًا.

البيان الذي وقّع عليه المجتمعون بشيء من السهولة، تنصّلوا منه جميعًا بعد أيام قليلة فقط بسهولة أكبر، تحت ذريعة عدم اقتناع الأطراف الموقّعة بجديّة بضعها البعض. مثّل الأمر ضربة كبيرة لبرهان غليون الذي أدرك من جديد حالة انعدام ثقة المعارضة ببعضها البعض، وخوفها من التعاون، وسعي كلّ طرف للانفراد بقيادة العمل بدلًا من الآخر.

ليس الأمل وحده المسؤول عن دفع الناشطين لإطلاق مبادراتٍ جديدة للجمع بين أحزاب وتيّارات المعارضة، وليس الأمل نفسه ما كان يدفع برهان غليون للقبول بها، والعمل لأجلها، وإنّما الإدراك العميق بأهمية وجود قيادة سياسية للانتفاضة الشعبية. هكذا طُرحت مبادرة المجلس الوطني السوري، وقبل بها غليون على أمل أن تخرج بالإعلان عن تأسيس المجلس فعلًا.

وضع غليون قبل العمل ثلاثة شروط؛ تمثيل جميع القوى والتيّارات السياسية المعارضة، والحفاظ على التوازن في التمثيل بحيث لا يهيمن طرف على آخر، واعتبار ما نتج عن الاجتماع للمجلس إعلانًا لمجلس وطنيّ سوريّ جديد، لا عملية توسيع أو إصلاح للمجلس القديم الذي شكّلته مجموعة العمل الوطني. ضمن برهان غليون من خلال هذه الشروط ألّا يهيمن لون واحد على المجلس، أي اللون الإسلامي بمختلف تظاهراته، خصوصًا في ظلّ مسعى مجموعة العمل الوطني لاعتبار أنّ المجلس الجديد عملية توسعة للمجلس السابق، لعلّها بذلك تتمكّن من الحفاظ علي هيمنها عليه.

تحت ضغط الناشطين والجمهور معًا لتذليل روح المناورة والتلاعب والمكابرة لدى نخب يقول غليون إنّها لم تمارس السياسة إلّا كنزاعات على سلطة ونفوذ وهميين داخل تجمّعات وأحزاب تعيش هي نفسها في عزلة عن الشعب والجمهور، وتصطّف إلى جانب بعضها كالفقاعات، وتفتات من سم المؤامرات التي يكيلها كلّ طرفٍ للآخر؛ عُقد أخيرًا الاجتماع التأسيسي للمجلس الوطني السوري إسطنبول نهاية أيلول/سبتمبر 2011، ودُعي إليه تجمّع إعلان دمشق، وممثّلون عن لجان التنسيق المحلّية، وهيئة التنسيق الوطنية، والهيئة العامة للثورة، ومجموعة العمل الوطني، والمنظّمة الآثورية.

ويؤكّد صاحب “ما بعد الخليج أو عصر المواجهات الكبرى” أنّ الاجتماع لم يخلوا من مناورات بعض الأطراف لانتزاع حصّة الأسد من المقاعد ومراكز النفوذ. هكذا، خرج يومها بانطباع أنّ لا أحد من المشاركين يريد فعلًا العمل مع الآخرين. وأنّ أغلب الأطراف قبلت التوقيع على الاتفاق من باب الحسابات الخاصّة فقط، وتقوية نفسها ماديًا وسياسيًا.

بهذا المعنى، كان المجلس زواجًا قبلته الأحزاب المعارضة بالإكراه لتجنّب خروج الأمور عن السيطرة، بحسب برهان غليون الذي قد رأى بأن الإنجازات قد تساعد على تجاوز الخلافات وتعزيز وحدة المعارضة. ولكنّ الإنجازات نفسها لم تستطع أن تُخفي حقيقة أنّ المجلس فاقد للانسجام الداخلي، عدا عن أنّه ساحة عراك كبيرة لتقاسم إرث النظام قبل أن يسقط. أمّا الأمر شديد الأهمية التي يؤكّد عليه غليون، فهو أنّ المجلس تأسّس بفعل جهود سورية خالصة، دون أن يكون لأيّ دولةٍ أو قوّة أجنبية دورًا في ذلك.

المُلفت والمُدهش بحسب صاحب “النظام السياسي في الإسلام” هو خسارة المعارضة السياسية لكلّ الإنجازات والمكاسب التي حقّقها المجلس الوطني، وذلك بفعل سوء الإدارة أوّلًا، وتقلّب القيادات ثانيًا، وغياب الاهتمام بالعمل الطويل والجاد، والاعتقاد بحتمية التدخّل الدولي واقتراب ساعة انهيار النظام. وأعطى كلّ ما سبق للأعضاء انطباعًا بأنّ الهدف، أي إسقاط النظام، بات قاب قوسين أو أدنى. ما يعني أنّ الوقت قد حان لتقاسم المغانم التي فجّرت تناقضات المجلس الداخلية وأخرجتها إلى العلن.

بعد تأسيس المجلس، انتقلت نزاعات المعارضة من كونها نزاعاتٍ وصراعاتٍ بعيدة من حيث المسافة بين كلّ طرفٍ وآخر، إلى نزاعاتٍ قريبة، وجهًا لوجه، وتحت سقف المجلس الوطني، والهدف واحد كذلك، أي القيادة والنفوذ. وعدا عن ذلك، يذكر غليون أنّ نشاط بعض الأطراف والتيّارات السياسية داخل المجلس ركّزت نشاطها على تقويض شرعية المجلس في الساحتين الغربية والعربية. ناهيك عن مهاجمة الرئيس، أي غليون، بصورةٍ مستمرّة، ولأهداف واضحة.

امتلك تكتّل إعلان دمشق النفوذ الأكبر داخل المجلس، باعتباره أوّلًا ينوب عن القوى الديمقراطية في مقابل الكتلتين الإسلاميتين. وكذلك، بحكم تحالفه مع جماعة الإخوان المسلمين القريبة منه سياسيًا. برهان غليون كان يرى أنّ وجود التكتّل داخل المجلس بمثابة ضمانٍ رئيسيّ للحفاظ على الخطّ الديمقراطي والوطني للثورة، ومصدرًا للخبرات النضالية التي لا شكّ في أنّ المجلس كان بحاجة إليها. غير أنّ سلوكه وتصرّفات أعضائه دفعت غليون للاعتراف بخطئه، واكتشاف أنّ إعلان دمشق، وبعد انسحاب أحزاب هيئة التنسيق الوطني منه عام 2007، فقد معظم قوّته السياسية والماديّة.

التكتّل ببساطة واختصار شديد، وكما جاء في كلام برهان غليون، كان داخل المجلس الوطني قوّة نابذة في لحظة سياسية تستدعي التجمّع والتكتّل مع القوى والشخصيات المعارضة الأخرى. وكان كذلك مصرًّا على اعتبار نفسه القائد الفعلي للمجلس، ويريد منه أن يطبّق كلّ ما يمليه عليه. وظهر هذا النزوع نحو القيادة من خلال موضوع مدّة ولاية رئيس المجلس، حيث اقترح ممثّل الإعلان أن تكون الرئاسية تداولية، وألّا تتجاوز مدّة الولاية أكثر من شهرٍ واحد. الهدف من ذلك بحسب غليون هو عدم السماح بتكوين مركز قيادة حقيقي للمجلس، وتحويل مركز الرئاسة إلى وظيفة رمزية خالية من المضمون، ما يعني الغائها.

بعيدًا عن تكتل إعلان دمشق، يذهب غليون نحو نقد دور القوّة الثانية المؤثّرة داخل المجلس، أي جماعة الإخوان المسلمين الذي يؤكّد غليون أنّهم لم يطمحوا لأن ينتزعوا قيادة المجلس، ذلك أنّ المجلس نفسه لم يكن يعني لهم الكثير، ولم يتعاملوا معه إلّا باعتباره غطاءً سياسيًا يضمن لهم متابعة نشاطهم الخاص والمستقل عن بقية التيّارات داخل المجلس. وتعود هذ الرغبة الدائمة بالعمل المستقل إلى انعدام ثقة الجماعة بالتنظيمات الأخرى، العلمانية منها تحديدًا. وكذلك، اعتمادهم خلال السنوات الطويلة الماضية على العمل المنفرد.

الإسلاميون بصورةٍ عامّة، والإخوان بصورةٍ خاصّة، ظهروا داخل المجلس كما لو كانوا طيفًا لا مستقلًّا فقط، وإنما نافرًا كذلك. وهذا الأمر لا ينطبق على المجلس الوطني وحده، وإنّما على كلّ الأطر الائتلافية التي يشاركون فيها. فالإخوان تحديدًا لا مانع لديهم من الانتماء في الوقت نفسه إلى أكثر من ائتلاف، والهدف أن يظلّوا في صورة ما يحدث فقط، دون التخلّي عن الاستقلالية. هكذا، تكون مشكلة الإخوان كما يوضّح لنا برهان غليون لا في براغماتيتهم السياسية، وإنّما في تقبّلهم للتبعية نتيجة حاجتهم إلى الحماية التي افتقدوا إليها. وكان للجماعة كذلك دور كبير في تشتيت القوى المسلّحة التابعة للجيش الحر، من خلال تأسيس “هيئة حماية المدنيين” أوّلًا، ومن خلال محاولاتها شراء ولاءات بعض العشائر من أجل تشكيل جيش تابع لهم مباشرة، بعيدًا عن مسعى المجلس ككل لخلق قيادة موحدّة للفصائل، تكون على أسس وطنية، لا عقائدية.

من جهتها، تعاملت مجموعة العمل الوطني مع المجلس باعتباره كذلك ملكًا شخصيًا، ومشروعًا مسجلًّا باسمهم قبل أن يُنتزع منهم. لذلك، كان وجودهم داخل المجلس سبيلًا للسعي بجميع الوسائل، شرعية وغير شرعية، لاستعادة قيادته، من خلال سياسية احتلال أكبر عددٍ من المراكز والمواقع القيادية داخله، وفرض نفسها داخل المجلس وخارجه كقوّة سياسية صاعدة. والحقيقة أنّ المجموعة بحسب غليون كانت تتحمّس لكلّ القرارات التي تخدم مصالحها، بينما لا تتردّد إطلاقًا في رفض أو تعطيل أي مشروعٍ لا يعود عليهم بالفائدة.

كلّ ذلك جعل من المجموعة أقرب إلى مجموعة ضغطٍ، لوبي، أكثر منها شريكًا ضمن إطار وطني جامع بأهداف واضحة وصريحة. ومن الجيد ذكر أنّ غالبية أعضاء المجموعة كانوا من شباب الإخوان المسلمين الذين فقدوا الثقة بقيادتهم التاريخية التي فرضت عليهم وعلى نفسلها عزلةً طويلة الأمد، وخياراتٍ وآفق محدودة كذلك، وعلاقات متوتّرة مع التنظيمات والتيّارات السياسية الأخرى. الهدف من المجموعة كما يبيّن لنا غليون هو تجاوز قيادة الإخوان، والتخفّف من الأيديولوجية الإخوانية، مما جعل من علاقتها مع التنظيم الأم داخل المجلس علاقة ملتبسة. وعلى غرار التنظيم الأم أيضًا، لعبت مجموعة العمل الوطني دورًا سلبيًا في العلاقة مع الضبّاط المنشقّين وقيادة الجيش الحر.

عدا عن التوتّرات الحاصلة داخل المجلس، والمسؤولة بشكلٍ أو بآخر عمّا آلت إليه الثورة، بفعل التردّد والنزاعات والصراعات على الغنائم قبل أن تكون متاحة حتّى، كانت هناك توتّرات أخرى بين المجلس ككل وقيادة الجيش السوريّ الحر في الداخل. والسبب القيادة مجدّدًا. فبينما سعى المجلس لتنظيم الضبّاط المنشقّين والمقاتلين المدنيين كذلك، كان العقيد رياض الأسعد ينظر بعين الريبة إلى نشاط المجلس، ويتعامل معه على أنّه منافس له على قيادة الثورة والجيش الحر. ورغم انصياعه لقرار السوريين الذين أعلنوا ثقتهم بالمجلس، وفتحه كذلك حوارًا مع قيادته، إلّا أن موقف الأسعد ظلّ ثابتًا، متّبعًا سياسة المناورة لتحقيق أعلى قدر من المكاسب، دون أن يبذل أي جهدٍ حقيقي برفقة المجلس لتنظيم العمل العسكري وضبط عمل الكتائب المسلّحة ضمن قيادة مركزية هرمية كان الأسعد مقتنعًا أنّها لن تظلّ بيده إن حدث وانشقّ ضابطًا برتبة أعلى من رتبته.

انصبّ جهد رياض الأسعد إذًا، كما كتل المجلس الوطني، على القيادة فقط، والانفراد بقرار الثورة. وكجزءٍ من مسعاه هذا، طالب رئيس المجلس الوطني بترقيته إلى رتبة لواء، بحيث يستبق انشقاق أيّ ضابطٍ برتبةٍ أعلى منه، ويكون بطبيعة الحال الأحق والأجدر بقيادة الجيش الحر الذي تعامل معه الأسعد على أنّه ماركة مسجّلة باسمه حصريًا، ومن إبداعاته الشخصية. ولكنّ لرفض طلب ترقية الأسعد كان له نتائج سلبية بحسب غليون، ليس فقط على علاقة المجلس المتوتّرة من الأساس بقيادة الجيش الحر، وإنّما على مسار الجيش كذلك، وقدرته على التماسك والتوحّد تحت غطاء قيادة مشتركة. ومنذ رفض الطلب، لم يتوان الأسعد عن مهاجمة المجلس بين عناصره وفي وسائل الإعلام. ويعتقد غليون بأنّ إصراره على أن يكون قائدًا نهائيًا للجيش الحر، دفعه لمنع وإفشال كل المشاريع التنظيمية التي طرحها المجلس. والنتيجة في نهاية المطاف أن تفكّكت وتمزّقت الفصائل، وحلّت مكان القيادة الوطنية قيادة خارجية وأجنبية أخضعتها لإشراف الدول الأجنبية التي تحكمّت وحدها بتسليحه وتمويله ورسم أجنداته، مما حرمها من أي رؤية وطنية توجّه عملها، وتركها فريسة سهلة للقوى الإسلامية السلفية.

ليس “عطب الذات: وقائع ثورة لم تكتمل” مذكّرات سياسية لكاتبها فقط، وإنّما مراجعة دقيقة للثورة، وأداء المعارضة السياسية السورية، وتبيين أسباب فشلها في الاتفاق فيما بينها على تشكيل جبهة وقيادة للانتفاضة الشعبية. ذلك أنّ المجلس الوطني جمع أحزاب وتيّارات المعارضة شكليًا فقط، دون رغبة من جميع الأطراف بالعمل الجاد والتعاون مع الطرف الآخر. ووضّح غليون في هذا الكتاب أيضًا آثار المعارك والصراعات والنزاعات داخل المجلس لا على مسار الثورة فقط، وإنّما على كيفية تعاطي وتعامل المجتمعين الدولي والعربيّ مع الانتفاضة أوّلًا والمجلس ثانيًا. وكذلك على أداء العمل العسكري المسلّح في الداخل، ومساهمة كلّ من المجلس وقيادة الجيش السوريّ الحر بشكلٍ غير مباشر في صعود الفصائل الإسلامية السفلية.

الترا صوت

كتاب برهان غليون عن “العطب” في الثورة السورية/ خالد بريش *

منذ أن صدر كتاب برهان غليون «عطب الذات» (عن الشبكة العربية للأبحاث والنشر – بيروت)، ومقالات النقد والأخذ والرد حوله لا تتوقف، ومعظمها يتركز على النواحي الشخصية، وتكرار المكرر، من دون الولوج إلى فحوى الكتاب وتوصيف وتحليل لتجربة الثورة السورية، والكثيفة والمكثفة التي حوتها صفحات الكتاب الـ 500 التي يقدمها كعمل نقدي نابع من تجربة شخصية على المستوى المعرفي والعملي، وتمكن من أدوات النقد والبحث العلمي، في آن معا.

ويعتبر خروج برهان غليون عن صمته ــ للحديث عن مسيرة الثورة السورية، والمرحلة الأشد خطورة في تاريخ سورية الحديث بعد معركة ميسلون والاستقلال ــ هو في الدرجة الأولى مكسب للباحثين في الشأن السوري. بحيث يقوم في كتابه بعملية مسح للذاكرة، واستعراض للأحداث، مرتكزا على أسس علمية، بلغة أدبية رفيعة، مما يقرب القارئ من الأحداث المأسوية التي عصفت بسورية، وثورة شعبها. والتي كانت في بعض تفاصيلها أقرب إلى العبث واللامعقول. وهل هناك عبث أكثر من جواب وزير الخارجية الأميركي جون كيري لدى لقائه وفداً من «المجلس الوطني»، وقد طلبوا منه تدخل أميركا لوضع حد لتغول النظام، واستخدامه البراميل المتفجرة، ووقف معادلة «الجوع أو الركوع»، فقال للوفد متسائلاً: «ماذا نقدم للأسد مقابل ذلك…؟!».

يأتي الكتاب وسط حالة من خيبات الأمل لملايين السوريين الذين حلموا يوما بالحرية، والخلاص من الإذلال والمهانة، فتوهموا أن سقوط نظام دمشق سيكون بالسهولة نفسها التي كان عليها سقوط النظامين التونسي والمصري. ويطرح غليون أسئلة كثيرة تتعلق بأهم المفاصل التي كان لها تأثيراتها في الثورة السورية ومساراتها، كالعلاقة مع المحيط العربي، وأميركا، والمجتمع الدولي، وتركيا. وحول تحييد الإيرانيين والروس. وكذلك انتقال الثورة السلمية بامتياز إلى حركة مسلحة. ومن ثم سيطرة الجهاديين عليها، ورفع شعاراتهم. والعلاقة بين أطراف المجلس الوطني، وهيئة التنسيق، والصراعات الدولية على الأرض السورية الخ… غائصا في الأسباب، موضحا ذلك، وملقيا بأقلامه لعل آخرين يلقون بأقلامهم أيضا، فتنشط ساحة النقد. وبالتالي تنجح هذه الثورة حيث أخفقت كثير من الثورات قبلها.

في وطننا العربي الذي لم يتعود سياسيوه وأنظمته وأحزابه وحركاته السياسية على النقد الذاتي، ينطلق المؤلف من أهم حدث سياسي في الثورة السورية، وهو تشكيل «المجلس الوطني»، الذي كاد أن يكون حينها بديلا للنظام، والعمود الفقري للثورة. فينقل للقارئ كثيرا مما دار في كواليسه وصراعات المشاركين فيه، وكثيرا من تفاصيل اللقاءات مع مسؤولين وساسة حول العالم. ويوفّر على كثيرين عناء البحث والتفتيش عن «السوس» الذي نخر عظم الثورة، فكانت المتاهة والعطب للذات كما يسميه. واصفا تكوين المجلس الوطني: «والواقع أن المجلس الوطني ولد بما يشبه العملية القيصرية، وألصقت أطرافه بقوة الضغط الشعبي، ولكنها لم تقبل بعضها ولم تنسجم أبدا. كما زخر بالشخصيات المضطربة والمحبطة والمغرقة في الذاتية في تصوراتها لدورها ومكانتها».

يدخل غليون من البوابة الخاصة، ليطل على القضية الكبرى وإرهاصاتها التي بدأت في نهاية تسعينات القرن الماضي مع ربيع دمشق الذي فتح أبوابا كانت موصدة بأقفال من حديد. فيحدثنا عن إسهاماته في ذلك الربيع. ويضع أصابعه على الجروح عندما يقرر أن الإسلاميين ملأوا فراغا أخفقت في ملئه النخب والطبقة السياسية المفككة والمفتقرة إلى هوية جامعة. وأن الإسلاميين لم يكونوا قادرين على بلورة أجندة واحدة، ولا التفكير في استراتيجية مشتركة موحدة، وأن انقسامهم أقوى من انقسام اليسار بأطيافه كافة، موضحا أن الحركة الشعبوية الإسلامية اختطفت الثورة، ودخلت إلى ساحتها من حيث لا يتوقع أحد، وهو باب الطائفية والمذهبية البغيضة التي كانت ألد أعداء الثورة السورية، فغدت بالتالي حليفا غير معلن للنظام، مؤكدا أن التنظيمات الجهادية لم تكن جزءا من قوى الثورة السورية ولكنها كانت نقيضها وخصمها… طبعا من دون أن ينسى الطرف المقابل وهم الحداثيون الذين يعتبرهم مكونين من عناصر معلقة على سطح المجتمع بلا جذور ولا تفاعلات قوية مع أي طبقة من طبقاته باستثناء العلاقات الفردية.

ومما يضفي على الكتاب أهمية أنه لا يأتي من خانة الذكريات بعدما يكون قد عفا عليها الزمن، بل خرج في وقت ما زالت فيه أعمدة الدخان تتصاعد من حرائق مشتعلة على التراب السوري. ولكون الكاتب يقف في نقده على المسافة نفسها من الجميع، فلا يدافع عن أحد ولا يدخل إلى حديقة إعجابه أحداً، بل أتت عباراته وسطوره كجلدات يتلقاها الجميع بلا استثناء، المشاركون، والمعتكفون، والمتفرجون. ويُحمِّل الجميع المسؤولية، ويحملها معهم. وأيضا في إفصاحه عن الأسماء التي أسهمت في الأحداث التي يعرض لها، وهي أسماء ما زالت على قيد الحياة، تستطيع أن ترد أو تواجه كلامه… فالكتاب حمل في طيات سطوره كثيرا من الصراحة الفجة والمؤلمة، إلا أنه لم يخل من ديبلوماسية تترك الأبواب مفتوحة، لأن الثورة السورية لم تنته بعد، والذي خسر الساحة هم العسكر والساسة الذين أسهموا في عسكرة الثورة وبنوا آمالا وأحلاما لكي يقفزوا على دماء الشهداء إلى مواقع الصدارة.

يقوم غليون بتعرية الجميع دون استثناء، ويكشف مدى تعمق الشخصانية، وكذب ونفاق الأحزاب ورهط المعارضة، ويعرض للحظات الألم الناتجة عن الجدالات البيزنطية بين قادة المعارضة ومدعي زعاماتها، وكيفية إغداقهم الوعود التي يسحبونها قبل أن يجف حبرها لأسباب واهية… «وكل منهم يريد أن يحصد قبل أن يزرع، أو يستثمر خوفاً من أن يصب ذلك في حساب خصمه، شريكه. أما “الشخصيات الوطنية”، فلا يقبل واحدها بوحدة المعارضة ويشارك في جهودها ما لم يضمن لنفسه مسبقا موقعا قياديا بارزا فيها، وإلا فالأفضل البقاء خارجها أن لم يكن ضدها». ليصل من خلال ذلك إلى أن هذه الثورة أظهرت كل تناقضات المجتمع السوري وخلافاته حتى على المفاهيم الأساسية من وطن ومواطن ودولة ونظام وديموقراطية…

وفي الختام يصل غليون في كتابه إلى نتيجة عرفها كل المناضلين عبر التاريخ، وهي أن الثورات لا تنهزم بسبب قوة وبطش وذكاء عدوها الذي تسعى إلى تغييره. بل بسبب صراعها الداخلي، وفشلها في بلورة أفكارها المدنية السامية والإنسانية وفي أن تجمع شملها في مشروع الوطن للجميع، وأيضا بسبب بيعها جلد الدب قبل اصطياده، ليبقى السؤال الذي يلح على القارئ بقوة وهو يقلب صفحات الكتاب:

«هل لا تزال هناك فرصة لإنقاذ الشعب السوري واستعادة سورية…؟ أم أن الثورة قد انتهت، وتبدد معها حلم الحرية والديموقراطية…؟».

الإجابة على هذا السؤال والأسئلة الأخرى الكثيرة التي يطرحها الكتاب متروكة للأيام وتتابع الأحداث فهي الكفيلة بالإجابة.

* كاتب لبناني مقيم في باريس.

الحياة

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى