ثقافة وفكر

في أصالة الاستعمار: من يحدد داخل الثقافة وخارجها؟/ محمد سامي الكيال

يمكن اعتبار «نزع الاستعمار» أحد أهم الظواهر السياسية والثقافية منذ مطلع القرن الماضي، مع تصدّر حركات التحرر الوطني، وما رافقها من نزعات توحيدية أو انفصالية، المشهد الدولي، وتحولها للاعب سياسي لا يمكن تجاهل مطالبه وقيمه. إلا أن عصر «التحرر الوطني» هذا واجه أسئلة صعبة على مستوى الهوية، فلكي تعطي استقلالك عن المحتل مبرراته ومعانيه الأيديولوجية، لا بد من إبراز اختلافك عنه من جهة، وتأسيس مشتركات ثقافية بين الكتل السكانية المتنوعة، التي تطالب لها بالاستقلال، من جهة أخرى. وهي مهمة لم تكن سهلة على الإطلاق، حتى في الأقاليم التي تتمتع بإرث حضاري عريق. وإذا كان المستعمرون قد نقلوا معهم كثيراً من القيم والتقنيات والأفكار، التي لم يعد من الممكن الاستغناء عنها، ليس فقط على مستوى شكل الدولة والقانون والمؤسسات الصحية والتعليمية والثقافية، بل حتى في مجالات مثل الرياضة والموسيقى والعمارة والمطبخ، فكيف يمكن المحافظة على كل هذا، مع إبراز الاستقلال والأصالة في الآن ذاته؟

الحل السائد كان اعتبار ما خلفه الاستعمار هياكل ماديةً لا بد من إحلال «الروح» الوطنية فيها، ومن هنا نشأت عملية الفرز بين ما هو داخلي أصيل في الثقافة المحلية، وما هو خارجي دخيل عليها من قبل الاستعمار. وهي عملية تحديثية بالضرورة لم تعرفها المجتمعات القديمة، التي كانت تتمثل العناصر الثقافية، المصدّرة إليها أو المفروضة عليها، نتيجة الغزوات المتعاقبة، بعفوية، وبدون وضع مخططات وطنية وهوياتية شاملة للتعامل معها، ولذلك فإن عملية صناعة الأصالة، وتحديد داخل وخارج الثقافة، تطرح أسئلة مهمة عن طبيعة وغايات القوى التي تسعى للقيام بها، خاصة في عصرنا، الذي تجاوز مسائل التحرر الوطني، ودخل في دوامة من سياسات الهوية والنزعات بعد الحداثية.

التحرر الوطني والتراث «الجيد»

يمكن اعتبار غايات قوى التحرر الوطني، حتى نهاية عقد الستينيات من القرن الماضي، واضحة بشكل كبير. فالوطنيون في الدول الخاضعة للاستعمار لم يرفضوا الحداثة والمؤسسات الاستعمارية بحد ذاتها، وكثيراً ما كانوا من خريجي هذه المؤسسات والمستفيدين منها. كما أنهم حاولوا استنساخ التجارب القومية في الدول الغربية. ما رفضوه هو التحكم الخارجي وعدم المساواة. وكثيرٌ منهم اعتبروا مظاهر الفقر والتخلف التي تعاني منها شعوبهم، نتاجاً للحكم الأجنبي، وحلموا بأن تصل هذه الشعوب لمستوى رفاهية شبيه بما يعيشه أبناء المركز الاستعماري، لذلك قاموا بصياغة شاملة للثقافة الوطنية بعد الاستعمارية بوسائل حديثة، شملت اللغة والتعليم والدساتير، ورموز الدولة والسرد الوطني للتاريخ. يمكننا هنا ذكر عملية التعريب في الجزائر، وشرعية النظام القائمة على ثورة التحرير، بوصفها أحد أهم الأمثلة المعاصرة عن هذه العملية. إلا أن دول بعد الاستقلال، خاصة في العالم العربي، تعاملت مع تراث شفهي ومكتوب، من عصور قبل الاستعمار وبعده، شديد التنوع والتباين، لذلك كان لا بد من فصل التراث «الجيد» عن «السيئ»، هكذا اعتُبرت قيم العزة الوطنية، ورفض الهيمنة ومقاومة المحتل، قيماً أصيلة متجذرة في التاريخ، وتم إنتاج صور واستعارات شهيرة عن الأرض المروية بدماء أبنائها، الذين سقطوا في مواجهة الغزاة على مرّ العصور، في دول يمكن اعتبار تاريخها وثقافاتها، للمفارقة، عبارة عن تراكم للغزوات وعمليات الاحتلال والاستيطان المتعاقبة. أما الظواهر السلبية، مثل التخلف الاجتماعي والصراع الطائفي والعصبوي، فاعتبرت قيماً أدخلها الاستعمار أو رعاها.

هذه السياسات أدت لنتيجتين عكسيتين: الأولى هي عدم قدرة السرد الوطني الرسمي على تمثل كثير من الوقائع الاجتماعية المناقضة، مثل الصراع القومي والإثني والديني، وولاء بعض الكتل السكانية لمرجعيات ثقافية واجتماعية خارجية، وحقيقة أن حروب الاستقلال كانت في كثير من الأحيان حروباً أهلية، بين جماعات ارتبطت مصلحياً وثقافياً بالاستعمار، وأخرى عارضته.

النتيجة الثانية هي فتح الباب لمختلف النزعات الأصولية والرجعية، التي سعت دائما لتجذير الانفصال عن الهيمنة الاستعمارية، عن طريق الإغراق في «الخصوصية»، والمزاودة على الدول الوطنية في إنتاج «الأصالة». عملية «نزع الاستعمار»، على نمط التحرر الوطني، كانت إذن متعسفة في كثير من الحالات، وأدت لنتائج ربما كان من الممكن تجنبها، لو تم الاعتراف بمخلفات الاستعمار بوصفها واقعاً داخلياً، ومكوناً «أصيلاً» للثقافة المحلية.

التراث «السيئ» ونقد الحداثة

قلنا سابقاً إن مرحلة التحرر الوطني تم تجاوزها، ونحن الآن نعاصر مفهوماً جديداً لـ«نزع الاستعمار»، يتم أغلبه في الدول الاستعمارية السابقة، وعلى يد أجيال أحدث لم تعاصر الاحتلال، ولم تعان فعلياً منه. يقوم هذا المفهوم على تفكيك بنى السلطة والمعرفة الاستعمارية، والتركيز على قضايا الهيمنة والخطاب، ودراسة تاريخ المؤسسات الانضباطية الحديثة في الدول المستعمرة. وبالتالي فهو لا يهتم بمبادئ الاستقلال ورفض الاحتلال بحد ذاتها، كما كان سائداً لدى أنصار التحرر الوطني، بل يركز على نقد السلطة الحداثية، وهو لا يعدو كونه تطبيقاً لمناهج نقد الحداثة على الصعيد الدولي، لذلك نرى أنصاره ينتقدون دول الاستقلال، وسياساتها التحديثية والثقافية، بوصفها استمراراً للهيمنة الاستعمارية، لدرجة أن كثيراً مما اعتبره الوطنيون تراثاً سيئاً ومتخلفاً، رآه هؤلاء تجسيداً للمقموع والمهمش من قبل التحديث الكولونيالي، ما أدى لنتائج فكرية، أثارت احتجاج كثير من المثقفين المحليين. يمكننا أن نذكر هنا المؤرخ الهندي سوميت سركار، الذي نأى بنفسه عن مدرسة «دراسات التابع»، احتجاجاً على تركيزها، منذ الثمانينيات، على دراسة «التمثلات الثقافية»، بدلاً من دراسة الوقائع والممارسات الاجتماعية والاقتصادية. واعتبارها الحداثة والتنوير إرثاً للهيمنة الثقافية الغربية، ما يقربها، حسبه، من موقف اليمين الهندوسي.

وبغض النظر عن موقفنا من الأسس المعرفية لهذا النوع من «نزع الاستعمار»، يمكننا طرح سؤال أساسي عن غاية تفكيك السلطة الحداثية، خاصة إذا عرفنا أن أنصار هذه الطرح لا يسعون إلى بناء مشاريع سياسية استقلالية، كمناضلي التحرر الوطني. وإذا كان هدفهم هو توسيع أفق الخطاب العام ليستوعب الفئات المهمشة والمقصية، فإن سعيهم يؤدي دائماً إلى نتائج عكسية: تشكيل خطابات هوياتية، قائمة بدورها على إقصاء من لا يتماهون معها (مثل كل خطاب هوياتي) بوصفهم «كارهين لذاتهم»، أو مستلبين أمام الهيمنة الغربية، ما ينتج نزعة أصالة جديدة، لا تصب إلا في مصلحة أكثر التيارات السياسية رجعيةً. وبالفعل لا يخجل كثير من مثقفي «اليسار»، خاصة في الدول الغربية، من تصنيف أبناء المستعمرات السابقة إلى ضحايا «أصلاء»، وآخرين لا يعبّرون عن هويتهم بما فيه الكفاية، أو «مخبرين محليين» و«مستشرقين». وكأنهم يمثلون مركزية استعمارية جديدة، ترى لنفسها الحق والسلطة في تحديد دواخل الثقافات وخوارجها، وآداب السلوك التي يجب على المحليين أن يلتزموا بها.

الاستعمار مكون ثقافي

نلاحظ أن نوعي «نزع الاستعمار» السالف ذكرهما يقومان على دعاوى أيديولوجية وأهداف سياسية واضحة، فأنصار التحرر الوطني كانوا يريدون صياغة الهوية الوطنية لدولة الاستقلال، وما بعد الكولونياليين يريدون «تفكيك» الهيمنة. والنتيجة في الحالتين هي تعامل متعسف مع الظواهر الثقافية المتراكبة والمتداخلة، وفصلها عنوةً إلى داخل وخارج. وهم حتى عندما يركزون على ظواهر مثل «الهجنة» و«التفاعل الثقافي»، يعيدون تأكيد القسمة الثنائية للمؤثرات الثقافية، فلا يرون فيها إلا تشكيلاً لسلطة امبراطورية ما، أو فرصة لمقاومتها، إلا أن اتخاذ مسافة من هذه الأهواء الأيديولوجية يظهر لنا مدى تعقيد الوقائع التاريخية والثقافية، وتهافت التصورات الثنائية، إذ أنه من النادر أن نجد عبر التاريخ ثقافات مستقلة أو معزولة، أو ذات بنية متسقة. كما أن انتقال القيم والأفكار والتقنيات بين الثقافات لم يتوقف يوماً، ولم يتخذ في كثير من الأحيان شكلاً سلمياً، فالغزو والإخضاع والاستيطان كانت دوماً عاملاً أساسياً لتشكيل الثقافات من «الداخل»، لا فرق في ذلك بين عصور قديمة أو حديثة. وما خلفه الاستعمار الغربي في بلداننا أصبح منذ زمن طويل جزءاً عضوياً من ثقافاتنا المحلية. فمواطنو الدول العربية، الذين تعوّدوا مثلاً على قانون عقوبات مشتق من القانون الفرنسي، أصيبوا بصدمة كبرى عندما رأوا محاولات «داعش»، على قدر اجتهادها طبعاً، لإحياء حدود وعقوبات الشريعة الإسلامية.

محاولة تطهير الذات من القيم الثقافية والجمالية والأخلاقية، التي يعتقد البعض أنها خارجية، باتت محاولة فوقية وسلطوية، أي أنها «استعمارية» بشكل من الأشكال. ولعل أبرز مثالب هذا النمط من التفكير هو إعلاء الهوية على حساب الحقوق. فأياً كان تحديد الجماعات والأفراد لهويتهم، يجب أن لا يعني ذلك سلب الحقوق السياسية والفردية، بما فيها الحق في التمرد والانشقاق، بدعاوى الخصوصية والأصالة. هذه الحقوق اكتسبت طابعا كونياً منذ زمن، ولعل من أهم إنجازات الحداثة، بجدلية استعمارها وتحررها، أنها أمنت الأسس لنشوء هذه الكونية.٭ كاتب من سوريا

القدس العربي

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى