أبحاث

إعلام في ظل الاستبداد/ سلام الكواكبي

عقوداً عدة، كانت حرية التعبير فيها مفقودة، امتدت منذ العام 1958، مع فترة تنفس قصيرة بين 1961 و1963، أُفقِرَ المشهد الإعلامي السوري، بمختلف وسائله، بعد أن عرف عصوراً مزدهرة نسبياً، امتدت منذ انهيار الدولة العثمانية وخروجها من البلاد سنة 1918، مروراً بزمن الانتداب الفرنسي 1920 ـ 1943 الذي، على الرغم من طبيعته الاحتلالية، سمح بهوامش واسعة للتعبير الإعلامي، وصولاً إلى حكومات ما بعد الاستقلال التي تتراوح طبيعتها من ديكتاتورياتٍ عسكريةٍ ناعمةٍ إلى حكوماتٍ ديمقراطية، شهدت انتخاباتٍ حرةً للمجالس التشريعية فيها. وقد ازدهرت حركة الصحافة المكتوبة بعد الاستقلال بشكل مثير، وأنتجت تجربة صحافية، يمكن للسوريين الافتخار بها، على الرغم من نقاط ضعفها البنيوية العديدة. مع انقلاب مارس/ آذار 1963 الذي أتى بسلطةٍ بعثيةٍ، ادّعت أنها تحمل مشروعاً “نهضوياً وتقدمياً” للمجتمع، صار للإعلام، كما الحال حينذاك في دول المعسكر السوفييتي، دوره “التوعوي الثوري”، للتعبير عن “شجون الأمة وتطلعات شعوبها نحو التحرّر والتقدم”. وسجل الإعلام انطلاقاً من هذه العبارات المقولبة الجوفاء انطلاقةً جديدة، بعيداً عن مساحة التعبير أو الإخبار أو التحليل. وصار لزاماً عليه، كما في ظل كل الأنظمة الشمولية، أن يسعى إلى نشر العقيدة التي يحملها النظام الحاكم وحده، أو أنه يدّعي حملها، أو أنه يسعى إلى حملها، فتم منع صدور كل العناوين، ليُصار إلى إصدارات توجيهية شبه متطابقة، تحت مسميّات نضالية. وصار الإعلام السوري يكذب على المتلقّي الذي كان محروماً من الخيارات، حتى في النشرات الجوية، كما ذكر الكاتب الساخر محمد الماغوط. ومع قدوم حزب البعث إلى السلطة، أقصى من كان في الإعلام عالماً، وأودى بكثيرين منهم إلى مغادرة البلاد أو الاعتكاف، كما استقطب آخرين منهم في وسائله التعبوية الجديدة، ذات اللون الواحد، والقاتم حتماً.

عاشت الصحافة مرحلة سوداء حتى سنة 1970، وانقلاب حافظ الأسد “التصحيحي” الذي وعد بإصلاحات تشمل حرية التعبير، ولكن المشهد استمر في ركوده السلبي، واستخفافه العميق والمرضي بعقول المتلقي. ومع الانتصار/ الهزيمة في حرب أكتوبر/ تشرين الأول 1973، انطلق عنوان صحافي جديد، تم تقديمه للرعايا على أنه متقدّم بدرجاتٍ تحرّريةٍ واسعةٍ عن سابقه. وكانت صحيفة تشرين التي ادّعى القائمون عليها أنها ستفتح ذراعيها لكل من يريد أن يعبر عن رأيه في المواضيع الاقتصادية والاجتماعية والخدمية.

شهدت سبعينات القرن الماضي، وصولاً إلى مرحلة الرصاص الأولى سنة 1980، هامشاً ثقافياً لا بأس به في الصحافة المكتوبة. وشارك أدباء كبار عديدون في نشر نصوص مهمة في الصحف الرسمية، ذات المستوى الممل، شكلاً ومضموناً. وتساءل كثيرون عن سر هذا الانفتاح، ولو أنه كان محدوداً للغاية. وللإجابة على هذا الاستغراب، تعدّدت التبريرات، ولكن يبدو أن أقربها إلى منطق السلطة الحاكمة هو الثقة المتجذّرة لدى الحكّام العرب بأن رعاياهم لا يقرأون، وبالتالي ضعف تأثير ما يكتبه المثقفون على العامة من الناس، المُستلبة عقولهم، كما حيواتهم.

ومع توريث العرش الجمهوري سنة 2000، تنفس بعضٌ (من السُذّج؟) الصعداء بما يمكن أن يحمله الوريث من مشاريع إصلاحية وانفتاحية على مختلف المسارات. وعلى الرغم من اقتصار عمل الصحافة الرسمية، قبل هذا التاريخ، في نقد المشاريع الخدمية أو بعض الممارسات الإدارية، بحثاً عن أكباش فداء صغيرة الحجم والأهمية، لذر رماد الإصلاح في عيونٍ تورّمت انتظاراً لحرية نسبية ومشروطة، إلا أنها استفادت من “الانفتاح” الوهمي لتوسعة فضاءات النقد، ولتطاول بعض أمور الفساد، والتي سرعان ما أطاحت محرّريها قبل مقترفيها. وحمل العهد “الجديد/ القديم” تحريراً للسوق الإعلامية، لتصدر صحف ومجلات “خاصة” تملكها رؤوس أموال الكتلة الحاكمة ومن يلوذ بها.

أراد بعضهم أن يرى في هذه الصحافة الخاصة انعتاقاً نسبياً من سطوة الديماغوجيا العقائدية على وسائل التعبير، إلا أن هذا الأمل سرعان ما أُحبِط بصلابةٍ، من خلال متابعة عمل هذه الصحافة “الخاصة”، والبعيدة كل البعد عن التحرّر من القيود التقليدية التي تتشبّث بالصحافة الرسمية، إضافة إلى خطوطٍ حمراء، خطّتها ثقافة الخوف المستشرية، وآلية النفاق المتغلغلة في أعماق العمل الصحافي وسراديبه. وصار من الطبيعي أن تقرأ خطاباً أشدّ نفاقاً للسلطة الحاكمة في صحف خاصة منه في الصحف الرسمية التي لم يكن صحافيوها قادرين على تجاوز درجة انحدار الصحافيين العاملين في الإعلام الخاص نحو الأسفل. وبمعزلٍ عن استثناءاتٍ محدودة، سرعان ما أُجهِضَت، فقد كُتبت الحياة لصحافةٍ خاصة، صارت تدفع القارئ الباحث عن الحقيقة، إلى التحسّر على الصحافة الرسمية و”مهنيتها” المحدودة، وموادها القابلة للهضم، وخصوصاً في الأقسام الثقافية، وبعض التحقيقات الخدمية والاجتماعية.

في زمن الثورة التي تحولت مقتلة، برز صنفٌ جديدٌ من الصحافيين المواطنين، والذين يمكن الاعتماد عليهم في مستقبلٍ منظور لناظريه ربما، ولكن هذا البروز لا يمكن له أن يرمي بتجارب من قبله، الرسمية والخاصة، على “عجرها وبجرها”، في مياه مستنقع السلطة الآسنة.

العربي الجديد

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى