مقالات

كلينتون وترامب على مسارح الكونغرس/ صبحي حديدي

في منتصف الأسبوع الماضي نشرت الـ«الغارديان» البريطانية مراجعة دايڤيد جون تايلور لكتاب جديد وقّعه دوريان لينسكي وصدر مؤخراً تحت عنوان «وزارة الحقيقة: سيرة رواية جورج أرويل ‘1984’». وفي تصدير مراجعته هذه، أشار تايلور إلى أنّ مبيعات الرواية قفزت بنسبة 9,500٪ (على ما يحتويه هذا المعدّل من شطط منطقي في قياس آلاف على مئة!)؛ وذلك في مناسبة تسلّم دونالد ترامب مهامّ رئاسة الولايات المتحدة الأمريكية.

وقد لا يكون الأمر جديداً، أو مفاجئاً تماماً، إذا استعاد المرء التاريخ «العريق» الذي يجمع بين أمريكا وهذه الرواية تحديداً، ابتداء من أنساق استغلالها الكثيرة، المبتذلة في معظمها، خلال عقود الحرب الباردة؛ مروراُ بانقلابها إلى مادّة دائمة على جداول أعمال المكارثية، في لجان الكونغرس بصفة خاصة؛ وليس انتهاءً بلجوء المخابرات المركزية إلى توظيفها، في ميادين شتى. كذلك لن يكون جديداً التذكير بقفزات أخرى دراماتيكية حققتها مبيعات الرواية خلال مراحل إحالة الرئيس الأمريكي الأسبق بيل كلينتون إلى اللجنة القضائية في الكونغرس، على خلفية فضيحة مونيكا لوينسكي.

يومذاك، كانت المناخات حافلة بكلّ ما يوفّره المسرح من دراما سياسية وبوليسية وقضائية، فبات المواطن الأمريكي، المتوسط والقياسي، يصل الليل بالنهار وهو يكدّس معرفة كاملة الشفافية (نقيض تلك الأرويلية التي تسردها «1984»)؛ حول تفاصيل الحياة الجنسية لرئيسه الحبيب، الذي انتخبه مرّتين. كل شيء، تقريباً: أيّة فانتازيا جنسية تستهويه أكثر، أيّ شعر إيروسي يلهب مخيّلته، أيّ الأماكن هي الأنسب للغرام، أيّ الأوقات، أيّ الثياب… وآنذاك تحدّث البعض عن الأبعاد النفسية الأعمق وراء هذا السعار الجماعي المحموم لهتك الأستار الحميمة، وأتيح لنا أن نقرأ بعض كبار المنظّرين الليبراليين وهم يذكّرون الدهماء بأن تفاصيل الحياة الشخصية مكوّن أساسي في صناعة الوجود الإنساني المتمدّن (كما ينبغي أن يُقارن بالوجود الإنساني البربري، في الأدغال على سبيل المثال!).

فإذا صحّ أنّ مراسم تسلّم ترامب مهامّ رئيس القوّة الكونية الأعظم قد عادت برواية أرويل إلى واجهة المكاتب، فتسللت مجدداً إلى سويداء هواجس ذلك الأمريكي إياه، القياسي المتوسط؛ فإنّ الصحيح الرديف هو أنها تؤوب اليوم إلى صدارة القراءات، ليس بصدد الجدل حول نشر تقرير المحقق الخاص روبرت موللر، منقحاً أم كاملاً؛ بل في ضوء ما يتردد من مشاريع حول إمكانية محاكمة ترامب بتُهَم عديدة، على رأسها عرقلة العدالة. الزمن بين كلينتون وترامب تغيّر كثيراً، بالطبع، وحجم استهانة الأخير بالقوانين المرعية والتحايل عليها لا يقبل المقارنة في الحدود الدنيا؛ إقراراً لحقيقة واقعة، وليس إنصافاً لشخص كلينتون. فهل تغيّر هوس ذلك المواطن الأمريكي، أو تبدّل شغفه؟

رئيس اللجنة القضائية في الكونغرس الحالي، جيرولد نادلر، ديمقراطي هذه المرّة؛ وليس جمهورياً، كما كانت الحال مع هنري هايد، كبير «المدراء» الذين أداروا الاتهام حول فضيحة لوينسكي. لكنّ سلسلة خصال شخصية تبدو وكأنها تساوي بين الرجلين، لجهة وطأة العمر والشيخوخة، وحسّ البلاغة الكلاسيكية، وتعب الذاكرة، والنسيانات المتكررة، والانضباط بالروتين القضائي والتمسّك برطانته… بيد أنّ ترامب، بالمقارنة مع كلينتون، محظوظ والحقّ يُقال، على صعيد أي مقارنة بين نادلر الراهن وهايد الراحل؛ وشتان بين عضوَيْ الكونغرس هذين، من حيث الشطارة والمهارة و… الأداء المسرحي!

كان هايد ذرب اللسان، تراجيديّ المحيّا، دائم التهدّج، تكاد العبرات تفيض من عينيه كلما اعتلى المنبر ليشرح هذه أو تلك من حيثيات إدانة كلينتون. وكان لا يكفّ عن الاستعانة بعبارة من الروائي الأمريكي وليم فوكنر تارة، ومن قصائد وليام شكسبير أو ديلان توماس طوراً («أعطونا الحقيقة، وسنمضي لطفاء، في الليل اللطيف»، كان يردّد)؛ من نصوص «العهد القديم» حيناً (والوصايا العشر بصفة خاصة)، وخُطَب عظماء أمريكا الأسلاف حيناً آخر.

غير أنّ هذا كلّه أمر مختلف عن سمة أخرى كبرى في شخصية هايد: أنه كان الدكتور جيكل أيضاً، تماماً كما في رواية ر. ل. ستيفنسون الشهيرة، حيث ينشطر الآدميّ إلى كائنين متناقضين، خيّر وشرير. ذلك لأنّ هايد كان رجل فضائح مالية وسياسية وقانونية، وسبق للكونغرس أن أوصى بتغريمه مبلغ 850 ألف دولار، عقاباً له ولعدد من زملائه على إهمالهم الشديد في متابعة مسؤوليات إحدى اللجان، الأمر الذي كلّف دافع الضرائب الأمريكي خسارة 68 مليون دولار! وفي عام 1983 هبّ للدفاع عن زميله وابن حزبه دانييل كرين، الذي ثبتت عليه إقامة علاقة جنسية مع وصيفة في الكونغرس عمرها 17 سنة: «التراث اليهودي ــ المسيحي يقول: أمقتوا الخطيئة، وأحبّوا الخاطىء»، هتف هايد… متهدج الصوت، كالعادة!

وفي مقالة مسهبة، نشرتها مجلة «نيويوركر» تحت عنوان «1984 أرويل وأمريكا ترامب»، شرح آدم غوبنك طرائق ترامب في ممارسة الكذب: «إنه يكذب، ثمّ يكرّر الكذبة، ومستمعوه إمّا أن يجبنوا فزعاً، أو يتلعثموا غير مصدّقين، أو يحاول بعضهم معرفة إمكانية تحويل الكذبة لصالحهم». وعلى نحو أو آخر، يذكّر ترامب بما كان أرويل قد أصاب في تشخيصه: محاربة الكذبة لا تصبح أكثر خطورة فقط، بل ببساطة أكثر إرهاقاً من تكرارها!

ولا مناص من مسرح، إذن، وبلاغة جوفاء، وجعجعة بلا طحن!

القدس العربي

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى