أبحاث

عبد العزيز الخير، تجارب متنوعة ومصير واحد/ راتب شعبو

في أيار 1989 أصدر حزب العمل الشيوعي في سوريا وثيقة غير مسبوقة، استغرق العمل في إنجازها حوالي السنتين، جاءت على شكل كراس بعنوان “السجل الأسود”، وهو يتضمن تعريفاً بأهم مؤسسات القمع السياسي المتخصصة في سوريا، وأهم المعتقلات والسجون، وأساليب التعذيب المتبعة فيها، وشروط حياة المعتقلين، وتحديد ما يشكله كل هذا من تفارق عن الدستور السوري، مع مذكرة حول المعتقلين السياسيين الوطنيين في سجون السلطة الديكتاتورية، تتضمن اسم المعتقل ومهنته ومدينته وحالته المدنية وتاريخ اعتقاله والجهازالأمني الذي اعتقله والجهة السياسية التي اعتقل باسمها، إضافة إلى قائمة بأسماء الشهداء الذين قضوا في التعذيب أو في السجون. في ذلك الوقت كان عبد العزيز الخير هو الشخصية الأولى في الحزب، ويعود إليه بشكل أساسي التوجه إلى إصدار هذه الوثيقة التي تقدم وحشية النظام الأسدي عارية للسوريين وللعالم.

في مطلع 1990، حاول حزب العمل الشيوعي الخروج من دائرة النشاط الورقي إلى نشاط ميداني جماهيري، فاجتهدت الكوادر القليلة المتبقية من الحزب في تجميع أمهات المعتقلين من كل المدن السورية وترتيب خروجهن في مظاهرة أمام القصر الرئاسي تطالب بالإفرج عن أبنائهن المعتقلين. وفي 21 آذار من ذلك العام استطاعت، بالفعل، عشرات الأمهات الوصول إلى أمام القصر والتظاهر مطالبين بالإفراج عن أبنائهن، ما شكل خبراً لافتاً لوكالات الأنباء، على خلفية الصمت العام الذي كان يلف المجتمع السوري لأكثر من عقد ونصف. وكان لعبد العزيز الخير دور مهم في وضع الفكرة وتنفيذها مع مناضلين آخرين كانت نجاتهم من الاعتقال تعني تحملهم عبئاً نضالياً إضافياً منهم على سبيل الذكر: غادة غيبور وخديجة ديب.

في عام 1990 أيضاً، وصلت إلى السجون رسالة من الحزب تقول إن الرفاق المعتقلين من الحزب أحرار في قرارهم حيال التوقيع على الشروط التي يطلبها الأمن مقابل الإفراج. كانت أجهزة الأمن تجري من حين لآخر ما كنا نسميه “مساومات” تطلب فيها من المعتقل التوقيع على ثلاثة شروط هي الانسحاب من الحزب (مع أن نسبة كبيرة من المعتقلين باسم الحزب لم تكن ملتزمة أو منظمة في الحزب أصلاً)، والتعهد بعدم العمل في السياسة، ومراجعة فرع الأمن في المحافظة كل عشرة ايام. مثل هذه المساومات كانت تجري بوتيرة غير منتظمة وتنقطع أحياناً لسنوات تبعاً للشروط السياسية في البلد. وكانت رسالة الحزب تتضمن تشجيع الرفاق على قبول الشروط والخروج ومعاينة الواقع مباشرة، ثم لينخرط في العمل السياسي من يشاء وليتفرغ للنضال في الحزب من يشاء، وليلتفت إلى حياته الخاصة من يشاء، ذلك خير له وللحزب ولعائلته من البقاء في السجن على أية حال.

كما تضمنت رسالة الحزب تلك حث الرفاق على عدم الترفع عن الاستفادة من الثقل المعنوي للرفيق في وسطه وبين أقاربه، بما يعني عدم رفض أن يتحرك من له قدرة على التحرك من هذا الوسط للضغط على السلطة للإفراج عنه. كان هذا في إطار خلق جو ضاغط على السلطة فيما يخص استمرار اعتقال الرفاق.

بطبيعة الحال، لم تكن رسالة الحزب تلك تفويضاً بالعمالة لأجهزة الأمن، بل كانت اجتهاداً في العمل التنظيمي يحاول استعادة معتقلي الحزب، سواء كانت استعادة إلى الحزب (كان يحصل هذا ولكنه ليس الحالة الغالبة) أو إلى الحياة العادية، أقصد غير النضالية (وهي الحالة الغالبة). شكلت رسالة الحزب خروجاً ملفتاً عن سياسة سابقة ثابتة كانت تنظر بغير رضى أو أحياناً “بتخوين” إلى من يوقع على شروط المساومة. في الرسالة الداخلية المذكورة مسعى إلى الانتقال من تغليب الأخلاقي إلى تغليب السياسي، دون أن ينطوي هذا المسعى على تهميش الأخلاق السياسية وإن كان ينطوي ربما على مغامرة الاقتراب من هذا الخطر. الكثير من الرفاق تعامل مع موضوع المساومة تعاملاً أخلاقياً ينبع من شعور خاص بالكرامة الشخصية أكثر مما ينبع من نظرة سياسية تنظيمية، أو من تصور للجدوى، وكثير من الرفاق اتخذ موقفاً سلبياً من رسالة الحزب تلك. لكن يبقى في تلك الرسالة دلالة على وجود حيوية سياسية تتفاعل مع الواقع، وتتجرأ على الخروج من سهولة المواقف القطعية الثابتة، وهذا مما يحسب لعبد العزيز.

ينبغي أن نلاحظ هنا أن قيادات الأجهزة الأمنية، في غالبية الحالات، لم تكن حريصة في مساوماتها تلك على الإفراج عن المعتقلين لديها. كانت المساومات هي جزء من العمل على تحرير السلطة، بقدر ما يمكن، أمام حلفائها “المهتمين” وأمام أهالي المعتقلين وحتى أمام الجسد الأمني للسلطة، من العبء المعنوي للاحتفاظ بشباب سلميين ووطنيين في السجون. وكان معروفاً في تلك الفترة الإجابة التقليدية التي تقدمها أجهزة السلطة لكل من يسأل عن هؤلاء المعتقلين: “نحن نريد الإفراج عنهم لكنهم لا يريدون الخروج.” ليس غريباً، والحال هذا، أن السلطة امتنعت، في أمثلة عديدة، عن الإفراج عن مئات المعتقلين رغم قبولهم بشروط المساومة.

ما سبق يعطي ملامح عمل سياسي فيه دنو أكثر من الواقع وفيه بحث عن سياسة تنظيمية “منتجة” لا تقوم على مجرد البطولة والتحدي و”المواقف التاريخية”. العلامات السابقة تشير، في الواقع، إلى النهج السياسي لحزب العمل الشيوعي في سوريا حين كان عبد العزيز مركز الثقل الأول في قيادة الحزب، النهج الذي يمكن تلخيصه بكلمتين اثنتين هما “العملية والجدوى”. هذا النهج السياسي يضرب نقاط الضعف في الخصم، ويضع إمكانية وجدوى العمل نصب عينيه قبل أن يقدم على الخطوة.

ومن المعروف أن عبد العزيز الخير قد أصبح الرجل الأول في الحزب بعد حملات الاعتقال المتواصلة التي طالت كل القيادات ذات الخبرة ولاسيما بعد 1987. أمام هذا النزيف اتخذ الحزب خطوة تنظيمية استثنائية وهي تشكيل قيادة طوارئ للحزب يكون فيها الكلمة الفصل أو حق النقض في يد عبد العزيز، وذلك لتفادي خلق فجوة سياسية في خط الحزب نظراً للنزيف الشديد في الكوادر والخبرة، ما جعل عبد العزيز الرفيق الوحيد القادر على وصل ما انقطع في سياق القمع المتواصل، وبشكل خاص بعد حملة القمع العاشرة التي استمرت ستة أشهر من أيلول/سبتمبر 1987 حتى شباط فبراير 1988، وطالت أكثر من 2000 مواطن، بقي منهم أكثر من 800 مواطناً قيد الاعتقال حتى لحظة إنجاز وثيقة “السجل الأسود” الآنفة الذكر.

في الأول من شباط 1992 اعتقل عبد العزيز الخير مع بهجت شعبو (شريكه في مركز قيادة الحزب حينها) الذي حذر عبد العزيز من النزول إلى الموعد الذي اعتقلا فيه بجانب سوق الحميدية في دمشق، غير أن عبد العزيز أصر على النزول إلى الفخ الذي كان يُنصب له على مهل منذ زمن غير قليل، مفترضاً أن مخاوف بهجت وشكوكه مبالغ فيها. يقول بهجت، المسؤول التنظيمي في الحزب في ذلك الوقت، إن عبد العزيز له قدرة مميزة على رسم السياسة التنظيمية وتعديلها وفق الشروط، ولكنه أقل تميزاً في مجال التنفيذ الميداني، وكانت تلك نقطة الضعف التي ساهمت في وصوله إلى السجن بعد أكثر من عشر سنوات من التخفي داخل سوريا. مع اعتقال الخير اكتملت تصفية بؤر الخبرة السياسية في تجربة حزب العمل الشيوعي، لتكتمل تصفية الحزب مادياً بعد فترة وجيزة. هكذا اسدلت الستارة عملياً على التجربة الأولى لهذا الحزب، وسيكون له تجربة ثانية أقل أثراً بكثير بدأت في 2003، وسيكون لعبد العزيز بعد الإفراج عنه في 2005 دور في هذه التجربة أيضاً.

يبقى السؤال: هل توجد خطة تنظيمية أو سياسية يمكن لها أن تنقذ الحزب المعارض من التصفية في ظل نظام كالنظام الأسدي؟ أو هل تتحمل سياسة الحزب مسؤولية في تصفيته؟ بكلام آخر: هل توجد سياسة معارضة صائبة في ظل نظام يقول “من ليس معنا فهو ضدنا”، ويمتلك فائض من القدرات لتصفية خصومه؟ الواقع إنه لا عقلانية عبد العزيز ولا “تطرف” غيره كان يمكن لها أن تنقذ الحزب من التصفية التامة. الشيء الوحيد الذي يحمي الحزب من التصفية في ظل مثل هذه الأنظمة هو الانصياع والتبعية للنظام أو الكف عن العمل السياسي. بديهي أن هذه البيئة السياسية تجعل الفروقات في البرامج وفي طريقة وضعها في التنفيذ، قليلة القيمة.

***

كانت الثورة السورية بمثابة امتحان جدي للنهج السياسي لعبد العزيز كما لغيره. التحق عبد العزيز بأول إطار سياسي منظم تصدى لمهمة تمثيل الثورة، أقصد “هيئة التنسيق الوطنية لقوى التغيير الديموقراطي”، وحرص من خلالها على التزام فكرة التغيير السلمي، مدافعاً عن ثلاث لاءات ضد الطائفية والعسكرة والتدخل الخارجي. مع الوقت وجد نفسه، مع كامل الهيئة، على منحدر زلق بفعل استجابة النظام الأمنية الطائفية المدروسة، مما اضطره لكسر أحد اللاءات بقبول فكرة حمل السلاح للدفاع عن النفس، هذا الباب الذي يمكن أن يفضي، بطبيعة الحال، إلى تبرير كل حمل للسلاح.

ومع استعانة النظام بقوى خارجية وتسارع تحول الوضع السوري إلى وضع إقليمي ودولي، بات الحديث عن التمسك بالسيادة الوطنية ورفض التدخل الخارجي كلاماً في الفراغ. لقد كان التدخل الخارجي (الروسي والصيني والإيراني) هو ما ضمن للهيئة عقد مؤتمر الإنقاذ الوطني الذي رفع شعار إسقاط النظام في دمشق في 23 أيلول 2012، أي بعد ثلاثة أيام فقط من اعتقال عبد العزيز على طريق المطار عائداً من زيارة سياسية إلى الصين.

وإذا كان التدخل الخارجي المرفوض هو التدخل الخارجي المسلح، فإن وجود السلاح في الثورة (وقد قبلته الهيئة للدفاع عن النفس كما قلنا) فتح الباب واسعاً لتدخل خارجي “عسكري” غير مباشر قبل أن يتحول لاحقاً إلى تدخل عسكري مباشر، كما هو الآن. وعليه فقد بدا رفض التدخل الخارجي هزيلاً.

أما الانحدار الطائفي في الصراع فقد بدا أقوى من كل الدعوات “السلمية” لمنعه، ولا سيما أن الطائفية كانت جزءاً مهماً من ترسانة قطبي الصراع الأساسيين، أي النظام وداعميه من جهة والإسلاميين وداعميهم من جهة أخرى.

اتضح جيداً أن النهج السياسي للهيئة، التي كان عبد العزيز الخير ناطقاً باسمها، قام على مبدأ، قد يبدو عقلانياً ولكنه غير فعال في الثورة، وهو إمساك العصا من المنتصف، ما همّش الهيئة مع الوقت وجعلها ضعيفة في تمثيل الثورة. من البديهي إنه لا يمكن رفض العسكرة بصورة جزئية، الشيء نفسه ينطبق على التدخل الخارجي. وحين يفتح الباب أمام العسكرة سوف ترافقها الطائفية بحكم الضرورة، لأن العسكرة تتطلب الحشد وهذا يتحقق جيداً بالتعبئة الطائفية، وتتطلب السلاح والتمويل وهذا تؤمنه دول تنظر إلى الصراع في سوريا نظرة طائفية وترعاه دول كبرى تتبنى النظرة نفسها.

الأسئلة نفسها التي برزت لدى التفكير في مصير حزب العمل الشيوعي في سوريا، تبرز اليوم أمام مصير الثورة السورية. هل كان هناك نهج “سوري” صائب يمكن أن ينقذ الثورة السورية من الدمار؟ ألم تبرز هياكل تنظيمية أكثر جذرية من الهيئة وحازت على اعتراف دولي واسع، ومع ذلك لم تنفع في إنقاذ الثورة؟ كيف يمكن لقوة داخلية أن تسقط نظاماً يضع كل مقدرات الدولة في يد طغمة لا يردعها أي قانون أو قيمة عن “حرق البلد”؟

في كلا التجربتين، انتهى عبد العزيز إلى السجن مع دمار التجربة. في كلا التجربتين كان عبد العزيز سياسياً عاقلاً وصلباً يسعى لتغيير نظام سياسي متوحش يحيل العقل إلى جنون والصلابة إلى حطام.

الحرية لعبد العزيز الخير

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى