مقالات

صباح الخير يا أمجد ناصر -مقالات وصباحات مختارة-

عن أمجد ناصر/ معن البياري

أرأيتَ؟ نحن لم نتغيّر كثيرا

وربما لم نتغيّر أبدا

الألفاظ المشبعةُ

النبرة البدويةُ

العناقُ الطويلُ

السؤالُ عن الأهل والمواشي

الضحكةُ المجلجلةُ

رائحة الحطب القديم

ما تزال تعبق في ثيابنا

هذه قصيدةٌ لأمجد ناصر، نشرت في مجموعته، رعاة العزلة (1986). .. هل تغيّر أمجد كثيرا في مُقامه في لندن، منذ أزيد من ثلاثين عاما، عمّا كانه في مُقامه في قبرص، وقبل ذلك في بيروت، بل وفي المفرق وعمّان؟ يبدو السؤال لا طائل منه، وغير حصيفٍ أبدا، فمن طبائع البشر أن تتطوّر مشاعرُها وحواسُّها ومدركاتُها وخيالاتُها، مع السنين، فكيف بشاعرٍ، بكاتبٍ، حرفتُه مراودة اللغة، مناوشتُها بقلقٍ دائم، ومشغولٌ ببحثٍ صعبٍ عن ذروةٍ فيها هنا وهناك، عند التعبير عن حبٍّ، عن نجوى، عن ألمٍ، عن فرح، عن غبطةٍ، عن حنين. لكني أجيب إن قارئ شعر أمجد ناصر ونثرِه، في كتبه كلها، منذ أولها “مديح لمقهى آخر” (1979) وصولا إلى “مملكة آدم” (2019)، يعرف تماما أن كتابة أمجد كانت دوما تمضي إلى رهاناتٍ مغامرةٍ في الشكل والمضمون. لا تستسلم للكتابة المستقرّة. وفي البال أن مجموعة شاعرنا الأولى اشتملت على قصائد تفعيلة، فيها حرارة البواكير الأولى، وتمكّنٌ واثقٌ من هذا الخيار، غير أن أمجد ناصر اليوم، والذي قال عنه سعدي يوسف مرة إنه ظلّ مستقلا بنفسه، لا يرفع بيرقا، ولا ينضوي تحت بيرق، لا أجازف في الزعم هنا إنه الصوت الشعري الأميز في قصيدة النثر العربية الحديثة. وفي الوسع أن يقال أيضا إن نصوص أمجد مضت، في بحثها عن التجدّد، إلى منزلةٍ متطرّفةٍ في هذا. وكان صدقا تاما قوله في نصه الجديد “قناع المحارب..”، المنشور في “العربي الجديد”، “أفكّر أن مرضي يشبه حياتي.. تطرّف. لا توسّط، مراودة الأقصى”.

وفعلا، لمّا اختار الانتساب إلى الحالة الفلسطينية، النضالية والثقافية، أقام في ضفة اليسار، في تنظيمٍ متطرّف، بوصف ذلك الزمن. كما أنه تَطرَّف في انتقاله من بلدةٍ أردنيةٍ صحراوية، جافّة في فضائها العام، إلى ضجيج المدن الكبرى، إلى بيروت ولندن، وفيهما حضر كاتبا ومثقفا منشغلا بالشأن العربي العام، ومشاركا في السجال الثقافي العربي في الأعوام الأربعين الماضية. وأطلّ، في الأثناء، على مختلف ألوان الحداثة في الكتابة والفنون، وحضرت أنفاسٌ غير قليلةٍ من تأثيرات ذلك كله في شغله الإبداعي الطويل، الكثير. وأقول في شغلِه، لأن أمجد ظل يتعامل مع الكتابة باعتبارها طاقة عملٍ وجهدا، وشغلا جدّيا. وأظن أن قناعته بالكتابة أن تكون كذلك هي ما يعود إليها تطرّفه في آرائه عن نصوص وتجارب إبداعية عربية، عندما لا يتحمّس لها، وعندما يستطيب غيرَها أيضا.

ولكن، ما الذي لم يتغيّر في أمجد، وتطرّف أيضا في إقامته عليه.. هو يجيب في مقابلةٍ تلفزيونيةٍ معه “فيّ من البدويِّ القديم أكثر مما فيّ من الحاضر المتمدّن”. وإذ أصف نفسي بأنني من المعجبين بمقالة أمجد ناصر الصحافية، أقول إنني كثيرا ما سألتُ نفسي عن سر كل هذه الرحابة في معجم أمجد الذي يطوّع المفردات العتيقة، والمفردات التي يخطفها من الصحاري. أمجد متطرّفٌ في هذا أيضا. يحتشد شعرُه بالرعاة والأوابد، بالرمال، بالسيوف، لكن لغته في هذا كله صقيلة، بارعةٌ في مناوراتها وألعابها وانتقالاتها من مزاجٍ إلى مزاج، من مكانٍ إلى مكان.

ثمّة جنوحٌ كثيرٌ في شغل أمجد ناصر إلى الإفادة من القديم، وهو الحداثيُّ الذي ما راهن يوما على حداثةٍ مصنوعة، مسروقةٍ، مغتربةٍ، وغريبة. ولذلك أقول إن أمجد واحدٌ من الناثرين العرب الكبار عن الصحراء، هو الذي يعرف لندن مثلما يعرف راحة كفّه، وقد لمستُ ذلك في أكثر من جولةٍ معه في سيارته في لندن.

أمجد أيضا هو المحنّك في القبض على التفصيليّ والعابر والمنسي والمتروك في غضون الانشغالات بأعقد القضايا وأعوصها. ومن ذلك أنه يكتب في يومياته إبّان حصار بيروت في صيف 1982 عن مراقبته النساء اللواتي يظهرن في الشرفات، ويتحرّكن في دواخل الغرف في ثياب النوم.

أختم بأن مما لم يتغيّر أبدا في أمجد ناصر، أقلّه منذ عرفته قبل أزيد من خمسةٍ وعشرين عاما، ضحكته المجلجلة. إنه متطرّف أيضا عندما يضحك. يُشبع ضحكتَه، يعطيها ما يليق بها من غبطةٍ وفرحةٍ وابتهاج، فيما هو ليس صاحب نكتة، إلا أنه يحترم النكتة الجيّدة، ويقدّرها، لا يبخسها حقها، يعطيها إياه غير منقوص.. كنّا، أمجد وجريس سماوي وفيصل الشبول وعبد الوهاب بدرخان ويحيى القيسي ورندة حبيب وأنا، في سهريةٍ بعد ملتقىً في الفجيرة. فاجأنا فيصل وجريس بنكاتٍ مهولة، فادحةٍ في مقادير الإضحاك الذي فيها. ليلتَها ضحك أمجد بغزارة، خفتُ عليه من فرط ما ضحك. كان يطلب من فيصل وجريس أن يعيدا ما يسردان. ليلتَها، أثبتنا، نحن الأردنيون، زيف الأزعومة إننا شعب كشر ولا يضحك. وهنا أطلب من صديقي وزميلي أمجد أن يستعجل مغادرته وعكته الصحية العابرة، فثمّة ضحكٌ كثيرٌ بانتظاره، وبانتظارنا معا، ولطالما ضحكنا في غير مناسبة في لندن والدوحة والرباط وعمّان وأبوظبي، هو الذي جاء في قصيدته القديمة في “رعاة العزلة” على بقائه على الضحكة المجلجلة.

________________________________________________

كلمة ألقيت في احتفالية تكريمية للشاعر أمجد ناصر في عمّان 15 يونيو/ حزيران 2019

العربي الجديد

سندباد بري/ عبّاس بيضون

قراءة مؤلف مسلسل متكامل هي على نحو ما قراءة تاريخ شعري بالطبع، ولا بد أن هذا يضلّلنا قليلاً عن الشعر أو يجعل القراءة نفسها متعددة. أن نقرأ شعراً ومؤلفاً تاريخياً شعرياً في آن واحد أمر لا تُحمد تقاطعاته ولا تفرعاته بالطبع.

أن نمرحل الشعر وأن نحصي خططه وأن نتابع ما انقطع وما انوصل منها، وأن نردّه إلى أساليب أكبر أو أصغر وإلى وحدات أكبر أو أصغر، وأن نلم شتاته ونجريه في سياقات ووجهات ومشروع واحد.. كل هذا ما نخشى منه على الشعر وهو كما نعلم هش ضعيف سريع العدوى كثير التلوث، طيّارٌ هَروب ولا نأمن من أن نفقده في خرائط عمليات واسعة كهذه.

فالشعر كتاب على نحو غير أكيد، ومؤلف مشتبه من دون ريب، وبناء لا نأمن من أن يكون مزعوماً، ووحدة في الظن، ولا نأمن من أن نفقده، بعضه أو جلّه، في عمليات القطع والربط والجمع والنثر والإعادة والرد. أقول هذا لا من خشية على الشعر الذي قلما يقدر عليه هذا الضبط والجمع، فهو بدوي وقلما يسعنا توظيفه وحصره.

أقول من خشية أن نضيع نحن في صورية مبانينا وأن ننقطع عن ذلك الإحساس الطيّار والجسدي مع ذلك بوجود الشعر.

تحذير في محله أو غير محله، وهو بالطبع تحذير لنفسي أولاً وأخيراً، فأنا من الذين لا يظنون أن الكتابة عن الشعر تصل إلى أبعد منه. إنها في الغالب مثله تمحو آثارها وتتقدم في الفراغ ولا تقوى على تذكّر رحلتها ولا يدوم سحرها، إذ سرعان ما تتحول أضغاث أفكار وأحلام ذكريات. إنها مثله تجد نفسها دائماً على شاطئ البداية وعند السؤال الأول.

ثم إنني أجد أن قراءة الشعر نفسها لا تختلف عنه. إنها تبني وتنسى، بل هي تبقى دائماً أولى. كل قراءة أولى، كل قرءة تسعى لتكون أولى، والأرجح أننا لا نستطيع أن نلتحم بالقصيدة إنْ لم نقرأها بوعي قريب من ذلك الذي نكتبها به، إنْ لم نتركها تبني وتنشئ عالماً لا تلبث أن تنساه وكأنْ لم يكن.

والأرجح أن قراءة كهذه بزخمها وتكاملها لا تعود. هكذا تمحو القصيدة كل أثر بين القراءة والكتابة وتبقى في سر القارئ وسر الشاعر. لا نعجب إذن إذا كانت الكتابة عن الشعر يائسة. لكنها تبقى مع ذلك متعة مخصوصة ونستطيع أن نضيّع فيها الوقت الذي نهدره في قضية لم تتحقق.

لعلّي أطلتُ المراوحة، أو أطلت التلكؤ. أمامي إذن مؤلَفٌ متسلسل متكامل، ست مجموعات لأمجد ناصر، وليس هذا رقماً كبيراً لحياة شعرية بدأت باكرة وتواصلت من دون انقطاع، والأرجح أن قراءة ناصر الأولى تعدّ بسهولةٍ أعرف من مِراسي أنها حذرة وأتوجّس عن حقٍ منها. ففي مؤلف أمجد ناصر ما نهابه. قدرٌ من تواصلٍ يهوّن الأمر على قارئه، فهو يعده بأنه لن يقع في قطائع ولن يضيع الخط.

مجموعات أمجد ناصر تتواصل، تصعد وتهبط وتنعطف بالطبع، لكنها تفضي بنا مع ذلك من كتاب إلى كتاب وعمل إلى عمل. في “مديح لمقهى آخر” العنوان الجميل لديوان أمجد الأول (أفضّل لسبب غير محسوم أن أقول مجموعته) ما يشعر بأن الشاعر وجد قصيدته تقريباً، أو وجد بذور قصيدته تلك من العمل الأول، وأرجّح أن في هذا “وعياً شعرياً” نادراً. تواصل يمكننا أن نعتبره للتسهيل، مشتملاً على قدر من وحدة، إذ لا يؤرقني مصطلح كالوحدة ولا أعرف مصطلحاً محيّراً مضللاً بقدره. للتسهيل، أقول تقرّباً من القارئ ومن ميراثه “النقدي”.

في “مديح لمقهى آخر” نجد أمجد ناصر شاعراً يختار من البداية، وأقول يختار، مع التشديد عليها، إذ لم يكن سهلاً أن نختار مع كل ذلك “الإغداق” الشعري القائم آنذاك، ومع كل ذلك الطموح البعيد المدى للشعر والأوهام حول الذات والمشاريع الكبرى الشعرية. لم يكن سهلاً الاختيار حين يرفع الشعر مراهناته ومضارباته إلى حدٍ يستحيل معه تمييز حدوده. في تلك الآونة كان للشعر من الشهية والجشع ما يجعله متطلّعاً إلى أن يحتل اسميّاً كل بقعة تتظاهر فيها الثقافة العربية والواقع العربي، ولنقل إن “مشاريع” الشعر هذه كانت في قدر منها بيانات امتلاكٍ معلن للإنسان بكل دراماه الشخصية والفكرية.

امتلاكٌ سحريٌ للواقع العربي الذي تزعم البيانات أنها أداته الثورية وتمنح لذلك على نحو سريالي للشعريّ والحُلميّ قدرة على خلق وابتعاث وتحويل الواقعي، وامتلاك (ما زلنا بصدد المشاريع الشعرية) الثقافة برمّتها بكل تضاعيفها والتاريخ بكل قوته الأسطورية، ولنقل إن شعر أمجد ناصر أمام عالم من الأَنوات الشعرية المتضخمة.

بهذه الطاقة على الاستبدال والحلول والسحر اختار. اختار في الواقع حيّزاً ضيقاً ومحدوداً بالقياس إلى فقدان الطموح الشعري آنذاك، لا للحدود فحسب بل للبدايات، وكان هذا يقتضي أولاً قدراً من التنحية والتعليق والتجنب والاستبعاد، أي أن الاختيار نفسه كان على نحو ما عملية “نقدية”، إذا جاز القول. وإذا شئنا أن نتوسع كثيراً في ذلك قلنا إن اختيار أمجد ناصر في هذه الفترة مع عدد من شعراء الطور الثاني من القصيدة الجديدة كان اختياراً مجدِّداً لقدرات الشاعر الذي عاد من جديد كائناً عادياً.

لقد غدا الشعر غير قادر على أن يكون هو نفسه محل استقطاب حلولي لكل شيء، وعلى أن يكون على نحو ما الشاعر ــــ الإنسان والشاعر ـــ الإله والشاعر ـــ النبي والشاعر ـــ البطل المضاد والشاعر ـــ الانقلاب والشاعر ـــ الثورة والشاعر ـــ الحداثة والشاعر ـــ القائد ـــ الملهم. لم يعد الشعر قادراً على أن يكون هو نفسه الأمة والتاريخ والثقافة.

الأرجح أن اختيار أمجد ناصر لم يكن محدوداً (بالقياس) أو ضيقاً أو بوعي “نقدي” وبعملية تجنب واختلاف وانسحاب طويلة بحد ذاتها. لذا لم يكن اختياره في ديوانه الأول بديهياً. أما ما اختاره أمجد ناصر فكان في تجنب غناءٍ وإعلاءٍ متطرفين من جهة ودراماتيكية مبالغة من جهة أخرى. لا التغني المستقبلي المتسامي، بما يعني ذلك من تقمّص الآن للأزمنة المفصلية للماضي والمستقبل والعصر بطبيعة الحال، للتاريخ والأمة والقيم العليا بما يعنيه ذلك من اعتبار الشعر تاريخاً مضاداً وطوبى وثقافة ناقصة ورافعة سحرية للحداثة والتجديد، وولادة ثانية وعصراً آخر.

اختيار أمجد ناصر كان من ناحية أخرى في تجنب الأنا الدراماتيكية الهائجة المتوترة والمتشنجة الغارقة في مونولوغها الخاص، المشخّصة على نحو مَرَضي للعالم أو المبتلعة على نحو مرضي للعالم، المتقمصة لأقانيم شيطانية هي: التدمير والاعتراض والنقض. المترادفة بالطبع مع قيم لا تبلغ: الحب والإنسان والشعر. المفترضة ذاتها إنساناً أولاً ومثالاً ضدياً وقوة سرطانية ونقدية كونية. والمانحة للشعر سحر الشر وسحر المرض وسحر التمرد. والمنسحبة بعد ذلك على نحو رومانطيقي للحب والصلاة والشعر.

لنقل إن الأنا البانورامية، سواء كانت ثقافية أو درامية، لم تكن خيار أمجد ناصر الذي بدأ شعره من حيث لا يبقى محل لابتلاع الكون والعالم، بدأ من لحظة متقاطعة، لحظة وجوده الشخصي وغير الشخصي، الذاتي وغير الذاتي. لحظة خروجه وخروج قومه، خروجه من العشيرة الحقيقية أو الوهمية، وخروج قومه من الصحراء الحقيقية أو الخيالية.

لحظة متقاطعة هي في عنصرها الميكروسكوبي لحظة في سيرة، وفي عنصرها الميكروسكوبي لحظة في هجرة جماعية. وفي اللحظة المركبة المتقاطعة هذه ما ليس بالطبع شخصياً بالمطلق. ثمة تركيب من كل هذا في شعر هو نوع من مثول لحظة، سواء أكانت هذه طويلة أم قصيرة.

لكن الشعر ليس زمناً بذاته، فالخيالي الفانتازي هنا ليس لازمنياً. فالزمن هنا، حقيقياً أو متخيلاً مادته، والزمن بطله على نحو ما، وسواء تكلمنا عن صحراء الوهم أو صحراء الذاكرة أو الخيال أو الحقيقة على نحو ما فإن التحول هو الموضوع. التحول الذي هو دائماً لحظة مركبة، الذي هو دائماً انتقالٌ بصريٌ ولغويٌ وعاطفيٌ وفكريٌ بالطبع.

الأرجح أن الانتقال داخل عالم انتقالي هو الذي يعطي لقصيدة أمجد ناصر موضوعها الضمني، إذا كان لذلك أن يكون موضوعاً. ولعل عناوين مجموعاته: منذ جلعاد، وصول الغرباء، رعاة العزلة، مرتقى الأنفاس، إشارات لذاكرة الانتقال أو التحول هذه ومخيلتها وفولكلورها. لنقل إن الانتقال هو أسطورة شعر أـمجد ناصر وحيّزه اللغوي المكاني التخييلي الرجراج المتموج المتحرك على تقاطع أزمنة فعلية.

نعجب بادئ ذي بدء من أن يبدأ فتى في العشرينيات قصيدته من سيرته هو ومن هذا المنعطف في سيرته. نعجب لكننا لا نغفل عن أن تسمية الزمن هذه كانت في شعرنا نوعاً من سند مرجعي لا يصح الكلام من دونه. تتكلم ليس من دون تقديم نفسك وزمنك أولاً، وأحسب أن شعراء الطور الأول من القصيدة الحديثة بدأوا بتقديم أنفسهم وزمنهم على نحو يوازي أسطورتهم.

إنهم من على تقاطع أزمنة فلكية كبرى: لنسمّها الماضي المطلق والعصر في اتجاه مستقبلي. لنسمّها الشرق والغرب ولنسمّها الحداثة، مجرات زمنية لم يكن لأمجد ناصر قِبَلٌ بها. مقابل الزمن الكوسموبوليتي للرواد أو الزمن الفلكي نجد أن شعراء الطور الثاني على جسر اللحظة الانتقالية في جماعاتهم وذواتهم. قدّم نفسك، قدّم زمنك. هذا هو البدء الذي لا بد منه لشاعر عربي. سؤال هوية، أو سؤال نسب أو سؤال اسم. لا يهم، لكنه إلى الآن مرجع لا يبدأ من دونه كلام.

أمجد ناصر التقط من الأول موضوعه وبالتالي قصيدته، أجاب من الديوان الأول وبقي عليه أن يتابع سؤاله وأسطورته في الدواوين التالية. من الواضح أننا نبدأ أيضاً من محل لا يكون إلا كلامياً. الأسطورة الصحراوية مفقودة منذ البداية.

لا نحتاج إلى تاريخ لنعرف ذلك، يكفي أن نقرأ شعر أمجد لنعلم أنها صحراء الخيال والوهم والذاكرة، لنعلم أن لا شيء حقيقياً لدى هؤلاء البدو الذين تحولوا إلى فلاحين وأهل أرياف قبل أن يتحولوا إلى موظفين وشرطة ومهربين، وقبل أن يدخلوا في العاصمة والسلطة سلباً وإيجاباً.

لحظة الصحراء تلك متموجة مختلطة بل هي نفسها ذاكرة عديدة، لكن التحول/ الانتقال هو الذي يسمي حياةً لا تملك اسماً ولا هوية. الانتقال هو الأسطورة المتبدّلة، أسطورة حركةٍ ومسافات وتحولات أكثر مما هي ذات خبرة وحكاية خاصة. إننا على الجسر وعلى الجسر تمر الموضوعات والصور والكلمات، لكن الإيقاع الزمني يبقى نفسه:

“أيّتها الهوادج

أيّتها الهوادج

يا أجراس الصحراء

من هنا مر الأردنيون حفاة السيوف والأقدام

في أرواحهم يقدح حجر الصوان

وفي لحاهم المغبّرة تعوي الذئاب

أيّتها الهوادج

أيّتها الهوادج

من هنا مر شعبي

عارياً وضامراً يسحب خلفه نهراً يابساً وصقوراً كهلة”.

قصيدة من المجموعة الثانية “منذ جلعاد كان يصعد الجبل”، وسنجد مقاطع شبيهة في “رعاة العزلة” و”وصول الغرباء”، بل سيبدو الكتابان على نحو ما استطراداً. نصٌ متتابع يلتزم فيه المتكلم بأن يعود مراراً وتكراراً كنوع من تأسيس متجدد للكلام، إلى سيرته الخاصة، بل إلى أسطورة الهوية المفقودة الضائعة على جسور الانتقال والمنافي والغربة.

والأرجح أنها أيضاً أسطورة النسب المكسور والمهد الضائع، وإذ قيل هذا الكلام من أقرب مخيلة له، أي مخيلة العشيرة الواقعية المهجورة المهجرة، فإن كلام الهوية والنسب يتخذ له محمولاً قريباً راعفاً.

ما أسمّية التأسيس هنا، هو نوع من تعريف متكرر للكلام بنفسه، والأرجح أن هذا الانتساب الأول نوع من تسمية المتكلم والمكان. هذا تقليد طللي بطبيعة الحال، والتقليد الطللي، على غير ما توحي به رطانة حديثة، استعارة كبرى في شعرنا. المعرفة والتغريبة أساسان في تخييلنا كله، وكلتاهما تصدران عن زوال المكان، انزياح المكان وابتلاعه وتحوله وتقمصه في ما بعد في أمكنة شتى.

تبدأ الرحلة من فقد هائل لا يعوض، من زوال لا يعوضه إلا بقاء الاسم المدموغ باسم صاحبه، الاسم الطوطم، النسب العائد إلى أصل مفقود. نبدأ من اسم المكان الزائل كما لو كنا نبدأ من قارة ضائعة أو ثقب أسود. نبدأ من العدم، من الزوال نفسه، حيث البداوة هي هذه الرحلة بين الاسم والمكان، هي هذا الاسم المركب إنْ لم تكن البطاقة المثلثة من اسم وجسد ومكان. بطاقة مثلثة هي فقدان يسند بعضه بفقدان.

البداوة في عصر الفضاء هي أيضاً أوديسا فضائية، حيث العالم نصف مسمى، حيث هو مفقود الطرف الأول والأخير. لنقل إنها تحية بدوية قبل استحضار شوارد من كل مكان. لكأنّ هذه اللازمة البدوية نوع من مقام موسيقي، من وزن، من ترجيع يستقبل كلاماً مختلطاً، منوّعاً في المصدر والمكان والمخيلة. لنقل إن اللازمة البدوية إيقاعٌ يُصالح بين لغات عدة ومخيلات عدة، ذلك أن الشاعر يباشر بداوة تنقله من بيروت إلى قبرص إلى لندن من دون فرق. وهذه من دون شك بداوة معاصرة، أو بداوية مستقبلية، إذا جاز التعبير. انتساب يجعله الكلام دائماً حيّزاً ومكاناً، ولنا أن نستذكر أن طابع الشعر يومذاك كان قدراً من سيولة لغوية، من لغة فلكية، من استحضار للغة كلها والقاموس كله. إن اللغة كلها كانت مكان الكلام وموضوعه في الغالب.

إن الشعر كان أقرب إلى “معلّقة” حديثة، إلى نوع من إعلاء لغوي أو مفارقة لغوية. الأرجح أن شعر أمجد ناصر مع عدد من شعراء الطور الثاني في القصيدة الحديثة بدأ رجوعاً إلى “الموضوع”، أي إلى لغة محدودة وجزئية، إلى حيز لغوي، إلى اللغة التي ليست انتشاراً سديمياً بل تكوين بؤري وحواري ومتقاطع وشبكي.

الموضوع إذن بوصفه بؤرة وناظماً داخلياً أو خارجياً للكلام وحيزاً خاصاً به، ومن الواضح أن الموضوع ليس فقط عنواناً، وقد لا يكون عنواناً على الإطلاق. إنه “الفكرة” اللاحمة، غرض الكلام الداخلي ونظامه إذا جاز القول، ثمة في ذلك إعادة اعتبار للمعنى أيضاً بعد أن تراءى لوقت أن الشعر صناعة صور لا معان. أو لنقل تراءى أنه لعبة صور وفي اللعب لا تصمد المعاني. لنقل إن شعراً بلا موضوع هو الشعر الذي يجد غرضه في نفسه، الشعر الذي ليس فناً فحسب، بل هو أيضاً معنى وفكرة وطوبى وبرنامج حياة ومثال أخلاقي وحياتي، ثم إن شعراً بلا موضوع هو شعر حلولي، أي أن ثمة دائماً الموضوع الأعلى، موضوع المواضيع، الموضوع الذي يشهد له وبه كل شيء.

ليس شعر أمجد ناصر لهذا صوفياً، ولو بدا في بعض شعره أنه يستعيد لغة وجدٍ عشقي. موضوع البداوية والانتقال الذي يتداوله شعره هو أولاً تحديد للشعر وللتجربة، بحيث يمتنعان أن يكونا تماهياً مع الشعر والإنسان بالإطلاق. هناك شعر وإنسان من دون إطلاق، لكن البدوي المهاجر والغريب هو في شعر أمجد ناصر موضوع وليس موضوعاً، إنه يحمل البداوية كقرينة. كمعنى أول قبل أن يغدو له معنى ثان وثالث ورابع، ولنقل بكلمة أخرى إن البدوي موضوع بقدر ما هو نموذج. إنه هكذا بالمعنى الذي عليه غجري لوركا وديمقراطي ويتمان وكوسموبوليتي أبولينير. أي إنه نموذج أنطولوجي أولاً، يتأسس الكلام عليه ليتخذ بعد ذلك وعلى الأساس نفسه بعداً ثانياً وثالثاً، وإذا كان لنا أن نزيد قلنا إنه أيضاً نموذج لغوي.

فالبدوي ليس فقط قاموساً إذن، لأننا نعود إلى الأكباش والنصال والصقور والشمس الواسعة والذئاب والغزلان.. إلخ. ليست هذه مفردات فحسب، إنها في الأرجح كلمات ـــ طقوس أو كلمات فيتشية أو كلمات ـــ أسماء (أسماء الصحراء والماضي)، ذلك أن أمجد ناصر لا يسعى فحسب إلى حصر “موضوعه”، بل يسعى بموازاة ذلك إلى حصر قاموسه، أو لنقل إلى نوع من كلمات ـــ أشياء، كلمات ذات حجم وكتلة وحضور مادي: “الأولاد المعفرون في التراب”، “الشاي المنعنع في المساءات”،

“ذهبتُ إلى البراري

فلم أجد إلا عزلة الذئب

ووحشة الأفعوان”،

“الخزام في الأنف والثياب السود”.

نحن هنا أمام كلام حرفي وشبه اصطلاحي، لكن هذا في لغة كلغة أمجد ناصر، طبقة أولى من كلام متعدد الطبقات. ستكون هنا الكنايات المباشرة للبداوة، لكن شعر أمجد ناصر ينطوي في تماسكه اللغوي الظاهر والصلب أول وهلة على لغات عدة متصالحة وغير متصالحة.

هناك، إذا جاز التعبير، الفولكلور. “صف كامل من نصال توهّجت/ خلف أكفال الخيول المتدافعة”، لكنك هنا أمام مخيلة قد تصدر عن فيلم لكوروساوا. الاسم البدوي هنا ليس مضللاً بالطبع، لكنه ليس نهائياً وإزاحته كثيرة واستعداده للإزاحة ماثل دائماً. هناك أيضاً الأغنية “كصقر محطم القلب، كعاصفة بلا أسنان”، لكن أغنية الصقر هذه رغم منبتها الصحراوي صالحة لكل الأرصفة، وهذه العاصفة التي بلا أسنان قد تصفر في أصقاع أوروبا الجليدية. لقد عصرت المدن والمدن العالمية بالطبع “أزهار الشرفات المطلة على حداد/ ومساء بسيط”/ إنها المدن العالمية لا الأرياف والمدن المحلية ولا سلطات الاستبداد الخاصة فحسب، هي التي ردت “خيول الصباح المنير” وعالم الغزلان والأكباش.

لكن المسافة بين المسرح الفولكلوري والمدن العالمية كبيرة بمقدار مخيلة أمجد ناصر وبمقدار إزاحته السريعة. بالأحرى بمقدار زمن أمجد ناصر المتحول المتحرك، فالأرجح أن حسرة البدوي وحسرة أبي عبد الله، آخر ملوك بني الأحمر، حسرة بلا مكان “كل كلامنا القديم قيل بلا رحمة/ كل ما اشتهينا فعله اقترفه الآخرون/ في فجاجة”، حسرة الغجري، البدوي، المخلوع، المنفي، الغريب، هي أيضاً تنهد عوليس المعاصر وهي أيضاً حكمة كفافي التي تتستر على شهواته أو هي مرثية العمر الهارب نفسها، وهي تسكع الماغوط و”الزن” الحديث “أريد أن أمشي وحيداً وأغلق باب الحديقة ورائي”، وهي الخروج من المضرب الشخصي، من مربع المتكلم إلى المرآة “ما من مرة إلا وأزاحم مخلوقات سريعة الغضب على منافض السجائر”، وإلى المديح والقبول “أفكارهم أضاءت مواضع أصابعنا على ثقوب الناي”.

المسافر الذي لا يلوي وراءه هو نوع من عوليس أو بالأحرى من سندباد بري، فشعر أمجد ناصر ترابي إلى حد بعيد، وأحسب أن به رهبة من الماء، رهبة من السيولة. الصلابة هنا هي المثل. والعالم قبل كل شيء كتلة وحجم وحدود واضحة، سندباد بري يتقمص صنوفاً من الوجوه والأقنعة والكلام وله رحلة في الزمان والمكان، من المربع الشخصي إلى المرآة. من الأمكنة التي تنفتح إلى ما لا نهاية. إلى الزمان الذي يضيع في تاريخه.

من البورتريه إلى الفريسكات الكبيرة، ومن العبارة البسيطة إلى تلافيف ودهاليز العبارة المدورة. رحلة إلى الأكثر تعرجاً وازدواجاً وإزاحة وتركيباً والتفافاً. ولنقل إن كل ذلك يحدث بنوع من مخيلة مادية، بنوع من وضوح عصابي ووضوح اكتئابي، كما بوسعنا أن نتكلم عن كافكا. من المفرق إلى بيروت إلى لندن. من البدوي إلى العاشق المجنون والماجن والمستحيل.

من العواصم إلى التاريخ المسلوب في غرناطة. كل ذلك من استحالات السفر العوليسي والرحلة التي تمضي من تراب إلى تراب، من الوعورة إلى الغابات الإسمنتية وشبكات الشوارع. انزلاق فانزلاق، لكنه ليس انزلاقاً فحسب. المفرق مرئية من لندن، غرناطة موجودة في بيروت، ومجنون ليلى في بارات أوروبا وربما مواخيرها.

اللحظة المركبة الصلبة، نوع من السفر في اللحظة، نوع من مكان مركب وزمان مركب. لا ينتهي السفر لكنه يزداد ثقلاً، سفر العاشق في جسد المعشوقة، أو طوافه حول المعشوقة. إنه سفر في العمق لا في المدى، سفر الشاعر في وعر اللغة وصخر اللغة، هو نحت والنحت أيضاً بطيء، ثقيل لكنه دائماً السفر الذي يبدأ من إشهار الاسم وإشهار الكنية.

أقدّم نفسي وأبدأ رحلتي أعلن نسبي واسمي وأبدأ غربتي، هكذا يبدو السفر، من الأساس، ابتعاداً متدرجاً عن الاسم والنسب والنفس. هكذا يبدو السفر نوعاً من الذهاب في الطريق المعاكس:

“الذين يعرفوننا قديماً لن يعرفونا بعد

مضى وقت الخروج من الحفل ورفع الأقنعة

مضى وقت استعادة الأسماء”.

لغة صلبة مسنّنة محددة وترابية، لغة رجولية وشبه رجولية. ليست لغة سيالة بطبيعة الحال، لكن أمجد ناصر يلاعب الصعب. إنه يقصّب من هذه اللغة غناء فولكلورياً.

يوسعها بقدر من المأثور أو ما يحاكي المأثور الشعبي وغير الشعبي. يدخلها في نوع من التنقيط (الحصان/ والمسافة/ والصوت)، وينحو بها إلى ما يشبه القصيدة الموضوعية (القمصان، الأحذية)، يعرّضها لتقطيع نغمي مفصلي (كره وانتفض/ وغنى ففاض/ من تسامق واحتد). وبالتوازي لتقطيع سينمائي، لما يشبه كادرات ومشاهد.

يتوجه الكلام من المتكلم والمخاطب إلى الغائب، من المواجهة إلى المرآة، ومن التنقيط والتقطيع إلى التدوير والفريسكات الكلامية، من المفرد إلى الجمع ومن المتانة أحياناً إلى الفصاحة، والفصاحة ليست سيولة بقدر ما هي نحت. ذلك أن أمجد ناصر بعد أن يقدم نفسه باسمه ونسبه يقدم نفسه بلغته. والنحت والمَضاء في اللغة هما افتتان وفيتشية أكثر منهما ترجيعاً وحداء.

في “سر من رآك” ذلك الحب الفيتشي، إذ يؤدي امتلاك المحبوب بتقطيعه وتصنيمه عضواً عضواً إلى نوع من لغة شبه فيتشية أيضاً، إلى حد أنها لغة التسمية (الحقوان وما يطويان قبل المياه/ وردة الدانتيلا السوداء في أعالي الفخذ/ الأعضاء تتنفس وتكنز ثروتها)، لكنها أيضاً لغة تعزيمية (اذرفي يا خرزة الأفعى/ يا عين الغفلة القاتلة).

لا نجد هنا سيولة بل نجد نصاً باروكياً وأنواعاً من اللغة والأسلوب كأنما امتلاك اللغة كامتلاك الجسد يتم عضواً عضواً وجزءاً جزءاً. اشتهاء اللغة هو أيضاً كاشتهاء الجسد، اللغة هي أيضاً عقار الحب والرقية والتعزيم الشافي، إنها غيبوبة وسحر، وهي بطبيعة الحال معبودة، لكن بأكثر من نبر. معبودة بالجنون العذري ومعبودة بالسحر، ومعبودة بالمأثور ومعبودة بالارتجاز. ذلك أن فيتشية اللغة معرض لفانتسمات شتى وللغة توازي بين تقطيع الجسد وإعادة إحيائه بالبخور والتعزيم والسحر بشتى صنوفه.

الأرجح أن اللحظة اللغوية تغدو مرتقى الأنفاس كما يوحي الاسم أكثر صعوبة، إنها التنفس في الأدغال والضرب في معدن وصخر، والرحلة عبر التمرئيات وعبر التماهي بين الكلام والمتكلم إلى حد اختفاء الأثر.

الرحلة بين الموطن الزائل والاسم الموشوم والنسب الزائح تؤدي إلى مثول الثلاثة في واحد، غرناطة هي صورة هذا الزوال المثلث، هي البؤرة التي تنعكس في نفسها وتجمع انعكاساتها الكثيرة وتقمصاتها في داخلها. تتوزع وتنشطر وتتمرأى وتتحول في اللحظة التي تعود فيها سراً لا يُنال، اسماً ضائع الأول والآخر. لحظة اتحاد هي أيضاً لحظة تكوكب ودخلنةٍ وتكامل.

هكذا تبدو رحلة أمجد ناصر الشعرية وقد آلت إلى مفترق. فليس صدفة أن يكون “مرتقى الأنفاس” ختام هذا المؤلف. لقد غدا اسم المفرق غرناطة وكان من قبل سُرَّ مَن رأى. لم يجد القارة المفقودة، لكن وجه الزوال المعبود المتجوهر الكلي والاسم الذي يزحم الجسد والنفس.

ولا بد أن هذا الكتاب نوع من اكتمال، ولا بد أن الشاعر في سبيله إلى رحلة أخرى.

بيروت ـــ صيف 2001

فتى من ذلك الزمان/ بشير البكر

كنت أجلس لوحدي في مقهى القنديل في دمشق في صيف عام 1978 حين دخل شاب يشبهني في الشكل. حياني حين لم يجد أحداً غيري في المقهى في ذلك الصباح الباكر، وعرضت عليه الجلوس معي فوافق. تعارفنا وبعد دقائق أصبحنا أصدقاء تحت شجرة القصيدة. وفي ذلك النهار أخذته لأعرفه على صديقي الكاتب المرحوم جميل حتمل الذي قدمه بعد 24 ساعة إلى نصف أدباء ومثقفي وفناني دمشق.

ذاك الشاب كان الشاعر الأردني أمجد ناصر القادم من بيروت في زيارة ثقافية وإعلامية لدمشق. وفي ذلك الوقت كان يعمل في مجلة “الهدف” الصادرة عن الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين.

أحسسنا نحن أدباء سورية الشباب في ذلك الاسبوع أن هذا القادم من بيروت يحمل رائحة الفدائيين، وسرعان ما صار واحداً منا، وتصرفنا جميعا على هذا الأساس ولزمن طويل وحتى الآن. وعشنا كما تعيش العائلات الثقافية. نجتمع ونفترق ونلتقي ونتباعد، ولكننا نتقاطع في الكتابة والألم والحنين والمنافي. وحين غادرت سورية نهائيا وذهبت إلى بيروت وجدت بيت أمجد وزوجته هند مفتوحاً أمامي طيلة الوقت.

وصادف يوم ولادة يارا، باكورة أمجد وهند، أن رافقنا هند إلى المشفى وعدنا أمجد وأنا الى منزله في الطابق السابع في طلعة أبو شاكر، ومن شرفة ذلك المنزل كان يصلنا هواء البحر المالح الآتي من منطقة الرملة البيضاء.

في تلك الليلة قرأ لي أمجد مجموعته الأولى التي اتفقنا أن أفضل اسم لها هو “مديح لمقهى آخر”، ولم ننته من ذلك حتى داهمنا الصباح ونحن نردد مع سان جون بيرس “نحن الذين سنخبر البحر كم كنا غرباء في أعياد المدينة”.

كبرنا وكبرت الغربة، وخرجنا من بيروت، وذهب كل منا نحو بلد آخر، ولكن أمجد كان يعبر المانش من حين لآخر ليلتقي عائلته الكبيرة في باريس، محمود درويش، خليل وسلوى النعيمي، جميل حتمل، يوسف عبدلكي، صبحي حديدي..إلخ.

حين علمت في الصيف الماضي بمرض أمجد شعرت بأن هناك خيانة تعرض لها هذا الرجل. هكذا من دون إنذار أو تنبيه تأتي الصاعقة. كان أمجد يقود سيارته وحين نزل منها وقع على باب البيت. ولم يخطر له أن المرض اللئيم هو السبب. كان يظن أنه الصداع الذي يعاني منه منذ زمن طويل. وطالما تحدثنا طويلا عن الشقيقة وما تسببه من آلام، ولم نكن نظن أن هذا العدو كان يحفر في رأس الشاعر.

عايشت تحولات هذا المرض مع أمجد منذ أن بات مكشوفا في بدايات سبتمبر/أيلول الماضي، وبدأت رحلة صراع أمجد الفعلية معه، وذات يوم اتفقنا أن نسجل شهادة تلفزيونية يسرد فيها أمجد سيرة مختصرة، نعود فيها إلى محطات من حياته في الكتابة، ولكننا قررنا معا أن نقلع عن المشروع في فبراير الماضي.

أعرف أسبابي وأخمن أسباب أمجد الشاعر والكاتب الذي أرفع له القبعة، ولكني أشعر بندم شديد لأننا لم نفعل ذلك، لاسيما أن أمجد الشاعر أبدى فروسية في مواجهة هذا الطالع الأسود، ولم أجده في زياراتي الكثيرة إلا كما عهدته على الدوام مشتعلا بالشعر، وكانت الثورة السورية تستغرق الكثير من حواراتنا، وأحسست أن أمجد لديه رغبة في تسجيل شهادة خاصة توازي ما جاء في ديوانه الأخير “مملكة آدم”.

مملكة آدم لأمجد ناصر: قصيدة الآخر والجميع/ مناهل السهوي

في مجموعتهِ الشعريّة “مملكة آدم” الصادرة حديثاً عن منشوراتِ المتوسط/ إيطاليا يقدّم الشاعر أمجد ناصر مستوى آخر للشّعر بوصفه حالةً كليّة، لَنَا أن نقدم من خلالها عالمنا المريب. الإيمان بالقصيدة ككائن يتسرب حولنا وفينا بخفّة ووضوحٍ وكأنّه يقول فلتدع الكتابةَ تقودُ الحياة، معرفة الشّعر هي تخيله حتى التخمة، وهذا ما يفعله أمجد ناصر، يتخيل الشّعر، يرسم له عينان تشمان وتسمعان، يرمي الحواس في طاحونة الحقيقة، لتمارس سطوة أخرى، سطوة على الوجود القاسي. في مجموعته الجديدة يتتبع الشاعر الإنسان المهمّش، المختبئ خلف خرابِ رؤيتنا من خلال توضيح تلك الأدوات التي تنتمي للقسّوة وللقوة الأكبر التي يمتلكها آخرون، في كتابةٍ لا يوقفها شيء، فلا قسوةً تضاهي ما حدث.

الكتابة عن شعر أمجد تبدأ في اللحظة التي تتوه في ذاتكَ، لكنكَ تعرف هذا التيه، إنّها المعرفة الخام التي تنقلب شعراً، نثراً، سرداً أو رواية.

يتابع أمجد في مجموعته الجديدة بناء القصيدةِ التي أسسّها باكراً نحو عمقٍ آخر يحتوي القصيدة العربيّة الحديثة، مازجاً المعجم الصحراوي بالقصيدة الحديثة، مستنداً على حقيقةِ وصدقِ ما يريده ليشكّل قصيدة الآخر والجميع، متكئاً على السرد في بعض الأحيان وعلى الانتقال بين طبقاتِ الجحيم أحياناً أخرى ليصلَ المغزى الحاد لوجودنا دون انقطاع في نفسه الشعريّ الرهيف والمتقن.

“لا تَقولُوا إنهُ الموعدُ،

لا تقولُوا إنه مكتوبٌ،

لا تقولُوا إنَّ في ذلك حكمةً، لا تُدركُها أبصارُنا، فليس هذا وقتَ أولئكَ الأطفالِ الذي يتعلَّقون، برعبٍ، في أذيالِ أمّهاتِهِم”.

يكتبُ أمجد في مملكة آدم من فوق، من الكليّة في الشّعر والمعرفة، الإنسان كائن ذو قامتين، يقتل، يأسر، يقطع الرؤوس ويغتصب، من هنا يبدو الشاعر كائناً كليّاً في الكتابة تتخلله الأحداث وتقود ألمه، إنّها الكتابة من فوق كلّ معرفتا وحججنا السابقة، تقديم الأرض بصيغتها الأخرى، من زاوية الجحيم وطبقاته السبع في تقسيمات لا تعكس عدمية ما يحدث وحسب بل تتجاوز المخاوف الآنية لتواجه الأسئلة الكبرى عن الله والشيطان والإنسان، بُعدٌ يشبه ما يحدث من حولنا لكنه أكثر إلحاحاً، وكما قال الناقد صبحي حديدي في مقدمة المجموعة: ” فهذه، المعاصرةُ على وجهِ التحديدِ، شهدتْ وتشهدُ أفانينَ جحيمٍ لا تتفوَّقُ على خوارقِ العذابِ في مختلفِ تنويعاتِ الجحيمِ التي صوَّرتْها المخيّلةُ الإنسانيةُ، أو توعّدتْ بها الأساطيرُ والنُّصُوصُ المقدّسةُ، فحسب؛ بل لعلّها، أيضاً، تتحدَّى أقصى ما يملكُ التخييلُ من طاقاتِ استحضارِ الشَّرِّ، وتمثيلِ القسوةِ، واستكناهِ الألمِ، وتجسيدِ الموتِ.” هذا البعد الآخر الذي يأخذنا فيه أمجد، القادم من حياتنا الأرضية الجحيمية، يتركنا مشدوهين، متى مرق كلّ هذا الشّعر والموت ولم نلحظ!

“هذه الأرضُ مثلُ كلبٍ شاردٍ تلقَّى رَكلةً على خاصرتِهِ من بسطارٍ، فراحتْ تعوي وتعوي، ولا شيءَ يرتدُّ إلا الصَّدى السيّمفونيّ للآلامِ”

مملكةُ آدم هي عالمنا وفظائعنا، جرائمنا، حقيقتنا، المملكة التي تنحو لتكون ملاحقةً للإله والبشر، لا يُستثنى أحدٌ من ألم الإنسان وإدراك فظاعة العالم حين يُعاد تدويره داخل الشاعر ليغدو محكيّاً، يخلق أمجد الشّعرَ في النثر والسرد والرواية وكأنَّ شعريّته هي الخيط الواصل بين كلّ جوانب الحياة، بين عبثيتها وفظاعتها وشراستها، في بلاغة عالية وصور محكمة تنتمي لكل هواجسنا التي عرفناها، صور تنهض من الألم ممتصّة أي خراب حولها لتكوّن ذاتها، صورٌ صادقة، محكمة، صادمة ومثيرة لمشاعر دفينة يثيرها سؤال الموت والنهاية، فليست القدريّة وحدها من تحكم المجموعة الأخيرة، الشاعر يفهم الله كما يفهم الشيطان والإنسان، يغدو الجميع أطرافاً في لعبة تبتلع أجسادنا، ذكرياتنا وأحلامنا.

“ما وراءَ الطبيعةِ مقرفِصةً

تعدُّ على أصابعِهَا الألفِ

تُخطِئ في العَدِّ،

ثمّ تعودُ إلى الصفرِ من جديدٍ.”

يحافظُ ناصر على الشعريّة العالية رغم المناخ الجنائزي والأقرب إلى الجحيم وأدوات العذاب والموت التي لا تنتهي، كيف يمكن وصف الجحيم بشاعرية؟ وتطويع أدوات الألم لتغدو معناً للحقيقة؟ إنه الدخول فيها بصدق وخفّة ومعرفتها وجهاً لوجه، نحن نكتب الأشياء التي نعرفها، تلك التي صادفناها وفي كلّ مرة تزيد معرفتنا بها يبدو المعنى أوضح وأقسى وشفيفاً كعذاب لا ينتهي.

إنّه الجحيم السوريّ للوهلة الأولى لكنه يستخدم بُعداً آخر، بُعداً نستشفُّ من خلاله نار العالم أجمع، اختارَ سورية لتكون جحيم مملكته، لكنها ليست الجحيم الوحيد، إنّها منصة الخذلان والألم الذي يستشعره الإنسان على هذه الأرض، إنها المثال والحقيقة الأكثر عريّاً في يومنا.

“عالِجوني بروحِ الخردل

والأياهوسكا

والداتورة،

بالسّذَّاب السّوريّ

والحِداءِ الذي يشبهُ بكاءَ الجِمال

لأصعدَ إلى السماءِ الخامسةِ

حيثُ قَدَمُ اللهِ المتشعّبةُ تغسلُهَا النوايا الطَّيِّبةُ

وأيدي الحورِ العِين.”

من خلال مروره في سبع طبقات من الجحيم، نرافق أمجد ناصر في رحلة الشقاء البشريّ الذي صنعه البشر أنفسهم، إنّها التجربة التي تعني لنا المعرفة وفهم تلك التي تخصّنا، تنقلنا تجربته إلى واقع شعريّ مختلف وإلى مستوى آخر من خلط الواقع بالسحري والخيال وكأنّه دوماً على شفير اكتشاف عالم آخر، عالم لا نملُّ من تتبعه عبر هذا الحدس المرتاب رغم قسوته، مكتشفين في هذا التتبع الكثير من شعرنا الخاص ومن معرفتنا الناقصة ومن عالمنا الذي غدا مملكة قاسية وجحيماً بشرياً.

شعريات الرؤى/ ليندا نصار

إنّ المتأمّل في المنجز الأدبي لأمجد ناصر وما راكمه من دواوين شعرية يجد نفسه أمام شاعر من طينة خاصة، يبدع بصمت دهشة السؤال وقلق الوجود بحواسه التي يستفزها جميعها ليبني عالمه الأورفيوسيي، كأنه ناسك من زمن بعيد يجرب في كل مرة طقوسية الكتابة بما هي أثر فني تتأسس في جوهرها على احتمالات قصوى لجعل المعنى يحمل أفقًا ذا أبعاد كونيّة.

فلا غرابة أن تشكل هذه التجربة مختبرا بحثيا لنقاد من أجيال عديدة تجاورت فيها مقاربات نقدية. كيف لا وهي التي تجعل من الرمزية وإمكانات التأويل فضاء للكتابة التي تتحول في رؤيا أمجد ناصر إلى منجم خصب لتوليد شعريات تأبى على أن تصنف في قواعد جاهزة. إنها كتابة قلقة تعرف أن تنتقل من مفهوم القصيدة إلى الكتابة باعتبارها اختيارا جماليا في الوعي الكتابي من جهة، والحياة من جهة ثانية.

فلا غرابة في أن يسعى في حفرياته داخل أرض الكتابة إلى إعادة تشكيل حدود العالم وفق تصوّرات غير موجّهة، فالحرية في قول الحقيقة على نحو شعري كانت من سمات الخصوصية التي مكنته من ترويض القصيدة لتستجيب إلى شروطها النوعية والإقامة في حالات الممكن والمستحيل.

تحمل قصائد أمجد ناصر إبدالاتها مما يتيح لها أن تكون حاملة لرمزيات عديدة تجعل من النهايات بابا ينفتح أكثر على احتمالات مفاجئة تربك متلقيها لينخرط بدوره في فعل تأويلي كان من أبرز تجليات الوعي المفارق الذي يصدر عنه في ممارسة طقوسية القصائد؛ فالشعر بالنسبة إليه هو النفس وليس مجرد وظيفة موقّتة بل هو الروح أو الكهرباء التي تسيّر حياتنا. إنّ القصيدة تسكنه وهي شاغله الذي يفتح له الأبواب ليعبّر عن قضايا جمّة.

ولعل عبوره الهادئ إلى جنس الرواية جعلنا نلمس قدرته على إرباكاته من داخل أسئلة التحوّلات التي تعرفها الرواية العربيّة، وتفكيكه الرمزي لضرورات اجتماعية ملحة تتمحور أساسا حول الفكر والمجتمع والسلطة والحرب والسلام والفن والحب والخيانات والإنسان في هشاشه وقوته وبطشه وفلسفته التي يمكن إدراكها في قراءتنا للخطابات التي يدسها بعناية في شخصياته الحرة التي تمنح لقارئها بلاغة الحيرة.

من منا يستطيع أن ينسى شخصية يونس الخطاط وميتافيزيقا التيه في المعنى الحارق للمقاومة والتّفكّر في شؤون المجتمع والسلطة والإنسان بتركيبته البسيطة والمعقّدة. وفي كتاباته دعوة إلى إعادة النظر في هذه الأمور.

كما يغوص عميقا أمجد ناصر في ممارساته الإبداعيّة عن طريق رصد التحوّل الفكريّ والنفاذ إلى زوايا لا يجرؤ كثير من الكتاب على اختراقها ما لم يكونوا ملمين بالسرديات الكبرى والصغرى فضلا عن تمرسه بالصنعة الروائية وحداثتها وجماليات انفتاحها على الأجناس الأدبيّة وغيرها رغبة منه في الكشف عن الهامشي القابع فينا ومن حولنا، ومبرزا سوء الفهم بين العالم الواقعي والمتخيل والإنسان والتشوهات الكافكاوية التي باتت تهدد إنسانيتنا في صميمها اللامحدود، كما يمرّر لنا العادات والتّقاليد البدويّة ونمط العيش. إن نصوصه هي رحلات جوانية في تعددية الأصوات والحالات والجغرافيات الثقافية والهويات الهاربة.

لهذا يمتاز أسلوبه بجماليّة لا تظهر تكلّفاً بل تأتي الصّور على طبيعتها مستمدّة من المشاهد والصّور التي يعاينها الإنسان في حياته اليوميّة، وذلك من خلال الحكي والوصف وإدخال الحوار أحيانًا واستطاع بذلك الشاعر الرّبط بين أسئلة العصر والأسئلة الجماليّة. فما دام الشّعر يمثل هويّة أمجد ناصر الذي لا يتركه حتى وهو ينزاح نحو جزر الكتابة الروائية العذراء ليدون تاريخا جديدا أكثر التباسا نكاية في الاطمئنان باحثا جوالا عن منطقة احتمال يشيد عليها تاريخ إنساني آخر لما حفظناه خلسة في بطون الكتب السيارة.

إن منطقة الاحتمال هذه تتخذ مظهرا جماليا في قصيدة أمجد ناصر من خلال بناء كتلة شعرية مكثّفة تحمل بعدًا إنسانيًّا. أو ليس هو الفارس العربيّ الّذي يحمل صفات الفروسيّة في زمن الهزائم والخراب والعقم والضياع؛ فارس يحمل قلب شاعر حقيقيّ يجابه البياض بقوة الحبر كشكل من أشكال مقاومة الخرس الإنساني الطافح بالرغبات العابرة، يحفر في الحرف العربي، ويوسع معجمه ويتّعمّق في صوغ جماليّة مفتوحة تسعى إلى جعل الأدب حياة أخرى ممكنة، وهذا ما يجعلنا نفكّر في المقهى الذي ذكره أمجد.

ونتساءل هنا، تراه هذا المكان الآخر شبيه بالذي تحدّث عنه كونديرا في روايته الشهيرة “الحياة في مكان آخر” وهل المكان الآخر حيث الحياة المختلفة قد تكون في مقهى موحٍ يدعو إلى خلق عالم من الشعر فتتألّق القصيدة بين يدي الشاعر؟ تراه يبحث عن صباح آخر وكلام آخر، فنجد أنفسنا أمام شاعر يبحث عن المختلف دائمًا؟

إنّ الصّورة الشّعريّة لدى أمجد ناصر تشكّل لوحة مشهديّة ذات فضاءات متعدّدة فتجذب القارئ لتفكيك استعاراتها وتوقّع ما لا يتوقّع وتأويل أعماقها. كما يجمع أمجد ناصر ما بين الطّبيعة التي خرج منها الإنسان وبين الآلة التي صنعها فمن الأشجار والليل وشقائق النعمان والفجر والقرويّات والدروب إلى الإسمنت والبنادق …

من ديوان “شقائق نعمان الحيرة”:

خيبة أمل البلاد

إن البلاد التي راودتك في فنادقها/ مرّة في المساء/ داهمتك مدافعها/فجأة في الجبال/ وكانت بلادً… هذه البلاد مزيج من الحزن/ والشجر المتسامق/ والطبقات الفتيّة (ديوان مديح لمقهى آخر)

عن الشعر يقول أمجد في قصيدته إلى سعدي يوسف: فها نحن نشقى/ بأوجاعنا اللّغويّة/ نشقى لأن ّ القصائد/لا تطفئ الأسئلة/نشقى لأنّ القصائد/لا تبلغ المرحلة/وهذي قصائدنا ورق ناشف في الحلوق

ص 197: هناك من يموت يأسًا وأنا متّ لأنّ الأمل ظلّ يحجل حولي. …. يأخذك إلى أصل الماء ويردّك ظمآن بلعب بك لعلة البيضة والحجر.

“لست متأكّدًا أنّ الشّعراء قادرون على التّنبّؤ بموتهم”.

أمجد ناصر.. هكذا ابتدأت الأوديسا/ رائد وحش

لم يعد تأريخ بداية شاعرٍ بشروعه بالنشر أمرًا صائبًا في زمن السوشيال ميديا، فمنذ صار النشر سهلًا وبلا معايير لم يعد نشر قصائد في منابر أدبية، أو جمعها في كتاب أوّل، أو الانتساب إلى جماعة ما (والجماعات في زمننا اجتماعية لا أدبية).. مسائل كافية لإعلان الولادة، ناهيك أصلًا عما يحمله هذا من تطابق بين الولادتين البيولوجية والشعريّة، باعتماد ساعة ويوم وشهر وسنة.

كما لا تصنع الولادة البيولوجية الإنسانَ مثلما تصنعه التجارب والظروف، كذلك فإنّ الكتابة سلسلة لا تتوقّف من الولادات التي ترغم الشاعر دومًا على خلع وجوهه القديمة، والتعديل المستمر على شخصيته الفنية.

ضمن هذا الفهم، نرى إلى بداية أمجد ناصر الشعرية بوصفها حدثت ثلاث مرّات تحت ثلاثة عناوين وتواريخ، هي: “مديح لمقهى آخر” (1979) و”منذ جلعاد كان يصعد الجبل” (1981) و”رعاة العزلة” (1986).

تقول هذه المجموعات إن الشاعر الذي ولد في المنفى، بحسب أمكنة صدورها وتواقيع قصائدها، مشغول بالمكان الأول الذي يأخذ شكلين متناقضين: بدويّ وحضريّ، بريّ ومدينيّ، ولهذا يظهر في الجانب الأول اتجاهٌ ينزع نحو الإنشاد الملحمي، حتى وإن جاءت النصوص موجزةً، فيما تذهب في جانبها الآخر إلى الحياة الهامشية في المدينة لكنّ الجانبين يتواشجان ويتداخلان مُشَكّلين عالمًا واحدًا، سيريًّا في المستوى الذي يتناول فيه المكان تناولًا يقارب فعل الخلق، عبر خيال يبدو وكأنه ينشئه ويبنيه أكثر يستعيده، ومستوى ثانيًّا لغويًّا شديد الفرادة، يقوم على جملة صلبة تتداخل فيها المفردة اليومية بالقاموسية، ومستوى ثالثًا حكائيًّا يريد إخبار قصص المكان وأهله ورموزه وتاريخه.

تسير هذه المستويات الثلاث جنبًا إلى جنب منذ المجموعة الأولى “مديح لمقهى آخر”، ثم تتصاعد وتيرتها الدرامية لتصل إلى القصائد الأخيرة من المجموعة الثالثة “رعاة العزلة”، إذ تقدّم قصيدة سيرية تحكي اغتراب صاحبها الذي يمتلك ماضيًا بدويًّا، وها هو بوصوله إلى مدن كبيرة عافت نفسه تلك الأمكنة فراحت تنظر إلى الوراء، إلى ما مضى، لتكتب الحياة بأسلوب أسطوريّ يغني ماضيًا وأبطالًا مكسورين، في ذلك المكان البري الذي تحوّل كيانًا سياسيًّا وفق إرادة استعمارية، ولهذا سيمضي راعي العزلة، المنشدُ، الشاعر، الغريب، نحو استنطاق ذاكرة المكان التي صارت ذاكرته الشخصية، وهنا يمكن أن نعاين هذا من خلال قصيدة “أيتها الهوادج” في “منذ جلعاد كان يصعد الجبل”، حيث يكتب:

“أيّتها الهوادج

أيّتها الهوادج

يا أجراس الصحراء

من هنا مرّ الأردنيون حفاةَ السيوف والأقدام

في أرواحهم يقدح حجر الصوان

وفي لحاهم المُغبرة تعوي الذئاب.

أيّتها الهوادج

أيّتها الهوادج

من هنا مرَّ شعبي

عاريًا وضامرًا يسحب خلفه

نهرًا يابسًا

وصقورًا كهلة”.

قلما يطالع المرء تعابير “الأردن” و”الأردنيين” في الشعر الحديث، أو أسماء مدن مثل عمّان والكرك وعجلون والسلط… إلخ. مدن الشعر العربي الحديث على الدوام مدنٌ متفق عليها، وأمكنته الشعرية مستعارةٌ من قاموس التاريخ مثل الشام والرافدين.

تقدّم هذه القصيدة المبكرة الموقّعة عام 1980، حين كان الشاعر في الخامسة والعشرين من عمره، حسًّا تاريخيًّا، بتعبير إليوت، وهو التعبير الذي توقّف عنده إدوارد سعيد مطولًا في كتابه “الثقافة والإمبريالية” قائلًا: “الشاعر موهبة فردية، غير أنه يعمل داخل تراث لا يمكن أن يُورث مجرد وراثة، بل يمكن أن يُنال”.

أمجد ناصر نال تراثه، حسُّهُ التاريخيّ بما هو زمنيّ عام، وبما هو وقتيّ خاص، منحه وعيًا حادًّا لموقعه في الزمن من جهة، وللحظته من جهة أخرى، فكتب مدركًا حضور الماضي في الحاضر، إذ لم ينقضِ بمجرد انتهائه بل وجد سبله للاستمرار.

من هنا، سيظل مشهد الشعب الضامر الذي يجرّ نهرًا يابسًا وصقورًا كهلة مشهدًا افتتاحيًّا لفهم الماضي من حيث كونه ماضيًا، لكنّ أثره صنع الحاضر المهزوم.

طغيان الاغتراب على المتكلم في “رعاة العزلة” طبع لغته بطابع إنشادي، بالتالي لا يعود مفيدًا الحديث عن المفردة المعجمية لدى أمجد، كونها من صلب تكوين نزوعه الأسطوري الذي ولّدته مدارج الغربة، ووجد خلاصه في الشعر طريقًا إلى الذات والحياة معًا، وطريقًا بهما إلى الكلمات.

يميّز كمال الصليبي بين الأسطورة بوصفها حقيقة تاريخية تصوّر العالم بالرموز، وتعالج المجتمعات من خلال تاريخها، وبين الخرافة من حيث إنها أساطير، بفارق تعالي مادتها التأملية الفلسفية على التاريخ.

اهتداءً بهذا التمييز، يمكن النظر إلى شعر أمجد ناصر، في مراحله الأولى، بأنه مكتوب بوعيّ أسطوريّ، وما يؤكّد ويدعم هذا التصوّر احتفاؤه بالعجائبي، وخيال قصائده المتوثب، وكثرة طقوس السحر والتعزيم، وتدخّل حركة الكواكب في أقدار البشر. يكتب في قصيدة تخاطب مدينة عمّان، من “رعاة العزلة”، اسمها “فيلادلفيا”:

“لا نشيد يطاول صدركِ

العامرَ بالشهبِ والكمال

ولا أحدٌ رآكِ بعين الصقرِ

وأنتِ تمسكين حجرًا رومانيًّا

بين يديكِ.

الأمراء الذين تفوح من أعطافهم

رائحةُ المسك

تماثلوا في الشقاء

أمام غرّتكِ العالية.

والفتيان الذين شقّق لحمَهم

شوق التماسك المرصود

بالأعنّة والحراب

قضوا

واحدًا

واحدًا

وأنتِ بعيدة كنجم

قريبة كشجرة صفصاف.

لا تمنحين الرضا

ولا ترفعين الرجاء

لأجلك تدور أحجار الرحى

ويتدفّق الينبوع”.

اعتبار ثلاث مجموعات مجموعةً أولى تماهٍ مع إشارة محمود درويش إلى ولادة الشاعر على دفعات، وهي الولادة الأخرى، الحقيقية، غير المؤرّخة، التي ينجزها الإنسان بوعيه وإحساسه، معيدًا إنشاء نفسه بالطريقة التي يمليها تطوّر أفكاره وفهمه مرحلةً تلو مرحلة.

لا تختلف مناخات المجموعة الأولى “مديح لمقهى آخر” عن المجموعة الثانية “منذ جلعاد كان يصعد الجبل” لجهة حضور الموضوعات الأردنية، بدويّة وحضرية، في الأولى بالقبائل والنزعة القصصية ومشهدية المكان، وفي الثانية بالمقاهي وأصدقاء التسكع والأحلام والعلاقات العاطفية، لتعود كلها وتندمج على قماشة “رعاة العزلة” التي تروي أحوال المغادرة والخروج وفصول الأوديسا التي نعرف بعضًا منها، ولا بدّ من تناول نثره لمعرفة فصولها الباقية، لكننا لو اكتفينا بالشعر، رغم إخفائه الأكثرِ من إظهاره، لبدا أمجد أوديسيوس معاصرًا يخوض رحلته بالاتجاه الذي تشير فيه بوصلة القلب إلى إيثاكا.

غير أنّ كتابه/ديوانه “فرصة ثانية”، الذي التقى فيه شعره بنثره لقاءً لطالما تحدّث عنه معتبرًا النثر طريقًا إلى الشعر، يقول لنا إنّ إيثاكا كامنة في المكان الأول، وها هو بعد اكتشاف حقيقة حياته الكبرى يمضي إليها ليعيد تحرير متنه، شعريًّا ونثريًّا، في نص واحد، لا يمكننا إلا اعتباره عملًا أوّلًا.

شعريًّا لم يغادر أمجد ناصر مكانه الأول، ونزعته الأوديسية التي تخايلتْ لنا كتابةً عن أمكنةٍ مترامية على خرائط العالم لم تكن سوى وقت مستقطع في الطريق إلى الأوّل، إلى إيثاكاه.

نقيض أمجد في شعره وتجربته هي أمّه فضّة العويّد، التي نعثر عليها في العديد من قصائده، ويرد اسمها في أكثر من إهداء من إهداءات كتبه:

“وصول الغرباء”: “إلى محمد وفضّة وتسعتهما”

“كلما رأى علامة”: “إلى فضّة.. ذاهبة لتؤنس التراب”

“فرصة ثانية”: “إلى فضّة العويّد التي لم تقتنع يومًا، محقة بالطبع، أنّ الكتابة يمكن أن تكون عملًا”.

لغة الأمّ، كما يقول، لغةُ البيت التي لا تتغيّر لعدم الاحتكاك بالعالم الخارجي، بينما لغة الابن هي لغة العالم التي أرادت العودة إلى البيت، لتجعل من رحلة اللغة أوديستها المتجدّدة.

أمجد ناصر.. طريق الشعر والسفر/ محمود منير

في أواسط التسعينيات ونحن على مقاعد الدرس، لم يكن يُذكر اسم أمجد ناصر (1955) الذي بدأت تجربته تتكرّس ضمن موجة حداثة شعرية أردنية وعربية جديدة برزت في العقد السابق، إلا ويُقرن بغيابه عن الجغرافيا التي تركها مبكراً لكنها لم تغادر نصوصه إلى اليوم.

ظهرت قصائده لعدد من أبناء جيلي مثل نشيد ثوري ارتبط بتلك اللحظة التي تعاظمت فيه التضييقات والملاحقات الأمنية بحكم انتمائه إلى اليسار الفلسطيني، فقرّر في نهاية عام 1977 الالتحاق بكوادر أحد فصائله في بيروت، وتصادف الأمر مع ثيمة الرفض لكلّ بنى المجتمع والثقافة والسلطة التقليدية التي طبعت شعره.

لم نفكّر حينها بأسباب أخرى ربما ترتبط بفقدان حبيبة أو بنزق شخصي أو بحادثة عابرة دفعته إلى أن يخلع اسمه الأول “يحيى النعيمي” ومعها ثوب العشيرة وحياة الفتى القادم من الأطراف في عمّان، التي اختبر فيها أول التمرد والنقد والسخرية من شخصيات وخطابات وأفكار ماضوية كانت تجد آنذاك منابرها في الوسط الثقافي، كما سيحدّثنا أقرانه لاحقاً.

نقرأ ذلك منذ “مديح لمقهى آخر” (1979)؛ مجموعته الأولى والوحيدة التي تنتمي إلى التفعيلة، ونعثر فيها على احتفاء واشتهاء كبيرين بالحياة ولها ورغبة في الخروج على أشياء كثيرة، سيكون في طليعتها شكل القصيدة حيث كتَب النثر مع مجموعته الثانية “منذ جلعاد كان يصعد الجبل” (1981)، التي يدوّن في أحد مقاطع قصائدها “مطالب”:

وزﱢعوا علينا:

بلاداً جديدةً

ملوكاً،

ورؤساءَ جمهورياتٍ،

محاكمَ

وقضاةً

شرطَةً

ومساجدَ

شيوخَ عشائرَ

وأحزاباً مُساوِمَةً

رسلاً وشعوباً،

وزﱢعوا عصيّاً أغلظَ من تلك التي

تتهشم على أجسادنا فوراً.

وزﱢعوا علينا قبوراً لائقةً

وأكفاناً أكثرَ بياضاً

من تلك التي تُرسِلونها عادةً.

بريشة يوسف عبدلكيبعد مجموعتين نالتا حظهما من التقدير، يترك أمجد ناصر لبنان التي لم يأتها فقط بحكم انتمائه الحزبي زمن الثورة الفلسطينية، بل إنها أقرب مكان لاحتمال آرائه في تغيير هذا العالم أو هكذا بدا له حينها، لكن دخوله في التجربة ستنتهي بالحصار والاحتلال والخروج القسري مع المقاتلين، وبـ “بيروت صغيرة بحجم راحة اليد” (2013).

لن يكون عام 1982 كما قبله. البدوي الذي حفظ أسماء القرى والبلدات الأردنية وتاريخ أهلها وأساطيرهم عن ظهر قلب، وصاغ لهم أناشيد لحيرتهم الراهنة هاتفاً ومبشّراً “أيها الإقليمُ أعلِن العصيان” (منذ جلعاد كان يصعد الجبل)، ويمضي بها إلى حيث يلقى الهزيمة؛ هزيمة لن تعيده إلى مكانه الأول وسترسله إلى منافٍ جديدة يقلّب ذاكرته والشعر ومآلات التيه العربي.

إلى نيقوسيا وعدن ثم لندن، سيكون المسير لكن بصبر وطول تأمّل يحكمه بوح مديد لكن عبارة واحدة ستفلت منه مراراً، يقول فيها إنه “لم نتغيّر كثيراً” والتي سيفتتح بها مجموعته “رعاة العزلة” (1986) ويعيدها في مقابلات صحافية ونصوص بصيغ مختلفة تشير إلى معانٍ متعدّدة؛ العود الأبدي إلى طفولته بوصفها الفردوس المفقود، وترحاله الذي ابتدأه مذ كان في موطنه ولمّا ينته بعد، وتأهبّه للطيران من جديد كلما نظر المسافة بين كلّ أرض يقف عليها وذاكرته.

يجيبني عن سؤالي: “أين يقف اليوم؟” في حوار أجريته معه عام 2010، “يحلو لي أن أتصور أنني أبحث، كل هذا الوقت، عن قصيدتي المثالية، عن كتابتي المثالية، عن أرض استقر عليها. وأنا تقلبّت في بلدان ومدن عديدة ولم أعرف الاستقرار النهائي رغم أنني أقيم في لندن منذ عشرين سنة. لكني بقيت أشعر، في داخلي، إنها إقامة مؤقتة. وأنني بانتظار عودة ما، أو الوصول إلى أرض ما”.

لن تكون تلك الوقائع التي نسجت سيرته المختلفة مسرح كتابة الوحيد، رغم ارتباطه الوثيق بجميع الأمكنة التي أقام بها وأصدقائه ومن عرفهم على الطريق والذي يحضرون على الدوام في نصوصه وبعضهم لأكثر من مرّة، سنشهد بعد ذلك تمعنّاً وتفكّراً وتأمّلاً أعمق بالحاضر أيضاً “بوجوهه المتجهمة، بصعوبة فهمه، بمحاولة ربطه بصيرورة ما”، على حد قوله.

في التسعينيات، سيكتب صاحب “وصول الغرباء” (1990) مقالات منتظمة في الصحافة لن يمّر واحد منها دون تسجيل انحياز أو موقف ما يعبّر عنه متخلّصاً من عبء الأيديولوجيا وقيودها، حيث يطرح فيها تساؤلاته الحرجة حول تاريخ عاشه أو حدث لا يزال أثره حاضراً، مستعيناً بما يملك من تجربة ومعرفة واطلاع ودون تنازل عن أسلوبية كتابية تغرف من الشعر والأدب.

بالحساسية ذاتها، يخوض أمجد ناصر في الفترة ذاتها تجارب سردية بين السيرة الذاتية وشهادات عن الواقع والشعر والناس، ومثّلت أيضاً نزوعاً نحو السجال الذي يفرضه استعادة أحداث أو معايشات مضت، وإن لم يحّفز غالباً روحاً سجالية لدى من يهمّه الأمر، كما في كتابيه “خبط الأجنحة” (1994)، و”طريق الشعر والسفر” (2008).

لن يتوقّف صاحب “سرّ من رآكِ” (1994) عن إعادة تشكيل ما أسماه في إحدى قصائده “حطام الوصف” لكن خارج الشعر، فلم يكتف بإصدار عدّة مؤلفات في أدب الرحلات إذ نشر روايتيْن: “حيث لا تسقط الأمطار” (2010) و”هنا الوردة” (2016) يذهب في كليهما نحو فانتازيا غير متوقعة في محاولة لاستيعاب واقع غير مفهوم.

اليوم، نتتبع تطواف أمجد ناصر منذ خروجه من عمّان قبل اثنين وأربعين عاماً إلى محطّات عديدة محتفظاً برائحة المكان الأول، الذي عاد إليه مؤخراً، وأثره ومقلّباً هزائم عربية متتالية في قدرية لا تخصّ أحداً سواه.

ثمار إستوائية/ سعدي يوسف

في أوائل الثمانينيات، أحسستُ بأني أردُّ لأمجد بعضَ فضلٍ، حين حملتُ له، من هند في بيروت، رسالةً وأشياءَ أخرى، وسلّمتُها له، وهو في عدن بالمدرسة العليا للاشتراكية العلمية…

المدرسةِ التي فرَّ بجِلْدِهِ، وجَلَدِهِ، منها!.

لَكأنّ العقودَ الثلاثةَ التي تمدّدَ عليها شِعرُ أمجد ناصر، هي عقود الامتحان القاسي المديد، إذ جرت مياهٌ كثيرةٌ تحت جسورٍ كثيرة، وانهدمت جسورٌ وقلاعٌ، وزالت ديارٌ، وفُتِحتْ أبوابٌ، وغُلِّقَتْ أخرى…

في هذه العقود، تساوى الغثُّ والسمينُ. والمعرَبُ والمعجَم. والناطقُ بالضادِ وغيرُ الناطق. تساوى محررُ الصفحة والشاعر. الأبيضُ والأسودُ.

وثارتْ عواصفُ كبرى في الفنجان.

المعاركُ الشعرية التي حُسِمتْ في أوروبا وأميركا، منذ قرنَينِ، ثارَ نَقعُها، وخفقتْ بيارقُها عندنا، أمارةً على موقعنا الفعليّ من التاريخ الثقافيّ والشعريّ. لقد كان المشهدُ مؤلماً، وما يزال.

البابُ الوسيعُ الذي كان بإمكان قصيدة النثر أن تفتحه أمام تطور النصّ الشعريّ العربي، انهدَمَ تحتَ سيلٍ عَرِمٍ من تفاهةِ المُسَطَّرِ المجّانيّ، غيرِ ذي العلاقةِ بالحياة وأشيائها، واللغةِ وأفيائِها…

لقد كانت عقوداً للتخلّف العامّ في أمّةٍ تُدفَعُ خارجَ التاريخِ دفعاً.

أين أمجد ناصر من هذا كله؟

أعتقدُ أن الرجل زوى نفسَه عن المشهدِ الفاجع بمجانيةِ الدعوى والمعترَك، وظلَّ يطوِّرُ رؤيتَه وأداتَه، مستقلاًّ بنفسِه، لا يرفع بيرقاً، ولا ينضوي تحت بيرقٍ.

مُقامُه بأرض لندنَ، منحه مسافةً كافيةً وضروريةً، للنظر من بعيدٍ، ولتطويرِ النظر إلى الداخل.

صار يطلّ بموضوعيةٍ على ميراث الشعر في العالَمِ، ويقارِن بين ما نفعله وما يفعله الآخرون من شعراء الأمم الأخرى، معتمِداً مدخلَه الخاصّ والخصوصيّ إلى ما نفعله وما يفعله الآخر.

الفنُّ تعَلُّمٌ دائمٌ، مثل ما هو سفرٌ دائمٌ.

وظلَّ أمجد ناصر يتعلّم.

وبينما شُغِلَ كثيرون ببناء أبراجٍ من الملحِ، ظلَّ الرجل يشتغل بأناةٍ على بناء نصِّه الصعبِ والمختلف.

ونعود، من جديدٍ، إلى مديح لمقهىً آخر، كي نرصد، عبر العقود الثلاثةِ، التحديقَ وقد أضحى أشدَّ شجاعةً، والنتوءاتِ وقد أمست أكثرَ حِدّةً حتى لتكاد تجرح من يلمسُها، والثقةَ بالنفسِ وقد برّرتْ حالَها تبريراً مؤصَّلاً.

يا يحيى.

لن تعرفَ نفسُكَ الراحةَ.

نبوءةُ الأمّ، تكتسبُ معنىً وعُمقاً غيرَ عاديّينِ.

وسيظل أمجد ناصر تحت الظل العجيب لهذه النبوءة. الظل الذي يتنزَّلُ قصائدَ مثل غصون مثقلة بالثمار.

الشَّاعرُ المُشرَّدُ في ألفاظه/ عبدالدائم السلامي

في تقديم كتاب (مملكة آدم) لاحظ الناقد صبحي حديدي أنّ شِعرَ أمجد ناصر “لا يُقرأ فقط، بل يُبصَرُ عِيانيًّا ومسرحيّا وسينمائيّا، بل ويُسمع أيضًا”، وهي ملاحظةٌ وجيهةٌ تُحيلُ إلى تلك المشهديّةِ التي تستشري في نصوص هذا الشاعر مانحةً إيّاها أُفُقًا حكائيًّا تَتَخلَّق فيه المعاني وتتأصَّلُ كياناتُها. فأنْ نقرأَ جملةً من شعر أمجد ناصر فذاك يعني أن نسمع حكايتَها ونرى معناها وهو يَبْرِي أطرافَه، ويَحْتَدُّ، ويَلْمَعُ، ويتأهّبُ، ويُقارِعُ كلَّ شيءٍ من حولنا: يُقارِع نِظاميةَ معنى العالَم.

إنّ قصيدةَ أمجد ناصر مُغَامِرةٌ، رَحَّالةٌ وحَكَّاءةٌ لمغامَرتِها في الآن ذاته، إنها قصيدتان في قصيدةٍ واحدةٍ: قصيدةٌ تَحكي مُغَامرةَ الشِّعر في اللغة صُوَرًا وأساليبَ وقصيدةٌ تُسمِعُنا صهيلَ تلك المغامرة فينا وفي الواقعِ رُؤى وقِيَمًا، وعلى مدار هاتين المغامرتيْن تتقاطع حكايةُ نَصِّ أمجد ناصر مع حكايته هو ذاتُه، وهما حكايتان تَحْضُران في دواوينه بغنائيّة ممزوجةٍ بهاجس ضرورةِ الاختلافِ في اللّغة وفي المكانِ.

فأمّا من جهة حكاية النصِّ الناصريِّ، فيبدو جليًّا أنّ بطلَها هو الشّْعْرُ نفسُه وهو يُغامِرُ بكيانِه في حربٍ مع موروث النَّظْمِ العربيِّ ومع وظائفه الجمالية والحضاريّة؛ ذلك أنه لمّا صرنا “نشقى لأنّ القصائد لا تُطفئُ الأسئلة، ونشقى لأنّ القصائد لا تبلغ المرحلة” (مديح لمقهى آخر)، وحيث يستمرّ سؤالُ “أيّ شِعْرٍ إذن سيُعيد لنا لسعةَ مياهِ الفجر في حقول الشمال”؟ (منذ جلعاد كان يصعد الجبل)، فلا بدّ للقصيدة إذن من أن تثورَ على موروث النَّظْم، وأن تعزف عن الاحتفاء بترهُّل البلاغة فيها، إذْ “كيف أكتب قصيدتي وأنا لا أملك إلاّ حطامَ الوصف؟” (رعاة العزلة)، ولا بدّ لها من أن تُعلِنَ رغبتَها في أن يصفو جسدُها اللغويُّ من الهَذرِ والثرثرة: “أريد أن أُنَظِّفَ الأوراقَ من هراء القصيدة وعبث التداعيات” (رعاة العزلة) خاصّة بعد أن تأكّد عَجْزُ بِنْيةِ القصيدة القديمة عن أنْ تمنحها القدرة على النهوض بوظيفتِها الحضاريّة وظلّت فيها “القوافي التي كَوْكَبت النّدى على رُكَبِ العذارى صامتة في الكتب” (مُرتقى الأنفاس).

وجرّاء ذلك كان وَكْدُ قصائد أمجد ناصر أن تبحثَ عن بلاغتِها الجديدةِ: بلاغةِ مادّةِ شكلها وبلاغةِ مادّةِ مضمونها، فإذا هي في دواوينه “لغتنا من الآن فصاعدًا، لنبدأها إذن دون استعارات أو تهويل، ولننظُرْ إلى الأشياء الحيّة بيننا، بكثرة من التبجيل” (مديح لمقهى آخر). وإذْ تفعل القصيدةُ النّاصريّةُ ذلك تكشف لقارئها عمّا لم يُسْعِفْه بصرُه برؤيته من كَدَرِ معيشِه، كأنْ يعرفَ مثلاً “كيف هلك هؤلاء الذين لم يكونوا على موعِدٍ مع الموت، لكنّهم وجدوا أنفسَهم في طريقه المرصَّعِ بالجماجم، فساقهم كقَدَرٍ عابثٍ أمامَه” (مملكة آدم).

وأمّا من جهة حكاية الشّاعر، فالمؤكَّدُ هو أنّ أمجد ناصر قد خَبَرَ المدائنَ وعَرَكَتْه أزمنتُها منذ رحيله الباكر عن الأردنّ، فلا تراه العينُ إلاّ “وهو يدخل في العواصم، وهو يخرج منها، ناحلاً ومُبْتلاًّ كريش الحَمَام، هائمًا كنَبِيٍّ، وحيدًا كذِئْبِ الفرزدق؟” (رعاة العزلة). فالمكانُ في قصيدته فمٌ جائعٌ يأكل الأحلامَ والأجسادَ واللغةَ بشراهةٍ، والشاعرُ فيه مشّاءٌ تذروه الرياحُ من حيرة النّعمان إلى مقاهي لندن، مرورًا بعَمّان وبيروت ونيقوسيا.

يمشي ويُسمعنا قولَه: “طاردتني قصيدة المدينة كنبوءة أشدّ شؤمًا من نبوءة أمّي عن نفسي التي لن تعرف الراحة مهما طال الزمان وبدّلت الأماكنُ وجوهَها” (حياة كسَرْدٍ متقطّع). وهي نبوءة جعلته “قليلاً ما يُقيم في الوضوحِ”، فإذا هو في أُفُقِ تأويلِها “مُشَرَّدٌ في الألفاظِ” (رعاة العزلة) تشريدًا هو من رحلة الشِّعْرِ ورحلةِ الشاعرِ معًا كَوْنُ إبداعٍ، وموكِبُ جَمالٍ، وقُوّةُ هشاشةِ الكائن الذي لا يملك من قَدَرِه إلاّ أنْ يحملَ جسدَه وفِكرَه ويُسافِرَ بهما باستمرارٍ.

أمجد ناصر.. رسول السوريين/ خضر الآغـا

على غرار دانتي في “الكوميديا الإلهية” والمعري في “رسالة الغفران” يدخل أمجد ناصر الجحيم في طبقاته السبع، إنما ليس ميتاً كشعراء المعري، بل حيِّ، “كنت بلا نفس تقريباً”. ليس من عادات الجحيم أن يستقبل الأحياء، وليس من عاداته أن يعيدهم من حيث أتوا “فمن يصل إلى هنا لا يعود”. فكيف وصل إذاً إلى مكان الميتين، إلى المكان الذي يُحاسب فيه الميتون على أفعالهم في الحياة؟ يقول أمجد ناصر:

“لا أعرفُ كيف ومتى وصلتُ إلى حيثُ لا يصلُ الأنصارُ أو الشُّهُودُ.

جاءتْ عرباتٌ تجرُّهَا كائناتٌ، نصفُها بشريٌّ ونصفُها حمارٌ وحشيٌّ.

رموني مع الذين قضوا نحبَهُم…“

ثم يصف الواصلين إلى هذا المكان:

“هذه الوُجُوهُ أقنعةٌ لمخلوقاتٍ أخرى، لا تشُبهُنَا، شُقَّهَا كي ترى الأسلاكَ والوشائعَ تنقلُ رسائلَ البلطةِ، والبراميلَ التي تسَّاقطُ على الرُّؤُوسِ كالمَطَر الذي أرسلَهُ الله إلى أُممٍ أخرى. لا ينبغي أن أُجدِّفَ أنا الذي ينتظرُ في طوابيرِ الواقفينَ أمامَ الأرشيفِ السَّماويِّ مع موتى لا أسماءَ لهم. أو لهم أسماءٌ لا تعني شيئًا في هذه الدياميس”.

وإذ إنه وصل حياً، فقد سأله مسؤولو الجحيم: من أنت:

“سألُوا مَنْ أنا؟ نسيتُ، بالضبطِ، مَنْ أكون، فقلتُ لهم: رسولٌ! جفلُوا. ليست هيئتي لرسولٍ ولا

يُرمَى الرُّسلُ، كيفما اتّفق، في عرباتِ الموتى. تغيّرتْ ملامحُهُم، فقلتُ لهم:

لستُ رسولاً إلهيًا، فلا أقوى على ذلك، ولكنْ، بما أنني وصلتُ إلى

هنا، ولم يفعلْ ذلك حَيٌّ قبلي، ربّما شاعران، أحدها يُسمّى المعرِّيُّ،

والثاني يُدعى دانتي، فأنا رسولُ الذين ظلّوا في بلاد البراميلِ والسارينَ في

مملكةِ آدم التي ترون من مرتفعاتِكم البعيدةِ هذه اللهبَ الذي يتصاعدُ من

أطرافِها، والدخانَ الذي يلفُّها، والروائحَ التي تزكمُ الأنوفَ (ألا تشمّونها؟)“.

لقد ذهب أمجد ناصر في تلك الرحلة الخطيرة، وتجشم عبء الوقوف بين موتى في الجحيم، موتى سوف يتم تعذيبهم، ومن هناك، قال إنه “مثل موسى لن أبرح مكاني هذا الذي لا أعرف أين هو حتى أراه…“ ليشرح له ماذا يحدث في “مملكة آدم” (عنوان الكتاب). وعبر كل تلك الإشارات الواضحة نعرف أن مملكة آدم هي سوريا، وأنه فعل كل ذلك لينقل عذابات السوريين، خاصة أولئك الذين قام “الرجل/ الزرافة”، كما يسميه، بضربهم بالكيماوي. على هذا فهو رسول السوريين.

في بدايات الثورة السورية، وكان ثمة بعض المراسلات بيني وبين أمجد ناصر، كتبت له: “إنك تحمل سوريا على ظهرك كالحدبة”. خلال أشهر الثورة الأولى، وربما خلال السنة الأولى لم يتوقف عن نقل وتحليل مجريات الثورة وعن التعريف بالسوريين وبهمجية النظام، إن كان عبر مقابلات تلفزيونية، أو كتابة مقالات صحفية، وعبر كل ما هو متاح. كان متدخلاً كما ينبغي لشاعر صاحب قضية، وقد كانت سوريا قضيته مثل الأردن (بلده) ومثل فلسطين، بل كانت، خلال الثورة، قضيته الأولى.

اليوم، بعد ثماني سنوات، يصدر ديوانه “مملكة آدم” ككتاب توثيقي للروح السورية التي تطوف في الأعالي والأرجاء محمولة على ذاتها، وعلى نص أمجد ناصر البهي. في هذا النص كان وفياً لأسلوبه التعبيري، وكان متخطياً إياه بالوقت نفسه. هنا دخل كرجل غاضب غير معني بالشعر، ولا بالنثر، ولا بالكتابة… كان رسولاً يريد الإبلاغ، والعتب، والتأنيب، والشرح… وبالوقت ذاته كان معنياً بذلك كله، فتوثيق العذاب وتوثيق موت من لا يريد الموت، من داهمه الموت وهو نائم، وهو ببيجامة البيت، توثيق رائحة الموت يختلف عن التوثيق بالمعنى الذي تحيل إليه المفردة، وهذا يتطلب انتباهاً يقظاً على الأسلوب، وعلى تخطيه. هنا، لم يضع الشاعر حدوداً للشعر، ولا حدوداً للنثر. يبدو وكأنه يحيل إلى مفهوم الكتابة بلا حدود، بلا أطر مسبقة، الكتابة وكأنها شيء يشبه العشب إذ يطفح. كتابة عشبية إذاً.

انشغال أمجد ناصر النبيل بالشأن السوري كان تفكيكاً لمقولة استبدادية مشى عليها، بوعي أو بدونه، الكثير من الشعراء وهي أنه على الشاعر أن يكتب دون أن ينغمس بالواقع الملوّث، حيث إن مكان الشاعر هناك، في الأعالي، أما الناس فلهم الله! ولهم من يعبر عنهم غير الشاعر… في غمرة تنقله في طبقات الجحيم يسأل أحد الشعراء الذين يتعرضون للتعذيب: „وماذا عن الأرض؟” فيجيب الشاعر: „يرثها عبادنا الصالحين”. لقد أعاد ناصر الحقيقة إلى مكانها ورمى تلك المقولة في طبقات الجحيم الأشد إيلاماً.

كذلك فكك مقولة أخرى وهي أنه ثمة فصلاً بين الشاعر وبين النص. فالشاعر يُسأل عن نصه لا عن فعله، أو موقفه. وهي المقولة التي يتمسك بها كل الشعراء والكتّاب الذين يبيحون لأنفسهم الموبقات بما فيها الانحياز للمستبد، تحت مقولة: أنا، فقط، نصي. ولطالما أساء هؤلاء لمفهوم الشعر ولمفهوم الثقافة عندما صمتوا عن مجازر المستبد ونظام الهمج و”مشوا على حل شعرهم” تحت تلك المقولة نفسها. بينما أمجد ناصر وضع في مطهره الجحيمي الشاعر كنص وكشخص بلا فصل ولا مقولات استعلائية اعتادت عليها ثقافة الحداثة بنسختها العربية. يقول:

“ولكنْ، هل يُحشَر الشعراءُ في الجحيمِ؟

يُحشَرون. ثمّةَ عددٌ منهُم هنا.

أَيُحشرونَ في الجحيمِ بسببِ شِعْرِهِم؟ أم أفعالِهِم؟

بسببِ هذا وذاك“.

وكنوع من تأكيد الانتماء الذي يتوجب على الشاعر، يرى، في هذا المطهر الجحيمي الملتهب، شعراء يعرفهم، فيسأل أحدهم:

“قلتُ له:

كيف يمكنُ أن تكونَ هنا؟ فماذا اقترفتَ ممّ لا نعرفُ؟

يقولون: كنتُ أرتدي ثيابًا أنيقةً، وشعبيَ فقيرٌ“.

***

منذ زمن بعيد لم أومن بإسباغ صفات برومثيوسية على الشعر، ولا تغييرية، ولست مقتنعاً بما يروجه الشعراء عن أنفسهم أنهم أنبياء، ولا على الشعر أنه يحمل نزعات نبوية، فالتاريخ يسير بمعزل عن رغبات الشعراء وعن كتاباتهم، إلا أن أمجد ناصر، وفي الطبقة السابعة من الجحيم، أشد الطبقات استعاراً، حيث تخصص لتعذيب أكثر الناس إجراماً يرى “الرجل /الزرافة” في إشارة واضحة إلى رئيس نظام الهمج السوري بشار الأسد ويقول:

“لم يكنْ عذابُ هؤلاء شيئًا أمامَ عذابِ الرجلِ/ الزرافةِ، فقد كان الزّبانيةُ

يجزُّون رأسَهُ، ويتقاذَفونَهُ من وادي الأفاعي إلى وادي العقاربِ، ثمّ ينبتُ

له رأسٌ جديدٌ، فيعيدُون جَزَّهُ وتقاذُفَهُ بلا توقُّف.“.

فلو كانت هذه نبوءة فأنا أصدقها.

رسل الآلام، عبر الزمن، أوصلوا رسالتهم. كان ذلك عبر مكابدة ومخاطرة وإصرار، وحيث أن أمجد ناصر كابد وخاطر وأصر لايصال رسالة الألم السوري الفريد، فقد وصلت أيضاً. لا بد أنها وصلت.

العربي الجديد

قناع المحارب… يوميات مريض بالسرطان/ أمجد ناصر

راية بيضاء

في آخر زيارة الى طبيبي في مستشفى تشرينغ كروس في لندن. كانت صور الرنين المغناطيسي عنده. من علامات وجهه شعرت بنذير سوء. قال من دون تأخير: الصور الأخيرة لدماغك أظهرت للأسف تقدماً للورم وليس حداً له أو احتواء، كما كنا نأمل من العلاج المزدوج الكيمو والإشعاعي.

كان مساعده دكتور سليم ينظر إلى وجهي وفي عيني مباشرة، ربما ليعرف رد فعلي.

قلت: ماذا يعني ذلك؟

قال: يعني أن العلاج فشل في وجه الورم.

قلت: والآن ماذا سنفعل؟

رد: بالنسبة للعلاج، لاشيء. لقد جربنا ما هو متوافر لدينا.

وفي ما يخصني ماذا علي أن أفعل؟

قال: أن ترتب أوضاعك. وتكتب وصيتك!

قلت: هذا يعني نهاية المطاف بالنسبة لي.

رد: للأسف.. سنحاول أن تكون أيامك الأخيرة أقل ألماً. ولكننا لا نستطيع أن نفعل أكثر.

قبل أن أغادره قال: هذه آخر مرة تأتي فيها إلى عيادتي. سنحولك إلى الهوسبيس.

وكانت آخر مرة سمعت فيها هذه الكلمة عندما دخلت صديقة عراقية أصيبت بالسرطان في المرحلة النهائية. يبدو أن الهوسبيس مرفق للمحتضرين أو من هم على وشك ذلك.

قلت له: لدي أكثر من كتاب أعمل عليه، وأريد أن أعرف الوقت.

حدد وقتاً قصيراً لكنه أضاف هذا ليس حساباً رياضياً أو رياضيات. فلا تتوقف عنده.

■ ■ ■

عدو شخصي

ليس لي أعداء شخصيون

هناك نجم لا يزفُّ لي خبراً جيداً،

وليلٌ مسكون بنوايا لا أعرفها.

أمرُّ بشارعٍ مريبٍ وأرى عيوناً تلمع

وأيدٍ تتحسس معدناً بارداً،

لكن هؤلاء ليسوا أعداء شخصيين،

فكيف لجبلٍ

أو دربً مهجورٍ أن يناصباني العداء،

أو يتسللا إلى بيت العائلة؟

أيها الشيء القاتم الذي أخذ أمي وحبيبتي الأولى

والأنفاس التي رفعت عليها مداميك حياتي إلى الجانب الآخر من التراب

ما أنت؟

ما مشكلتك معي

إن كنت رجلاً أخرج إليَّ من مكمنك

تعال نلتقي في أي جبَّانة تريد

وجهاً لوجةٍ

لسوف ألقنك مواثيق الرجال

كما لقنتني إياها الصحراء والغدران الجافَّة

أرني وجهك قبل أن تنتضي قناعك الذي تسمّيه عقاباً إلهيا

فأنا لي آلهتي أيضاً لكني لن أدعوها لنزال الوجوه السافرة

إن كان لك دين عندي

أو مشكلة شخصية كأن أكون خطفت هيلين الشقراء من حضنك

ومرغت شرفك في الوحل

مع أني لا أذكر شيئاً كهذا

لا تستد دينك من الذين يمرون في هذه الدنيا

كما تمر أنفاس الرعاة في قصب الناي..

■ ■ ■

روح حرَّة

(إلى هند)

أيَتها الروح الحُرَّة.

لم تنطفىئ شعلتك رغم الريح التي تهبَ في غير موعودها،

رغم الأيام الجافة

الأيام الماطرة

النجوم التي صارت صخوراً بعدما هجرتها الأغاني

وهذه الليالي المرسومة بالفحم

كيف كانت ستدلني على الطريق.

زرعنا زيتونةً فأثمرت.

شتلة عنب فغطًت سياج الجارة التي لم تعرف

كيف نصنع من أوراقها الخضر طعاماً وخارطة

يدُكِ تقلب التراب فتعثر على دودة

تعيدها إلى مكانها،

شذرة ذهب فتطمرها

لعلها علامة الغريب الباحث عن كنز أجداده الذين مروا من هنا.

كنزك لا يلمع. بل يطلع من غصن يابس، وجذرٍ ذاوٍ.

ها نحن نرفع يداً فيرتد أربعون ظلاً على حائط الحمائم المطوَّقة

لم يعد، هنا، للكلام معنى إلا في رواسبه الغائرة

فقد أودع الأيدي سعفٌ كثير لأيام الأسبوع.

أيتها الروح الحرة

لا الأحمال هدَّتك

ولا طول الطريق.

الرحلة التي بدأت برقصة تحت نجم

لم تبلغ تلال الوعد السبعة بعد.

لم تكن لهذه الكلمات مناسبة. هكذا خطر في بالي حينها. إنها ليست أكثر من تحية لرفيقة رحلة شاقة. ولكن كلا، ففي ثناياها، في ما لم أره من وجوهها المحجوبة عني، حتئذ، تمدد شريط منالشاعر وزوجته هند الورم بين جسدين. عندما، لا تجد أي خيار، وربما بمحض اختيار حر، “تتبرع” ببضعة من لحمك (كلية) لتمشي خطوات أكثر مع رفيقة/ رفيق حياتك، قد يكون هذا أقصى ما بوسعك عمله، ثم تظن أنك قدمت، أخيراً، “هديتك”/ أو ربما “أضحيتك”. تُقبل “الأضحية” وتقوم بعملها على أفضل وجه.. إلى حين، لكنه حينٌ طويل بعض الشيء (ست سنين)، إلى أن “تتسرطن”، وتفشل.. ثم يصار إلى استئصالها ورميها في مختبر ما لمزيد من “الدراسة” والتحليل.

■ ■ ■

كان صيف لندن العام الماضي “هندياً” كما يقولون، هنا، عن الطقس الحار. يبدو أنني غفوت على أريكة في صالون منزلي. فكَّرت أنني أحلم: كان حولي ابني وابنتي وأخي، وكل منهم يقيم في بلد، تأكدت أنهم موجودون فعلا، فهم يتحدثون، وهذه أصواتهم التي أعرفها. وهذه يد ابنتي تمسح العرق الذي بلل رأسي وعنقي بمنشفة.

مع ذلك أظنني سألت باستفهام، أو استنكار، (لست متأكداً): لِمَ أنتم هنا؟ لأنك لست على ما يرام. كان رأسي خالياً من أي صورة. ذهني مشوَّش، ولكن بلا تفاصيل. أخبروني بما جرى:

كنت أنزل من سيارة أجرة أمام بيتي، ثم سقطت على الأرض. لكن لِمَ كنت أستقل سيارة أجرة وأنا لدي سيارة؟ يبدو أنني كنت عائداً من المركز الصحي المحلي بسبب صداع “زائد” عن الحد أصابني في الأيام الماضية. صداع غير ذلك الذي تعايشت معه طويلا. حتى مع هذا التسلسل للأحداث، المسرود علي، ظلت هناك ثغرة لم تردم.

في يدي سوار بلاستيكي عليه اسمي ورقمي الطبي، وتاريخ يشير إلى يومين سابقين. ما هذا؟ سوار كهذا لا يضع في اليد إلا إذا نمت في مستشفى. هناك خور في جسدي. داخلي فارغ. إحساس بتخدير قوي. تذكرت ليلة طويلة في جناح الطوارئ. كنت هناك. كان لدي ألم لا يطاق في خاصرتي اليمنى. صداع شديد. سمعت كلمة مورفين. كأني قلت لهم: كلا. ولكنهم لم يسمعوني. أو لم يتوقفوا عند اعتراضي. ألم كهذا لا يعالج إلا بالمورفين. هناك تقرير صغير يقول: احتمال حصى في الكلية! لم تكن هناك صور شعاعية للجسم، الرأس خصوصاً.

جاءت سيارة الأسعاف التي أقلتني إلى مستشفى تشيرنغ كروس، ذائعة الصيت، وليس مستشفى منطقتنا، في غرب لندن. في الأثناء قام الطاقم الطبي بفحصى. ركزوا على يديّ وقدميّ. عيني. طلبوا مني رفع يدي إلى الأعلى. خصوصا الجانب الأيسر. الشاعر وابنته يارا

هؤلاء يحملون أجهزة متكاملة. يصلون إلى نتائج سريعة ويقررون طبيعة المستشفى التي يتوجهون إليها. كنت وحدي. هذا ما أظنه. لا أحد من عائلتي معي. أين هم؟ زوجتي في المستشفى. مستشفى آخر. سرير آخر. بجانبه كرسي لزائر. الفشل الكلوي يعود بعد سنين من العمل “الجيد” لكلية “سليمة”. لكن هذه الكلية السلمية يتسلل إليها الورم السرطاني. جاء هذا من جسد لم يكن يعاني أوراماً، ولا حتى في الخيال!!

فهمت من الطاقم الطبي أن الأمر قد يتعلق بجلطة دماغية. السرير يدفع في الباب الرئسي لمستشفى تشيرنغ كروس. إلى الطابق الحادي عشر (أم لعله العاشر؟). تظهر اللافتات تشير إلى الجراحات الدماغية. بلا إبطاء إلى تصوير المقطعي. لا تتأخر الصور في الظهور.

أنا في السرير. يسألني الطبيب الذي يقدم لي نفسه: دكتور خان. أسئلة ستكرر لاحقا، بلا توقف تقريبا. يعود الجسد إلى اسم وتاريخ ميلاد ينبغي أن ينضبطا في ملف طبي. جاء طبيب شاب يدعى علي: مصري. يتحدثان. الصور تظهر شيئاً آخر. كلا، لم تكن جلطة دماغية. شعرت أن دكتور خان يتهيأ لرمي قنبلة. سألني إن كنت أفضل وجود فرد من العائلة. قلت له مازحاً، كأنك تمهد الأرض لرمي قنبلة؟ ضحكّ. قلت له: ارمها:

الصور تظهر، للأسف، ورماً في الدماغ.

ماذا؟

ورم في المنطقة اليمنى من الدماغ، ها هي الصورة. أرى الصورة. وردة متوحشة. شكل هندسي نابض. يسميه دكتور خان: كتلة. MASS

صمتُّ. لم أكن أتوقع خبراً كهذا. ربما أي شيء آخر.

ينتقل، فوراً، الى ما هو عملي: سنبدأ علاجاً بالسترويد لتخفيف ضغط الكتلة على الجوانب الأخرى من الدماغ، ووقف الصداع.

من بين كل كتل الدنيا، خطرت في بالي لحظتها القصيدة التي سميتها: قصيدة الكتلة. بلوك. أردت أن أفهم من الطبيب المصري (المساعد) المزيد بعد انصراف خان. لم أجده. كنت رأيته يدخل مكتباً قريباً للأطباء. نزلت من السرير. مشيت في ممر كان يعج بالممرضات والممرضين وعاملي النظافة وصار الآن، شبه فارغ.

رحت أغني أغنية مصرية: أنت فين يا علي أمك بدور عليك!

الليل، لا نوم

بقيت وحدي. عدت من رحلة الممر العبثية الى السرير. الليل لا يزال “شاباً” على حد التعبير الإنكليزي.

شظايا القنبلة تتحرك.

كتلة..

ورم..

لو لم أقع على الأرض ما عرفت بالتشكّل السريّ لهذه الكتلة، هذا الورم..

لقد كنت قبل ساعات فقط من “الأصحاء”، وها أنا في قسم خاص بالأوارم الدماغية في مستشفى كنت أرافق إليه زوجتي، المريضة بالفشل الكلوي، من أجل “غسيل” الكلى ثلاث مرات في الأسبوع، ولم أتخيل نفسي مريضاً في أحد أقسامه، بل لعله أكثرها إثارة للخواطر السيئة.

لم يطلع النهار بسهولة. يبدو أن الليل كان في أوله. منتصفه. لا أدري. أنا الآن في وضع غير الذي كنت فيه (ولم أكن أعرفه) قبل ساعات. قبل يوم. قبل أيام. شعرت برغبة شديدة بالتدخين. معي علبة سجائر. رغم أني توقفت عن التدخين ست سنين.

طلبت من الممرضة المسؤولة عن الجناح أن تسمح لي بالنزول إلى الطابق الأرضي لتدخين سيجارة. رفضت. ألححت. فوافقت. أرسلت معي ممرضة وكرسياً متحركاً. كان هناك مرضى غيري يدخنون. لا تزال هناك حركة في شارع فولهم بلاس الذي تقع على جانبه المستشفى، أقف بالقرب من كتلة هنري مور. من تمثاليه المتكئين الى بعضهما البعض في مدخل المستشفى.

■ ■ ■

كتلة هنري مور

هذا ليس النصب الأصلي. بل هو نموذج مصغر من العمل الضخم الذي نفذه هنري مور بطلب من مركز لنكولن للفنون في منهاتن/ نيويورك. هناك يبسط عمل مور سيطرته على الفضاء/ طالعاً من بركة ماء. لا يختلف النصب الصغير في مدخل مستشفى تشارينغ كروس من حيث علاقته بالماء، عن الموجود في مدخل مركز لنكولن للفنون في منهاتن، الفارق يكمن طبعا بالحجم.

هنا في مدخل المستشفى يطلع النصب من بركة ماء صغيرة مخضوضرة تنعكس عليها صورة الكتلتين المتكئتين على الماء. ذكَّرني ذلك بآية قرآنية تقول: وكان عرشه على الماء. المقصود هنا عرش الله. قطعاً لم يكن ذلك في ذهن هنري مور وهو يصنع نصبه البرونزي. بيد أن هذا يمكن أن يدور في خلد واحد له مرجعيات ثقافية مثل مرجعياتي. ثم أن صلة النصب والتماثيل، عموماً، بالمقدس تبرر الخاطر الذي راودني.الشاعر وابنه أنس

مؤكد أن النصب الحديثة انقطعت عن منشأها الأول، عن وظيفتها الأولى، كرموز، أو تجسيد للتصورات البشرية في خصوص الآلهة، لكن من يستطيع منع المقدس من الحضور في النصب والتماثيل؟ لقد رأى المثالون الحديثون النصب والتماثيل الطالعة من فكرة المقدس ودرسوها في الأكاديميات التي تخرجوا فيها. وفي هذا الطور من عمله الفني تخلى هنري مور عن النماذج والموديلات التي كانت تمهد للعمل الفني وصار يعمل مباشرة، بلا موديل مسبق، على المادة نفسها سواء كانت برونزاً أم حجراً، التي يجب، حسب قوله، احترامها فهي لها “حياتها المكثفة الخاصة بها”، والتي يتعين عليه، كفنان، إفساح المجال لها في الظهور.

وجدت في “كتلة” هنري مور حليفاً لي في ليل الأرق الذي كنت أتسلل فيه من جناح المصابين بالأورام مثلي، إلى البركة التي يتكئ إليها نصفا تمثال هنري مور.. هناك من “تسللوا”، مثلي أيضاً، من أقسام المستشفى المختلفة. بعضهم للتدخين، كما صرت أفعل، بلا هوادة، آخرون لتناول طعام غير ما يقرره علينا مطبخ المستشفى..

■ ■ ■

دخنت أربع سجائر متعاقبة. ظمأ؟ انتقام؟.. هذا الرجل الذي يشعل سيجارة من عقب أخرى ليس أنا. هذا هو الرجل المريض. إني أرى انعكاس هيكله البشري في بركة الماء المخضرة التي تنتصب فيها كتلة هنري مور. يرتدي مريولا تقطعه مربعات زرقاء وخضراء صغيرة. هذا زي المستشفى. في رسغه الأيمن سوار بلاستيكي عليه اسمه (أحد أسمائه!) ورقمه الصحي وتاريخ دخوله إلى المستشفى، يدخّن. ولكنه لا يفكّر. لا فكرة تخطر في باله سوى أن هذا الرجل الذي يتراقص ظله في البركة مريض، وأنه ليس هو بالضبط، وأنه لا يعرف ما الذي جرى له، بالضبط، وأنه ليس مسؤولًا عن ذلك. ولكن، مع هذا كله، عليه أن يعتاد وجوده. الأفضل، طبعاً، أن يفهمه ويتسامح معه. قد لا يكون الذنب ذنبه.

طلبتُ من الممرضة أن تعيدني إلى السرير. أريد أن أنام. أعود إلى الجناح. صوت غطيط النوم يُسمع عالياً. ثمة من ينام هنا. ثمة من حط عليه ملاك النوم. لكن ليس أنا. الوقت لا يمر. الليل صامد. تخطر في بالي أفكار غريبة بل أخلاط أفكار وصور وكلام قديم. أفكر في نصي “حديث عادي عن السرطان”. أتذكر مسرحه. وسببه. شخص (صديق) أصيب بالسرطان. اثنان آخران يعرفانه. يتحدثان عن مرضه.

الحوار حول سرطان الصديق يبلور نبوءة عشوائية:

– الشخص الأول يقول إن أخاه توفي بالسرطان في الأربعين من عمره، فيقول الثاني إنه قرأ لا يدري أين أن المرء يموت كما يموت أهله، ثم يقول إن أمه صارعت السرطان مرتين آخرها كانت في أوائل الستينات من عمرها.

النتيجة التي يخلص إليها الشخص الثاني: أنت تجاوزت عمر أخيك، فيما لما تزل أمامي سنون أمي المكتنفة بالاحتمالات!

أفكر: لماذا أعدت نبشه؟ لماذا نشرته قبل فترة قصيرة جداً من إصابة زوجتي بسرطان في الكلية، وقبل أن تتكون فكرة، أو أضغاث فكرة، عن ورمي الدماغي في ذهن عابر، لا أعرفه ولا يعرفني، في القطب الشمالي؟

أغافل الممرضة المسؤولة. أنزل من السرير. هناك باب أوتوماتيكي يفتح على المصاعد. دقيقة وأكون أمام المصعد. أهبط إلى الطابق الأرضي. لا أحد. ولا حتى عمال النظافة. الفجر بعيد. وهذا الليل لا ينتهي. ليلة الكتلة المتمددة في الدماغ. أمشي في الطابق الأرضي الفارغ من الناس. هذا عادة خلية نحل بشرية في الصباح وصولا إلى الظهر. الكراسي مرفوعة على الطاولات. أخرج إلى ليل هنري مور. كتلته البرونزية. لا أحد. الماء ساكن. سيارات وشاحنات تمر بتقطع في الشارع. لطالما أثار شغفي أولئك الذين ينقلون، آخر الليل، مع الفجر، البضائع والمواد الاستهلاكية في شاحنات أو فانات صغيرة لتكون جاهزة للعرض والبيع ما أن تفتح الحوانيت أبوابها.

راقبت أكثر من فجر في الطابق السفلي في المستشفى عندما كان مزودو المقاهي والدكاكين بالحليب والعصائر والخبز والمعجنات والصحف والمجلات يضعون هذه الطلبيات أمام أبواب المحال المغلقة حتى الآن. لن يطول الوقت حتى يجيء أوائل العاملين في هذه المحال ليضعوا طلبياتهم في البرادات وعلى الأرفف.

■ ■ ■

كوميديا الاسم

في هذا المستشفى البابلي ينطقون اسمي حسب ألسنتهم، وربما حسب أسنانهم. مرة ينادونني يايا، مرة يهياي، وثالثة يهي. في الخارج لي أسماء أخرى تنتظرني لتواصل عملها الآلي على ما يبدو. من أنا؟ لا أعرف. سوى هذا الجسد المتعثر بأسمائه.

يدبُّ الاسم وحده على الطريق ويكرج.

الذين سموني ماتوا. تركوا لي هذا الاسم يتضخم في الدوائر والمعاملات، ويتكفل بمصيره.

ماذا في الاسم؟ سؤال قديم.

ما الاسم؟

لثغ مرح،

إيقاع يتجدد على كل شفة؟

أم رمل، ملح ثقيل يطهرون به كل ما يفسده اللسان؟

لا اسم فارغاً. إرمه سيرنُّ كحبة جوز صلبة.

لا اسم ملآن.

اكسر حبة الجوز هذه: فارغة.

إرم الاسم في أي أرض يصبح شجرة.

في أي رحم يصبح سلالة. لكنه يظل وحيدا مع ذلك.

من يحمل عبء الآخر: الاسم أم الجسد؟ هذه المرة عرفت أن الاسم سيد التخلي. ماذا يبقى من الاسم؟ جرح الولادة، ندبة الموت، لا شيء. تحت الاسم اسم. إكشطه سترى الترسبات الألفية للجفاف الذي استمر طويلا هنا. أسئلتي كانت أسهل عندما كان اسمي يمشي جانبي كرفيق غير مرغوب فيه. من منا المصاب بالورم، ويرزح تحت الكتلة؟ جسدي أم اسمي؟

■ ■ ■

يد/ قدم

أرقب أطرافي. يدي تتضخم. قدمي تصبح جذع شجرة. لم تكن هذه يدي ولا هذه قدمي. آخرون جاؤوا بسلالم قصيرة وسكنوني. يجتاحني الخارق. جسدي يدعوه في غفلة مني. أفكر أني إن نفضت رأسي ستتفت الكتلة وتتطاير شظايا. ألا يعتقد أولادي أني سوبر هيرو؟

تبقى مع ذلك هذه يدي. هذه الأخاديد العميقة في راحتي، خارطة ترحالي، خط العمر، ورقة عنب؟ أعجبني التعبير. فعلاً، كأنّ يدي ورقة عنب تخترقها خطوط وعلى وجهها شبكة من الشرايين والشعيرات والأنهار الصغيرة الجافة.

كان لأمي يد مثل يدي. كانت تموت تحت جناح السرطان. وكنت أحاول فهم الكلمة التي بادلَتَها بنفس أخير: نور. ربما المسمى نفسه. فقد هجرتها الأسماء. كنت أقول لها بوقفتي الطائعة أمام نظرة العين اليمنى، أنها لن تترك قمح يديها يتحلل.

■ ■ ■

رأيت أخواتي، في المنام، كن على برندة بيتنا في المفرق. كان الوقت مساء. كان هناك إبريق شاي وعدد كبير من الكاسات، لم يكن هناك ضيوف، أو أحد من أخواني. بجانب إبريق الشاي صحن صغير فيه أعواد نعنع. كن يعرفن “وضعي الصحي” بتفاصيله رغم أني لم أخبرهن. قلن لي: رأيناك تقع هنا بطولك كله في مدخل بيتنا في المفرق وليس في لندن. هل تذكر عندما دخلت عتبة البيت ووقعت على يديك ووجهك؟ قلت: أذكر، لكن ذلك حدث قبل أشهر، وكانت هناك درجة لم أنتبه إليها.

■ ■ ■

تحت رحمة الكتلة

ليس لجسدي اسم في هذه الممرات المقفرة. له حيز يشار اليه باليد.

رأيت علي في اليوم التالي. فكرت في أغنية الليلة التي تركت كلها لي بعدما انفض الجميع. ضحك عندما أخبرته أنني غنيتها. قال: لكنك لست أمي!

– ما هو المهم الان بالنسبة لي؟

المهم هو إزالة الورم. سيحدد مستر بيترسن وقت العملية. المزيد من الصور. ربما هذه المرة للجسد كله.

الصباح يدب بعجلاته وخفق مراييل ممرضيه وممرضاته. المرضى المحيطون أخذوا أدويتهم بحنجورات كرتونية بيضاء. هناك أداء أوتوماتيكي. هناك لغة مشتركة وخلفيات نسجت بينهم وطاقم القسم.الشاعر ووالده وابنه

واضح أنهم سبقوني إلى هنا. وصنعوا روتينا. أنا الآن أحدهم. شقيقهم في المرض، وربما في المحن التي لا أعرف عنها شيئا، لم أكن مريضا، ولم تكن لدي محنة سوى ورطة الوجود الإنساني نفسه. سوى أنك لغز، سوى أنك لا تعرف هذا اللغز الذي سيسفر لك عن وجه مقنع أيضا.

أنا الآن تحت رحمة الكتلة. هل استدعتها كلماتي؟ يا للسخف كيف أفكر بذلك؟ هل جاء وقت قصيدة حديث عادي عن السرطان. لتثبت لي مرة واحدة في حياتي أني كنت مصيباً، أن الشعراء قادرون على التنبؤ بمصائرهم؟ من يصدق ذلك؟ أنا أول المكذبين.

لاحظوا معي: هناك شخص صامد في هذا السرد الطالع من مناسبة رحيل صديق مشترك. الراحل. السارد. المسرود عليه. المسرود عليه كان قد نجا، بحسب السرد من آفة السرطان التي أصابت أخاه. لقد تجاوزه في العمر. السرد يقول إن الناس يموتون كما يموت أهلهم. كانت أمامي بضع سنين لأبلغ العمر الذي رحلت فيه أمي. أنا الآن في هذه السنين بالضبط.

■ ■ ■

أفكر أن مرضي يشبه حياتي. تطرف. لا توسط. مراودة الأقصى.

أنتظر العملية الجراحية. الورم في دماغي أنا وليس في أدمغة الأطباء. ليسوا مستعجلين. أنا المتعجل. لا على ذهاب ولا على بقاء. ولكن على إزالته فقط، لست مرتاحا لوجود هذه الكتلة القاتمة في دماغي.

كل شيء حيٌ هنا في حديقة بيتي الصغيرة. هذا الطير الثقيل الذي يمر بجانبي وفي منقاره عود يابس. واضح طبعا أنه يبني عشا في الأكمة الخضراء التي التفت على شجرة السرو.

رأسي مسنود إلى نبتة مليسة تفح منها رائحة ليمونية تنفذ إلى القلب.

منعني الطبيب من التدخين بتاتاً. قلت له بعد كل هذا الورم في دماغي؟ قال: ليس هذا قصدي، بل للتنفس أثناء العملية ولتسريع شفاء الجرح بعدها.

■ ■ ■

الرحلة إلى أين؟

كم مرة من قبل كتبت عن قصيدة إيثاكا لقسطنطين كفافي؟ كم مرة قرأتها؟ العديد من المرات.

ولكنها لم تظهر على هذا النحو مرة من قبل.

أي إيثاكا من قبل كانت هدفا لرحلة، أو عودة من نوع ما.

أي رحلة هذه التي أسمع فيها صوت ابني أنس يقرأها علي بترجمتها الإنكليزية البلورية وأنا أهم للدخول إلى غرفة العمليات؟

وأنت تنطلق إلى إيثاكا

فلتأمل أن تكون رحلتك طويلة

حافلة بالمغامرة٬ حافلة بالاكتشاف

لا تخف من الليستريغونيات والسيكلوبات

وبوسيدون الغاضب

لن تجد شيئا من ذلك في طريقك

طالما احتفظت بأفكارك سامقة

طالما مست روحك وجسدك الإثارة الرائعة

لن تقابل الليستريغونيات والسيكلوبات

ولا بوسيدون الغاضب

ما لم تحملهم داخل روحك

ما لم تضعهم روحك أمامك

فلتأمل أن تكون رحلتك طويلة

ولعل صباحات الصيف تكون كثيرة

ويا لها من متعة٬ يا لها من بهجة

لتدخل موانئ تراها للمرة الأولى

ولعلك تتوقف عند محطات التجارة الفينيقية

لتشتري أشياء جميلة

عرق اللؤلؤ والمرجان٬ العنبر والأبنوس

فوصولك إليها٬ هو غايتك الأخيرة

لكن لا تتعجل الرحلة أبدا

فالأفضل أن تستمر لأعوام طويلة

حتى لو أدركتك الشيخوخة٬ وأنت تصل إلى الجزيرة

غنيا بكل ما جنيته في الطريق

دون انتظار أن تمنحك إيثاكا الغنى

لقد منحتك إيثاكا الرحلة الرائعة

فبدونها ما كان لك أن تبدأ الطريق

لكن ليس لديها ما تمنحه لك سوى ذلك

فإذا ما وجدتها فقيرة٬ فإن إيثاكا لم تخدعك

فالحكمة العظيمة التي جنيتها٬ بهذه الخبرة الكبيرة

لا بد أنك ــ بالتأكيد ــ قد أدركت٬ بذلك ما الذي تعنيه إيثاكا.

(ترجمة: رفعت سلام)

■ ■ ■

قرأت هذا من قبل. أعرفه، وكنت أظن أنني أعرف إيثاكا التي يعنيها كفافي وأعرف أن الطريق إليها لم يكن سهلاً ولا أقل أهمية.

أو على الأقل لم تكن هدفا أقل من الوصول إلى “البلاد”، أو “الوطن”، أو أيُ ما تعنيه إيثاكا لكل واحد منا.

ولكن عن أي إيثاكا يمكن الحديث؟ بل أي إيثاكا تبدو لي وأنا أسمع قصيدة الشاعر اليوناني العجوز؟

الرحلة؟

إلى ماذا؟

العودة؟ إلى أين؟

أفكر في هذا وأنا جالس بالقرب من نبتة المليسة. ها هي حية، نضرة، ذات رائحة لا تنضب وها هو صباح جديد يغمر حديقة بيتي الصغيرة. لا صورة للحياة أقوى من ذلك: جوقة من أصوات طيور وعصافير تتداخل… وأسمعها تنتقل من شجرة إلى أخرى؟

■ ■ ■

العصفور المغرد

أهلاً أيها العصفور المغرد. ها أنت تتفقد موقعي، بجانب نبتة المليسة، أو التي يسميها الإنكليز فيربانا.

أسمع صوتك في أغصان شجرة السرو، أعرف هذا الصوت جيداً، ولطالما سمعته في هذا الركن من حديقة بيتي الصغيرة.

ولطالما رأيتك… بالقرب مني. تدنو من دون تردد أو خوف. ثم تطير إلى غصنك. لكن اعذرني نسيت اسمك، لا أظن أن هذا الأمر يؤثر على علاقتنا الطويلة، فأنت أيضاً لا تعرف اسمي. ترى جسدي المكوم على كرسي… وشعر رأسي الشائب. تسمعني موسيقاك من دون أن أطلبها. وبلا قيد أو شرط.

المهم الآن هو وجودنا أنا وانت. هذه علامة حياة لكلينا.

■ ■ ■

مجالسة مريض السرطان

لا يتخلص مجالس مريض السرطان من الإحساس بأنه يجلس في حضرة ميت مؤجل! إلى هذا الحد للمرض الخبيث تأثير في الأنفس. شعرت بهذا عندما كنت أزور أصدقاء أصيبوا بالسرطان. أشعر بهذا عندما يزورني أصدقاء أو أقارب. هناك عقائد وأديان تمارس طقوسها حولي علنا وسرا. أرى أيد ترتفع وشفاهاً تتمتم. أنا في قلب المقدسات وتمنيات محاط به. جيئ لي بماء زمزم/ حليب نوق/ تمر من الديار المقدسة. … حيلة بيني وبين العين الشريرة التي أوقعتني قبل عام على طولي أمام بيت العائلة في المفرق. كأنها بروفه للوقعة أمام بيتي في لندن! ‎

■ ■ ■

جسدي

جسدي يتداعى كمركب للاجئين في بحر هائج.

الألواح تسقط..

المياه تصعد الى السطح.

المحرك يتلقى ضربة من قرش أو حوت.

الحصار محكم.

وأنا لا أستطيع الفرار.

ليتني أستطيع أن أترك جسدي هنا.

وأنجو ببضع حبات جوز وضعتها في آخر لحظة في جيبي.

■ ■ ■

جسدي يخذلني.

وهذا ليس جديداً.

كان يفعل ذلك مراوغة.

الآن صريح ومباشر في مسعاه.

كلما نهضت وقعت على الأرض.

لا أستطيع أن أبقى واقفاً على قدمي ما تبقى لي من أيام.

حتى الشجرة لا تفعل.

ألم نر أشجاراً ممدودة إلى جانبها لكي ترتاح من عبء الوقوف؟

■ ■ ■

الزائر

لا تذكر بالضبط من هو الذي زرته في المستشفى وما هي علَّته ولا تعرف أحداً من الملتفّين حوله كغربان مبكرين. الزوارُ المصدومون أكثر من المريض نفسِه، أنفاسُ المرضى المحيطون، الأيامُ الطويلةُ، الأيامُ القصيرةُ، استحقاقاتُ التراب تحتشّدُ كلها في جناحٍ مشبعٍ برائحة المطهرات. للحظةٍ رانَ صمتٌ مطبقٌ حول سرير المريض بعدما استنفد الجميعُ، على ما يبدو، النكات، المجاملات، كلمات التشجيع التي تجهد كي تكون طبيعيةً، إلا شخص كان موجوداً طول الوقت ولم يتكلم معه أحد، ظلَّ يهزُّ رأسه بوجهٍ مغلقٍ تماماً، لكن الحديث الذي انقطع فجأةً سرعان ما استعاد زخماً بدا لك مثيراً للشفقة.

العربي الجديد

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى