سياسة

من خيمة وطن إلى وطن من خيمة/ سميرة المسالمة

يقول الأمين العام للمجلس النرويجي للاجئين، يان إيغلاند، إن النزوح يتطلب عنفاً شديداً للغاية، وخوفاً من الكوارث، لإجبار عائلةٍ على مغادرة منزلها وأرضها وأملاكها ومجتمعها”. وهو إذ يتوقع أن تلك أسباب النزوح الرئيسية، فإنه يخفّف من حقيقة ما يجري من مجازر ومحارق، حتى يتم تهجير ما يقرب من نصف الشعب السوري خارج سورية وداخلها. وإذ تجاوز عدد النازحين من سورية 1.6 مليون سوري في العام الأخير فقط (2018)، فإن ما تعتقده روسيا والنظام السوري مخالف لذلك، فهما ما يزالان يقدمان الدعوة تلو الأخرى لعودة السوريين إلى بلادهم، معتبرين أن حدّة الصراع تراجعت، حسب الدعوة التي وجهها الأسد، ونقلتها آنذاك وكالة إنترفاكس الروسية (27/7/2018)، وعاد ليؤكدها في خطابه أمام رؤساء المجالس المحلية في سورية (17/2/2019)، معتبراً أن من يعيق عودتهم هي الدول المضيفة لهم، متجاهلاً أسباب مغادرتهم وانتزاعهم من وطنهم.

وإذ يحدّد الشاب السوري الذي التقته قناة الجزيرة (8/5/2019)، النازح من جبل شحشبو، بعبارة صريحة، أولوياته أو أحلامه، فإن ما قاله يمكن أن يمثل أولويات جميع السوريين الهاربين من القصف الوحشي للنظامين، الروسي والسوري، وهو إذ يقتصر حلمه على خيمةٍ يأوي إليها مع أولاده، مكتفياً ببصلة يسدّ بها جوعه معهم، فإنه بذلك الحلم يطرح عشرات

الأسئلة بشأن حقيقة دور عمل كيانات المعارضة والمنظمات المجتمعية التي تعتاش على مأساتنا السورية، وفي مقدمتهم الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة، والذي يتحمّل بعض أعضائه الذين شاركوا في اجتماعات أستانة مسؤوليةً مباشرةً في إعطاء شرعية مفاوضات أستانة التي تعد هذه المعارك نتائج مباشرة لها، في ظل الاتفاقات المتفق عليها بين الضامنين الثلاثة (روسيا، إيران، تركيا)، والتي تحدد ترسيم خطوط الاشتباك بين الأطراف المتصارعة، وتمهد لتسليم مناطق خفض التصعيد إلى مرجعيتها “الشرعية”، حسب تعبيرات الضامن الروسي والرئيسي، والمنتج لمسار أستانة، والذي أصبح قبلة المعارضة السياسية التي تتناسى دوره في تدمير سورية، وقصف الشعب السوري، وتصفه، في بعض خطاباتها ولقاءاتها، بالصديق أو الشريك في الحل السياسي.

صحيحٌ أنه لم يكن متوقعاً أن نرى أعضاء “الائتلاف” وهم يستقبلون اللاجئين الهاربين من القصف بما يتناسب وتصدرهم المشهد “الزعاماتي” الذي يقتبس مشهده من احتفاليات النظام على منصات الخطابة، والتلويح للشعب المنكوب الذي شهدناه عند افتتاح مقر “الائتلاف” في ريف حلب (قرية عياشة، 3 كم من معبر الراعي الحدودي) بعد نحو سبع سنوات من استمرار إقامته في إسطنبول، وقول رئيس “الائتلاف” في الحفل الافتتاحي للمقر الذي رافقه حضور استعراضي لعشرات من قادة الفصائل ورؤساء المجالس المحلية المجتمعين حول قيادة “الائتلاف” وقوفاً: “سيسهم المقر في قيادة قوى الثورة والمعارضة من مكانها الطبيعي بعد توفر كل الظروف اللازمة لتحقيق ذلك”، أي أن ما وجب تحقيقه لقيادة قوى الثورة التي لا يمكن أن تستثني هؤلاء المشردين بسبب القصف قد توفر، ومنها التزام “الائتلاف” بتحمل تبعات خياراتهم العسكرية والسياسية التي مهدت لتلك المذبحة التي يمارسها النظام، ومعه الدول الضامنة لمسار أستانة في كل من إدلب وحماة ومناطق من حلب.

وفي الوقت الذي تمثل حالة النزوح مأساة سورية بامتياز، فهي ورقة تفاوض وتسويات دولية، تديرها كل من الدول المتصارعة في سورية لحساباتها الشخصية، ووفق معايير الربح والخسارة:

روسيا التي تضغط باتجاه قبول التسوية وفق رؤيتها التي تحافظ على مصالحها من جهة، وتضمن لها فتح مجالات المفاوضات في ملفاتها العالقة أوروبياً وأميركياً، لرفع العقوبات التكنولوجية والاقتصادية التي تعيق تقدم صناعاتها في كل المجالات الحيوية.

وتركيا التي تريد منها ورقة ضغط على أوروبا التي تئن من أعداد اللاجئين، وتحاول، من خلالها، استدراج الغرب إلى طاولة التفاوض الأمنية والسياسية والاقتصادية، منوهةً بمخاطر الانفلات “النزوحي” عليهم، وما تحمله على بلدانهم من مخاطر، إذا تم فتح الدائرة المغلقة حول المجموعات الإرهابية التي تأخذ من إدلب المحاصرة مقراً لها، وسط ما يزيد عن ثلاثة ملايين سوري نازح ومقيم حولها.

وإيران التي ترى في المعركة وسيلة لاستمرار وجودها في سورية، وبقاء سورية ساحة لعقد تفاهماتها مع الإدارة الأميركية، بعيداً عن ساحتها الداخلية، ما يجعل من التلويح بتهجير سكان إدلب وسيلة صالحة لتخويف واشنطن، خصوصا بما تعرفه الأخيرة عن خيوطٍ تصل المنظمات الإرهابية التي تحاربها مع إيران كجهة راعية أو داعمة لها. وضمن ذلك يأتي الظهور الأخير لزعيم تنظيم الدولة الإسلامية، البغدادي، رسالة تحبط التصريحات الأميركية عن انتهاء التنظيم في المنطقة.

وإذ أصبحت الخيمة هي الحلم الذي يتاجر به محسوبون على المعارضة والمنظمات الداعمة للسوريين، والهروب بحياة الأولاد من تحت الجحيم هو الغاية، بعد ثماني سنواتٍ من حربٍ لم يتراجع فيها النظام عن غايته في إخضاع السوريين لسلطته، فإن الحديث عن العودة إلى الوطن “البيت” التي يدعو إليها النظام وروسيا اللاجئين أمام المجتمع الدولي تكذّبها وقائع الأرقام، ليس في هذه المجزرة التي ترتكب اليوم في محيط إدلب وما حولها، بل على مدار السنوات الثماني التي حولت سورية من وطنٍ إلى مأساة، وهو ما يجعلني أستذكر كيف نزح ذات يوم الوطن إلى خيمة، أراد مستثمروه أن يعلقوه على جدرانٍ من أقمشة منسوجة من عرق السوريين تحت مسمى “الوطنية”. ومن هناك، بدأت حكاية جديدة لسورية التي تقبع داخل “خيمة وطن” ينصبها وينصب علينا تجار الوطن، وما بينهما أسماء بائسة كثيرة تحاول أن تجد لها مكاناً في ذاكرة السوريين، فلا تجد أنسب من الاستثمار في موت السوريين وخراب مدنهم، وتضع سورية التي دمرها نظامها ورجال سلطته، وما بقي منها على طاولة مزاد لبيعه “آخر ساعة”. واليوم الخيمة التي أوت وطناً كما “أوهمونا” لم تستطع أن تؤوي طفلاً يصرخ حرية، ولا امرأة غير قابلة للكسر، أو رجلا لا يزال يسكن في وطنٍ لم تعتقله تلك الخيمة، ولم يعرف إليها طريقاً.

العربي الجديد

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى