ثقافة وفكر

ماركس والشرق الأوسط/ جلبير الأشقر

1/2

مع أنّ إسهام كارل ماركس الأهمّ في العلوم الاجتماعيّة يقوم في الأساس على تحليله النقديّ للاقتصادات والسياسات الأوروبيّة الغربيّة، فإنّه لمن المعروف أنّ المنهجيّة التاريخيّة التي صاغها بالتعاون مع فريدريش إنغلز تدّعي صلاحيّة شاملة. والحال أنّ المنطقة التي يُشار إليها عادةً بتسمية الشرق أو الشرق الأوسط – أو تبعاً للتوصيف الأكثر اصطلاحيّة، الشرق الأوسط وشمال أفريقيا [مينا] (MENA) وهي المنطقة التي تضمّ أعضاء جامعة الدّول العربيّة علاوةً على إيران، مع إضافة تركيّا أحياناً [مينات] (MENAT) – تلك المنطقة هي واحدة من المناطق التي كان فيها الادّعاء المذكور مثار أكبر جدال، أكان من جانب نقّاد الماركسيّة المحليّين أم الغربيّين. ويهدف ما يلي إلى تبيان أنّ إرث ماركس الفكريّ لا يقلّ جوهريّةً في تحليل هذا القسم من بلدان أطراف النظام الرأسماليّ عنه في تحليل بلدان المركز.

الاستشراق ونقده

إنّ الخلل المنهجيّ الرئيسيّ الذي تواجهه دراسة منطقة مينا هو ذلك المتعلّق بـ«الاستشراق»، بالمعنى الذي ساد فيه هذا المصطلح بعد صدور كتاب إدوارد سعيد المؤثّر الذي اتّخذه عنواناً له1. «الاستشراق» بهذا المعنى مثالٌ عن التّنميط الثقافيّ الذي يختزل تفسير السّمات التاريخيّة الخاصّة بالبلدان «الشرقيّة» إلى ثقافةٍ أزليّةٍ مزعومة. إنّ «الاستشراق»، بكلام آخر، أحد نماذج الجوهرانيّة التي هي طريقةٌ في النّظر إلى التاريخ من خلال عدسة الثقافة باعتبارها طبيعة: لا الثقافة بوصفها مجموعة أفكار وأعرافٍ تتغيّر عبر الزمن بالتّرافق مع التحوّل الاجتماعيّ والاقتصاديّ والسياسيّ، بل الثقافة بوصفها جوهراً ثابتاً يحدّد طرق التطوّر الكليّ.

أيُّ قارئٍ مطّلعٍ على فكر ماركس سيدرك أنّ التوصيف أعلاه يحيل إلى نمطٍ من التفسير المثاليّ للتاريخ بلغ ذروته مع الفيلسوف الألمانيّ هيغل وقد اشتُهر ماركس وإنغلز بتفنيده، مستبدلينه بتفسيرهما المادّيّ للتاريخ – أو «الماديّة التاريخيّة» كما شاعت تسميته. وفي الحقيقة، فإنّ هيغل ذاته هو صاحب التصريح الأكثر إيجازاً ونموذجيّةً بين التصريحات التي عبّرت عن رؤيةٍ «استشراقيّة» لما سمّاه «العالم الشرقيّ» – الإسلام («المحمّديّة») على الأخصّ – وذلك في كتابه محاضرات في فلسفة التاريخ العالميّ الذي يجمع محاضرات ألقاها بين عامَي 1821 و1831 2. وحيث إنّ ماركس قد ركّز على أنّه ينبغي، بدلاً من تفسير «تناقضات الحياة الماديّة» من خلال «الصيَغ القانونيّة، أو السياسيّة، أو الدينيّة، أو الفنيّة، أو الفلسفيّة – باختصار، الصيغ الأيديولوجيّة» التي تهيمن في المجتمع، ينبغي تفسير الأخيرة من خلال الأولى، فإنّ نقده المنهجيّ للتفسير المثاليّ للتاريخ وإطاحته به يشكّلان، ضمن السياق ذاته، التّفنيد الأكثر جذريّة لـ«الاستشراق».

وليس إذاً من قبيل المصادفة على الإطلاق أنْ يكون نقد ما اشتُهر باسم «الاستشراق» بمعنى ازدرائيّ بعد سعيد، كان روّاده باحثين ماركسيّين في دراسات الشرق الأوسط والدراسات الإسلاميّة، أبرزهم المصريّ أنور عبد الملك والفرنسيّ مكسيم رودنسون3. وقد أبدى سعيد ثناءً ملائماً لكلٍّ منهما في كتابه الأشهر واقتبس فقراتٍ طويلة من نقد عبد الملك الملهِم للاستشراق4. لكنّه لم يعترف بأيّ مديونيّة لتفنيد ماركس للجوهرانيّة التاريخيّة التي ألهمت الكاتبَين المذكورين، بل على العكس تماماً، قام سعيد بإدراج ماركس بين «مستشرقي» القرن التاسع عشر الذين صبّ عليهم جام نقده القاسي. وقد جلب على نفسه بنتيجة ذلك انتقاداتٍ من ماركسيّين أبناء بلدانٍ تنتمي إلى الشرق، مثل السوريّ صادق جلال العظم، واللبنانيّ مهدي عامل، والمصريّ سمير أمين، والهنديّ إعجاز أحمد5.

وقد اعتمد سعيد في نبذه لماركس في الاستشراق على تعقيباتٍ كتبها هذا الأخير عن الهند عام 1853، وعلى الأخصّ في مقالةٍ واحدةٍ اقتبس منها سعيد فقرات طويلة6. في تلك المقالة، التي نُشرتْ في صحيفة نيويورك دايلي تريبيون تحت عنوان «الحُكم البريطانيّ في الهند»7، لخّص ماركس حُكمه في فقراتٍ اقتبس منها سعيد على النّحو الآتي:

والآن، برغم أنّ المشاعر البشريّة تتقزّز لا محالة حين تشهد تلك الأعداد الضخمة من المنظّمات الاجتماعيّة الكادحة البطريركيّة وغير المؤذية وقد تفتّتتْ وتحلّلت إلى وحداتها المُكوِّنة، وأُلقي بها في بحر الفجائع، فيما يفقد أعضاؤها في الوقت ذاته صيغة حضارتهم القديمة، وموارد رزقهم المتوارثة، فإنّ علينا ألّا ننسى أنّ هذه المجتمعات القرويّة الشاعريّة، برغم مظهرها غير المؤذي على ما يبدو، لطالما كانت الأساس الراسخ للاستبداد الشرقيّ، وأنّها حصرت الذهن البشريّ ضمن أضيق حدود ممكنة، مُحيلةً إياه إلى الأداة المطواعة للخرافات، مُستعبدةً إياه تحت قيود الأحكام التقليديّة، حارمةً إياه من جلاله كلّه ومن الطاقات التاريخيّة…

صحيح أنّ إنكلترا، حين تسبّبت باندلاع ثورةٍ اجتماعيّة في هندستان، لم تكن مدفوعةً إلّا بأحطّ المصالح، وكانت غبيّةً في طريقة فرضها تلك المصالح. ولكن ليس هذا هو السؤال. إنّما السؤال هو، هل بوسع البشريّة بلوغ مرامها من دون ثورةٍ أساسيّةٍ في وضع آسيا الاجتماعيّ؟ إن كانت الإجابة بالنّفي، فأيّاً تكن جرائم إنكلترا، كانت هي أداة التاريخ غير الواعية في إحداث تلك الثورة8.

مع كلّ الاحترام لسعيد، من الإنصاف الإقرار بأنّه لا يوجد في ما سبق أو في أيٍّ من كتابات ماركس الغزيرة الأخرى تصويرٌ لـ«الشرقيّين» على أنّهم يجسّدون «جوهراً» راسخاً في ثقافةٍ أزليّة. بل يتعارض مثل هذا التصوير، في الحقيقة وبصورة مباشرة، مع تفسير ماركس الماديّ للتاريخ. ففي الاقتباس أعلاه، بعيداً من افتراض أنّ الهنود محكومون بالبقاء عالقين في «صيغة حضارتهم القديمة» بسبب ثقافتهم، ينسب ماركس تلك الثقافة إلى البنية الاجتماعيّة بحيث إنّ ما تبدو وكأنّها «مجتمعات قرويّة شاعريّة» كانت الأساس الذي قامت عليه منظومة من «الاستبداد الشرقيّ» والفئويّة المنغلقة والعبوديّة، «أحالت وضعاً اجتماعيّاً من التطوّر الذاتيّ إلى مصير طبيعيّ راسخٍ لا يتبدّل». ولذا يشير ماركس إلى أنّ إنكلترا، عبر «تسبّبها باندلاع ثورةٍ اجتماعيّة» في الهند، وبرغم كونها «ليست مدفوعةً إلّا بأحطّ المصالح» وعلى نحوٍ إجراميّ، كانت تشقّ الطريق إلى «ثورة أساسيّةٍ في وضع آسيا الاجتماعيّ» لا يمكن للبشريّة «أن تبلغ مرامها» من دونها. وهذا حقّاً بعيدٌ كلّ البعد عن وجهة النظر «الاستشراقيّة».

ماركس والشرق

ليس القصد هنا، بالطبع، ادّعاء أنّ آراء ماركس حيال الهند في عام 1853 كانت بلا شائبة: لقد كانت معلولة بالتأكيد، ولكن ليس بفعل «الاستشراق». إنّما كانت مقيَّدة بالحدود المعرفيّة الموضوعيّة التي كان ماركس يمارس تفكيره ضمنها9. فباعتماده على معرفة أوروبيّة محدودةٍ ومنحازة بشأن المجتمعات غير الأوروبيّة، كانت هي المعرفة الوحيدة المتاحة له، وتحتّم أن يكون تقييم ماركس للتاريخ الهنديّ «ذا تمركزٍ أوروبيّ». ولقد بيّنَ دانييل ثورنر كيف أنّ آراء ماركس حيال الهند في أواخر أربعينيّات القرن التاسع عشر وأوائل خمسينيّاته، بما فيها مقالاته لعام 1853 في نيويورك دايلي تريبيون، كانت محدّدة بتقييدات عصره المعرفيّة 10. وقد ردّدت في الواقع، وإنْ بمسحةٍ ماديّة، بعض تصريحات هيغل الخاطئة والمتحاملة التي أفصح عنها في محاضراته في فلسفة التاريخ، وعلى الأخصّ فكرة ركود الهند التاريخيّ المزعوم.

وكذلك ظهر التمركز الأوروبيّ المعرفيّ لدى ماركس في اعتقاده أنّ سائر البلدان ستقتفي مسار التطوّر الأوروبيّ. وبذلك رأى أنّ الاستعمار الأوروبيّ يحقّق دوراً تقدّمياً من وجهة النظر التاريخيّة في تخليص كافة الشعوب غير الأوروبيّة (لا شعوب الشرق وحدها) من بُناها الاجتماعيّة العتيقة ووضعها على درب التطوّر الرأسماليّ الذي سارتْ عليه أوروبا قبلها. ومع أنّ ماركس صوّر الاستعمار باطّراد بأوصافٍ شنيعةٍ ملائمةٍ، كما فعل لاحقاً في الفصول الأخيرة من المجلّد الأوّل من كتابه رأس المال، إلّا أنّه اعتنق بادئ الأمر تصوّراً غائيّاً للتاريخ بوصفه سيرورة تحضُّرٍ لا مناص منها – وهي رؤية تنتمي بقوّة إلى روح عصره.

ولكن، أن نصف ذلك وكأنّه تمركزٌ أوروبيّ من طراز التمركز الإثنيّ الاستعلائيّ – من النّمَط الذي حدا هيغل إلى التأكيد على أنّ «العالم الجرمانيّ» هو «روح العالم الجديد» – إنّما هو سوء تأويل خطير. إذ إنّ ماركس الشابّ لم يكن معجباً بأمّته الألمانيّة، بل بطبقةٍ: البورجوازيّة، وليست البورجوازيّة الألمانيّة (التي كان يمقتها بالأحرى)، بل الرأسماليّة الإنكليزيّة في المقام الأوّل. ومع أنّه اعتبر أنّ البورجوازيّة هي «العدوّ» منذ اعتنق المبدأ الشيوعيّ، إلّا أنّه امتدح أفعالها انطلاقاً من إيمانٍ بضربٍ من التقدّم يُفضي لا محال إلى النهاية الشيوعيّة للتاريخ، وهي سيرورة تاريخيّة ليست البورجوازيّة فيها سوى «الأداة غير الواعية».

إنّ هذه النسخة الماديّة – الشيوعيّة من التصوّر الهيغليّ للتاريخ معروضة بأكثر الصيغ سذاجةً في البيان الشيوعيّ، الذي يتغنّى بالمدائح للبورجوازيّة من أجل إنجازها التاريخيّ. بيد أنّ ما ينجلي هناك أصلاً ليس نوعاً من الازدراء الأوروبيّ المتمركز إزاء غير الأوروبيّين، بل ازدراءٌ عموميّ إزاء كافّة صيغ الحضارة ما قبل الصناعيّة، أوروبيّة كانت أو غير أوروبيّة. إنّ السرديّة التاريخيّة الكبرى المعروضة في البيان الشيوعيّ سرديّةٌ لاذعة تجاه إرث أوروبا الإقطاعيّة و«تنْبلتها الأشدّ كسلاً»، وتجاه ريف أوروبا و«بلاهة الحياة القرويّة» بقدر ما هي لاذعة تجاه «البلدان الهمجيّة ونصف الهمجيّة»، «شعوب الفلّاحين»، و«الشرق»، وقد قزّمت إنجازات الحضارات السابقة كلّها، «أهرامات مصر، وقنوات روما، والكاتدرائيّات القوطيّة» على السواء11.

إنّ الخطأ الأساسيّ في تفسير البيان الشيوعيّ لدور الرأسماليّة الأوروبيّة العالميّ يبين في أوضح تجلّياته في التأكيد الشهير على أنّ البورجوازيّة «تخلق عالماً على صورتها»:

بالإتقان السريع لأدوات الإنتاج، وبالتّحسين الدائم لوسائل المواصلات، تجرّ البورجوازيّة إلى تيّار الحضارة حتّى أشدّ الأمم همجيّة… وتقود قسراً جميع الأمم، تحت طائلة الهلاك، إلى تبنّي نمط الإنتاج البورجوازيّ، وترغمها، مهما أبتْ، على إدخال الحضارة المزعومة إليها أو قُلْ ترغمها على أن تصبح بورجوازيّة، وباختصار، هي تخلق عالماً على صورتها12.

ترى وجهة النّظر المطروحة هنا أنّ البورجوازيّة الأوروبيّة تُرغم أولئك الذين تعدّهم «همجيّين» على اعتناق «نمط الإنتاج البورجوازيّ» – «الحضارة المزعومة». ومع أنّ هذه الفقرة تبدو وكأنّها تحتوي على نبرةٍ نقديّة مُضمرة حيال استخدامها لتصنيفَيْ «همجيّ» و«متحضّر» عبر الإحالة إلى «الحضارة المزعومة» (تبعاً للبورجوازيّة)، إلّا أنّها تبقى مبنيّةً على إغفالٍ ساذج لكون البورجوازيّة الأوروبيّة، بعيداً عن تسويتها لمناطق العالم، كانت في الواقع تُخضع الأمم الأقلّ تطوّراً وتخلق تقييداً بنيويّاً عالميّاً غدا عائقاً أساسيّاً أمام تطوّر تلك الأمم وتحوّلها إلى أممٍ «بورجوازيّة» مماثلة.

ولم يمض وقتٌ طويل، على أيّة حال، قبل أن يقرّ ماركس إقراراً تامّاً بهذه الحقيقة الأساسيّة التي أغفلها في كتاباته الأولى13. ومع هذا، فإنّ وجهة نظره لم تكن يوماً جوهرانيّة أو ثقافويّة، بل استندت على الدّوام إلى الشروط الماديّة. لذا أقرّ مايكل كُرتِس، بعد مقارنته بين أفكار سبعة مفكّرين أوروبيّين كبار حيال «الاستبداد الشرقيّ»، من مونتسكيو إلى ماكس ڤيبر، أقرّ بالفارق بين ماركس والعُرف الغربيّ قبله في مناقشة ما رأى فيه جميعهم ركوداً تاريخيّاً خاصّاً بالمجتمعات الشرقيّة:

عزا أرسطو ومونتسكيو ذلك الركود إلى الطبيعة السلبيّة والمتراخية للشعوب الشرقيّة. ورأى فيه بُرك ومِلْ الأب والابن نتيجةً لاقتفاء العادات والتقاليد في المجتمعات الآسيويّة. بينما عدّه ماركس وإنغلز نتاجاً لنمط الإنتاج الآسيويّ… ورأيا أن العوامل المتداخلة – غياب التراكم بسبب استيلاء الطاغية الشرقيّ على الفائض، الافتقار إلى المبادرة القرويّة بفعل عدم وجود جمعيّات طوعيّة، تسخير الأفراد للأرض، غياب العمل المأجور وديمومة شروط الإنتاج البدائيّة – هذه العوامل هي التي تُفسّر العجز عن التطوّر14.

لاحظ كُرتِس أيضاً أنّ فكرة الدين كعامل يُفسّر الرّكود المزعوم ذاته «لم يتناوَلها ماركس أو يُناقَشها تحليليّاً»15، في تمايزٍ صارخٍ عن ماكس ڤيبر في هذا السياق16. وبعد بحث مستفيض في أعمال ماركس الكاملة، وجد كُرتِس «إحالةً عابرةً وحيدةً إلى عاملٍ نفسيّ أو بيولوجيّ» يتّصل بـ «الاستبداد الشرقيّ»17، لكنّه في الحقيقة أساء فهم تفكيك ماركس لإحدى محاجّات الاقتصاديّ البريطانيّ ريتشارد جونز، فظنّ كُرتِس أنّها مناصرةٌ لرأي الأخير القائل إنّ «الطّبع والميل» هما ما يحدّدان النّزوع إلى التراكم الرأسماليّ. والحقيقة أنّ ماركس، في نقده لجونز، ردّ على هذا الرأي الجوهرانيّ بتأكيدٍ يُشكّل دحضاً قويّاً لأيّ تفسيرٍ وراثيّ للتاريخ يتركّز على «ثقافةٍ» يُزعم أنّها أزليّة: «فتطوّر الإنتاج الرأسماليّ يخلق مستوى وسطيّاً من المجتمع البورجوازيّ ويخلق بذلك مستوى وسطيّاً من الطّبع والميل لدى الشّعوب الأكثر تنوّعاً»18.

الإمبرياليّة والتطوّر المتفاوت

إضافةً إلى قلب السببيّة بين المجالين الثقافيّ والاجتماعي – الاقتصاديّ، فإنّ قلب ماركس وإنغلز للمنظور رأساً على عقب يشير إلى مسار استقصاءٍ مختلف جذريّاً. إذا كانت بنية السلطة العالميّة، وليست أيّة خصائص ثقافيّة، هي السبب الأساسيّ في كبح تطوّر البلدان التّابعة، تنبع أسئلة جديدة فيما يخصّ العلاقة بين الثقافة والتغيّر الرأسماليّ. ويتّصل أحد تلك الأسئلة الأساسيّة بكيف نفسّر كون نمط الإنتاج الرأسماليّ قد تطوَّر في أوروبا الغربيّة بادئ الأمر، وجلب معه تحوّلاً ثقافيّاً ملازماً، دوناً عن بقاع العالم الأخرى؟

«التراكم البدائيّ» للرساميل الذي حقّقته أوروبا الغربيّة كان حاسماً في إعاقة حدوث داخليّ لسيرورةٍ مماثلة في العالم غير الأوروبيّ. ولقد تحقَّق نهب القسم الأكبر من العالم من خلال التفوّق العسكريّ، فخلق بنيةً هرميّة للنظام العالميّ أدامت الامتياز التاريخيّ لأوروبا الغربيّة ومشتقّاتها في أميركا الشماليّةفي نظر الماركسيّين، تكمن الإجابة في خصائص نمط الإنتاج الإقطاعيّ الأوروبيّ وتضافره مع سمات أوروبا الغربيّة المناخيّة، علاوةً على موقعها الجغرافيّ بين البحر المتوسط والمحيط الأطلسيّ. وقد كانت هذه المسألة ولا تزال مثاراً للمناقشة19. غير أنّ ما بدا واضحاً في نظر ماركس نفسه هو أنّ تطوّر أوروبا الغربيّة المبكّر استند إلى حدّ بعيد إلى نهبٍ عظيم الحجم ارتكبتْه إزاء العالم غير الأوروبيّ. وقد وصف ماركس بتعبيرات قويّة في رأس المال العنف الذي ارتكزت عليه ولادة الرأسماليّة: «إنّها لحقيقةٌ صارخة، في التاريخ الفعليّ، أنّ الغزو والاستعباد والنّهب والقتل، أي، باختصار، القوّة هي التي تلعب الدور الأكبر»20. والنتيجة هي التالية: «يَقطُر الرأسمال من رأسه إلى أخمص قدميه، ومن كافّة مساماته، الدّم والقذارة»21. هكذا فإنّ «التراكم البدائيّ» للرساميل الذي حقّقته أوروبا الغربيّة كان حاسماً في إعاقة حدوث داخليّ لسيرورةٍ مماثلة في العالم غير الأوروبيّ. ولقد تحقَّق نهب القسم الأكبر من العالم من خلال التفوّق العسكريّ، فخلق بنيةً هرميّة للنظام العالميّ أدامت الامتياز التاريخيّ لأوروبا الغربيّة ومشتقّاتها في أميركا الشماليّة وأستراليا على حساب باقي العالم، باستثناء اليابان التي استفادتْ من المسافة ومن كونها جزيرة.

كان معظم الشرق الأوسط تحت الحُكم العثمانيّ حينما بدأت الرأسماليّة تكوُّنها في أوروبا الغربيّة. وفي القرن التاسع عشر دخلت الإمبراطوريّة العثمانيّة في مرحلة انحطاطٍ متزايد، بينما أخذت القوى الأوروبيّة الغربيّة تتعدّى مجالها العربيّ. وسقطت المنطقة كلّها في نهاية المطاف تحت الهيمنة الغربيّة الاستعماريّة وشبه الاستعماريّة، بحيث انتقلتْ من إخضاع إلى آخر أقوى بكثير، شملها برمّتها. وفي الظروف النّاجمة عن ذلك، بات تطوّر الرأسماليّة المحليّ مغموراً ومخنوقاً من قِبَل احتياجات تطوّره في البلدان المهيمنة، التي بات تابعاً لها. وتُقدّم مصر مثالاً قويّاً عن هذه المشكلة، من خلال الدّور الكبير الذي أدّتْه بريطانيا الإمبرياليّة في إجهاض مشروع محمّد علي التحديثيّ في النّصف الأوّل من القرن التاسع عشر22. لم يكن أيّ من الطّبع أو الدين مسؤولاً عن ذلك، وليس هناك من وجهةٍ نظريّة تنقض مثل هذه الادّعاءات «الاستشراقيّة» مثلما تنقضها وجهة ماركس الماديّة التاريخيّة.

وثمّة سؤالٌ مُلازِمٌ ينبع من وجهة ماركس النظريّة، سؤالٌ مناسب جدّاً حيال الشرق الأوسط، ألا وهو: لمَ لمْ يُفضِ تطوّر الرأسماليّة المدفوع خارجيّاً في مناطق الأطراف جميعها إلى التحوّل الثقافيّ ذاته؟ كيف يمكن، على الأخصّ، تفسير ديمومة بعض السمات العتيقة جدّاً في بعض بلدان الأطراف الرأسماليّة، وهي حالة تبلغ أقصى درجاتها في الشرق الأوسط مع استمرار هيمنة قبَليّة بطريركيّة عتيقة جدّاً في مشايخ مجلس التعاون الخليجيّ. والحال أنّ هذه المشيخات، بفضل غناها بالهيدروكربونات، شهدتْ أقصى درجات تقدّم التطّور المحلّيّ للاقتصادات الرأسماليّة، بما فيها محاكاة على نطاقٍ واسع للمشاهد الرأسماليّة المدينيّة الحديثة المتّسمة ببهرجة كثيفة، وحافظتْ مع ذلك على سماتٍ اجتماعيّة وثقافيّة عتيقة كحجارة أساس لأنظمتها الاجتماعيّة – السياسيّة.

فإن رؤية ماركس للتركيب بين السّمات الحديثة والعتيقة الذي يُتيحه تزامن تشكيلات اجتماعيّة بدرجات متنوّعة من التطوّر – وهي وجهة نظر تناول منها روسيا على نحو مشهور23 – رؤية ماركس هذه لا تجد تجلّياً أوضح ممّا نجده في هذه المشيخات النفطيّة. غير أنّ نموذج التطوّر المركّب الذي تقدّمه تلك المشيخات يتعلّق بتوليفة السّمات الرأسماليّة الحديثة والسّمات ما قبل الرأسماليّة العتيقة التي وصفها ليون تروتسكي تحت تسمية «التطوّر غير المتكافئ والمركّب» في كتابه الشهير تاريخ الثورة الروسيّة،24 أكثر مما تتعلّق بالفرضيّة التي أطلقها ماركس مرّةً بأنّ المشاعة الريفيّة الروسيّة العتيقة قد تتحوّل إلى نموذج اشتراكيّ.

والحقيقة التي لا يمكن أن تُخطئها عين، هنا أيضاً، هي أنّ دور الهيمنة الأجنبيّة كان حاسماً في إنتاج هذا المزيج شديد الهجانة. وثمّة تعارضٌ صارخ بالفعل بين مهمّة «نشر الحضارة» التي اضطلعت بها الإمبراطوريّة البريطانيّة في معظم مجالها الاستعماريّ، والتي اتّخذتْ صيغة إنشاء مؤسَّسات مُستنسَخة من المؤسّسات السياسيّة البريطانيّة وإجراء عمليّة تحديثٍ فوقيّة للمجتمعات المدينيّة، من جهة، وصون الإمبراطوريّة البريطانيّة المتعمّد لأعتق السمات الاجتماعيّة، بل وترسيخها لها في المناطق العربيّة الغنيّة بالنّفط التي وقعتْ تحت سيطرتها. وقد تعمّدت بريطانيا في هذه المناطق إنشاء بضع «دول» مصطنعة تماماً تفتقر إلى المقوّمات الأساسيّة للدّولة وتحكمها مشيخات قَبَليّة تحوّلت إلى سلالات حاكمة حكماً مطلقاً.

وعلى النّحو ذاته، فإنّ صون الولايات المتّحدة لأكثر السّمات الاجتماعيّة رجعيّةً في المملكة العربيّة السعوديّة، بما فيها المعاملة المُروِّعة للنّساء والنظام السياسيّ والثقافيّ التوتاليتاريّ، وبالرغم من أنّ المملكة كانت في حقيقة الأمر محميّة أميركيّة بعد الحرب العالميّة الثانية، هذا الواقع يتعارض بحدّة مع الادّعاءات الأيديولوجيّة للولايات المتّحدة في قيادة «العالم الحرّ» بوصفها منارة للديمقراطيّة وحقوق الإنسان. والحال أنّ الولايات المتّحدة حافظت طوال عقود على جيبٍ أجنبيّ خاصّ بها في إقليم المملكة الأكثر غنى بالنّفط من أجل استغلال مورد البلاد الطبيعيّ العظيم مع امتناعها كليّاً عن السعي إلى تحديث المملكة اجتماعيّاً وسياسيّاً وثقافيّاً، مخافة أن يتسبّب ذلك بزعزعة استقرارها السياسيّ في محيطٍ جيوسياسيّ كان يتّسم بجيَشان التيّارات اليساريّة المناهضة للإمبرياليّة.

وهكذا، فمع نبذ التفسير الثقافويّ لكونه شديد الدغل يفسّر الماء بالماء، يتحتّم على الاستقصاء الماديّ لديمومة السّمات الاجتماعيّة والسياسيّة والثقافيّة العتيقة في مشيخات الخليج العربيّة أن يدرس النشأة التاريخيّة الفعليّة لهذه الأنظمة. وتتحتّم بالتالي على هذا الاستقصاء الإشارة إلى دور الإمبرياليّة الغربيّة في رعاية صون أعتق سمات تلك المشيخات بمواجهة الصعود المتفجّر لمسارات التّحديث المناهضة للإمبرياليّة في محيطها. وفي الحقيقة، ما من نقضٍ أقوى لـ«الاستشراق» من تبيان كيف قامت القوى الغربيّة بصون تلك السّمات الثقافيّة «الشرقيّة» المزعومة وترسيخها، وهي السمات عينها التي يعدّها المنظور «الاستشراقيّ» أدلّةً أساسيّة على خواصّ الشرق الأوسط الاقتصاديّة والسياسيّة.

٢/٢

البوناپارتيّة

استناداً إلى الإقرار بأن إسهام ماركس في العلوم الاجتماعيّة كان متركّزاً على أوروبا الغربيّة بصورة أساسية، كما جاء في بداية هذه الدراسة، قد يحاجّ بعض الناس أنّ تحليلات ماركس التاريخيّة العينيّة لا تلائم سوى ذلك الجزء من العالم، بالرغم من أنّ منهجيّته في علم التاريخ تدّعي ملاءمة العالم بأسره. بيد أن مثل هذا الرأي لا يمكن أن يؤخذ به إلا بالانطلاق من وجهة نظر جوهرانيّة بالعمق، تفترض وجود تفرُّدٍ وغرابة مطلقين يميّزان شتّى أنحاء العالم المكانيّة – الثقافيّة. وثمة محاولة أخرى في نكران جدارة إسهام ماركس، قد تبدو أكثر جدوى، تقوم على حصر ملاءمتها بالحقبة التي عاش فيها لا غير، ما يعني اللجوء إلى حجّة زمانيّة – تنمويّة بدلاً من الحجّة المكانيّة – الثقافيّة.

وفي واقع الحال، لو تجاهلنا هذه الحجّة الأخيرة، لرأينا في الحجّة الأخرى، الزمانيّة، تأكيداً لملاءمة تحليلات ماركس في القرن التاسع عشر لمنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا [مينا] في القرن العشرين. هذا لا يصحّ فيما يخص تحليل ماركس لإنكلترا القرن التاسع عشر، وقد كان اقتصادها الرأسماليّ الأكثر تطوّراً في ذلك العصر، بقدر ما يصحّ في صدد كتابات ماركس عن بُلدان مثل فرنسا وألمانيا، لاسيما في منتصف القرن التاسع عشر حينما كان البَلدان لا يزالان يعانيان من آلام مخاض نمط الإنتاج الرأسماليّ. والحال أن الرأسماليّة تطوّرت في البلدين المذكورين على خلفيّة ريفيّة كانت لا تزال مطبوعة بإرث الأنماط الزراعية السابقة للرأسمالية وعلى خلفيّة مدينيّة كانت لا تزال تتّسم بغلبة الحِرَف البورجوازيّة الصغيرة التقليديّة.

في الحقيقة، يمكن إثبات كون التشابه بين فرنسا أو ألمانيا في القرن التاسع عشر وبين أجزاء من الشرق الأوسط في القرن العشرين أو حتى في الزمن الراهن، يساوي – إن لم يفُق – التّشابه بين سمات هذين البلدين الأوروبيّين في القرن التاسع عشر ووضعهما في القرن العشرين، ناهيكم من الزمن الراهن. وقد تسبَّب التوتّر الذي نجم في فرنسا وألمانيا القرن التاسع عشر عن التركيب بين ضعف طبقة رأسماليّة لا زالت ناشئة، والضعف الملازم لطبقة عاملة لا زالت في طور البزوغ، والقوة المتواصلة لطبقة ملّاك أراضٍ انحدرت من أصول ما قبل رأسماليّة، هذا التوتّر تسبَّب في قيام سلطة الدولة التنفيذيّة بدور فوقيّ أساسيّ. هكذا كان لدور لويس نابوليون بونابارت في فرنسا أو دور أوتو فون بسمارك في بروسيا في النصف الثاني من القرن التاسع عشر قدرٌ أكبر من المرادفات في الشرق الأوسط ممّا في أوروبا خلال القرن العشرين.

فإنّ مقولة البونابارتيّة التي شرحها ماركس في رائعته في التحليل الاجتماعيّ – التاريخيّ الثامن عشر من برومير لويس بونابارت تشكّل بالتّالي، في حقيقة الأمر، مفتاحاً أساسياً لفهم سمة رئيسيّة من سمات تاريخ تركيا والشرق الأوسط في القرن العشرين. صحيحٌ أنّ تلك المقولة ليست مُصاغة بصورة تامة في كتابات ماركس: فهو لم يقدّم في أيّ من كتاباته تعريفاً منهجياً بمفهوم البونابارتيّة، خلافاً لشتى المقولات الاقتصاديّة التي عرّفها في رأس المال. وقد خلص ماكسيمليان روبل، بعد تتبّعه لتعليقات ماركس الخاصة ببونابارت الأول والثاني (نابوليون الثالث) في مجموع كتابات مؤلف رأس المال، خلص إلى القول إنّه لم يجد «نظريّة عن البونابارتيّة بكلّ ما يمكن قصده بتعبير النظريّة»1. غير أنّ روبل نفسه ميّز عناصر شتّى لمثل هذه النظريّة: وهي تحتاج إلى تجميعها في بناء نظريّ متماسك باللجوء إلى بعض التأويل بهدف ضمان انسجام النظريّة بأسرها. هذا ما سعى هال دريبر إلى تحقيقه في المجلّدات التي خصّصها لجمع آراء ماركس الاجتماعيّة – السياسيّة بصورة منهجيّة2.

ودعنا ننطلق هنا من تقييم ماركس للبونابارتيّة كما ورد في كتابه الحرب الأهليّة في فرنسا عند المحطة التي انتهى إليها مسار النموذج الفرنسيّ الذي جسّده نابوليون الثالث، بعد «أن تكشَّف عفنه، وعفن المجتمع الذي كان قد أنقذه، بفعل حِراب بروسيا»3، أي بعد هزيمة بونابارت في حرب عام1870 بين فرنسا وبروسيا. يتلخّص التقييم المذكور في الجملة الآتية، حيث كلمة «الإمبرياليّة» تُحيل إلى إمبراطوريّتَيْ البونابارتَيْن:

الإمبرياليّة هي، في آن واحد، الشكل الأعلى والأكثر عهراً من أشكال سلطة الدولة التي شرع المجتمع البورجوازي الناشئ في صياغتها كوسيلةٍلتحرّره الذاتيّ من الإقطاع، والتي انتهى المجتمع البورجوازيّ مكتمِل النموّ إلى تحويلها إلى وسيلة من أجل استعباد الرأسمال للعمّال4.

هكذا فإنّ البونابارتيّة، في نظر ماركس، هي في نهاية المطاف وسيلة تستخدمها البورجوازيّة في وجه طبقة ملّاك الأراضي التي سبقتها في السّلطة كما تستخدمها في وجه الطبقة العاملة التي تتحدّى سلطتها الجديدة. ففي الحالة الأولى، التي جسّدها نابوليون الأول، يمكن تقييم دور البونابارتيّة التاريخيّ على أنّه تقدّمي؛ لكنّ مثل هذا التقييم يصبح أصعب بكثير في الحالة الثانية، «حينما تكون البورجوازيّة قد فقدت قدرتها على حُكم الأمّة، بينما لم تكتسب الطبقة العاملة تلك القدرة بعد»، وفقاً لتقدير ماركس5. وقد أقرّ مع ذلك بالقفزة في التطوّر التي حدثت في ظل الإمبراطوريّة الثانية فضلاً عن «العفن» المشار إليه أعلاه.

في ظل سيطرتها، اكتسب المجتمع البورجوازيّ، المتحرّر من المشاغل السياسيّة، تطوّراً لم يكن هو نفسه يتوقّعه. فقد نمت صناعته وتجارته إلى أحجام عظيمة؛ وأقام أهل النصب الماليّ حفلات عربدة كوزموبوليتيّة؛ وتم تزيين بؤس الجماهير بعرض وقح لرفاهيّة برّاقة ومبهرجة ومُنْحطّة. أما سلطة الدولة، المُحلّقة فوق المجتمع ظاهريّاً، فكانت في آن واحد كبرى فضائح ذلك المجتمع ومنبت مَواطن فساده جميعها6.

هكذا، فقد آمن ماركس بأنّ مسار التاريخ قد أثبت صحّة تكهّنه الأوّل، الذي صاغه في الثامن عشر من برومير، بشأن دور البونابارتيّة في رعاية تطوّر الرأسماليّة. والحال أنّ بونابارت، كما توقّع ماركس بصورة بارعة قبل عقدين تقريباً، قد جمع فعلاً بين الحرص على «السلطة الماديّة» للبورجوازيّة والحدّ من «سلطتها السياسيّة والإعلاميّة»:

بكونه حائزاً على السلطة التّنفيذيّة التي جعلت من نفسها سلطةً مستقلّةً، يشعر بونابارت أنّ مهمّة صون «النظام البورجوازيّ» تقع على عاتقه. ولكنّقوّة هذا النّظام البورجوازيّ تكمن في البورجوازيّة ذاتها. لذا ينظر بونابارت إلى نفسه كممثّلٍ عن الطبقة البورجوازيّة ويصدر قراراته وفق هذا المنطق. ومع ذلك، فهو لم يصبح ذا أهميّة إلا لكونه قد حطّم السلطة السياسيّة الخاصة بهذه الطبقة البورجوازيّة، ويواصل تحطيمها يومياً. وبالنّتيجة، فهو ينظر إلى نفسه كمناوئ للسلطة السياسيّة والإعلاميّة الخاصة بالبورجوازيّة. لكنّه، بحماية سلطتها الماديّة، يولّد سلطتها السياسيّة من جديد. هكذا فلا بدّ من إبقاء السبب حيّاً؛ أما النّتيجة فلا بدّ من التخلّص منها أينما ظهرت7.

وإذا أخذنا بعين الاعتبار الفارق في الظروف التاريخيّة والتّزامن مع رأسماليّة أكثر تقدّماً في نصف الكرة الغربيّة ومع نموذج دولانيّ غير رأسماليّمثّله الاتّحاد السوفييتيّ، فإنّ النموذج البونابارتيّ يقدّم مفتاحاً أساسياً لتحليل نمطٍ تاريخيّ غدا مستشرياً في الشرق الأوسط في القرن العشرين. هناك، استولت سلطة الدولة بقيادة عسكريّة على السلطة السياسيّة الخاصة بطبقة بورجوازيّة ضامرة، وباشرت بتصفية سلطة طبقة ملّاك الأراضي وبحفز تنمية الرأسماليّة الصناعيّة، مع تشديد قبضتها على الطبقة العاملة التي تطوّرت مع تطوّر تلك الأخيرة.

فباعتناقه هذا النّموذج في المجال العثمانيّ سابقاً في حقبة ما بعد الحرب العالميّة الأولى، قاد مصطفى كمال التغيير الجمهوريّ في تركيا والتّحديث الذي أعقبه على نحوٍ استعار بعض سمات كلٍّ من البونابارتَيْن الفرنسيَّيْن وإنجازاتهما، مع مزجها ببعض الإلهام المستمدّ من الاتّحاد السوفييتيّ(الخطة الاقتصاديّة الخمسيّة على الأخصّ). وبات كمال نموذجاً مُلهِماً للضبّاط الشّبّان المصريّين – وذلك بقدر أكبر بكثير مما ألهمتهم المحاكاة المعاصرة للنموذج الإمبراطوريّ الفرنسيّ التي نفّذها رضا شاه في إيران.

النسخة الناصريّة من البونابارتيّة الكماليّة، التي تزعّمها جمال عبد النّاصر في مصر غدت بدورها نموذجاً تمّ الاحتذاء به في عدد من بلدان منطقة ميناأما النسخة الناصريّة من البونابارتيّة الكماليّة، التي تزعّمها جمال عبد النّاصر في مصر بعد الحرب العالميّة الثانية وحرب عام 1948 العربيّة – الإسرائيليّة، فقد غدت بدورها نموذجاً تمّ الاحتذاء به في عدد من بلدان منطقة مينا: سوريا والعراق واليمن الشماليّ والجزائر والسودان وليبيا (مع تأثير هام على التطوّرات في كلٍّ من لبنان وتونس). في تلك المنطقة كانت جاذبيّة النموذج السوفييتيّ أكبر بكثير مما كانت عليه في تركيا الكماليّة. وباستثناء اليمن الشماليّ الذي كان غارقاً في الحرب الأهليّة، عرفت مصر والبلدان الخمسة التي تأثّرت بالنّاصريّة مزيجاً من التأميمات الشاملة وبناء منشآت تملكها الدولة، بما أفضى إلى قطاع صناعيّ واقتصادٍ كليّ يهيمن عليهما القطاع العام إلى حدّ كبير. وبذا فإنّ النسخة الناصريّة من البونابارتيّة قد بلغت درجةً عالية من حلول سلطة الدولة محلّ الحكم البورجوازيّ المباشر، وهو حلولٌ تجاوز حدود المجال السياسيّ ليطال المجال الاقتصاديّ أيضاً. وكان ماركس قد تصوَّر لوهلة قصيرة حدوث هذا الاحتمال عند مناقشته لـ«الاشتراكيّة الإمبراطوريّة» الخاصة بالبونابارتيّة الثانية8.

البورجوازيّة الصغيرة والطوباويّة الرجعيّة

بخلاف البونابارتية التاريخيّة، جاءت التجارب الناصريّة – البونابارتية في منطقة مينا بغالبيتها العظمى بقيادة ضبّاط تحدّروا من شرائح البورجوازيّة الصغيرة المدينيّة أو الريفيّة. من هذه الزاوية، فقد كان لمنطقة مينا، مع الأهميّة التاريخيّة للحضارة المدينيّة التي ميّزتها وحدود التصنيع الذي سبق أن شهدته، كان لها سمات مشتركة مع فرنسا وألمانيا في مرحلتهما الصناعيّة الأولى أكثر مما كان لها مع روسيا في بداية القرن العشرين، حيث كانت المدن محصورةً تاريخياً وحيث كان تصنيعٌ واسع النطاق قد انطلق برعاية الدولة، بحيث كانت الطبقة العاملة الصناعيّة طاغيةًعلى البورجوازيّة الصغيرة المدينيّة. وبالتالي، فإنّ قسطاً كبيراً من تحليلات ماركس وإنغلز بشأن السيرورات الثوريّة في فرنسا وألمانيا، والموجة الثوريّة الأوروبيّة الكبرى لعام 1848 على الأخصّ، ملائمٌ كثيراً لتحليل الاضطراب السياسيّ الذي شهدته بلدان عديدة في منطقة مينا خلال القرن العشرين.

والحال أن الحركات القوميّة البورجوازيّة الصغيرة التي ظهرت في المنطقة بدءاً من ثلاثينيّات القرن العشرين، والتي عرف عددٌ كبيرٌ منها تجذّراًيساريّاً في الستينيّات، إنّما تشبه في بعض سماتها الديمقراطيّين البورجوازيّين الصغار الألمان الذين صاغ ماركس وإنغلز موقفاً تكتيكيّاً شهيراًإزاءهم عام 1850 9. بيد أنّ مقولة «الديمقراطيّون البورجوازيّون الصغار» السياسيّة، التي تشير إلى تلك التيّارات البورجوازيّة الصغيرة التي تكافح من أجل التحوّل القوميّ – الديمقراطيّ لمجتمعاتها (إلغاء الإقطاع والحُكم الملكيّ، والتوحيد القوميّ) والتي كانت سائدةً في ثورات عامي 1848 -1849، تلك المقولة كادت تغيب عن البيان الشيوعيّ الذي كتبه ماركس وإنغلز قُبيل تلك الثورات10. فنجد في البيان تقييماً للنزعات السياسيّة المتضاربة التي كانت تمزّق شتى الفئات الاجتماعيّة الخاصة بالبورجوازيّة الصغيرة («الطبقة الوسطى الدّنيا»11) على النحو التالي:

أما أعضاء الطبقة الوسطى الدّنيا، الصناعيّ الصغير والتاجر الصغير والحرفيّ والفلاح، فهؤلاء جميعاً كافحون البورجوازيّة إنقاذاً لوجودهم كفئات من الطبقة الوسطى. فهم ليسوا بثوريّين بل هم محافظون، لا بل رجعيّون لأنّهم يحاولون جعل عجلة التاريخ ترجع القهقرى. وإذا صدف أن كانوا ثوريّين، فهذا يكون فقط بالنظر إلى انتقالهم الوشيك إلى البروليتاريا. فيدافعون حينذاك عن مصالحهم المقبلة لا عن مصالحهم الراهنة، ويهجرون موقعهم لينتقلوا إلى موقع البروليتاريا12.

ومع هذا، فإنّ الحدْس أعلاه يوفّر مدخلاً مفيداً جداً إلى فهم التقاطب السياسيّ الشديد الذي عرفته البورجوازيّة الصغيرة في الشرق الأوسط في القرن العشرين. ففي أحد قطبيّ الطّيف السياسيّ، انضمّ قسمٌ من البورجوازيّة الصغيرة إلى الأحزاب الشيوعيّة التي تعرّف نفسها بأنّها أحزابٌ عمّاليّة، بينما انضمّ قسمٌ آخر، في القطب المقابل من الطيف، إلى الحركات الإسلاميّة الأصوليّة – السلفيّة، التي شكّلت جماعة الإخوان المسلمين التي تأسّست في مصر عام 1928 نموذجها الأوّليّ.

وبصورة خاصة، فإنّ التقدير القائل إنّ قطاعات من البورجوازيّة الصغيرة تعارض البورجوازيّة «إنقاذاً لوجودها» الاجتماعيّ، وإنّها بذلك تتعدّى الموقف المحافظ لتكون «رجعيّة لأنّها تحاول جعل عجلة التاريخ ترجع القهقرى» – هذه الفكرة الهادية هي مفتاح مفيد جداً لفهم الأصوليّة – السلفيّة الإسلاميّة، التي يقوم برنامجها على إعادة إحياء مؤسّسات وشريعة الإسلام الأول، إذ يزعمون أنّها تمثّل الكمال الأزلي ولا تحتاج سوى إلى حد أدنى من التكييف مع الأزمنة الحديثة. وفي واقع الحال، فإنّ أصناف الأصوليّة – السلفيّة الإسلاميّة جميعها تتشارك الالتزام بما يمكن وصفه بأنّه في الأساس يوتوبيا قروسطيّة رجعيّة أو، لو توخّينا المزيد من الدقّة، يوكرونيا (uchronia) قروسطيّة رجعيّة، أي مشروعٌ يصرّح بعزمه على احياء النظام الاجتماعيّ والسياسيّ لماضٍ قروسطيّ جرى تحويله إلى أسطورة.

ومن خلال التشديد على المحفّزات الاجتماعيّة – الاقتصاديّة لمثل هذا الحنين إلى الماضي، تسمح وجهة النظر الماركسيّة بتفسير صعوده السياسيّتفسيراً ماديّاً – لا كنوعٍ من أنواع الارتداد الوراثيّ ذي الجذور الثقافيّة بل كردّة فعل طبيعيّة لبعض قطاعات البورجوازيّة الصغيرة التي يسحقها تطوّر الرأسماليّة، على الأخص حينما تحفز هذا التطوّر وتحرفه في آن واحد إمبرياليّة راسخة في حيّز ثقافيّ مختلف. ولا يصعب على وجهة النظر هذه فهم التحوّل البورجوازيّ (البَرْجَزَة) الذي طرأ على أقسام من هذه الحركات، كما هي حال قطاعات كبيرة من الإخوان المسلمين من خلال ارتباطاتهم بمشايخ الخليج. وفي واقع الحال، فالتفسير الماديّ هو وحده القادر على تقديم تفسيرٍ اجتماعيّ للفوارق بين مختلف الجماعات الأصوليّة – السلفيّة الإسلاميّة يتعدّى تفسيرها بالفوارق الأيديولوجيّة القائمة بينها الذي هو أشبه بتفسير الماء بالماء.

علاوةً على ما سبق، فإنّ الاستشراء الراهن الظاهريّ للأصوليّة – السلفيّة الإسلاميّة في الشرق الأوسط يوفّر ما هو ربّما التبيان الأوضح للمفارقة في دور الإمبرياليّة الغربيّة عندما تصون سمات عتيقة، متخلّفة من وجهة النظر الثقافيّة الغربيّة. إذ من المعروف تماماً أنّ الولايات المتّحدة، في تحالفها مع المملكة السعوديّة طوال عقود، قد استخدمت السلفيّة الإسلاميّة بكثافة في صراعها ضد القوى القوميّة اليساريّة والقوى الشيوعيّة في المنطقة. وقد بلغ هذا الاستخدام للسلفيّة الإسلاميّة ذروته في الدعم الذي منحته واشنطن والرياض، ومعهما المؤسسة العسكريّة الباكستانيّة، للجماعات الإسلاميّة السلفيّة التي حاربت الاحتلال السوفييتيّ لأفغانستان والنّظام الذي خلّفه بعد انتهائه. وبات معروفاً من الجميع اليوم أنّ هذه التجربة وفّرت ميدان استقطاب وتدريب لأعنف أشكال السلفيّة الإسلاميّة، التي كان تنظيم «القاعدة» أبرزها.

وثمّة حقيقة لقيت اهتماماً أقلّ، هي أنّ الولايات المتحدة، عند احتلالها العراق للإطاحة بنظامٍ طالما كان يُعَدّ نظاماً تحديثياً علمانياً، جلبت معها طيفاً من القوى الأصوليّة الإسلاميّة، مثل «المجلس الأعلى للثورة الإسلاميّة في العراق» و«حزب الدعوة الإسلاميّة» و«الحزب الإسلاميّ العراقيّ». وقد تعمّدت سلطة الائتلاف المؤقّتة بقيادة الولايات المتحدة ضمّ هذه الأحزاب إلى مجلس الحكم الذي أسّسته إثر الاحتلال بفترة وجيزة. ومن خلال تمكين مثل هذه القوى الدينيّة – الطائفيّة، مع تفكيك مؤسسات اتّحاديّة أساسيّة أقامتها الدولة السابقة وذلك بهدف توفير صفحة بيضاء لحلم المحافظين الجدد الأحمق في ترسيخ «ديمقراطيّة» كانوا يظنّون أنّها ستصبح نموذجاً للمنطقة بأسرها، لعب الاحتلال الأميركيّ دوراً جوهرياً في إطلاق العنان لديناميّة سياسيّة في العراق سرعان ما طغى عليها طيف الأصوليّة – السلفيّة الإسلاميّة بأكمله. وقد تضمّن الأمر الصنف الأعنف، تنظيم «القاعدة»، الذي تحوّل إلى «الدولة الإسلاميّة في العراق»، ثم إلى «الدولة الإسلاميّة في العراق والشام» وصولاً إلى «الدولة الإسلاميّة»، بلا إضافات مكانيّة إلى الاسم، ولأذرعها التي امتدّت بعيداً. أما كون السياسة الأميركيّة قد ارتدّت على الولايات المتّحدة إلى درجة منحها إيران، ألدّ أعدائها، تأثيراً مهيمناًعلى حكومة العراق، فليس سوى أفدح تجلّيات العواقب غير المقصودة لتدّخل واشنطن الإقليميّ.

المسلك الريعيّ

إنّ التّحليل الماركسيّ للرّيع وللنموذج الريعيّ، كما صيغ في كتاب رأس المال، أداة إجرائيّة محوريّة أخرى في تحليل الشرق الأوسط، وذلك على الأخصّ بفعل الأهميّة الجوهريّة لاحتياطات المنطقة من النفط والغاز، وبالتالي بفعل أهميّة ريع النفط والغاز (ريع منجميّ) في تشكيل اقتصاداتها وسياساتها. وكما أكَّد ماركس نفسه، فإنّ تحليله للريع الزراعيّ «ينطبق عموماً على الريع المنجميّ أيضاً»13، حتى مع وجود فوارق واضحة بين ريع الأرض والريع الزراعيّ والريع المنجميّ، أشار إليها ماركس في المجلّد الثالث من رأس المال.

إنّ تحليل ماركس للمسلك الريعيّ يقدّم مفتاحاً هاماً لفهم السلوك والدور الاقتصاديّين اللذين يميّزان الفئات الريعيّة التي تحكم «الدول الريعيّة» النموذجيّة في منطقة مينا: المشايخ النفطيّة الثريّة المنتسبة إلى مجلس التعاون الخليجيّ.وبذا، فإنّ تحليل ماركس للمسلك الريعيّ يقدّم مفتاحاً هاماً لفهم السلوك والدور الاقتصاديّين اللذين يميّزان الفئات الريعيّة التي تحكم «الدول الريعيّة» النموذجيّة في منطقة مينا: المشايخ النفطيّة الثريّة المنتسبة إلى مجلس التعاون الخليجيّ. فإنّ قسماً من «فائض» ريع النفط والغاز الذي تتملكه هذه الدول يجري تحويله إلى رأسمال شبه ريعيّ من خلال إقراضه إلى الدول الصناعيّة بشراء سندات دَيْن عامة، بما يساهم في زيادة الدَّين العام، الذي – بعد أن كان «إحدى أقوى روافع التراكم البدائيّ»14 – بات يشكّل قسماً أساسياً من سيرورة المضاربة وهيمنة الرأسمال الماليّ التي تقع في صميم الرأسماليّة النيوليبراليّة الراهنة15.

فهو [الدَّين العام] يمنح النقود العاقر، كما لو بلمسة عصا سحريّة، القدرة على الإنجاب، ويحوّلها بذلك إلى رأسمال، قاضياً على أيّ حاجة تعرّضها إلى المتاعب والأخطار الملازمة لتوظيفها في الصناعة، أو حتى في أعمال الربا. ولكنّ دائني الدولة لا يعطون شيئاً في واقع الأمر، فالمبالغ التي يقرضونها تتحوّل إلى سندات دين حكوميّة، يسيرة التداول، تظل تعمل بين أيديهم مثلما تعمل النقود الفعليّة تماماً. ولكن، عدا عن خلق طبقة من أصحاب الريع المتبطّرين، وعدا عن الثروة المرتجلة التي يجنيها المموّلون الذين يلعبون دور الوسيط بين الحكومة والأمّة، وكذلك عدا عن متعهّدي جباية الضّرائب والتجّار وصناعيّي القطاع الخاص، الذين يذهب إليهم جزءٌ كبير من كل قرض حكوميّ كرأسمال يهبط من السماء، عدا عن ذلك كلّه فإنّ دَيْن الدّولة أدّى إلى نشوء الشّركات المساهمة، والمتاجرة بالأوراق الماليّة من كلّ نوع، والمضاربة بها، وباختصار إلى نشوء المقامرة في البورصة والطغمة المصرفيّة المعاصرة16.

إنّ تقييماً ماركسيّاً للريع والمسلك الريعيّ أمر جوهريّ من أجل تجنّب مطبّ فصل «الدولة الريعيّة» عن التحليل الطبقيّ، وهو مطبٌّ سائد في الأدبيّات التقليديّة التي تتناول المشايخ النفطيّة17. ومع هذا، وبسبب قصورٍ في سبر المؤسسات السياسيّة وتطوّرها التاريخيّ، لا يُقدّم التراث الماركسيّ أدوات ملائمة لتفسير فرادة الدول «الميراثيّة» التي تسم هذه المنطقة، كما لتفسير نزعة معظم الأنظمة للميل إلى هذا النوع من التشكيل. إن إسهامات ماكس فيبر في علم الاجتماع السياسيّ، التي تعوّض نمذجتُها المؤسساتيّة الثريّة عن نقطة الضعف هذه في الماركسيّة، تُوفّر مُكمِّلاً مفيداًعلى هذا الصعيد – ولكن، مجدداً، بشرط أن تترافق مقولاتها مع التحليل الطبقيّ وأن تتعمّق في المصالح الماديّة.

الثورة و«الربيع العربيّ»

أخيراً، فإنّ الانتفاضة العربيّة المدهشة التي اندلعت عام 2011 تقدّم تبياناً نموذجياً لنظريّة ماركس في الثورة بوصفها نتيجةً للصدام بين تطوّر القوى المُنتِجة من جهة، وعلاقات الإنتاج التي تُعيق هذا التطوّر، علاوةً على الأجهزة السياسيّة التي تصونها، من الجهة المقابلة. ونجد عرض ماركس لهذه النظريّة الأكثر اقتضاباً في تلخيصه لتفسيره الماديّ للتحوّل التاريخيّ الذي صاغه عام 1859: «عند مرحلة معيّنة من تطوّرها، تدخل قوى المجتمع الإنتاجية المادية في تناقضٍ مع علاقات الإنتاج القائمة … وتتحوَّل تلك العلاقات من أشكال تتطوّر القوى المُنتِجة من خلالها إلى قيود تعيق هذه القوى. وعندئذ تبدأ حقبة من الثورة الاجتماعية»18.

وقد اندلعت انتفاضة عام 2011 في منطقة كانت تعاني طوال عقود من ركود في النموّ الاقتصاديّ تلازم مع معدّلات هائلة في البطالة الجزئيّة والبطالة الكاملة. وتخوّلنا أدوات التحليل الماركسيّ تحديد سبب إعاقة التنمية هذه وتحديد مكمنه بدقّة، أي في العلاقة الفريدة بين الطبقة والدولة التي تسم المنطقة. وفي هذه الحالة، لا ينبغي أن تُفهم «علاقات الإنتاج» بمعنى النموذج الاجتماعيّ – القانونيّ الكامل للاستغلال – وإنْ كانت هذه العلاقات رأسماليّة بالتأكيد، بهذا المعنى، في الشرق الأوسط – بل بمعنى السياق الرأسماليّ الاجتماعيّ – القانونيّ الخصوصيّ الذي يجري تطوير القوى المنتِجة ضمنه، أو يجري حصرُها ضمنه بالأحرى19. وهذا السياق في الشرق الأوسط تسوده نخب سلطة تتراوح بين الميراثيّة والنيو – ميراثيّة في ظروف ريعيّة أو نصف ريعيّة. وتنتج عن هذا التشكيل الخصوصيّ رأسماليّةُ خاصّة «مُحدَّدةً سياسيّاً» – لو استعرنا هنا أيضاً أحد توصيفات فيبر20 – وذلك بمعنى مزدوج من حيث إنّها مُحدَّدةً بارتباطها بالسلطة السياسيّة (رأسماليّة المحاسيب) كما هي محدّدة بغياب حُكم القانون وانعدام استقرار الظروف السياسيّة اللذين يحولان دون التخطيط بعيد المدى ويكبحان المجازفة طويلة الأمد الخاصة بنوع الاستثمارات الأكثر ملاءمةً للتنمية.

وبنتيجة ترافقها مع انحصار دور الدولة التنمويّ – منذ بداية السبعينيّات في بعض البلدان ومنذ التسعينيّات في معظم البلدان الأخرى – الذي أملاه الإيمان النيوليبراليّ بتفوّق فعاليّة القطاع الخاص وفرضه صندوق النّقد الدوليّ، أفضت السّمات المُشار إليها أعلاه إلى انحسار في الاستثمار الإجماليّ، وبالتّالي إلى انخفاض في النمو الاقتصاديّ. وكانت النتيجة ارتفاعاً حاداً في البطالة المقنَّعة في القطاع غير الرسميّ، وارتفاعاً حاداً – على نحو أخصّ – في البطالة الصريحة، لاسيما بطالة الشّباب، إذ تحتلّ منطقة مينا المرتبة الأولى في العالم في هذا المجال. إنّ سوء الاستخدام العظيم هذا للموارد البشريّة – «قوة العمل» التي تشكّل، مع «وسائل الإنتاج»، «القوى المُنتِجة» وفقاً لتعريف ماركس – إنّما هو نتيجةٌ طبيعيّة لكون «علاقات الإنتاج القائمة» تعمل بمثابة «قيود» على «تطوّر القوى المُنتِجة»21.

من وجهة نظر ماركسيّة، هذا هو المسبّب الأساسيّ الكامن وراء الهبّة المهولة التي هزّت أركان البلاد العربيّة خلال «الربيع العربيّ» عام 2011. وكنتيجةٍ لازمة لهذا التحليل فإنّ «الربيع العربيّ» لم يكن مرحلةً قصيرةً وسَلِسة من الانتقال الديمقراطيّ الذي يكفي أن يتكرّس بتغييرات دستوريّة وانتخابات حرّة، كما اعتقد المنطق السياسيّ السائد عالميّاً، بل لم يكن سوى بداية «حقبة من الثورة الاجتماعيّة»: بكلام آخر، لم يكن «الربيع العربيّ» سوى المرحلة الأولى من سيرورة ثوريّة طويلة الأمد، لا يمكن لها أن تستقرّ من دون تغيير اجتماعيّ – سياسيّ جذريّ، يحرّر تطوّر القوى المُنتِجة في المنطقة من القيود المفروضة عليها – وإلّا، فستواجه المنطقة خطر أزمة حادّة مديدة وانهيار، مع تكرار لأحداث عنف كثيفة. إنّ هذا الفهم الماركسيّلطبيعة التغيير المطلوب لتحرير تنمية المنطقة من قيودها هو وحده الذي يُمكّن من إدراك كون الشرق الأوسط قد دخل حقبة تاريخيّة طويلة الأمد من الاضطراب الاجتماعيّ والسياسيّ.

    1.

    Maximilien Rubel, Karl Marx devant le bonapartisme, The Hague: Mouton & Co, 1960, p. 150 – 151

    2.

    Hal Draper, Karl Marx’s Theory of Revolution, Vol. I: State and Bureaucracy, New York: Monthly Review Press, 1977. الفصول15 – 18 مخصّصة لمسألة البوناپارتيّة

    3.

    Karl Marx, The Civil War in France, in MECW, vol. 22, p. 330

    4.

    المرجع عينه

    5.

    المرجع عينه.

    6.

    المرجع عينه.

    7.

    Karl Marx, The Eighteenth Brumaire of Louis Bonaparte, MECW, vol. 11, p. 194

    8.

    Draper, Karl Marx’s Theory of Revolution, pp. 444 – 451

    9.

    Karl Marx and Frederick Engels, «Address of the Central Authority to the League» (March 1850), MECW, vol. 10, pp. 277 – 287

    10.

    باستثناء الإشارتين إلى الديمقراطيّين الاجتماعيّين في القسم الأخير من البيان.

    11.

    هذه هي الترجمة الإنكليزيّة لمفردة Mittelstände الألمانيّة، التي يمكن ترجمتها بـ«الطبقات الوسطى» أو «البورجوازيّة الصغيرة». وبعود هذا إلى تصنيف الطبقات الاجتماعيّة في بريطانيا تبعاً لأهميّة أرستقراطيّتها المعتمدة على الأرض، بحيث كانت مفردة «middle» (وسطى) في عبارة «middle class» (الطبقة الوسطى) تُحيل عادةً إلى البورجوازيّة. ومن هنا جاءت إضافة كلمة «الدنيا»كمُعادِل لكلمة «الصغيرة»

    12.

    Marx and Engels, Manifesto of the Communist Party, p. 494 [ص 91 من النسخة العربيّة – ترجمة العفيف الأخضر]

    13.

    Karl Marx, Capital, Volume 3, trans. David Fernbach with an introduction by Ernest Mandel, Harmondsworth: Penguin Books, 1981, p. 787 [الطبعة العربيّة (ترجمة فالح عبد الجبّار): 3، ص 760]

    14.

    Karl Marx, Capital, Volume 1, p. 919 [الطبعة العربيّة: مج 1، ص 929]

    15.

    من أجل تحليل موجز لهذه الظاهرة، انظر Wolfgang Streeck, The Politics of Public Debt, Capitalist Development, and the Restructuring of the State, Cologne: Max Planck Institute for the Study of Societies, 2013 (paper). وانظر للمؤلّف نفسه، «How Will Capitalism End?», New Left Review, 87, May – June 2014, pp. 35 – 64

    16.

    Marx, Capital, Volume 1, p. 919 [الطبعة العربيّة: مج 1، ص929]

    17.

    من أجل استعراضٍ لهذه الأدبيّات، انظر Matthew Gray, A Theory of «Late Rentierism» in the Arab States of the Gulf, Doha: Center for International and Regional Studies, Georgetown University School of Foreign Service in Qatar, 2011 (paper)

    18.

    Marx, Preface to A Contribution to the Critique of Political Economy, p. 263

    19.

    انظر: Gilbert Achcar, The People Want: A Radical Exploration of the Arab Uprising, London: Saqi Books and Berkeley: University of Californian Press, 2013. الفصلين الأول والثاني على الأخص [صدر الكتاب بطبعته العربيّة «الشعب يريد: بحث جذريّ في الانتفاضة العربيّة» عن دار الساقي عام 2013]

    20.

    نجد هذه المقولات في أعظم مؤلّفات ماكس فيبر «الاقتصاد والمجتمع»، Economy and Society (edited by Guenther Roth and Claus Wittich, 2 vols, Berkeley: University of California Press, 1978) علاوةً على مقالاته في سوسيولوجيا الأديان

    21.

    Achcar People Want

بدايات

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى