سياسة

حصاد ستيفان دي ميستورا -مقالات مختارة-

 

 

الهارب دي مستورا/ عمر قدور

لم يحظَ خبر تقديم المبعوث الدولي ستيفان دي مستورا استقالته، التي يُفترض دخولها حيز التنفيذ نهاية الشهر المقبل، باهتمام في الأوساط المعنية بالشأن السوري. دي مستورا نفسه برر تنحيه بأنه لأسباب شخصية، ومن الواضح أنه لا يريد على غرار مسؤولين أمميين آخرين ربط استقالته باحتجاج أو اعتراض ما على سياسات دولية، وكأنه أراد بهذا التبرير تمرير خروجه من الباب الخلفي بهدوء شديد.

قد نقول أن هذا الخروج يليق به حقاً، فالسجل السوري للرجل خالٍ من الإنجازات التي تجعل من استقالته خبراً مهماً، وخلال ما يزيد عن خمسين شهراً من تسلمه مهمته لم يُظهر الحساسية المطلوبة من شخص يتابع عن كثب المقتلة التي ربما ستكون الأفظع في هذا القرن. دي مستورا تصرف طوال هذه المدة كموظف أمين لدى القوى الكبرى، فلم يكن للسوريين اعتبار في أجندته، والمرات التي بانت فيها كفة انحيازه بدا أقرب إلى مواقف أصدقاء الأسد، بل يصح القول بأنه كان مرتاحاً ومتناغماً جداً مع الانسحاب الأمريكي والغربي عموماً من الملف السوري، لأن عدم وجود رؤى عديدة متغايرة يجعل وظيفته أكثر بساطة.

من الاعتبار الأخير فقط يمكن الظن بأنه لم يعد مرتاحاً جداً في مهمته، ومشكلته هي مع أصدقائه الروس والإيرانيين قبل أن تكون مع أي طرف آخر. فموسكو تعتقد أنها أمسكت بالملف السوري إلى الحد الذي يتيح لها فرض إملاءاتها على الجميع، وفي مقدمهم الأمم المتحدة، وهي حاولت من قبل عبر ما سُمّي مؤتمر سوتشي نزع الورقة السياسية من المجتمع الدولي، أي أن المشروع الروسي يتضارب حتى مع الحد الأدنى الذي يعمل وفقه دي مستورا، وتحققه يعني إقالته من وظيفته فعلياً بما أن التصور الروسي مضاد أصلاً للقرارات الدولية التي أوجدت مهمته ومَن تسلمها سابقاً. واحد من هذه المظاهر نجده في محاولة نسف اللجنة الدستورية التي بذل دي مستورا جهداً كبيراً لتكون بديلاً عن المفاوضات السياسية، وعمل فيها على منح أرجحية غير معلنة لممثلي الأسد، ولم يكن هذا كافياً لإرضاء موسكو.

ورغم أن دي مستورا لا يتحمل مسؤولية المدّ والجشع الروسيين إلا أنه أدى دوره على أكمل وجه، فهو منذ التقط الموافقة الأمريكية على التدخل الروسي بات يراهن على نجاحه لإنجاح مهمته، وعلى الفوز بصفقة سياسية ما يخرج من خلالها كصاحب إنجاز. بالتأكيد يعرف الرجل أن أية صفقة يقبلها الروس ستكون على حساب حقوق السوريين، ويدرك من خلال تواصله مع سلطة الأسد أنه يتعامل مع سلطة غير مكترثة بالقوانين الدولية لتكترث بالقوانين المحلية الحالية أو المقبلة. تالياً يعرف أن الصفقة التي ينتظرها مهمتها فقط تجميل سلطة الأسد، وإظهاره كنظام قابل للتأهيل، إلا أن كل ذلك ما كان ليدفعه إلى تقديم استقالته احتجاجاً، وجلّ اهتمامه بقي منصبّاً على وجود توافق دولي يحمي وظيفته ويعده بنهاية خدمة جيدة وفق أسوأ المعايير الشكلية الغربية.

نستطيع أن نستذكر كيف كان الرجل يعرض نفسه وسيطاً في عمليات تهجير المدنيين، على نحو ما فعل عشية اقتحام الغوطة، وكيف تبنى الرواية التي تبرر الانقضاض الروسي على إدلب، قبل تراجع موسكو عن العملية بموجب تفاهم مع أنقرة. ونستطيع أن نستذكر دور مكتبه ونائبه في دمشق، حيث اقتصرت المهمة تقريباً على تغطية انتهاكات الأسد لعمل فرق الأمم المتحدة والقرارات الدولية الإنسانية، وهذا كله ظهر إلى الإعلام الغربي، من دون أن يخرج دي مستورا ليقرر الاستقالة على وقع الفضائح.

في وظيفته الأساسية اجتهد الرجل لإضعاف موقع المعارضة، رغم عدم حدوث مفاوضات سياسية جدية. لقد قام على هذا الصعيد بعمل استباقي يُحسب له، ولو أن المفاوضات التي تمنح أرجحية للأسد كما رتب لها لم تأتِ، وربما بات على قناعة بأنها ليست في متناوله. بدءاً من إشرافه الشخصي على مهزلة إشراك المجتمع المدني، في مفاوضات لا تحدث أصلاً، راح دي مستورا يوافق على الشخصيات التي يرشّحها الأسد ضمن حصته المنظورة، بينما يختار لتمثيل المعارضة أشخاصاً ليس لهم رصيد مجتمعي أو سياسي معروف، والميزة الوحيدة للبعض منهم هي الركاكة التي تجعلهم مطواعين لما يريده المبعوث الدولي منهم. على هامش المفاوضات المنتظرة ربما لم يحدث في أية سابقة شبيهة أن امتلأ المسرح بعدد هائل من الكومبارس، والهدف الوحيد الذي يمكن الجزم به هو تسخيف المسرحية ذاتها إلى أقصى حد وبإخلاص من المخرج نفسه.

وفق الاستعارة ذاتها ستكون مستغربة مبادرة المخرج إلى الاستقالة قبل موعد الافتتاح، إلا إذا افترضنا هربه من فداحة الفضيحة التي أعدّها، وهذا ما لا يتفق كثيراً مع مساره. يمكن لنا أن نفترض أيضاً أن المشرفين الكبار على إنتاج المسرحية على وشك التخلي عنها، وأنه اشتم هذه الرائحة في الجو فقرر الانسحاب. وقد يكون هذا الافتراض أقرب إلى الواقع لتوافقه مع مزاجي ترامب وبوتين، فالأول لا يخفي غرامه بالصفقات المنفردة خارج التوافقات الدولية، مثلما لا يخفي عداءه لكافة المنظمات والهيئات التي انضمت إليها بلاده بدعوى عدم عدالتها، والثاني يعتمد على بنيته التسلطية والتوسعية المعادية لمفهوم القانون برمته، ولا يريد أدنى حضور للمنظمات الدولية بوصفها ممثلة له. ذلك لا يؤشر تلقائياً إلى صفقة جاهزة بين الاثنين في الملف السوري، لكنه يدل على استغنائهما عن الواجهة الدولية واعتبارها في المتناول عندما يُطلب منها، بحضور دي مستورا أو بغيابه.

من المرجح أن يدرك دي مستورا انقضاء المرحلة التي كان واحداً من عناوينها، وقد أدى ما هو مطلوب فيها لجهة تمييع كذبة الحل السياسي في انتظار الحسم العسكري لصالح الأسد. لن يكون مهماً من يخلفه في وظيفته، والأسماء المتداولة حتى الآن لا تملك سجلاً وخبرة يُنتظر منهما فعالية ما. الطريف في الأمر أن مسؤولي الأسد أول من بادر إلى الترحيب برحيله، دونما تقدير أو وفاء لخدماته. وفي الواقع لن يكون غيابه ملحوظاً سوى من أولئك السوريين الذين توهموا أدواراً تفوق أحجامهم، بسبب انخراطهم في اللجان والمكاتب التي شكّلها بأسماء مختلفة مثل المجتمع المدني أو اللوبي النسائي وسواهما؛ هؤلاء هم كومبارس دي مستورا وأيتامه الذين انتهت صلاحيتهم أيضاً.

المدن

 

 

 

 

 

قراءة مغايرة لإرث دي ميستورا/ حسين عبد العزيز

ليس هدف هذا المقال الدفاع عن المبعوث الأممي إلى سورية، ستيفان دي ميستورا، وإنما قراءة تجربته بناء على معطيات السياسة وموازين القوى الدولية. وهذا يقود أولا إلى مسألةٍ في غاية الأهمية، هي أن إنجازات دي ميستورا أو مواقع فشله، ليست مرتبطة في قدراته وإمكاناته بالدرجة الأولى، بقدر ما هي مرتبطةٌ بما هو متاح له من القوى الدولية الفاعلة للقيام به. ويقودنا ثانيا إلى ضرورة نزع أية اعتباراتٍ أخلاقية عن رؤية المبعوث الأممي للحل في سورية، كما ذهب بعضهم إلى ذلك، حين اعتبروا أن خطأ دي ميستورا الكبير أنه لم يتعامل مع جذر الأزمة المتمثل في البعد الأخلاقي، أي النظر إلى الأزمة من حيث أنها بالأساس ثورة، وليست نزاعا مسلحا.

بعبارة أخرى، يمنعنا إضفاء أي بعد أخلاقي على عمل دي ميستورا من رؤية اتجاه رياح السياسة الدولية وفهمها، فإذا كانت مهمة كوفي عنان والأخضر الإبراهيمي قد فشلتا، فذلك لأن طبيعة المرحلة آنذاك لم تسمح بحدوث اختراقاتٍ، بغض النظر عن الشخوص الوسيطة في النزاع. وإذا كان دي ميستورا قد حقق بعض التقدم، فذلك لأن طبيعة المرحلة اختلفت، وفرضت معطياتٍ سمحت للرجل بتقديم شيء ما، بدا مرفوضا من المعارضة والنظام على السواء، لأن النظام لا يريد أي تقدّم في العملية التفاوضية السياسية، في حين تريد المعارضة كل شيء، وما فشلت في تحقيقه على الأرض تريد الحصول عليه من بوابة السياسة.

هاتان رؤيتان متناقضتان ومخالفتان حقيقة الواقع. ولذلك رفضتا مسار دي ميستورا مع ما يمثله من انعكاسٍ لماهية الواقع الدولي.

وبالنسبة للمجتمع الدولي، كان لا بد من كسر الستاتيكو السياسي الحاصل، وإعادة البحث عن حلول خلاقة، فتوصلت موسكو وواشنطن إلى أن الحل السياسي غير ممكن، من دون تهيئة الظروف المناسبة له، ثم توصلتا لاحقا إلى أن صيغة قرار مجلس الأمن الدولي 2254 يصعب تطبيقها، وكانت مهمة دي ميستورا تجسيد هذه التفاهمات عمليا.

قُلبت، في مرحلة دي ميستورا، استراتيجية التفاوض من الأعلى إلى الأسفل. وليس معلوما تماما ما إذا كانت عملية القلب هذه كانت من أفكار المبعوث الأممي، أم هي من أفكار مؤسسة راند التي قدّمت في تقاريرها الأربعة “خطة طريق من أجل سورية”، رؤية للحل في سورية، تبدأ من الميدان، وتنتهي في السياسة.

وفي كل الأحوال، طبقت الخطة، وأنشئت مناطق خفض التوتر لتحقيق هدفين، الأول التفرغ لمقاتلة “داعش”، والثاني لإقصاء المعارضة تدريجيا عن المشهد العسكري. وفي مرحلته أيضا، تم استبعاد سلة الحكم من عملية التفاوض، والانتقال إلى سلة الدستور، في مخالفةٍ واضحةٍ للفقرة الرابعة من قرار مجلس الأمن 2254 الذي ما زال المرجعية السياسية والقانونية الوحيدة للحل في سورية. وقد نجم هذا التغيير عن قراءةٍ تعتبر أن التراتب الذي حدده هذا القرار (الحكم، الدستور، الانتخابات) لن يفضي إلى أية نتائج، فالبند الأول (الحكم) يتضمن تقاسما للسلطة، وهو مسألةٌ في غاية التعقيد، بسبب تشابك النظام مع الدولة أولا، وبسبب تعقّد بنية المؤسستين، الأمنية والعسكرية ثانيا، وبسبب أن النظام ليس في وارد التنازل عن جزءٍ من سلطاته، من دون معرفة إلى أين سينتهي المسار السياسي ثالثا.

لذلك لجأت الأمم المتحدة إلى سلتي الدستور والانتخابات، فمن شأن التوصل إلى دستور جديد، أو إعلان دستوري، أن يبلور تصوّرا واضحا لشكل الحكم المقبل.

بعبارة أخرى، الاتفاق على سلتي الدستور والانتخابات يعني بالضرورة الاتفاق على جزءٍ من المبادئ السياسية العامة، فلا يمكن بأي شكلٍ إعادة صياغة الدستور والانتخابات بمعزلٍ عن المبادئ العليا للانتقال السياسي، وهذه خطوةٌ تكتيكيةٌ مهمةٌ، تساعد وتسرّع في الوصول إلى تفاهمات.

على سبيل المثال، سيتضمن الدستور الجديد المبادئ العامة لشكل نظام الحكم وآلية الإصلاحين، السياسي والإداري، شرط أن تنشأ، بعد مرحلة كتابته، بيئةٌ محايدةٌ تقود إلى انتخاباتٍ حرّة ونزيهة.

لم يضع دي ميستورا معالم محددة لتغيير/ تعديل الدستور، وإن اكتفى بالقول إن تغيير النظام السوري سيكون من بوابة الدستور والانتخابات. ولكن من وثيقته المعدلة ذات الـ 12 بندا، يبدو أن الأمم المتحدة تميل إلى تعديل الدستور الحالي، المشكل منذ عام 2012، بحيث ترقى التعديلات إلى تغييرات مهمةٍ في منطوقه، وتؤسس لعملية حوكمةٍ لا تؤدي إلى إسقاط النظام الحالي، ولا تسمح له، في الوقت نفسه، بإعادة إنتاج نفسه.

لقد ترك دي ميستورا وراءه إرثا يستطيع المبعوث الجديد البناء عليه، بغض النظر عن النتيجة النهائية للحل التي تخالف رؤيتنا في ضرورة القضاء نهائيا على نظام الاستبداد.

العربي الجديد

 

 

 

 

 

عن ستافان دي مستورا والأخلاق الدولية/ زياد ماجد

أعلن السيد ستافان دي مستورا، مبعوث الأمين العام للأمم المتحدة الخاص إلى سوريا، أنه سيتخلّى عن منصبه آخر شهر تشرين الثاني (نوفمبر) المقبل، بعد أن أمضى أكثر من أربع سنواتٍ فيه قضاها يجول بين العواصم ويعقد الاجتماعات ويُطلق التصريحات ويراكم كل سنة دخلاً وامتيازات دبلوماسية وتوظيفية، من دون أن يقترن اسمه بإنجاز واحد أو بموقف صارم واحد أو حتى بمبادرة رصينة واحدة من وحي القرارات الأممية التي صدرت خلال سنوات مهامه.

أكثر من ذلك، يترك دي مستورا عمله بعد أن ساهم في تحويل المباحثات حول ما سُمّي سلاماً سورياً في جنيف بين النظام الأسدي ومعارضاته إلى “تفاوض من أجل التفاوض”، على الطريقة الإسرائيلية الفلسطينية، اختفت من جدوله توصيات مؤتمر جنيف الأول (المنعقد برعاية سلفه كوفي أنان في 30 حزيران/يونيو 2012)، وسُمح فيه للنظام باستبعاد كل بحث سياسي لصالح البحث الأمني التقني، بما مكّنه مع الوقت، مدعوماً بالتدخّل العسكري الروسي، من القضاء على “المسار الجنيفي” برمّته.

في تجاهل القانون الدولي

ولعلّ أسوأ ما وسم أداء دي مستورا في فترة عمله كان تجاهله خلال “وساطاته” لِعددٍ من قرارات مجلس الأمن الدولي، لا سيما القرار 2139 الصادر في 22 شباط (فبراير) 2014 والداعي لإنهاء هجمات “جميع الأطراف” ضد المدنيّين ورفع الحصار عن مناطق في دمشق وحلب وحمص وإدلب ووقف قصف بعضها بالبراميل وإدخال المساعدات الإنسانية إليها. فالقرار هذا أُسقط من جولات التفاوض، واستبدله دي مستورا بتصريحات دعا فيها بعد العام 2015 الى إخراج المدنيين من مناطق محاصرة، أو إخراج مقاتلين معارضين أو جهاديين من مناطق أُخرى، مستسلماً بالتالي للمواقف الروسية المبرّرة خسائر المدنيين في القصف بعدم خروجهم من المناطق المستهدَفة، والمحمّلة مجموعات من “المسلّحين” مسؤولية ضربها لمدن وبلدات (ومستشفيات) يتمركز بعضهم فيها. وفي الحالين، ناقض المبعوث الأممي القانون الدولي الإنساني، وفي مقدّمه اتفاقية جنيف الرابعة التي تنصّ على حماية المدنيّين من العمليات العسكرية، وليس تهجيرهم أو تقديم الذرائع للمعتدين عليهم بحجّة وجود مجموعات مسلّحة (حتى وإن كانت جهادية) في أحيائهم.

إضافة إلى ذلك، لم تصدر عن دي مستورا على مدى سنوات مهامه مواقف أو مبادرات فعّالة تُظهر متابعته وفريق عمله لملفّ السجون والمُعتقلات السورية الذي عُرض أكثر من مرّة على مجلس الأمن، وصدرت بشأنه توصيات وتصريحات لممثّلي عدد من الدول الأعضاء، ونُشرت حوله تقارير مفصّلة من منظمات حقوق إنسان وهيئات حقوقية دولية، تُشير جميعها إلى المذبحة الواقعة فيها وعشرات الآلاف من ضحاياها. فصمتُه في هذا الباب، أو على الأقل عدم إصراره على البحث فيه وتحويله إلى قضية مركزية في “التفاوض” وفي الاتصالات التي يجريها، بدا تسليماً منه بوقوع واحدةٍ من كبريات الجرائم المُرتكبة والمستمِرّ ارتكابها، واعتبارها مسألة تقنية مثل سواها من مسائل البحث والتفاوض الممكن طرحها أو تأجيلها.

في أخلاق الموظّف الدولي

تسلّم دي مستورا وظيفته قبل تدخّل روسيا العسكري في سوريا بعام وتغييرها أكثر المعادلات الميدانية، وقبل وصول ترامب إلى المكتب الأبيض في واشنطن وتبدّل الإدارة الأمريكية، وقبل وقوع أهوال كثيرة سترافق سنوات “عمله” وتُضاف إلى سياق الأهوال السوري. ولم يبدُ استمراره في منصبه في مواجهة كل هذه التحوّلات، في أيّ من مراحلها، إصراراً شجاعاً منه على العمل أو تمسّكاً بمبادرات والتزامات أو دفاعاً عن أمل بتحقيق اختراق دبلوماسي يلجم آلة القتل المنفلتة. بدا على الدوام رجلاً ملتصقاً بمنصب، متكيّفاً مع كل التبدّلات للبقاء فيه، ولوَ اقتضى الأمر تحوّله إلى شاهد زور على ما يجري، كما حصل بعد اختطاف موسكو للمسار التفاوضي وتحويله من جنيف إلى آستانة حيث انتهى فعلياً دوره كراعٍ للتفاوض ومواكبٍ له.

قبل آستانة التي أطاحت به من دون أن تدفعه إلى الاستقالة احتجاجاً أو احتراماً لذاته ودوره، لم تُعرف لدي مستورا زيارة واحدة لمنطقة سورية خارج سيطرة النظام، كما يفعل الوسطاء في الصراعات عادة، ولا حتى لمناطق النظام نفسه، في ما عدا فندقه في دمشق وأماكن اجتماعاته مع “المسؤولين”. ولم تطأ قدما الرجل مخيّمات لاجئين في الدول المجاورة لسوريا، ولم يُعرف عنه إلمامٌ بالشأن السوري أو اختصاص سياسي يُتيح له قراءةً لما يكتبه باحثون سوريون أو مختصّون حول شؤون البلد الذي يُريد حلّ الصراعات فيه. وما مبادراته لتشكيل هيئات “مجتمع مدني” وإدخال نساء سوريّات إليها لإشراكهنّ في صياغات نصوص وتفاوض سوى محاولات بدت على الدوام مصطنعة وبائسة للظهور بمظهر “التقدمي” و”الحديث” المعني بتوسيع المشاركة المجتمعية وسماع أصوات “مختلفة”، والفارض على سياسيّين ذكوريّين ورجعيّين (هم فعلاً كذلك وأكثر) عناصر نسائية يختارها ومستشاروه تماشياً مع صورةٍ مطلوبة دولياً، ولو أنها بلا مضمون.

على أن سيرة دي مستورا السورية، في ما هي أبعد من شخصه ومهامه، تختصر سيرة أخلاقية دولية تحكم الكثير من علاقات عالم اليوم. فالرجل يُشبه نُظراءه في المنظمات الأممية ويُشبه الكثير من السياسيّين والديبلوماسيين الذين يتعامل معهم لحلّ الأزمات التي تسبّبوا في أغلب الأحوال بها، أو بتعقيداتها. عندهم نفس الغرور والادّعاء المبنيّين على إلمامٍ بلُغتين أو أكثر ومعرفةٍ بخصائص عمل مكتبي وإعداد تقارير واستخدام مصطلحات وأدبيات اجتماعات وتحضير موازنات وتوظيف مستشارين، بالترافق مع انعدام حشريّة ومحدودية ثقافة وغياب حسّ إنساني وعدم اكتراث بموجبات عدالة وقلة احترام للمعرفة بوصفها شرطاً من شروط الخوض في معترك التعامل مع مجتمعات وأنظمة وصراعات متعدّدة المستويات.

وإذا عطفنا على ما ذُكر زبائنيةً وطموحاً سياسياً وسعياً لربح مادي ولتوسيع نفوذ ضمن تنافس على مناصب ومواقع أرفع، وقفنا على محدِدات استمرار دي مستورا وأضرابه في مهامهم لِسنوات، ولَو جرى إفراغها من مضامينها ومن احتمالات نجاحاتها، وعرفنا أكثر لماذا لا يعني لهم الكثير سقوط آلاف القتلى تحت التعذيب في سجون عاصمة يزورونها وعشرات الآلاف الآخرين تحت الحصار أو البراميل المتفجّرة التي يُلقي بها من يجتمعون بهم ويتبادلون الابتسامات واللياقات معهم.

في أي حال، يغادر دي مستورا منصبه، بعد أن سبقه في ذلك الأخضر الابراهيمي وقبلهما الراحل كوفي أنان، وسيحلّ على الأرجح مكانه مبعوث آخر، بمواصفات مشابهة وضمن قواعد علاقات دولية لا شيء يوحي بتعديلها أو تحسينها لا في ما يخصّ سوريا، ولا في ما خصّ الكثير من نزاعات العالم الراهنة وتداعياتها. وهذا بذاته يُعين على فهم أسباب تراجع المنظومة الأممية، المحتاجة لإصلاحات تبدأ بإعادة تعريف دورها وأدوار منظّماتها وكبار العاملين فيها، وتنتهي في مجلس أمنها المعطّل بحقوق الفيتو، المستخدمة غالباً لحماية جرائم أو انتهاكات بعض أعضائه وحلفائهم.

* كاتب وأكاديمي لبناني

القدس العربي

 

 

 

 

حصاد ستيفان دي ميستورا: الفشل الأممي في الملف السوري/ د. خطار أبودياب

لم يُصلح موفد منظمة الأمم المتحدة إلى سوريا ستيفان دي ميستورا ما أفسدته “اللعبة الكبرى” وتبعاتها، وقرر أخيرا، بعد مراوحة في المكان لمدة أربع سنوات، طيّ الصفحة والتخلي عن أداء مهمته. ولم ينجح رهانه على التحدي وتركيب التسويات في هذا الملف المعقد، حيث فشل من قبلُ مبعوثان رفيعان من طراز كوفي عنان والأخضر الإبراهيمي.

يتعدى التقييم الأشخاص وكفاءاتهم وقدراتهم لأنه من دون حد أدنى من الوفاق الدولي والإقليمي لا يمكن إنجاح الجهود لإنهاء الصراعات المسلحة والتوصل إلى تسوية واقعية وعادلة تستعيد وحدة سوريا وتحفظ كيانها ودولتها. ولا يمكن اختصار الفشل بعجز الأمم المتحدة لأن الفشل الأممي ما هو إلا ترجمة لمواقف الكبار وطموحات القوى الإقليمية ولموازين قوى مختلة، ولأن الوظيفة الجيوسياسية للحروب السورية لن تُستنفد قبل إعادة تركيب الإقليم ورسم صورته المستقبلية.

يغادر دي ميستورا منصبه أواخر شهر نوفمبر القادم، ويبدو حصاد عمله هزيلا ومحدودا ودليلا إضافيا على مآزق العمل الدبلوماسي المتعدد الأطراف وعدم احترام المبادئ النظرية لميثاق الأمم المتحدة حول حفظ السلام والحماية الإنسانية، خاصة وأن المرحلة الانتقالية من التخبط والفوضى في النظام الدولي تترك بصماتها على أبرز مسارح النزاع في الشرق الأوسط وسوريا في القلب منها.

بدأت الحكاية الأممية مع ملف الحرب في سوريا، في 23 فبراير 2012، مع تعيين الأمين العام السابق للأمم المتّحدة الراحل كوفي عنان “مبعوثا مشتركا للأمم المتحدة وجامعة الدول العربية للأزمة في سوريا”، لكنه استقال في الثاني من أغسطس من نفس العام بعد بضعة أشهر فقط، وبعد إفشال إعلان المبادئ الذي وضعه ووثيقة جنيف (نهاية يونيو 2012) وحينها كاشف العالم بخلاصته التي لا تزال صالحة حتى يومنا هذا “لقد بذلت قصارى جهدي”، لكن “العسكرة المتزايدة على الأرض والافتقار الواضح للوحدة داخل مجلس الأمن غيّرا بشكل جذري ظروف ممارسة مهامي بشكل فعال”. وأضاف “لم أتلقَّ كل الدعم الذي تستحقه القضية، هناك انقسامات داخل المجتمع الدولي”، مشيرا، ضمنا، إلى ثلاثة قرارات بشأن سوريا منذ بداية الأزمة استخدمت فيها موسكو وبكين حق النقض لوأدها. ومن دون شك لم يكن “الغموض البناء” خير مساعد في الدفع نحو الحل، إذ أن التحدث عن ضرورة الإجماع للتوصل إلى تفاهم على الحكم الانتقالي يعد غموضا غير بنّاء جعل الدبلوماسية هدامة أي غير بناءة وخلاقة في إيجاد المخارج.

بيد أن ترابط تحولات ما بعد 2011 من ليبيا إلى المشرق والاندفاع الغربي أنتجا تشددا من الطرف الآخر حيث استخدمت موسكو 12 مرة حق النقض في الأمم المتحدة لحماية حليفها السوري، وكان ذلك أحد أسباب عدم إيجاد حل أممي.

ولم يكن حظ وزير الخارجية الجزائري الأسبق، الأخضر الإبراهيمي، أفضل من سلفه كوفي عنان، وقد صمد في مهمته من سبتمبر 2012 إلى مايو 2014. وتمكن في بداية 2014 من تنظيم أول مفاوضات مباشرة بين الحكومة والمعارضة في جنيف برعاية الولايات المتحدة وروسيا، لكن المفاوضات تعثرت بسبب رفض دمشق المطلق البحث في مصير بشار الأسد، ونتيجة الانقسام الدولي الحاد. وفضل الإبراهيمي الانسحاب بعد أقل من عامين على الجهود غير المثمرة، واصفا الوضع في سوريا بأنه “صعب جدا، ولكن ليس ميؤوسا منه”، وكانت استقالته بعد إدراكه أن إجراء انتخابات الرئاسة في يونيو 2014 في سوريا، وإعادة الانتخاب المتوقعة لبشار الأسد، يعنيان نهاية جهوده.

في سياق السيطرة الروسية على الملف السوري من خلال لعبة الثنائي جون كيري- سيرجي لافروف، جرى تعيين السويدي- الإيطالي ستيفان دي ميستورا ليواصل عمل المنظمة الدولية في هذا الملف. وكان همه الأكبر استمرار مهمته وتدوير الزوايا. وهذا الارستقراطي المثير للجدل كان يشكو بأنه لم يحظ يوما بدعم دولي حقيقي خلال السنوات الأربع الماضية، ولذا ربما حاول التأقلم مع مواقف الطرف الأقوى في الصراع السوري، خصوصا مواقف روسيا، التي باتت اللاعب الأول في الساحة السورية منذ تدخلها العسكري الواسع في سبتمبر 2015، وحدا ذلك بالكثير من المراقبين واللاعبين لاتهامه باستسهال المساومات والتخلي عن المرجعيات الدولية المنظمة للحل السياسي في سوريا كلما تعرّض لضغوط من الدول الكبرى، خلافا للمبعوثين السابقين.

يمكن القول إن عمل دي ميستورا لم يكن ضحية تضارب المسارات، مع فرض الروس لمسار أستانة منذ 2016، بل بسبب منهجية خاطئة في التعامل مع التفاوض كما يقول أحد الذين تعاملوا معه عن قرب في العامين 2016 و2017: “أخطر ما فعله دي ميستورا منذ بداية عمله أنه جعل مسائل مبدئية لا تستدعي التفاوض (البنود 12/ 13 / 14 في القرار 2254) موضع تفاوض وحيد، وكأنه في إطالة ما سماه مرحلة بناء الثقة التي تسبق التفاوض، يعمل بتوجيه أميركي وروسي لمنح النظام فرصة التفوق العسكري من مطلع 2016 حتى الوصول لمعركة حلب”. ويشهد مفاوض آخر “كانت العلاقة مع الموفد الأممي صراعا مستمرا بسبب تحيزه للنظام وقبوله بأطروحاته”. لكن الأدهى أتى مع تسليمه بالضغط الروسي وشق مسار جديد مع الروس، بذريعة فصل قضية الملف الإنساني عن الملف السياسي، وشكل غطاء لمسار أستانة الذي سهل عمليا الحسم العسكري التدريجي لصالح النظام.

ومن “مآثر” دي ميستورا اختراع أو قبول فكرة منصات المعارضة لتشتيت التمثيل وممارسة الإلهاء المنظم عبر قبول التفسير الروسي للقرار 2254 بوجود منصتي موسكو والقاهرة وغيرهما لاحقا، مما كرس حجم التلاعب الإقليمي والدولي والوصاية الممارسة على كل قرار فيه قدر من الاستقلالية ولو بقدر يسير. وتوصل كل المتابعين للرقصة الدائرة بين جنيف وأستانة وسوتشي وبالطبع لجحيم الحرب من حلب إلى الغوطة والجنوب وإدلب، إلى أن دي ميستورا كان رمز الفشل الأممي والتواطؤ الدولي.

قام دي ميتسورا حسب شهادة أخرى بـ”تمييع القضية عبر توسيع دوائرها وبعثرة شعابها، بذريعة التمثيل ولم يكن جادا أبدا في الوصول إلى حل، واخترع قضية السلال الأربع، وأمضى الفترة كلها يتهرب من مناقشة الموضوع الأساسي (هيئة الحكم الانتقالي) وكان يميل بذلك إلى وجهة نظر النظام من دون مواربة”. بيد أن أسلوب الدبلوماسي المخضرم وتقنياته وقدراته في “الحرب النفسية” لم تكن معينا له ولم ينجح في الأداء بالقياس لشخصية من طراز سيرجي لافروف التي هيمنت على مجريات الملف.

يطوي المبعوث الأممي ستافان دي ميستورا صفحته بزيارة قريبة إلى دمشق لبحث تشكيل لجنة دستورية مكلفة بصياغة الدستور، غدت الخلاصة اليتيمة لسنواته الأربع والنافذة الوحيدة الممكنة اليوم للتقدم في العملية السياسية، وهي، في الأساس، لا تعني الكثير لأن المشكلة ليست في النص الدستوري، بل هي كامنة في بنية النظام الأمني القائم، الذي يطغى على القوانين والدساتير.

أستاذ العلوم السياسية، المركز الدولي للجيوبوليتيك – باريس

العرب

 

 

 

 

المبعوثون الأمميون.. خيار فاشل/ بيار عقيقي

الموفدون الأمميون، أو التابعون لدولة ما، في ملف شائك، غالباً ما يكون دورهم “تمرير الوقت” في أي نزاع، بدلاً من حلّه جذريا. ربما من طبيعة العلاقات الدولية أو إدارة الأزمات أن يكون هذا الشخص موجودا فقط لملء فراغ محدّد، ترفضه الطبيعة عادة. المبعوث الأممي الخاص إلى سورية، ستيفان دي ميستورا، أحد هؤلاء، شأنه كشأن كثيرين سبقوه في سورية أو غيرها، وكشأن كثيرين سليحقونه في سورية أو غيرها. لم يقم دي ميستورا عملياً سوى بإدارة الصراع في سورية، في ظلّ تعدّد اللاعبين الإقليميين والدوليين. اقتصر عمله على إدارة أذنه “للأكثر قوة” أو “المُسيطر على الميدان”. في اليمن كذلك، اسألوا مارتن غريفيث وإسماعيل ولد الشيخ أحمد وجمال بنعمر. في لبنان، كان فيليب حبيب والأخضر الإبراهيمي، في ثمانينات سوداء، في العراق، حدّث ولا حرّج، وليبيا أيضاً.

مفهوم “المبعوث الأممي” في حاجة ملحّة إلى إعادة تعريف، فدوره وسيطا بين المتقاتلين أقرب إلى دوره متفرجا لا ضحية للصراع، لكنه متفرح يتلقى راتبه المرتفع على مرّ فترة خدمته في الملف. وحين ينتهي دوره يعلّل الأمر بأن “الظروف أكبر منه”. لا يمكن الاستناد إلى مبعوث أممي في أي صراع، فالاتكال عليه جزء من سياسة قتل الوقت، لتمرير مرحلة ميدانية أو لتفعيل الحلول السياسية، التي غالباً ما تكون مباشرة بين أطراف الصراع، وحين يتمّ هذا الأمر يصبح دور المبعوث الأممي فارغاً من مضمونه.

لم يقدّم دي ميستورا مثلاً للسوريين حلولاً جذرية، مكتفياً بالتجوال في عواصم إقليمية ودولية وطارحاً أفكارا، عادة ما تكون نابعة من إرادات تلك العواصم، لا كما يفترض أن يكون الحلّ. ليس المبعوث الأممي قاضيا يفرض الحلّ، ويطالب بتنفيذه متسلّحاً بأدواتٍ ملزمة، بل شخص تعيّنه الأمم المتحدة لرفع العتب الدولي عن عجزها في فرض الحلول أو تطبيق قراراتها. في سورية، وبعد سبع سنوات ونيّف من القتل الذي وقع ضحيته نصف مليون إنسان، تبدو بصمات دي ميستورا غائبة كلياً عن المشهد، سواء الحالي، أو المرتقب في فترة لاحقة، بناءً على تطورات إدلب والشرق السوري وإعادة الإعمار وعودة اللاجئين والحلّ السياسي الدستوري.

بات إلغاء دور المبعوث الأممي في سورية وغيرها ملحاً لكونه لا يقدّم جديداً، ولا يجترح الحلول، وهو ترجمة خاصة وفعلية لفشل الأمم المتحدة في معالجة قضايا العالم، وربما الغوص في إعادة هيكليتها، أو رسم خريطة طريق جديدة لها، تخرجها من السياق الحالي. كما أنها، في ظلّ رسوبها في الامتحانات الفلسطينية والسورية والعراقية واليمنية والليبية، أضحى اسمها مرادفا للعمليات السياسية الفاشلة.

نفهم أن المبعوث التابع لدولة ما يهدف إلى تكريس مصالح دولته، ويعمل لأجلها، بغضّ النظر عن الفشل والنجاح، إلا أنه قد ينجح في أحيانٍ كثيرة، خصوصاً إذا كان منتمياً لدولة عظمى. أما مبعوثو الأمم المتحدة فلم يكونوا غالباً بهذه القوة، لا بل ساهموا عن غير قصد في تأزيم الأوضاع وضرب منطق الحلّ السليم في أي قضية، والمستند أساساً إلى مرتكزاتٍ قانونيةٍ وإنسانية، لمصلحة القوة الميدانية أو الاقتصادية لأي دولة. ويعد هذا الأمر فشلاً عاماً لسياساتٍ أممية في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية (1939 ـ 1945)، ولدور الأمم المتحدة باعتبارها ناظمة لسير العمل السياسي والاقتصادي والإنساني في العالم.

وبدلاً من السؤال “من سيخلف دي ميستورا؟”، لا بدّ من الإجابة أولاً على سؤال “ماذا سيفعل الخلف؟”. وهو ما يكاد يكون معروفاً: سيكون مجرّد شخص آخر يتلقى راتبه من أجل تمرير مرحلة ما في سورية، تنتهي بحسب مصالح اللاعبين الكبار على حساب الشعب السوري، تماماً كما يحصل في اليمن والعراق وليبيا وفلسطين. وحتى يحين دور تغيير سلوكيات الأمم المتحدة، سيكون جميع المبعوثين في أي ملف ستيفان دي ميستورا.

العربي الجديد

 

 

 

 

استقالة دي ميستورا ومهمة فاشلة/ عمر كوش

يأتي إعلان المبعوث الأممي إلى سورية، ستيفان دي ميستورا، أمام مجلس الأمن الدولي، عزمه تقديم استقالته في نهاية نوفمبر/ تشرين الثاني، كي يضع حداً لمهمة وساطته الفاشلة التي امتدت أكثر من أربع سنوات، وكُلف بها بعد استقالة المبعوث المشترك، الأممي والعربي، إلى سورية، الأخضر الإبراهيمي، في منتصف مايو/ أيار 2014، إثر إعلانه فشل مهمته، نتيجة مماطلة نظام الأسد، وتعنّته وغطرسته التي أوصلت مفاوضات جنيف -2 إلى طريق مسدود، ولم يجد بداً سوى تقديم الاعتذار إلى الشعب السوري.

وعلى الرغم من أن دي ميستورا أمضى سنوات ثقيلة من مهمته، من دون أن يحقق شيئاً في التوصل إلى حل سياسي للقضية السورية، من خلال تطبيق القرارات الأممية، وخصوصاً القرار 2254، إلا أنه أبدى حماسة غير مسبوقة في مواصلة مهمته فيما تبقى له من فترةٍ لا تتعدى الشهر ونصف الشهر، وبات سقف ما يتمنى التوصل إليه تشكيل اللجنة الدستورية، وفق مخرجات مؤتمر سوتشي، ولذلك راح يُمنّي نفسه بالحصول على موافقة نظام الأسد، وحليفه الروسي ونظام الملالي الإيراني، على قائمة الثلث الثالث، كي يكتمل تشكيل اللجنة الدستورية الموعودة.

وكان دي ميستورا قد بدأ مهمته، في العاشر من يوليو/ تموز 2014، بخطة فاشلة، وكانت تقضي بوقف إطلاق نار جزئي، من خلال البدء في “تجميد المعارك في حلب”، ووقف إطلاق النار فيها ستة أسابيع، لكنه فشل في تسويقها، ثم آثر الصمت على ما تقوم به قوات الأسد من مجازر وعمليات قتل يومي وممنهج ضد الحاضنة الشعبية للثورة السورية، ووقف متفرجاً على مجازر الأسلحة الكيميائية والبراميل المتفجرّة، وعلى مختلف فصول مأساة غالبية السوريين التي لم تنته.

والمشكلة في وساطة دي ميستورا الأممية ليست في قلة خبرته وتجربته وحنكته، ولا في حسابه الزائد للتوازنات الدولية المؤثرة في القضية السورية، بل في منطلق تعامله معها منذ البداية، إذ انطلق من قناعة مفادها بأن أصل القضية وفصلها صراع مسلح بين النظام والمعارضة، وتعامى عن أن أصل المشكلة هو نظامٌ مستبدٌ، خرج ملايين السوريين ضده في تظاهرات سلمية، وواجههم بالعنف والقتل.

ويعبّر منطلق تعامل دي ميستورا عن أزمة عميقة لديه، تأخذ بنتائج الأزمات، من دون النظر إلى جذورها وأسبابها، وهذا ما قاده إلى التعامل مع القضية السورية، بوصفها نزاعاً مسلحاً، وليس ثورة شعبٍ ضد طغيان نظام مستبد، ولذلك لم يأخذ في حسبانه التعامل مع المسألة السورية من جانبيها، الأخلاقي والإنساني، بل كان في كل مواقفه يساوي بين الضحية والجلاد.

وقد قاد منطلق تعامل دي ميستورا الخاطئ مع القضية السورية إلى تركيز جهوده على أطراف الصراع وحلفائهم، وانحاز إلى الطرف القوي أولاً، وإلى من يحمل السلاح ثانياً، أما المدنيون فقد نظر إليهم بوصفهم ضحايا، فتعامى عن قتل نظام الأسد وحلفائه نحو مليون سوري أعزل، وعن عشرات آلاف المعتقلين، وعن تشريد نصف سكان سورية. ولم يكتف بذلك كله، بل ساير وتكّيف مع كل العراقيل التي كان يضعها النظام وحلفاؤه، وما يزالون، أمام تنفيذ مهمته الأممية، وصمت عن جرائم نظام الأسد ومجازره، بما فيها جرائم السلاح الكيميائي، وساير التدخل المليشياوي لنظام الملالي الإيراني، وكذلك التدخل العسكري الروسي المباشر إلى جانب نظام الأسد الإجرامي، وراح يسوّق مقولة انتصار نظام الأسد، وأن المعارضة لم تربح الحرب، ويدعوها إلى الواقعية التي تعني تقديم مزيدٍ من التنازلات، مع تشديده على توحيد منصّات المعارضة التي كانت تطالب بها موسكو، والتي عنت تمييع مواقف المعارضة الذي تحقق بإرادة دولية وإقليمية في اجتماع الرياض2، وانبثقت عنه هيئة تفاوض، تجمع منصّتي موسكو والقاهرة إلى جانب منصّة الرياض.

ولا يعجز المتابع لأداء دي ميستورا عن ملاحظة بطئه في تنفيذ مهمته، ولا عن أنه كان يدور في حلقةٍ مفرغةٍ منذ تكليفه بالوساطة الأممية، ولذلك سجّل فشلاً واضحاً في أداء أيّ دور إيجابي في اتجاه الحل السياسي، إذ لم يتمكّن من تحقيق خفض ما يسمى “مستوى العنف”، حتى في مواقع كان لدى أطراف الصراع بعضُ الاستعداد، للوصول إلى هذه الغاية المطلوبة.

وخلال جولات جنيف التسع، راوح دي ميستورا في مكانه من دون تحقيق أي تقدّم، أو كسر الجمود في القضية السورية، ولذلك يمكن القول إن الأمم المتحدة ومبعوثيها ساهموا في إطالة أمد الصراع، من خلال لعبة كسب الوقت، واستخدامهم جملاً دبلوماسيةً وعبارات منمقة لإرضاء جميع الأطراف، وخصوصاً الطرف الروسي الذي باتت له اليد الطولى في القضية السورية، ولذلك لم يقدّموا شيئاً سوى عقد المؤتمرات والاجتماعات والمؤتمرات الصحافية التي فشلت جميعها.

طُرحت أسئلة وتساؤلات كثيرة بشأن دور الأمم المتحدة في القضية السورية، وكان تعيين دي ميستورا، بمثابة المعّبر الأوضح عن أزمة المبعوثين الأمميين إلى سورية، وإضاعتهم البوصلة، وضلالهم طريق الحل، حيث أثار تعيينه، من جديد، أسئلةً حول الدور الأممي في بلدان الثورات العربية، وعمّا إذا كان هذا الدور يهدف بالفعل إلى إيجاد حلول، تلبي طموحات الشعوب العربية في الحرية والتحرّر، أم أنه بات يشكل عامل إعاقة للتحولات الديمقراطية في هذه البلدان.

ولعل القضية السورية تقدم نموذجاً في هذا السياق، حيث أن الثورة السورية، التي بدأت في منتصف مارس/ آذار 2011، كانت سلمية الطابع ووطنية التوّجه. وقد وقف العالم متفرّجاً على صور قتل السوريين السلميين من قوات النظام وأجهزته الأمنية شهوراً عديدة، من دون أن تتحرّك قوى المجتمع الدولي أو الأمم المتحدة لوقف نزيف دمائهم، فيما استغل نظام الأسد وحلفاؤه الوقت، كي يعملوا على تجريد الثورة من طابعها السلمي، وعلى إفقادها سمتها الوطنية، فحاول نظام الأسد، منذ البداية، ومعه كل القوى والدول الخائضة في الدم السوري، بشتّى الوسائل والسبل، حرف الثورة عن طريقها السلمي الذي بدأته، وتشويه طابعها الوطني الديمقراطي التحرّري، الهادف إلى الخلاص من الاستبداد، ونيل الحرية واسترجاع الكرامة، وتطبيق العدالة.

العربي الجديد

 

 

 

 

دي ميستورا يذكّرنا بالكونت برنادوت/ مأمون كيوان

تعاني المنطقة العربية من طائفة من الأزمات والصراعات الداخلية والبينية، ما جعلها تستحوذ على ما تقدر نسبته بـ24 في المئة من الصراعات في العالم. بالتالي استدعت تدخلات خارجية ووساطات دولية تزعمتها الأمم المتحدة عبر ممثل خاص للأمين العام للأمم المتحدة.

ومن بين حوالى 115 مبعوثاً أممياً خاصاً موزعين على مختلف القارات والمناطق الجغرافية الساخنة في العالم، وفي ثلاث أزمات عربية فقط شارك 16 مبعوثاً أممياً حمل بعضهم جنسيات عربية.

فقد تعاقب ممثلون خاصون عدة للأمين العام للأمم المتحدة على رئاسة بعثة المنظمة للاستفتاء في الصحراء الغربية (المينورسو) منهم: الديبلوماسي السويسري جوهانس مانس، والديبلوماسي الباكستاني صاحب زاده يعقوب خان، وجيمس بيكر وزير الخارجية الأميركي الأسبق.

ومع بداية الأزمة اليمنية عام 2011، أرسلت الأمم المتحدة المبعوث الأممي جمال بن عمر الذي خلفه في مطلع عام 2015، إسماعيل ولد الشيخ أحمد وأخيراً البريطاني مارتن غريفيث.

وفي ليبيا تعاقب خمسة مبعوثين منذ بداية أزمتها في 2011 ، وهم عبد الإله الخطيب، إيان مارتن، طارق متري، وبرناردينو ليون وغسان سلامة.

ويعد ستيفان دي ميستورا، المبعوث الدولي الثالث إلى سورية، فقد سبقه مبعوثان هما: الأخضر الإبراهيمي وكوفي أنان، حملا صفة المبعوث الدولي – العربي المشترك إلى سورية، والذي أعلن استقالته من مهمته في 2 آب (أغسطس) 2012، وألقى مسؤولية فشله على العسكرة المتزايدة على الأرض وانعدام الإجماع في مجلس الأمن حول موقف واحد من الأزمة.

وتمحورت مهمة الإبراهيمي السورية حول التحضير لانعقاد مؤتمر جنيف «الثاني» واستيضاح طبيعة «الأدوار الإيجابية التي يمكن الدول الإقليمية الفاعلة القيام بها، وحدود «التنازلات الممكنة» من جانب السوريين حكومة ومعارضة. فضلاً عن تداول واقعية فكرة الهدنة الشاملة أو الجزئية، وفكرة «الهيئة الانتقالية وصلاحيتها»، والتي وردت في وثيقة جنيف «الأول» في حزيران (يونيو) 2012.

ويُعد دي ميستورا، الذي سيترك منصبه في تشرين الثاني (نوفمبر) المقبل، لأسباب شخصية»، إذ تزوّج حديثاً ويريد التفرغ لأسرته! ويحمل الجنسيتين السويدية والإيطالية، شخصية مثيرة للجدل رغم خبرته الديبلوماسية الكبيرة. فخلال عمله مبعوثاً إلى سورية، طيلة السنوات الأربع الماضية، لم يحظ برضا النظام ولا المعارضة في سورية، فضلاً عن تعرضه لانتقادات عدة من جانب روسيا. فقد دعا المعارضة السورية في أحد تصريحاته إلى الإقرار بهزيمتها في الحرب، والتوجه إلى بناء السلام على هذا الأساس.

كما اقترح خريطة طريق لتنفيذ «بيان جنيف» تدعو إلى تشكيل هيئة حكم انتقالية بصلاحيات تنفيذية كاملة، إضافة إلى تشكيل مجلس عسكري مشترك من النظام والمعارضة واتفاق الطرفين على «قائمة من 120 مسؤولاً لن يستلموا أي منصب رسمي خلال المرحلة الانتقالية، إضافة إلى إلغاء بعض الأجهزة الأمنية وصولاً إلى إجراء انتخابات رئاسية وبرلمانية في رعاية الأمم المتحدة. وحاول دي ميستورا تسوية النزاع السوري استناداً إلى تجربته في البوسنة والهرسك، أي محاكاة تجربة «الجيوب الآمنة» التي رعتها الأمم المتحدة هناك خلال الفترة من 1993 إلى 1995 مع فارق بسيط، أنه بالنسبة إلى المناطق التي اقترح دي ميستورا إيجادها في سوريا، فلا تديرها الأمم المتحدة بل السكان المحليون أنفسهم.

ويبدو مفيداً مقارنة حصاد مهمة دي ميستورا في سورية بمهمة سلفه ومواطنه السويدي الكونت فولك برنادوت في فلسطين الذي عينته الأمم المتحدة وسيطاً لها لحل قضية فلسطين في 20 أيار (مايو) عام 1948، حيث استطاع تحقيق الهدنة الأولى في فلسطين في 11-6-1948 ثم بدأ ينفذ المهمة التي أوكلتها إليه الأمم المتحدة.‏ وتمكن من الدعوة إلى مفاوضات أجريت في جزيرة (رودس) في نهاية عام 1948 وتوصل إلى مجموعة من المقترحات حول مستقبل الوضع في فلسطين. وأعد مشروعاً جوهره «أن تتخذ الأمم المتحدة كل ما من شأنه إيقاف الأعمال العدوانية في فلسطين. والتعهد بضمانات فعالة لإزالة مخاوف العرب واليهود كل من الآخر بخاصة في ما يتعلق بالحرية والحقوق الإنسانية».‏

وقد رفض مشروع برنادوت من جميع الأطراف الفلسطينية والعربية والصهيونية, غير أن الرفض الصهيوني كان أعنف فقد قامت عصابة (شتيرن) باغتيال برنادوت في وضح النهار يوم 17/9/1948.‏

ويبدو من طريقة عمل مبعوثي الأمم المتحدة والنتائج التي توصلوا إليها في مناطق النزاع العربية، أنهم لا يعملون على حل الصراعات، وإنما على إدارتها، وأحياناً زيادتها ســــخونة وتوتراً، من خلال الانحياز إلى أحد طرفي النزاع بدلًا من وضع حــــلول عملية تساعد في الخروج من تلك الأزمات.

ولعل السبب الرئيسي في فشل مبعوثي الأمم المتحدة في مهماتهم يتمثل في تجاهل غالبيتهم جذور الأزمات والصراعات وأسبابها. إجمالاً، تبدو الأمم المتحدة غير فعّالة على صعيد حل النزاعات العالمية والأزمات الكبيرة كالأزمة السورية، كما أن نجاحاتها كانت قليلة ومتباعدة. ومعظم الوساطات من أجل السلام أنجزتها أطراف أخرى، كالولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي.

ومما لا شك فيه أن الخطوة الأولى نحو تفعيل الدور السياسي للأمم المتحدة تتمثل في أن تكون تجسيداً لفكرة قوة الحق التي آن أوان تأكيد صدقيتها من خلال إلغاء حق النقض (الفيتو) الذي تتمتع به الدول الكبرى، حيث يسيء بعضها استخدامه وفقاً لمصالحه أو مناكفة للبعض الآخر الذي يرد باستخدام قوته العسكرية، ما يعمق الأزمات الدولية والإقليمية، ويحول المبعوثين الدوليين، في بعض الأحيان، من رسل سلام إلى سعاة بريد أو شهود زور في أسوأ الحالات.

* كاتب سوري.

الحياة

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى