شعر

ظل الموسيقى/ عمر الشيخ

أنا شخص أتلفته الموسيقى،

أصبح كل ما في داخلي ماءً،

ذابت الفصول في عينيّ،

تسألني صديقتي من بلدي البعيد:

لماذا أدعو كلّ الذين أكلمهم من الأصدقاء، أن يأتوا إلى قبرص؟

لم أكن أعرف كيف أقول لها إنني وحيد؟

آسف لأنني أدعوهم من أجل أن يكونوا حولي، قبل أن يجف قلبي.

آسف لكوني وحيداً على هذا النحو من الوضوح!

لم أعد أشعر بالحياة كما كنت في البلاد،

تلك البلاد التي تتحارب فيها كلّ الأشياء، تتحارب فيها كلّ الكائنات:

الماء يقتل الماء،

الهواء يقتل الهواء،

الإنسان يقتل الإنسان،

الموسيقى تقتل الموسيقى…

أجل، الموسيقى تشغف عادة، كما تفعل بي الآن،

كما أردّد معها هذا الصخب من المشي نحو وحدتي،

أخيّط أصابعي على القصائد،

وتتسقط من أكتافي ملايين الصور للعشّاق.

أتجوّل في سيمفونيات بيتهوفن، مثل كمان طاعن بالسنّ،

وأضع الضحك على أوتاري مثل وشاح يخفي الحزن المستمر.

منذ اللحظة التي أغادر فيها الباص في شوارع نيقوسيا،

أتجه إلى جامعة قبرص،

البناء القديم تماماً، وأحلم أن «نيكوس كزنتزاكيس» ينتظرني قرب المكتبة لنشرب كأساً…

أحلم أن «يانيس ريتسوس» سوف يربت على كتفي

ويقول بعض القصائد عن الغربة واللجوء والحب.

أحلم بمنتهى الوعي!

أحلم أن يجلس أمامي «كوستنتينوس كفافي» لينشد لي قصيدته «في العودة إلى إيثاكا»

يرمّم بعض يأسي،

ويضع في هذا القلب الحكمة والصلابة للأبد…

لكن، أحداً لا يراني.

لا يجدني كائن.

أصُبح مثل ضباب المدن الباردة،

وحيداً دون شوارع،

وأضواء السيارات تهرب من بكائي.

أمرّ في الطرقات المؤدية إلى مقاعد اللغة اليونانية،

الإشارات الضوئية ترقص حين أمر بجانبها.

النصوص المتراكمة في درج الماضي تتساقط،

أرى غرفتي القديمة في سوريا، كاملة وقد جلست على كرس في حديقة الجامعة، تنظر إليّ كأني طفل دخل المدرسة للمرة الأولى، وضاع في الصفوف الخلفية للحكاية.

مكتبتي، لغتي العربية، كتبي الشعريّة، مقالاتي، صوري، النساء اللواتي عشقتهنّ، حانات دمشق القديمة، زوايا المقاهي في أحياء «باب توما» و «باب شرقي»… كل ذلك ينزف من عينيّ بهدوء.

كلّما ارتفعت السمفونية التاسعة لبيتهوفن، عند الحركة الرابعة تماماً، أشعر بأنّي «زوربا اليوناني» وأرفع ذراعيّ للريح ولأصوات الملائكة، بينما العاصمة نيقوسيا تنام باكراً وتترك الغرباء وحدهم في شتاء الجزيرة يتساقطون.

كنت أريد أن أكتب عن رجل يستيقظ كل يوم بتوقيت مختلف،

يحب الفوضى في حياته، ويكتب القصائد على جدران غرفته،

ويحفظ آلاف الصور للحرب في بلاده، ولكنه لا يستطيع أن يقول كل شيء.

كنت أبحث عن كلمات مناسبة لقصة أكتبها للمرة الأولى عن الغربة والغياب،

أو أن أجد موسيقى لقصيدة لا تنكسر أشجارها، لكن الاختناق يطاردني في الصفحات، وغابات الخوف تحيط بي أكثر.

ينتهي درس اللغة، أهبط الطريق المنحدر بشدة بين الجامعة والشارع العام،

أنتظر الباص العائد من نيقوسيا إلى لارنكا، إنها التاسعة ليلاً،

وحدي كما أنا منذ اثنين وثلاثين عاماً، أحمل في حقيبتي عينيّ مدرستي الشقراء، وأتذكر كم كان صوتها ساحراً وهي تغني في الأوبرا، أبتسم لأني ما أزل طفلاً إلى ذلك الحد من السذاجة…

يبقى أن تلاحقي نوتات الانتظار،

قصائد الأدباء اليونانيون الثلاثة،

رائحة العشب البارد في فناء الجامعة،

قطط الحديقة الجانبية للألم،

كل ذلك وأنا مثل ظلّ الموسيقى،

مازلت أفكر كيف يمكن أن أكتب شيئاً من ذلك في صرخة واحدة؟

***

(هذه القصيدة كتبت باليونانية ضمن أنطولوجيا صدرت عن دار Parakentro القبرصية 2019)

٭ شاعر من سوريا

القدس العربي

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى