أبحاث

كيف تحوّل الأسد أيقونة يتغنّى بها اليمين المتطرّف؟/ أحمد عيساوي

ذات زيارة لباريس عام 2012، وفي شارع يؤدّي إلى البانتيون، هزّتني صورة كبيرة تجمع بشار الأسد وفلاديمير بوتين وسط صيحات بالفرنسية تدعم “سوريا الدولة المستهدفة من الصهيونية والإمبريالية”. علمتُ لاحقاً أنّ مجموعات فرنسيّة متطرّفة دعت إلى وقفة مضادة للوقفة الأسبوعية التي اعتاد تنظيمها سوريّون – باريسيون في شاتليه، مطلع الانتفاضة الشعبية للفت الأنظار إلى الحراك الحاصل في سوريا والقمع الذي يتعرّض له المتظاهرون. صورة الأسد التي ترتفع في العاصمة الفرنسية تشبه إلى حدّ كبير تلك التي ارتفعت في شوارع ألمانية وإيطالية وأميركية، تجمعها شعارات التفوّق الأبيض والعداء للساميّة والإسلاموفوبيا والدعوة إلى طرد المهاجرين. تلك الشعارات التي عبّر عنها أحسن تعبير جمهور جايمس أليكس فيلدز – بعد دهسه سيدة مناوئة للتظاهرات اليمينية العنصرية في شارلوتسفيل – من خلال خروجهم تحت عباءة الـKu Klux Klab بتيشرتاتٍ طبعت عليها صور الأسد وذيّلت بعبارة “الرجل القوي”.

لـ“الرجل القوي” جمهور عربي، لاتيني، وأوروبي واسع يمتدّ من أقصى اليسار-  الذي يجمع شيوعيين ومناهضين للإمبريالية وأنتي-كولونياليين ومؤيدين حتماً للقضية الفلسطينية ويساريين بافلوفيين، أصابتهم لوثة الديكتاتورية- إلى أقصى اليمين الذي يحضر فيه النيو-فاشيست والنيو-نازيون ومجموعات السكينهيد والألترا- قوميون والمتشدّدون دينياً وكارهو المثليين. وإذ تحضر صورته في تلك الساحتين، يحضر معها طيفُ المدافعين عن الأقليّات والحداثة المشرقية ومفهوم الـ Realpolitik والمروّجون لخيارات الواقعية السياسية في “عالم يصعب فيه تحقيق الأحلام”.

لا يُنفى هيام تيارات يسارية- عربية ولاتينية بشكل خاص- حدّ التقديس بشخصية الأسد وبنظامه، لكن يمكن البحث عن الأسباب والمحطات والعلاقات التي جعلت تيّارات اليمين المتطرف العالمي عموماً والفرنسي خصوصاً ترفع في محافلها صور الطاغية الأكثر دموية في القرن الواحد والعشرين.

من بين مشاهد كثيرة في فيرجينيا عام 2017، يبقى مشهد ديفيد ديوك (الناشط السابق في كو كلوس كلان) وهو يقود تظاهرة للDark enlightenment، التيار المحافظ المعادي للديموقراطية، تحيته للأسد الأكثر تجسيداً للفكرة التي يقوم عليها التنظيم: الحاجة إلى قائد قوي يتماهون معه وتصبح مشروعيّته المستندة إلى الحديد والنار والأرض المحروقة والجثث المكدّسة، مشروعيّة خاصّة بهم. نجاح القائد القوي الذي يقتل شعبه يعدّ رصيداً لهؤلاء يستثمرونه في تأكيد تفوّقهم العرقي على السود وسائر الفئات المختلفة عنهم في الولايات الأمريكية. لذلك لا نرى صورة الأسد على حسابات المتفوّقين البيض في وسائل التواصل الإجتماعي من دون البزّة العسكرية ونظّارات المراقبة، مرفقةً بشعارات كـ”الذي لا يهزم” أو “المنتصر دائماً”.

لا يمكن تفسير تلك العلاقة من دون العودة إلى ميزان الصداقات والعداوات التي يقيمها اليمين المتطرّف في أوروبا والعالم. فالحركات الأوروبية كـ”فورزا نوفا” و“كازا باوند” الإيطاليتين، الفجر الذهبي” اليوناني، “البديل من أجل ألمانيا”، “التجمّع الوطني” في فرنسا وتيارات القومية الإسبانية والبلجيكية والبولونية والمجرية، تناصب العداء لمعسكرين اليوم: معسكر الإسلاميين (ومن خلفهم كلّ المسلمين) والموندياليست (ومن خلفهم كل الإستبلاشمنت بليبرالييه واشتراكييه). وتعتبر تلك التيارات أنّ الإستبلاشمنت متواطئ مع الإسلاميين ويدعم مشاريعهم بطريقة مباشرة عبر معاداة الأسد “العلماني المدافع عن الأقليات ضد بربرية داعش”، وغير مباشرة عبر استقبال المهاجرين وفتح الممرات الإنسانية وسياسات التضامن الأهليّ.

لكنّ عشق اليمين المتطرّف الأوروبي الذي تكلّل بزيارات مكوكية لبرلمانيين فرنسيين وألمان (AFD) بدأ يأخذ طابع الحجّ السنويّ يطعّمه الترويج لبروباغاندا “لماذا لا نتحدّث مع الأسد؟”. لكن عن ماذا يريد هؤلاء أن يتحدّثوا؟ عن نصف مليون قتيل وأضعافهم من الجرحى والمعوّقين؟ عن 70 في المئة؜ من الأرض المحروقة والأبنية المدمّرة؟ عن ربع مليون معتقل ومثلهم من المفقودين؟

يذهب تيري مارياني، النائب اليميني الذي قدّم استقالته من حزب الجمهوريين والتحق بصفوف التجمّع الوطني، في شرحه الأسباب التي تدفعه إلى زيارة الأسد بالقول “الشرق الأوسط بحاجة لشخص قوي يحافظ على توازن القوى كبشار الأسد. إنّه شخص يحمل قيمنا ويؤمن بعلمانيّة الدولة ويدافع عن الأقليّات المهدّدة بالخطر الإسلامي”. إذاً، يحمل بشار الأسد قيم تيري مارياني ومارين لوبان واريك زيمور وآخرين ممّن ارتبطت أسماؤهم بخطاب العنصريّة والكراهيّة. وقد شاءت الأقدار، أن يتحوّل حزب جان-ماري لوبان من أوّل خطّ هجوم ضد الشيوعية وأوّل خط دفاع عن الثقافة الغربية والهوية الكاثوليكية قبل سقوط الاتحاد السوفياتي (عارض جان-ماري لوبان غزو صدام حسين الكويت) إلى الحليف الأوّل للديكتاتوريات العربية، فدافع عن الطغاة باسم التمايز الثقافي وبحجّة أنّ الديموقراطية الغربية ستكون مؤذية للشعوب العربية. قناعٌ أحسن اليمين المتطرّف استخدامه لتبرير معارضته حركة الهجرة للمسلمين والعرب إلى فرنسا.

تعود أوّل زيارة لشخصية يمينية متطرّفة إلى دمشق إلى عام 1994، حين زار زعيم الـGUD (مجموعة اتحاد دفاع اليمينية المتطرّفة التي نشطت في سنوات السبعينات وتميّزت بنشاطاتها التي اتخذت طابع العنف إزاء اليهود والعرب والمعادين للفاشية)، فريديريك شاتييون حافظ الأسد وبدأ ينسج علاقات مع وزير الدفاع مصطفى طلاس، ولاحقاً مع نجله مناف طلاس. أنشأ شاتييون مؤسسة “رِوال” (Riwal) التي تعنى بتقديم الاستشارات الإعلامية في مجال التواصل التقني ووضع خطّة للتنسيق بين وزارة الإعلام السورية ومؤسسته بهدف “تقديم مادة إعلامية مهنية تعمد إلى إطلاع الفرنسيين على ما يحصل في سوريا”.

تكرّرت زيارات شاتييون إلى سوريا – التي كان يدخلها دائماً من لبنان- وتوطّدت علاقته بمسؤوليين سوريين ولبنانيين (قوميين سوريين ومقرّبين من حزب الله) في الفترة ما بعد حرب تموز/ يوليو 2006. وعقد لقاءات عدة برفقة آلان سورال (الذي انتقل من أقصى اليسار إلى أقصى اليمين) مع ناشطين لبنانيين، كان نافذة الوصول إليهم أحد صقور “الشبيبة القومية الباريسية” سيرج أيوب المولود في باريس لأم فرنسية وأب من أصول لبنانية، شارك في حرب الجزائر كجنديّ فرنسيّ وفي الحرب اللبنانية كمقاتل في صفوف الجبهة اللبنانية.

نشرت “لو جورنال دو ديمانش” مقالاً في 26 تشرين الأول/ أكتوبر 2016، عن فريديريك شاتييون وعلاقاته مع النظام السوري، ورأت أنّ حافظ الأسد أراد من خلال شاتييون فتح بوّابة في الباحة الخلفيّة للإليزيه كي يستطيع لعب تلك الورقة في وجه الديبلوماسية الديغولية، التي انتهجها جاك شيراك آنذاك في حال تبدّلت الأحوال. واستمرّ الأمر في حقبة نجله بشار في ظلّ رغبة ثنائية فرنسية – سورية لتوطيد العلاقات، فكان منبر InfoSyrie الإعلامي الذي يعمل كنشرة بروباغندا رسميّة منذ بداية الانتفاضة الشعبية السورية في آذار/ مارس 2011.

في عددها الصادر في 21 شباط/ فبراير 2017، وفي معرض حديثها عن زيارة مارين لوبان لبنان، استعادت مارين تورشي في موقع “ميديابار” الشبكات التي نسجها اليمين المتطرّف في سوريا ولبنان، وتحدّثت عن علاقة شخصية تجمع فريديريك شاتييون بكوادر تابعة لـ”حزب الله”، كان الرئيس ميشال عون المعبر إليها في الفترة التي تلت توقيع وثيقة مار مخايل. وتذهب الكاتبة إلى القول إنّ “تلك العلاقات لم تهتزّ، وأخذت طابع الودّ والبراغماتية بعد اندلاع الثورات العربية”.

يعبّر مريدو اليمين المتطرّف في فرنسا عن إعجابهم ببشار الأسد: “رجلهم الأبيض” الذي يقتل “مسلمين” في سوريا. وفي هذا ما يرضي مزاجهم العام ويحفّز ذائقتهم العنفيّة التي تستبشر عقاباً لهؤلا “فقراء البادية وسهل حوران، سمر اللون، الذين يستحقون عقاباً جماعياً”. وتلك صورة لا تكتمل إلا بوجود نبيّ هذا اليمين المتطرّف: فلاديمير بوتين الحليف الأوّل لبشار الأسد.

موراسيّون ايديولوجياً، بونابارتيون مع لمعةٍ في العينين، “رواياليست” وحلم بعودة الملكيّة يراودهم، كاثوليكيون راديكاليون راغبون في أوروبا المسيحية، هوسار في تعلّقهم الأدبي، تغلب عليهم سمة معاداة اليهود والمسلمين، تواقون لرفع السلام النازي والتحية الفاشية، يجمعهم شخص واحد اليوم: بشار الأسد، أيقونتهم في صعودها الأخّاذ وتفوّقها الأبيض الذي يناجي باب الهزل والمأساة، وهو إذ يطرح كل الصور جانباً، يبدو أقرب إلى الماسكوت الضفدع Pepe منه إلى كبار السفّاحين.

درج

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى