مقالات

نص من السيرة الذاتية لسلمان رشدي

ترجمها الى العربية أسامة اسبر

إهداء المؤلف:

إلى ولديَّ، ظفر وميلان،

وإلى أمهما كلاريسا وإليزابيث،

وإلى كل من ساعدني.

وكما يملي هذا القدر، سنقوم بعمل

حيث ما مضى تمهيدٌ، وما سيأتي

أمرٌ نقرره أنا وأنت.

(من مسرحية العاصفة، لشكسبير)

مقدمة

الشحرور الأول

في ما بعد، حين كان العالم ينفجر حوله والطيور السوداء القاتلة تتجمع على هيكل التسلق في ملعب المدرسة، شعر بالاستياء من نفسه لأنه نسيَ إسمَ مراسلة هيئة الإذاعة البريطانية، التي أخبرته أن حياته القديمة انتهت، وأن حياة جديدة أكثر غموضاً على وشك أن تبدأ. اتصلتْ به إلى منزله على خطه الخاص دون أن تخبره كيف حصلت على الرقم وسألته: “ما شعورك بعد أن أصدر آية الله الخميني للتو حكمه بالإعدام عليك؟”. كان يوم ثلاثاء مشمساً في لندن لكن السؤال حجب الضوء. أجابَ، دون أن يعرف في الحقيقة ماذا كان يقول: “إن هذا لا يولّد شعوراً جيداً”. هذا ما فكر به: أنا رجل ميت. تساءل كم تبقى له من الأيام كي يعيش؟ واعتقد أن الجواب عدد مؤلف من رقم واحد. وضع سماعة الهاتف ونزل الدرج راكضاً من غرفة عمله في الطابق العلوي لمنزل ضيق متجاور مع منازل أخرى في إسلنغتون حيث يعيش. كان لغرف المعيشة مصاريع خشبية، وعلى نحو سخيف أغلقها وأرتجها. ثم أقفل الباب الأمامي.

حان موعد عيد الحب (الفالنتاين)، لكن علاقته لم تكن جيدة مع زوجته، الروائية الأميركية ماريان ويجينز، التي أخبرته منذ ستة أيام أنها غير سعيدة في زواجهما، وأنها لم تعد تشعر بالراحة معه، على الرغم من أنه لم يمض على زواجهما إلا أكثر من عام بقليل. وكان يعرف أيضاً أن الأمر غلطة. ونظرت إليه وهو يتحرك بعصبية في أنحاء المنزل، مُنزلاً الستائر، ومتفقداً مصاريع الأبواب، مثاراً ومصدوماً من الأخبار كما لو أن تياراً كهربائياً سرى فيه، واضطر أن يشرح لها ما حدث. كان رد فعلها جيداً، وبدأت تناقش ما الذي يجب أن نفعله تالياً. استخدمتْ كلمة نحن ونمَّ هذا عن شجاعة.

وصلت سيارة إلى المنزل أرسلتها محطة السي بي إس التلفزيونية. كان لديه موعد في استديوهات الشبكة الأميركية في بووتر هاوس، نايتبريدج، كي يظهر على الهواء عبر رابط قمر صناعي، في برنامج صباحي. قال: “يجب أن أذهب. إنه ظهور تلفزيوني على الهواء. لا يمكنني الاحتجاب فحسب”.

في ما بعد، في ذلك الصباح، أقيم حفل تأبيني لصديقه بروس تشاتوين (١) في الكنيسة الأرثوذكسية في موسكو رود في بيزووتر. وقبل أقل من عامين احتفل بعيد ميلاده الأربعين في هومر إند، في منزل بروس في أكسفوردشاير. توفي بروس من مرض الإيدز، ووصل الموت إلى بابه أيضاً. سألت زوجته: “ماذا عن الحفل التأبيني؟” لم يكن لديه جواب لها. فتح الباب الأمامي المقفل وخرج وركب السيارة التي قادته بعيداً، وعلى الرغم من أنه لم يختبر الأمر بعد، فإن لحظة مغادرة المنزل لم تبد مشحونة بشكل غير عادي بالمعنى، ذلك أنه لن يعود إلى ذلك المنزل، الذي سكن فيه لخمس سنوات، إلا بعد ثلاث سنوات، في وقت لم يكن المنزل ملكاً له.

يغني الأطفال في غرفة الصف في بلدة بوديجا بي في كاليفورنيا أغنية حزينة لا معنى لها. تمشط شعرها مرة واحدة في العام، ريستل -تي-روستل تي، مو، مو، مو. خارج المدرسة تهب ريح باردة. يطير شحرور وحيد نازلاً من السماء ويجثم على هيكل التسلق في الملعب. أغنية الأطفال قصيرة وفيها لازمة. تبدأ لكنها لا تنتهي. تدور وتدور. مع كل نغمة تُذرف دمعة، ريستل- تي- روستل -تي، هي بومبيستي، نيكيتي ناكيتي، ريتروكوو-كواليتي، ويلوبي-والابي، مو، مو، مو. هناك أربعة شحاريرعلى هيكل التسلق، ثم وصل خامس. الأطفال يغنون داخل المدرسة. تجمعت الآن مئات الشحارير على هيكل التسلق، آلاف من الطيور الأخرى تملأ السماء، كطاعون مصر. بدأت أغنية لا نهاية لها.

حين يهبط الشحرور الأول كي يجثم على هيكل التسلق يبدو متفرداً، خاصاً ومحدداً. ليس من الضروري استنتاج نظرية عامة، خطة أوسع للأشياء، من حضوره. في ما بعد، بعد أن يبدأ الطاعون، من السهل على البشر أن يروا الشحرور الأول كنذير. لكنه حين يحط على إطار التسلق هو طائر واحد فحسب.

في السنوات القادمة حلم بهذا المشهد فاهماً أن قصته هي نوع من المقدمة: حكاية اللحظة التي هبط فيها الشحرور الأول. وحين بدأت كانت عنه فحسب، فردية وخاصة ومحددة. ولم يشعر أحد بميل للخروج باستنتاجات منها. ومرت عشرات الأعوام وأكثر قبل أن تنمو القصة إلى أن تملأ السماء، كالملاك جبريل واقفاً في الأفق كطائرتين تحلقان مخترقتين أبنية طويلة مثل طاعون الطيور القاتلة في فيلم ألفرد هتشكوك العظيم.

في مكتب السي بي إس كان خبر اليوم الكبير. وكان الأشخاص في غرفة الأخبار وعلى مونيتورات مختلفة قد بدأوا باستخدام الكلمة التي ستُعلق في الحال حول عنقه كحجر الرحى. استخدموا الكلمة كما لو أنها مرادف ل “حكم الإعدام”. وأراد أن يجادل بحذلقة أن هذا لم يكن ما عنتْه الكلمة. لكن منذ ذلك اليوم فصاعداً عنت هذا لمعظم الناس في العالم، وبالنسبة له.

فتوى:

“أُعلن للمسلمين الغيارى في أنحاء العالم، بأن مؤلف كتاب “آيات شيطانية” الذي دُوّن وطُبع ووُزع بهدف معاداة الإسلام والرسول والقرآن، وكذلك الناشرين المطلعين على فحوى الكتاب، يحكم عليهم بالإعدام. أطلب من المسلمين الغيارى المبادرة إلى إعدام هؤلاء على وجه السرعة أينما وجدوهم”.

أعطاه أحدهم ورقة مطبوعة للنص وتمت مرافقته إلى الاستديو من أجل مقابلته. أرادتْ ذاته القديمة أن تتجادل ثانية، هذه المرة مع كلمة “حُكم”. لم يكن هذا حُكماً أصدرته أية محكمة يعرفها، أو لها أية سلطة عليه. كان مرسوم رجل قاس على فراش الموت. لكنه كان يعرف أيضاً أن عادات ذاته القديمة لم تعد لها فائدة بعد الآن. صار ذاتاً جديدة الآن. وكان الشخص الذي في عين العاصفة، ولم يعد سلمان الذي يعرفه أصدقاؤه بل رشدي مؤلف آيات شيطانية، وهو كتاب شُوِّه على نحو ماكر بحذف أل التعريف. كان كتاب الآيات الشيطانية رواية. أما آيات شيطانية فكانت آيات شيطانية، وكان هو مؤلفها الشيطاني، الشيطان رشدي، المخلوق ذو القرنين على اللافتات التي يحملها المتظاهرون في شوارع مدينة بعيدة، الرجل المشنوق ذو اللسان الناتئ في الرسوم الكاريكاتيرية الفظة التي يحملونها. اشنقوا سلمان رشدي! كم كان من السهل محو ماضي شخص وبناء نسخة جديدة منه، نسخة طاغية، بدا من المستحيل القتال ضدها.

أنكر الملك تشارلز الأول(٢) شرعية الحكم الصادر بحقه. لكن هذا لم يوقف أوليفر كرومويل(٣) عن قطع رأسه.

لكنه لم يكن ملكاً. كان مؤلف كتاب.

رمق الصحافيين الذين ينظرون إليه وتساءل إن كان الناس ينظرون بهذه الطريقة إلى الأشخاص الذين يُقتادون إلى المشنقة أو الكرسي الكهربائي أو المقصلة. بدا أحد المراسلين الأجانب ودياً. سأله هذا الرجل ما الذي يجب أن يفكر به حيال ما قاله الخميني. هل يأخذ الأمر بجدية؟ هل هذا تنميق لغوي فقط أم شيء خطير على نحو حقيقي؟

قال الصحافي: “آه، لا تقلق كثيراً. إن الخميني يحكم بالإعدام على الرئيس الأميركي بعد ظهر كل يوم جمعة”.

على الهواء، حين سئل كيف استجاب للتهديد، قال: “أتمنى لو أنني ألفت كتاباً أكثر انتقاداً”. كان يشعر بالفخر، آنذاك ودوماً، أنه قال هذا. كانت هذه هي الحقيقة. لم يشعر أن كتابه ينتقد الإسلام على وجه الخصوص، لكن، كما قال على شاشة التلفزيون الأميركي في ذلك اليوم، إن ديناً يتصرف قادته بهذه الطريقة ربما ينفعه بعض النقد. وحين انتهت المقابلة أخبروه أن زوجته اتصلت. اتصل بالبيت. قالت: “لا تعد إلى هنا. مائتا صحافي ينتظرونك على الرصيف”.

قال: “سأذهب إلى الوكالة. احزمي حقيبة وقابليني هناك”.

كانت مكاتب وكالته الأدبية “وايلي أيتكين آند ستون” تقع في منزل مزين بالجص الأبيض على طريق فيرنشو في تشيلسي. لم يكن هناك صحافيون مخيمون في الخارج. وعلى ما يبدو لم تعتقد الصحافة العالمية أنه من المحتمل أن يزور وكيله في يوم كهذا. وحين دخل كانت جميع الهواتف في البناء ترن وجميع المكالمات عنه. خصه وكيله البريطاني جيلون أيتكين بنظرة دهشة. كان على الهاتف مع عضو البرلمان البريطاني من أصل هندي عن ليستر إيست، كيث فاز. غطى السماعة وهمس: ”هل تريد التحدث مع هذا الشخص؟”.

قال فاز في المحادثة الهاتفية إن ما حدث “مريع”، ووعد بأن يقدم “دعمه الكامل”. بعد أسابيع كان أحد المتحدثين الرئيسيين في مظاهرة ضد رواية “الآيات الشيطانية” قام بها أكثر من 3 آلاف مسلم ووصف الحدث بأنه “أحد الأيام العظيمة في تاريخ الإسلام وبريطانيا العظمى”.

اكتشف أنه لا يستطيع التفكير بما سيأتي، وأنه لم يكن يعرف أي شيء عن الشكل الذي يجب أن تتخذه حياته الآن، أو كيف يضع الخطط. استطاع التركيز على المباشر، وكان المباشر هو حفل تأبين بروس تشاتوين. قال جيلون: ”يا عزيزي هل تعتقد أنك يجب أن تذهب؟” اتخذ قراره. كان بروس صديقاً حميماً له. قال:”اللعنة، لنذهب”.

وصلت ماريان، وثمة نظرة مشوشة قليلاً تلمع في عينيها. كانت متضايقة من هجوم المصورين عليها حين غادرت المنزل في 41 شارع بيتر. وفي اليوم التالي كانت تلك النظرة على الصفحات الأولى لجميع الصحف في البلاد. ومنحت إحدى الصحف النظرة إسماً في أحرف بارتفاع إنشين: وجه الخوف. لم تقل الكثير. لا أحد منهما قال الكثير. دخلا السيارة، وهي سوداء من نوع ساب، وقادها عبر المنتزه إلى بيزووتر. كان أيتكن بنظرته المتضايقة وجسده الطويل الواهن منزوياً في المقعد الخلفي، وغير منخرط في الموضوع.

كانت أمه وأخته الصغيرة تعيشان في كراتشي. ما الذي سيحدث لهما؟ أخته الوسطى، التي انفصلت منذ وقت طويل عن الأسرة، تعيش في بيركلي، كاليفورنيا. هل ستكون آمنة هناك؟  أخته الأكبر، سامين، “توأمه الإيرلندي” كانت في ضواحي شمال لندن مع عائلتها، في ويمبلي، غير بعيد عن الاستاد الكبير. ما الذي يجب فعله لحمايتهم؟ ابنه، ظفر، الذي يبلغ عمره عشر سنوات وثمانية أشهر فحسب كان مع أمه كلاريسا في منزلهم في 60 بورما رود، بعيداً عن غرين لينز، قرب حديقة كليسولد. في تلك اللحظة شعر بأن عيد ميلاد ظفر العاشر بعيد، بعيد جداً. سأله ظفر: “أبي، لماذا لا تؤلف كتباً أستطيع قراءتها؟” جعله هذا يفكر بسطر في “نيزك القديس جود”، وهي أغنية لبول سيمون(٤) كتبها كتهويدة لولده الصغير. إذا لم يكن بوسعي أن أنيم ولدي بأغنية، حسناً فإن هذا يجعل والده المشهور يبدو مغفلاً. أجاب: ”سؤال جيد. دعني أنهي هذا الكتاب الذي أعمل عليه الآن ثم سأؤلف كتاباً لك. اتفقنا؟”. “اتفقنا”. وهكذا أنهى الكتاب ونشره وربما الآن لن يمتلك الوقت كي يؤلف آخر. وقال بينه وبين نفسه: يجب ألا تحنث أبداً بوعد قطعته لطفل، ثم في ذهنه المنشغل أضاف السؤال الأبله: لكن هل موت المؤلف عذر معقول؟

كان ذهنه منشغلاً بالجريمة.

كان منذ خمس سنوات يسافر مع بروس تشاتوين في “المركز الأحمر” لأستراليا، ودوّن في مفكرته كتابة على الجدران شاهدها في أليس سبرينغز تقول: استسلم أيها الرجل الأبيض، بلدتك محاصرة، ورفع نفسه متسلقاً صخرة آيرس بينما بروس، الذي كان فخوراً بأنه تسلق مؤخراً إلى معسكر القاعدة في إفرست، كان يندفع إلى الأمام كما لو أنه يركض على أسهل المنحدرات، وأصغى لحكايات المحليين عن ما يدعى قضية “الطفلة التي قتلها الكلب”، ومكث في مكان قذر يدعى نزل إنلاند، الذي دخل إليه العام الماضي سائق شاحنة لمسافات طويلة عمره 36 سنة يدعى دوغلاس كرابل وحين رفض الساقي أن يقدم له كأساً لأنه كان ثملاً جداً بدأ يسيء لموظفي البار، وبعد أن رُمي في الخارج ساق شاحنته بالسرعة الكاملة مقتحماً البار وقاتلاً خمسة أشخاص.

كان كراب يقدم شهادة في غرفة محكمة في أليس سبرينغز وذهبا إلى هناك كي يستمعا. كان السائق يلبس لباساً محافظاً، بعينين كئيبتين ومنكسرتين، وتحدث بصوت منخفض وهادئ. أصر أنه ليس من نوع الأشخاص الذين يمكن أن يرتكبوا أعمالاً كهذه وحين سئل لماذا هو متأكد من هذا أجاب أنه كان يسوق الشاحنات لسنوات كثيرة، و”يعتني بها كما لو كانت أو…” (هنا ساد إيقاع صمت، والكلمة غير المنطوقة في هذا الصمت ربما كانت أولاده)، وبالنسبة له أن يحطم نصف شاحنة كان ضد شخصيته بشكل كامل. تصلب أعضاء هيئة المحلفين بشكل مرئي حين سمعوا هذا، وكان واضحاً أنه خسر قضيته. تمتم بروس:لكنه بالطبع يقول الحقيقة.

اعتبر ذهن أحد المجرمين الشاحنات أكثر قيمة من الكائنات البشرية. وبعد خمس سنوات ربما سيكون هناك أشخاص ينطلقون لإعدام كاتب من أجل كلماته التجديفية، وكان الإيمان، أو تأويلاً معيناً للإيمان، هو الشاحنة التي أحبوها أكثر من الحياة البشرية. وذكّر نفسه أن هذا لم يكن تجديفه الأول. وسيُمنع أيضاً الآن من تسلق صخرة آيرس. كانت الصخرة التي أعيدت ملكيتها إلى السكان الأصليين وأعيد إليها اسمها القديم أولورو، أرضاً مقدسة ولم يعد يُسمح للمتسلقين بالاقتراب منها.

أثناء رحلة العودة في الطائرة إلى الوطن من أستراليا في العام 1984 بدأ يفهم كيف سيكتب رواية الآيات الشيطانية.

حدث حفل التأبين في الكاتدرائية الأرثوذكسية اليونانية سينت صوفيا التابعة لأبرشية ثاياتيرا في بريطانيا العظمى، والتي بُنيت وزُينت بشكل مسرف منذ مائة وعشر سنوات كي تشبه كاتدرائية بيزنطة القديمة المهيبة، وكانت جميع المراسم باليونانية المتكلفة والغامضة. كانت طقوساً بيزنطية منمقة. وردد الكهنة: بروس تشاتوين كذا وكذا وكذا. نهضوا وجلسوا وركعوا ووقفوا ثم جلسوا ثانية. كان الجو مليئاً بالرائحة النتنة للدخان المقدس. تذكر والده الذي أخذه حين كان طفلاً في بومبي كي يصلي في يوم عيد الفطر. وفي الساحة المخصصة للصلاة، كانت اللغة العربية هي المهيمنة بالإضافة إلى كمية جيدة من ضرب الجبهة رفعاً وخفضاً ثم الوقوف وراحتا كفيك مرفوعتان أمامك ككتاب، والكثير من التمتمة بكلمات مجهولة بلغة لم يكن يتحدثها. قال له والده:”فقط افعل ما أفعله”. لم تكن عائلته متدينة ونادراً ما ذهب إلى مراسم كهذه. ولم يتعلم الصلاة أبداً أو معانيها. وكانت تلك الصلاة التي تمت في مناسبة من خلال المحاكاة والتمتمة الآلية هي ما يعرفه. بالتالي، شعر بأن المراسم التي لا معنى لها في الكنيسة في موسكو رود مألوفة. أُجْلسَ هو وماريان قرب مارتين آميس(٥) وزوجته أنطونيا فيليبس. وقال مارتين وهو يعانقه:”قلقنا عليك”. وأجابه: ”وأنا قلق على نفسي”. ثم قالوا إن تشاتوين كذا وبروس كذا. وكان الروائي بول ثيرو(٦) يجلس على أحد المقاعد الخشبية الطويلة خلفه. قال:”أعتقد أنني سنبقى هنا حتى الأسبوع القادم يا سلمان”.

كان هناك مصوران على الرصيف في الخارج حين وصل. إن الكتاب لا يجذبون عادة حشداً من المصورين. وفيما كانت المراسم تتواصل بدأ الصحافيون بالدخول إلى الكنيسة. كان هناك دين غير قابل للفهم يلعب دور المضيف لقصة أنباء تولدت من هجوم عنيف لدين آخر بشكل غير قابل للفهم. وكتب في ما بعد: إن أحد أسوأ مظاهر ما حدث هو أن ما هو غير قابل للفهم صار قابلاً للفهم، وما هو غير قابل للتخيل صار قابلاً له.

انتهى حفل التأبين وبدأ الصحافيون يشقون طريقهم نحوه بالدفع. حاول جيلون وماريان ومارتين التدخل لمساعدته. دخل شخص رمادي ملتح (بذلة رمادية، شعر شائب، وجه رمادي، صوت رمادي) عبر الحشد ورفع جهاز تسجيل نحوه وطرح الأسئلة الواضحة. أجاب:”أنا آسف، أنا هنا من أجل حفل تأبين صديقي. ليس من الملائم القيام بالمقابلات”. قال الشخص الرمادي وقد بدا محتاراً:”أنا من الديلي تلغراف، أرسلوني خصيصاً”.

قال:”جيلون، أريد مساعدتك”.

مال جيلون إلى الصحافي من ارتفاعه الهائل وقال بحزم بلهجته الأكثر هيبة:”أغربْ من هنا!”

قال الرجل الذي من التلغراف:”لا تستطيع التحدث معي هكذا. لقد ذهبت إلى الثانوية العامة”.

بعد ذلك لم يعد هناك كوميديا. حين خرج إلى موسكو رود كان هناك صحافيون يحتشدون كالدبابير بحثاً عن ملكتهم، ومصورون يتسلقون على ظهور بعضهم بعضاً كي يشكلوا أكمات متمايلة. ووقف هناك يرمش بعينيه ومن دون اتجاه، ولم يكن يعرف ما الذي يجب أن يفعله الآن.

لم يكن هناك مهرب أو إمكانية للسير إلى السيارة المركونة على بعد مائة ياردة في آخر الطريق دون أن تتبعه الكاميرات والمكرفونات ورجال ذهبوا إلى مدارس مختلفة، وأُرسلوا خصيصاً. أنقذه صديقه آلن ينتوب من البي بي سي، وهو مخرج سينمائي ومدير تنفيذي التقى به قبل خمس سنوات، حين كان آلن يعمل على الفيلم الوثائقي “ساحة” والذي يتحدث عن كاتب شاب نشر لتوه رواية تم تلقيها جيداً بعنوان “أطفال منتصف الليل”. لآلن آخ توأم لكن الناس غالباً ما يقولون “إن سلمان هو الشخص الدي يشبه توأمك”. اختلف كلاهما مع وجهة النظر هذه لكنها تواصلت. واليوم ربما ليس اليوم الأفضل لآلن كي يظن خطأ أنه توأمه.

صفت سيارة آلن التابعة للبي بي سي أمام الكنيسة. طلب منه الدخول وساقا مبتعدين عن الصحافيين الذين بدأوا بالصياح. دارا حول نوتينغ هيل لبعض الوقت إلى أن تناثر الحشد الذي حول الكنيسة ثم عادا إلى حيث كانت سيارة الساب مصفوفة.

دخل إلى سيارته مع ماريان وفجأة صارا وحيدين وخيم الصمت بثقل عليهما. لم يشغلا مذياع السيارة، عارفين أن الأنباء ستكون مليئة بالكراهية. سألها: “إلى أين يجب أن نذهب؟”، ولو أن الاثنين كانا يعرفان الجواب. ذلك أن ماريان استأجرت مؤخراً شقة قبو صغيرة في الزاوية الجنوبية الغربية لساحة لونسديل في إسلنغتون، غير بعيدة عن البيت في شارع سينت بيتر، وكان الهدف الظاهري هو استخدامها كمكان للعمل لكن السبب الحقيقي هو التوتر المتنامي بينهما. كانت قلة فحسب تعرف عن وجود هذه الشقة التي ستمنحهما المكان والوقت كي يعيدا تقويم الموقف واتخاذ القرارات. ساقا إلى إسلنغتون بصمت. لم يبد أن هناك شيئاً يمكن قوله.

كانت ماريان كاتبة رائعة وامرأة جميلة لكنه اكتشف أموراً لم يحبها فيها.

حين انتقلتْ إلى بيته تركت رسالة على الآلة المجيبة لصديقه بيل بوفورد(7)، محرر مجلة غرانتا(8)، كي تخبره أن رقمها تغير. “يمكن أن تعرف الرقم الجديد”، واصلت الرسالة، ثم بعد ان اعتقد بيل أنه وقفة مريعة قالت: “لقد حصلتُ عليه”. طلب منها الزواج وهو يمر في حالة عاطفية قوية تلت وفاة والده في تشرين الثاني 1987 وبقيت الأمور بينهما جيدة لوقت طويل. لكن صديقيه الحميمين بيل بوفورد وجيلون أيتكين وزميله الأميركي أندرو وايلي والكاتبة والممثلة الغويّانية بولين ميلفل وأخته سامين، الذين كانوا دوماً الأقرب له أكثر من أي شخص آخر، بدأوا جميعاً يعترفون أنهم لم يحبوها، وهذا ما يفعله الأصدقاء حين ينفصل الأشخاص، بالطبع، واعتقد أنه يجب إهمال بعض هذه الآراء، لكنه اكتشف بنفسه قيامها ببعض الأكاذيب التي صدمته. ماذا كان بالنسبة لها؟ بدت دوماً غاضبة وتمتلك طريقة في النظر إلى الجو فوق كتفه حين تتحدث معه، كما لو أنها تتحدث مع شبح. جذبه دوماً ذكاؤها وحس فكاهتها وهذا ما يزال فيها، وأيضاً جسدها والأمواج المتساقطة لشعرها الكستنائي، وابتسامتها الأميركية العريضة التي تشمل الشفتين. لكنها صارت غامضة بالنسبة إليه وظن أحياناً أنه تزوج امرأة غريبة، ترتدي قناعاً.

كانت الساعة الثالثة بعد الظهر، وفي ذلك اليوم شعرا أن المصاعب التي يواجهانها لا علاقة لها بالموضوع. وفي هذا اليوم كانت هناك حشود تتقدم في شوارع طهران حاملة بوسترات لصورة وجهه بعينين جاحظتين، مما جعله يبدو كإحدى تلك الجثث(9)، بمحاجر أعينها المسودة والدموية والمنقورة من الطيور. كان هذا هو الموضوع اليوم: عيد الحب الخاص به غير المسلي المؤلف من أولئك الرجال الملتحين والنساء المحجبات، والرجل العجوز القاتل الذي يحتضر في غرفته، يقوم بمناقصته الأخيرة من أجل نوع ما من المجد الغامض والإجرامي. بعد أن جاء الإمام إلى السلطة قتل الكثيرين من الذين أجلسوه على سدتها وكل من كرههم من النقابيين والنسويين والاشتراكيين والشيوعيين والمثليين والعاهرات وملازميه السابقين الخاصين أيضاً. كانت هناك صورة لإمام مثله في رواية الآيات الشيطانية، إمام صار متوحشاً، فمه الضخم يأكل ثورته. جر الإمام الحقيقي بلاده إلى حرب لا فائدة منها مع جيرانه، و قُتل جيل من الشبان، مئات الآلاف من شبان بلاده، قبل أن يوقف العجوز المجزرة. قال إن قبول السلام مع العراق هو كمثل تناول السم، لكنه تناوله. وبعد ذلك صاح الموتى ضد الإمام وفقدت ثورته شعبيتها. واحتاج إلى طريقة لحشد المؤمنين وعثر عليها في شكل كتاب ومؤلفه. وكان الكتاب من عمل الشيطان والمؤلف هو الشيطان وهذا أعطاه العدو الذي يريده. وهذا المؤلف المختبئ في الشقة القبو في إسلنغتون مع زوجة كان نصف مغترب عنها. كان هذا هو الشيطان الضروري للإمام المحتضر.

والآن بما أن اليوم الدراسي انتهى كان عليه أن يلتقي بظفر. اتصل ببولين ميلفل وطلب منها أن تبقى برفقة ماريان أثناء زيارته. كانت جارته في هايبر هيل في أوائل الثمانينات، وهي ممثلة متوهجة العينين وحيوية الإيماءات ودافئة القلب ومن أعراق مختلطة مليئة بالقصص عن غوايانا، والتي قابل أحد أسلافها من عائلة ميلفل إيفلين وو وأراه المنطقة واعتقد أنه كان على الأرجح موديل السيد تود، العجوز الأحمق والمجنون الذي أسر توني لاست في الغابة المطرية وأجبره على قراءة ديكنز بصوت مرتفع إلى الأبد في “حفنة تراب(10)”، وعن إنقاذ زوجها أنجوس من الفيلق الأجنبي بالوقوف على بوابة الحصن والصراخ إلى أن جعلوه يخرج، وعن لعب دور أم أدريان إدموندسون في المسلسل الكوميدي الذي حقق نجاحاً كبيراً “الشبان”. أدت كوميديا الأداء الحي أمام الجمهور وابتكرت شخصية ذكر صار “خطيراً ومخيفاً بحيث اضطررت للتوقف عن تمثيل هذا الدور”، كما قالت. ألفت عدداً من قصصها عن غوايانا وعرضتها عليه. كانت قصصاً جيدة جداً، وحين نُشرت في كتابها الأول مبدّل الشكل، تلقت مديحاً على نطاق واسع. وكانت قوية وذكية ومخلصة ووثق بها بشكل كامل. جاءت على الفور دون أي نقاش على الرغم من أنه كان عيد ميلادها، ومن تحفظها على ماريان. وشعر بالارتياح أنه ترك ماريان خلفه في قبو ساحة لونسديل وقاد لوحده إلى طريق بورما. انتهى اليوم  المشمس الجميل، والذي كان إشعاعه الشتوي المدهش كتوبيخ للأنباء السيئة. كانت لندن في شهر شباط مظلمة فيما كان الأطفال يشقون طريقهم إلى منازلهم. وحين وصل إلى منزل كلاريسا وظفر كانت الشرطة هناك. قال الضابط:”ها أنت هنا. كنا نتساءل أين ذهبت؟”.

“ما الذي يحدث يا أبي؟” كان على وجه ابنه نظرة يجب ألا تزور أبداً وجه طفل في التاسعة. قالت كلاريسا بتألق:”كنت أقول له إنه سيتم الاعتناء بك بشكل ملائم إلى أن تمر هذه الزوبعة، وستكون الأمور بخير”. ثم ضمته كما لم تفعل منذ خمس سنوات، منذ أن انتهى زواجهما. كانت المرأة الأولى التي سبق أن أحبها. التقى بها في 26 كانون الأول 1969، قبل نهاية الستينيات بخمسة أيام، حين كان في الثانية والعشرين وهي في الحادية والعشرين. كلاريسا ماري لوارد. كان لها ساقان طويلتان وعينان خضراوان ولبست في ذلك اليوم معطفاً هبياً من جلد الماعز وعصابة رأس حول شعرها الخمري الملفوف بإحكام، وصدر منها توهج جعل جميع القلوب عاشقة. كان لها أصدقاء في عالم موسيقى البوب سموها هابيلي (”بسعادة” لكن ذلك الاسم انتهى بسعادة مع العقد المصقول الذي أنتجه) وكان لها أمّ مدمنة على الكحول، وأب عاد إلى الوطن معانياً من الصدمة بسبب الحرب، وكان فيها طياراً في باثفايندر، وانتحر قافزاً عن سطح بناء حين كانت في الخامسة عشرة.  كان لديها كلب صيد يدعى بوبل يبول على فراشها.

كان هناك أمور كثيرة تتعلق بها محبوسة تحت التوهج، ولم تَهْوَ أن يرى الناس الظلال فيها، وحين تهاجمها الكآبة تدخل إلى غرفتها وتغلق الباب. ربما كانت تشعر بحزن والدها فيها آنذاك وتخاف من احتمال أن يدفعها هذا الحزن إلى الانتحار قفزاً عن سطح البناء كما فعلَ، لهذا كانت تحجز نفسها إلى أن تمر نوبة الكآبة. وكانت تحمل اسم البطلة المأساوية لصامويل رتشاردسون(11) ودرستْ، لبعض الوقت، في هارلو تيك. كلاريسا من هارلو، إنه لصدى غريب لكلاريسا هارلو(12)، وحدث انتحار آخر في نطاقها، لكنه خيالي حدثَ في الرواية، صدى آخر يجب أن يُخشى منه وتمحوه ابتسامتها المبهرة. كانت أمها لافينيا لوارد تملك أيضاً كنية محرجة وهي لافي- لو، وهربت من مأساة الأسرة من خلال معاقرة الجن وحلتها بهذه الطريقة لاعبة دور الأرملة المرحة مع رجال يستغلونها. في البداية كان هناك ضابط سابق في الحرس يدعى العقيد كين سويتنغ جاء من جزيرة مان ودخل معها في علاقة رومانسية لكنه لم يهجر زوجته أبداً، ولم ينْو ذلك. في ما بعد، حين هاجرتْ إلى قرية ميخاس في الأندلس كان هناك عدد من الأشخاص المتبطلين المستعدين للاعتياش عليها وإنفاق الكثير من نقودها. عارضت لافينيا بقوة تصميم ابنتها على أن تعيش مع كاتب هندي غريب وطويل الشعر غير متأكدة من خلفيته العائلية أو أن تتزوجه، وخاصة أنه لا يملك الكثير من النقود. وكانت تجمعها صداقة مع عائلة لوورثي من وسترهام في كينت وخططت كي تزوج ابنتها الجميلة لابن لوورثي المحاسب الشاب رتشارد، وهو شاحب وناتئ العظام بشعر أبيض وأشقر مثل آندي وارهول(13). تواعدت كلاريسا ورتشارد لكنها بدأت أيضاً تلتقي في السر بالكاتب الهندي ذي الشعر الطويل واستغرق الأمر معها عامين كي تقرر أيهما تريد، ولكن في إحدى الليالي في كانون الثاني 1972حين أقام حفلة تعارف منزلية في شقته المستأجرة حديثاً في كامبردج جاردنز، لادبروك جروف، وصلتْ حاسمة أمرها، وبعد ذلك لم يفترقا. كانت النساء دوماً هن من يقمن بالخيار، أما الرجال فيجب أن يكونوا ممتنين إذا حالفهم الحظ واختيروا.

كانت جميع سنوات رغبتهما وحبهما وزواجهما وأبوتهما وعدم إخلاصهما (في معظم الحالات هو)، وطلاقهما وصداقتهما في العناق الذي منحتْه له في تلك الليلة. تجاوز الحدثُ الألمَ بينهما وغسله، وتحت الألم كان هناك شيء قديم وعميق لم يُدمر. وكانا بالطبع أيضاً والديْ الفتى الجميل وكوالدين توحّدا دوماً وانسجما. وُلد ظفر في حزيران 1979 تماماً حين كان يضع اللمسات الأخيرة على رواية  أطفال منتصف الليل. قال لها: “ضعي رِجلاً فوق أخرى. أنا أكتب بقدر ما أستطيع من السرعة”. وفي بعد ظهر أحد الأيام رن جرس إنذار مزيف وفكر: سيولد الطفل في منتصف الليل، لكن هذا لم يحدث، ولد يوم الأحد في 17 حزيران في الساعة الثانية والربع بعد الظهر. وضع هذا في إهداء روايته. إلى ظفر رشدي الذي، بخلاف جميع التوقعات، وُلد بعد الظهر. هذا الطفل عمره الآن تسع سنوات ونصف ويسأل بلهفة: ما الذي يجري؟

قال ضابط الشرطة: ”نريد أن نعرف ما هي خططك الفورية؟” فكر قبل أن يجيب. نطق أخيراً:”ربما سأذهب إلى البيت”، وأكدت الوضعيات المتصلبة للرجال الذين يرتدون الزي الرسمي شكوكه. “كلا يا سيدي، لا أزكي هذا”. ثم أخبرهم، كما كان يعرف طول الوقت أنه سيفعل، عن القبو في ساحة لوندسيل حيث تنتظره ماريان. “هل هو معروف كمكان تؤمه باستمرار؟” “كلا يا حضرة الضابط، ليس معروفاً”. “هذا جيد. حين تعود لا تخرج ثانية الليلة، إذا كان هذا ملائماً. هناك اجتماعات تجري، وسنبلغك نتائجها غداً، باكراً قدر الإمكان. حتى ذلك الوقت يجب أن تبقى في الداخل”.

تحدث مع ابنه، ممسكاً به قريباً منه، مقرراً في تلك اللحظة أنه سيخبر الفتى بقدر الإمكان، مانحاً ما كان يحدث اللون الأكثر إيجابية الذي يقدر عليه، ذلك أن الطريقة الأفضل لمساعدة ظفر في التعامل مع الحدث هو جعله يشعر أنه في داخله، ومنحه نسخة أبوية يستطيع أن يثق بها ويتمسك بها حين يُقْصَف بنسخ أخرى في ملعب المدرسة أو على شاشة التلفزيون. وقالت كلاريسا إن المدرسة تبنت موقفاً رائعاً ومنعت دخول المصورين وطاقم التلفزيون الذين أرادوا تصوير ابن الرجل المهدد، وكان الفتيان عظيمين أيضاً فقد توحدوا دون نقاش حول ظفر وسمحوا له بقضاء يوم عادي، أو تقريباً عادي، في المدرسة. وكان جميع أولياء الأمور تقريباً داعمين، وبعد أن وبخ المدير واحداً أو اثنين طالبا بطرد ظفر من المدرسة لأن حضوره المتواصل يمكن أن يعرض أطفالهم للخطر تخليا عن موقفهما بخجل. وكان من المقوي للقلب رؤية الشجاعة والتضامن والمبدأ يعملون في ذلك اليوم، وأفضل القيم الإنسانية تقف ضد العنف والتعصب الأعمى (الجانب المظلم للسلالة البشرية) في الساعة ذاتها حين بدا أنه من الصعب مقاومة المد المتصاعد للظلام. ما كان غير قابل للتفكير حتى ذلك اليوم صار قابلاً. لكن في هامبستيد، في مدرسة هول، كانت المقاومة قد بدأت.

“هل سأراك غداً يا أبي؟” هز رأسه. ثم قال: “لكنني سأتصل بك. سأتصل بك كل مساء في السابعة”. وقال لكلاريسا: ”إذا لم تكوني موجودة اتركي لي رسالة على الآلة المجيبة من فضلك في المنزل وقولي متى أتصل بدلاً من ذلك”. حدث هذا في أوائل 1989، وكانت مصطلحات جهاز كمبيوتر ولابتوب وهاتف خليوي وموبايل وإنترنت ووايفاي وإس إم إس وإيميل إما مجهولة أو جديدة. ولم يكن يمتلك حاسوباً أو هاتفاً نقالاً. لكنه كان يملك منزلاً، حتى ولو لم يكن بوسعه قضاء الليل فيه. وفي المنزل آلة مجيبة ويستطيع أن يتصل ويستجوبها (وهذا استخدام جديد لكلمة قديمة) ويحصل على، كلا، يستعيد رسائله. كرر:”الساعة السابعة. كل ليلة، حسناً؟” هز ظفر رأسه بجدية:”حسناً يا أبي”.

ساق السيارة إلى المنزل لوحده وكانت الأنباء في المذياع كلها سيئة. وحدثت قبل يومين “أعمال شغب بسبب رشدي” أمام المركز الثقافي الأميركي في إسلام آباد، في باكستان. (لم يكن واضحاً لماذا اعتُبرت الولايات المتحدة مسؤولة عن رواية الآيات الشيطانية). أطلقت الشرطة النار على الحشد وقتلت خمسة أشخاص وجرحت ستين آخرين. وكان المتظاهرون يحملون لافتات كُتب عليها أنت ميت يا رشدي. وتضاعف الخطر بشكل كبير الآن بسبب رجل دين قوي، وهو رئيس دولة أمر بقتل مواطن من دولة أخرى، لا يمتلك عليها سلطاناً قضائياً، ولديه قتلة في خدمته وقد استُخْدموا من قبل ضد “أعداء” الثورة الإيرانية، بمن فيهم الذين يعيشون خارج إيران. ثمة كلمة جديدة عليه أن يتعلمها، سمعها من المذياع وهي: تطبيق القانون خارج الحدود، لكنها معروفة أيضاً باسم آخر: الإرهاب الذي ترعاه الدولة.  قال فولتير مرة إنها فكرة جيدة أن يعيش كاتب قرب حدود دولية بحيث أنه إذا أغضب الرجال الأقوياء يستطيع الهرب عبر الحدود ويكون آمناً. غادر فولتير فرنسا إلى إنكلترة بعد أن انتقد أرستقراطياً يُدعى الفارس دي روهان، وبقي في المنفى  لسبع سنوات. لكنه لم يعد آمناً أن تعيش في بلاد مختلفة عن بلاد مضطهديك. والآن يوجد فعل خارج الحدود. بتعبير آخر، يأتون إليك.

كان الليل في ساحة لونسديل بارداً ومظلماً وصافياً. وكان هناك شرطيان في الحي. حين خرج من سيارته تظاهرا أنهما لم يلاحظا ذلك. كانا في دورية قصيرة، يراقبان الشارع قرب الشقة على مسافة مائة ياردة في جميع الاتجاهات، واستطاع سماع وقع خطواتهما حتى وهو في الداخل. أدرك في ذلك الصمت المسكون بوقع الخطوات أنه لم يعد يفهم حياته أو ما يمكن أن يطرأ عليها، وفكر للمرة الثانية في ذلك اليوم أنه ربما لا يوجد الكثير من الحياة كي يُفهم. ذهبت بولين إلي بيتها ونامت ماريان باكراً. كان يوماً يجب أن يُنسى. كان يوماً يجب أن يتم تذكره. دخل إلى الفراش إلى جانب زوجته واستدارت إليه وتعانقا بتصلب كمثل الزوجين غير السعيدين اللذين كاناهما. ثم بشكل منفصل استلقى كل واحد منهما مع أفكاره، ولم يفلحا في النوم.

وقعُ خطى. شتاء. جناحٌ أسود يرفرف على هيكل تسلق. “أعلن للمسلمين الغيارى في أنحاء العالم”، ريسل تي، روسل تي، مو، مو، مو. “إعدام هؤلاء على وجه السرعة أينما وجدوهم”. ريسل تي، روسل تي، هي بومباسيتي، كنيكتي ناكيتي، ريتروكوكواليتي، ويلبوي ولابي، مو مو مو (أغنية للأطفال).

هوامش  المترجم

١- تشارلز بروس تشاتوين روائي وصحفي بريطاني ومن كتاب أدب الرحلات.

٢- الملك تشارلز الأول، كان ملك الممالك الثلاث إنجلترا واستكتلندا وإيرلندة من ١٦٢٥ حتى إعدامه في ١٦٤٩.

٣- أوليفر كرومويل كان قائداً عسكرياً وسياسياً بريطانياً. خدم كلورد حامي لكومنولث بريطانيا واسكتلندل وإيرلندة من ١٦٥٣ حتى وفاته.

٤- بول فريدريك سيمون مغني ومؤلف أغاني وممثل أميركي.

٥- مارتين لويس آميس روائي وكاتب مقالات ومذكرات وسيناريوهات بريطاني اشتهرت روايتاه نقود وحقول لندن.

٦- بول إدوارد ثيرو روائي وكاتب رحلات أميركي، وحظيت روايته بازار سكة الحديد الكبير بشهرة كبيرة.

٧- بيل بوفورد كاتب وصحفي أميركي.

٨- غرانتا مجلة أدبية بريطانية.

٩- فيلم رعب أميركي (١٩٦٣) أخرجه وأنتجه ألفرد هتشكوك، يركز على هجمات مفاجئة وعنيفة تقوم بها طيور على الناس في بلدة بوديجا بي في كاليفورنيا في غضون بضعة أيام.

١٠- حفنة تراب رواية للكاتب البريطاني إيفلين وو. نشرت في ١٩٣٤. وتنتمي إلى فئة الأدب الساخر.

١١- صامويل رتشاردسون (١٦٨٩-١٧٦١)، كاتب وناشر بريطاني.

١٢- كلاريسا هارلو بطلة مأساوية لإحدى روايات صامويل رتشاردسون.

١٣- آندي وارهول (١٩٢٨-١٩٨٧) فنان أميركي ومخرج ومنتج وكان شخصية بارزة في حركة الفن البصري المعروف باسم فن البوب.

المدن

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى