ثقافة وفكر

من «الشرّ الجذريّ» إلى «تفاهة الشرّ» إلى «الفكر الشرير»/ وسام سعادة

بتينا سانتنغت واحدة من أهمّ الفلاسفة في عالم اليوم. في مقابل كتاب «ايخمان في القدس» (1961) الذي جنحت فيه حنة ارندت الى ابراز «تفاهة الشرّ» عند ادولف ايخمان، أحد أبرز مهندسي المحرقة النازية، كبيروقراطي أداتي يبرّر ما يفعله أكثر مما يفكّره، أظهرت ستانغنت قدرة مدهشة على النبش في أرشيف مدهش يغطي الفترة من هزيمة «الرايخ الثالث» حتى اختطاف جهاد الموساد الاسرائيلي لادولف ايخمان في بيونس ايرس، في 11 أيار/مايو 1960، وبدء العد العكسي للمحاكمة الشهيرة. أظهرته في كتابها «ايخمان قبل القدس» (2011) كشخص لم يتندم أبداً على أفعاله، واستمرّ في التواصل مع نازيين فارين آخرين الى أمريكا الجنوبية، كنموذج للتفكير الشرير اكثر منه لتفاهة الشرّ اذا ما أريد بها الاداتية التبريرية اللامفكرة.

بيدَ أن كتاب ستانغنت الآخر «الفكر السيئ» أو «الفكر الشرير» (2016 في أصله الألماني، 2019 في ترجمته الفرنسية) هو الذي يبرز بالفعل خصوصية مقاربة ستانغنت. فالأخلاق عندها لا هي ملغزة ولا هي غامضة. كل واحد منا يدرك أنّها متصلة باحترام حياة كل كائن بشريّ، والسعي لجعل العالم أقلّ سوءاً من الحالة التي صادفناه فيها. يتفق أن يتبلور وعي الأخلاق بصيغة المنع: ما دام ما تقوم به يخلق عالماً لا تحب العيش فيه مطرح أحد آخر فهذا يعني أن عليك انتهاج مسار مغاير لما أنت عليه.

هي تحمل على الاتجاه المحموم الذي يسوّق أن الأخلاق جملة هي وهم، وتعيد التكشيف على كنه مقولة «الشرّ الجذريّ» عند ايمانويل كانط، منبّهة إلى مغبّة فهم هذه المقولة كما لو كانت تعني نوعاً «استثنائياً» من الشرّ، في حين أن مقصد كانط العكس تماماً. مقدرة الإنسان على اقتراف الشرّ كانت تدهش وتؤرّق فيلسوف كونيغسبرغ، والجواب الذي قدّمه جاء ما كان يشبه المزاج الغالب لدى مفكري عصر التنوير، مع أنّه مدرج في صدارتهم. جوابه أنّ الإنسان هو، بطبيعته شرير.

إنه شرير من حيث هو إنسان. نحن أشرار في جذرنا نفسه. لأجل ذلك تذكر أن مفهوم كانط عن «الشرّ الجذري» لا يقصد به بتاتاً وصف أفعال خاصة ببشر معيّنين دون سواهم، وإنّما ما به هو هو في صميم كائنية الإنسان. هذا بخلاف تصور روسو، حول الطابع الخير بالفطرة للإنسان الذي يغذي الأمل بالتحكّم بالشرّ ما دام الأخير نتاج انحراف بالمستطاع تقويمه. «الشرّ الجذري» كمقولة كانطية تستعيدها ستانغنت هو «الإسم المعطى لاكتشاف واقعة أن البشر يجهدون لنيل معرفة ليس فقط للإستناد إليها في العالم، لكن أيضاً كي تكون لديهم امكانية ارساء علاقة أداتية مع هذه المعرفة، ما يعني عدم أخذها بعين الحسبان إلا حين نريد ذلك»، والغفلة عنها حين لا نريد. تذكرنا بأنّه ليس هناك أي معرفة يمكن أن تجعل أفعالنا أكثر نباهة أو أسلم أخلاقياً. يمكننا في أي لحظة أن نتصرف بعكس الحسّ السليم، وبعكس قناعاتنا الأعمق، وأن لا نأخذ بعين الحسبان جزء مما نعرفه.

مثلما تبذل ستانغنت جهداً تصويبياً لمقولة كانط، فهي تخرج مقولة ارندت عن «تفاهة الشرّ» من التتفيه الجاري لها. واذ تذكر بأنّ الفلاسفة كثيراً ما يختارون أمثلة سيئة لشرح أفكارهم بشكل يضرّ بقيمة هذه الأفكار، فإنها تنبه إلى أنّه لفهم ماهية «تفاهة الشرّ» عند ارندت ينبغي نسيان حالة ايخمان قليلاً، والتركيز على ارندت نفسها، وكيف اختلف سؤالها في الأخلاق عن سؤال كانط.

كان الباعث الى السؤال عند كانط الدهشة كيف يمكن القيام بالأعمال السيئة رغم وجود عقل عملي يوضح لنا بجلاء أنها أعمال سيئة، من هنا مقولته في «الشرّ الجذري». أما سؤال ارندت فكان بالمعكوس: كيف يمكن للبشر أن يفعلوا الشرّ من دون معرفة أنه شرّ؟ عندها أن الإنسان لا يستطيع دائماً التمييز، والمفارقة أنّها لم تختر لإيضاح ذلك إنسان عادياً بل منخرط في مشروع ابادة منهجي. الشرّ الجذري عند كانط يعني أي انسان عادي، أما تفاهة الشرّ عند ارندت فتحضر بالنسبة إلى عتاة السفاحين. جوابها ان الانسان لا يصل بالضرورة الى حيث المطابقة بين معرفة ما هي الأفعال الشريرة أو السيئة وبين الأفعال التي يتوجب عليه القيام به.

توجه ستانغنت سهام نقدها في الوقت نفسه لكل من كانط وارندت اذ تعتبر ان قصور «الشرّ» عند الأول بجعله انعكاساً لمحدودية الإنسان غير القادرة على المواءمة دائماً بين مقاصده وأفعاله، وتحويله الى صنو لـ«الكسل» التبريري عند ارندت لا يفي بالواجب، وأنّه ثمّة بالفعل شرّ عمليّ، يواكبه فكر شرير، يعطّل ملكة الحكم ليس من موقع الاستقالة عن التفكير كما تذهب ارندت، بل من موقع تفكير يدرك ما يفعله. ومن وراء ذلك تساؤل ارندت هذا التصور الممتد في السرديات الغربية، من التراث المسيحي إلى ماركس وفرويد وارندت، بأنّ «الناس لا يعرفون ما يفعلون»، وتسعى لإظهار العكس. ومع أنّ ما تقوم به ستانغنت من صميم المشغلة الفلسفية، إلا أنّ تثابر على فكرة واحدة: أنه لا يمكن حلول الفلسفة والفكر محلّ الأخلاق، وأنّ الفكر الشرير يبدأ من هنا.

كاتب لبناني

القدس العربي

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى