الناس

عن العنصرية المتعفنة اتجاه السوريين -مقالات مختارة-

المواطنة في مواجهة العنصرية/ سوسن جميل حسن

للعنصرية علاقة متينة بمفهوم الهوية، فكلما ضاق هذا المفهوم نمت العنصرية وتمكنت من سلوك الأفراد وعلاقتهم بالآخر المختلف، وانعكس ذلك على الأدوار التي يلعبها من سياسية واجتماعية واقتصادية وقانونية وغيرها، فهي لم تعد في عصرنا الحالي تعني التمييز بين الأفراد والجماعات على أساس الاختلافات الجسدية فحسب، بل إنها نمت وتعقدت لتصبح قريبة من إيديولوجيا غير معرّفة، أو، بمعنى أدق، بنية تفكير تقوم على نوازع عميقة تتحكم في السلوك وتمنح الشخص الذي يمارسها مبررات لهذا السلوك، بالأخص بعد أن أصبحت مفاهيم المساواة وعدم التمييز والعدالة والحريات وكل ما يمت إلى كرامة الإنسان ثقافة عامة لدى غالبية الشعوب، وصارت حقوق الإنسان التي أقرتها مواثيق الأمم المتحدة تندرج في معظم دساتير الدول، والمعاهدات التي وقعت عليها الكثير من الدول حول الالتزام بتلك الحقوق والمعايير.

من هذا المنطلق يمكن اعتبار العنصرية أمرًا له علاقة أيضًا بدرجة وعي الشعوب وإدراكها ذاتها والآخرين، فلدى الدول التي تسامت فيها الثقافة الشعبية سلوكًا وممارسة فوق القيم السلبية التي تحط من شأن الكرامة البشرية نرى أن العنصرية أمر مذموم لدى الغالبية العظمى من تلك الشعوب، حتى لو أنها كنزعة تعود إلى الظهور من جديد في العديد من الدول الغربية، لكنها تبقى نقطة خلاف بين مؤيد ومعارض، والقسم الأكبر إلى الآن ما زال معارضًا لذلك المفهوم قولاً وفعلاً.

عانى الشعب السوري في سنوات الحرب كثيرًا من المعاملة العنصرية، ليس في أماكن اللجوء فقط، بل في أماكن النزوح أيضًا، كما عانى من العنصرية بين بعضه البعض حتى في أماكن اللجوء خاصة تلك التي لم تتوفر فيها المقومات الحياتية اللائقة في حدها الأدنى كما في دول الجوار، حيث يعيش معظم السوريين المهجرين في مخيمات تفتقر في غالبيتها إلى الظروف المناسبة للعيش، وبالتالي فإن الوعي العام سوف يتردى ومن غير المنصف محاسبة الناس في هذه الظروف على جهلها وبدائية حياتها، إذ يكفيها القهر الذي تعاني منه والذاكرة المثقلة بويلات الحرب والدمار الذي لحق ببيوتهم ومناطقهم.

لكن أكثر ما لفت النظر وتداوله الإعلام ووسائط الميديا المتعددة خاصة التواصل الاجتماعي كانت العنصرية تجاه اللاجئين السوريين في لبنان، إذ لا يكاد يمر يوم إلا ونسمع أو نقرأ عن حادثة ما، تعرض فيها أحد السوريين لمعاملة مهينة أو مذلة تتراوح بين التحرش اللفظي وبين الاعتداء والتعنيف الذي وصل حد القتل في بعض الحالات، ومن الحوادث الأشهر ما جرى من إحراق مخيمات، واغتصاب نساء، وقتل وجرائم واعتقالات من دون محاكمات، حتى إن الخطاب العنصري وصل ببعض الجهات حدّ اتهام السوريين وتحميلهم مسؤولية تلوث الهواء وزيادة حالات السرطان في لبنان، وفي كل مرة كان هناك ما يبرر أو يفسر هذا النزوع لدى مرتكب الفعل العنصري، ولقد قيل الكثير ومن هذا الكثير أن زواج اللبنانيين من السوريات يزيد في ظاهرة العنوسة لدى المجتمع اللبناني، وأن السوريين ينافسون اللبنانيين على فرص العمل، وأن كثرة الولادات بين السوريين اللاجئين سيؤدي إلى تغيير التركيبة الديموغرافية اللبنانية إلخ… حتى إن السلطات اللبنانية اتخذت بعض الإجراءات أفقدَت معظم اللاجئين السوريين صفتهم القانونية بالوجود في لبنان، وهذا جعلهم عرضةً للتهميش في المجتمع، والاستغلال في العمل، والإساءة في التعامل، والتحرُّش الجنسي في بعض الأحيان، لا يستطيعون اللجوء إلى أجهزة الشرطة والأمن في حال تعرَّضوا لأي اعتداء بسبب عدم شرعيتهم القانونية في الإقامة.

دعم هذه النزعة العنصرية لدى قسم كبير من اللبنانيين التصريحات التي كانت تصدر عن بعض السياسيين أو رموز السلطة، وكان تصريح الوزير جبران باسيل منذ مدة إعلانًا سافرًا يلخص العنصرية بأكثف درجاتها عندما قال، في عصر الثورة الجينية التي تصيب النظرية العنصرية القائلة بنقاء الأعراق في الصميم، إن اللبناني لبناني بالجينات “لقد كرسنا مفهومًا لانتمائنا اللبناني هو فوق أي انتماء، وقلنا إنه جيني، وهو التفسير الوحيد لتشابهنا وتمايزنا معًا، لتحملنا وتأقلمنا معًا، لمرونتنا وصلابتنا معًا، ولقدرتنا على الدمج والاندماج معًا من جهة، وعلى رفض اللجوء والنزوح معًا من جهة أخرى”. ولقد نشر على حسابه على التويتر فيديو يظهر فيه مجموعة من الشبان اللبنانيين أمام محلات تجارية تابعة لسوريين، معلقًا: “بتحب لبنان وظّف لبناني”. ولقد تصدت شرائح كبيرة من اللبنانيين لخطاب باسيل الذي يمكن اعتباره شعبويًا، وطرحت عرائض تحت عنوان “باسيل لا يمثلني”.

ليس من المستغرب أن تصل الأمور إلى هذا المستوى من العنصرية والشعبوية، وليست القضية متعلقة بلبنان وحدها، لكن لبنان له خصوصيته لناحية القرب العضوي من سوريا بكل ما تعني الكلمة، قبل أن تتمكن اتفاقية سايكس بيكو من خلق مفهوم جديد تكرس مع الزمن للهوية والانتماء على أساس الحدود السياسية، فغالبية الدول، العربية منها على وجه الخصوص، مارست العنصرية تجاه الشعب السوري في سنوات المحرقة السورية، وقسم كبير منها كان ضالعًا بالحرب السورية، إن كان لجهة النظام أم لجهة المعارضة وصارت سوريا ميدانًا للصراعات الطائفية والعقائدية والإيديولوجية، وصراع المصالح الكبرى والقوى المتحكمة في العالم، والدول الإقليمية. لقد ترسخت ثقافة التفرقة والتقسيم بين البلدين والشعبين، في سوريا ولبنان، لم يكن قبل سايكس بيكو شعب لبناني وآخر سوري، فكانت الجغرافية واحدة والشعب واحد يرزح تحت سلطة الخلافة العثمانية، وبعدها جاء الاحتلال الفرنسي، ولقد كانت حركات التحرر من الاحتلالين واحدة وشاملة وتحمل النزوع نحو الاستقلال والتحرر والتمسك بالهوية القومية. لكن ما حصل بعد الاحتلال الفرنسي أن ثقافة التقسيم والتفريق انتعشت، بين مكونات الشعب الطائفية والمذهبية من جهة، وبين الشعبين المفصولين بحدود سياسية من جهة أخرى، خاصة أن فرنسا روجت لمقولة “الأم الحنون” تجاه لبنان، وأن شريحة من الشعب اللبناني تلقفت هذه المقولة وصارت أحد الحوامل التي يتسلق عليها الشعور بالتميز والتفوق.

الطبقة الحاكمة في الأنظمة القائمة على مبادئ بعيدة عن مفهوم المواطنة والتي تنتج دولاً فاشلة كما في لبنان، حيث لا توجد دولة بالمعنى الفعلي والواقعي، تحتاج إلى إثارة المشاعر العنصرية وتغذية الأيديولوجيا العنصرية والحفاظ على المؤسسة العنصرية من أجل إحلال الغضب العنصري محل الغضب الطبقي أو الانفجار بسبب الفساد وتردي حياة الناس، وليس هذا حال لبنان وحده، بل حال كل الأنظمة في منطقتنا العربية حيث يتقلص مفهوم المواطنة حدّ الامحاء ويصبح الفرد ليس أكثر من رقم في تجمع بشري تسوسه الأنظمة كما لو كانوا في إقطاعة من إقطاعاتها.

لذلك فإن العنصرية التي تتجلى على شكل تعصب والتصاق بجسد الجماعة أو الطائفة أو المذهب أو المجموعة الإثنية ورفض الآخر وعدم التشارك معه في كل ميدان يمكن التحكم به هو من سمات مجتمعاتنا، التي عانت من الاستعمار لحقبة طويلة ثم أجهض مشروعها النهضوي ووقعت البلاد في قبضة أنظمة شمولية قمعية تدير البلاد بحسب أجنداتها، وتفسح مجالاً لرجال الدين والموروث الشعبي والنمط القبلي للسيطرة على الفضاء العام، فكانت النتيجة إفقار الشعب ماديًا وفكريًا، وإنماء العصبيات والهويات الضيقة، على حساب المواطنة والحقوق، مضافًا إليه فساد الأنظمة القضائية التي صارت أجهزة ملحقة بالنظام الحاكم وليست مستقلة، وبالتالي فإن حماية الحقوق من الانتهاك صار أمرًا صعبًا، وصار من تمارس ضده العنصرية عاجزًا لا يستطيع الدفاع عن نفسه.

هذا هو حال اللبنانيين أيضًا، فبالرغم من المساعدات التي تحصل عليها الحكومة اللبنانية لأجل اللاجئين، وبالرغم من أن العمالة السورية أيضًا ساهمت في تحسين سوق العمل ومن أن كثيرًا من الأموال السورية تدفقت إلى البنوك اللبنانية أو استثمرت في القطاعات الاقتصادية، وأن مطار بيروت زادت وارداته بعد الحرب السورية، فالدولة اللبنانية تعاني من أزمات خانقة، والنظام السياسي قائم على التوازنات الطائفية والمناطقية وبالتالي فإن الشعب موزع وفق تلك الولاءات، والحكومة تعاني من قضايا خلافية كبيرة ومنها الموقف من الحالة السورية وتدخل حزب الله في الحرب الدائرة فيها، بالإضافة إلى تردي الحالة المعيشية لشريحة واسعة من اللبنانيين والحاجة الماسة لتوفير فرص عمل وتحسين المستوى المعيشي. كذلك ما زالت شريحة واسعة من الشعب اللبناني تضمر في أعماقها نزعة انتقامية تجاه السوريين بسبب الذاكرة التي ما زالت نشطة عن الوجود السوري في لبنان وممارسات رموز النظام وأدواته، وذلك من دون محاولة التفريق بين الشعب والأنظمة الحاكمة، إذ يعتبرون أن على الشعب السوري أن يدفع الثمن.

مشكلة العنصرية مشكلة كبيرة، لا يمكن السيطرة عليها من دون تغيير الأنظمة أو الانقلاب على واقع شعوب المنطقة، من أنظمة سياسية إلى ثقافية إلى اجتماعية إلى دينية إلى قضائية، إلى موروث شعبي ومنظومات قيم، ولا يمكن تحقيق هذا الوضع من دون بناء أنظمة ديموقراطية تقوم على أساس المواطنة والحقوق، وأن يكون هناك دولة مؤسسات بكل ما تعني الكلمة. صحيح أن عنوان “سوا ربينا” كانت تصلح إلى حد ما بالنسبة إلى الشعبين، لكن الواقع يقول إن الوضع تغير ولم يعد ما كان قائمًا موجودًا اليوم، لليوم حساباته الأخرى، وصحيح أن مشكلة اللجوء قضية خلافية كبيرة، لكنها ليست ام المشاكل اللبنانية.

تلفزيون سوريا

في تعريف «الزْمِكّْ»/ الياس خوري

«الزْمِكّْ»، كلمة عامية تُستخدم في لبنان، وقد حوّلها الناس من صفة إلى شتيمة في كلامهم اليومي. غير أن الكلمة فصيحة حسب المعلم بطرس البستاني في «محيط المحيط». «الزَمَكة من الرجال: العَجِل الغضوب الأحمق القصير». جعلت العامة الفتحة فوق حرف الميم كسرة، والتاء المربوطة شدة، فصرنا نقول الزمِكّْ، بدل زَمَكة، وجعلنا من هذه الصفة شتيمة.

لا أعتقد أن هناك كلمة أكثر دقة في وصف موجة الجنون الجيني وهستيريا ملاحقة اللاجئين السوريين في لبنان التي أطلقها وزير الخارجية وصهر رئيس الجمهورية، من هذه الكلمة الرائعة التي تفشّ الخُلق، كما نقول.

ليس هدفي أن أشتم، رغم أنني أعتبر الشتيمة جزءاً أساسياً من اللغة. ضرورة الشتيمة تأتي من كونها استعارة تلخّص القيم الاجتماعية وتعبّر بكلمات قليلة عمّا تعجز مقالات مستفيضة عن التعبير عنه.

صحيح أننا مُتهَمون بالإكثار من الشتائم، وهذه عادة لبنانية تثير استغراب كثيرين من الناطقين بالعربية، وسبب الاستغراب يعود في رأيي إلى فهم الشتيمة بمعناها الحَرْفي، وهنا يقع سوء التفاهم. المسألة يجب أن تُقرأ في سياق تحليلنا لدلالات الشتيمة ودورها في لغة الكلام.

الشتيمة مجاز، وهي لا تعني ما تقوله بشكل حَرْفي، إذ يجب أن نفهمها بصفتها تشير إلى ما لا تقوله. إنها أداة تعبير مدهشة في قدرتها على تلخيص الانفعالات وتجسيدها بشكل رمزي وخلاق في كثير من الأحيان.

غير أن قاموس الشتائم يحتاج إلى مراجعة، تبعاً لتغيّر القيم الاجتماعية، وهذا يعني أنه في حاجة دائمة إلى التجدد والتغيير، وهذه مسؤولية الأدباء المحدثين، الذين لا يزال معظمهم محافظاً في استخداماته اللغوية، فقد قامت مرحلة عصر النهضة بحذف أو استبدال كلمات أساسية بحثاً عن حشمة لم تكن موجودة في العصر العباسي أو في الأزمنة السابقة عليه.

مراجعة الشتائم اليوم تفترض، في رأيي، ضرورة حذف التعابير الذكورية والعنصرية واستبدالها بكلمات واستعارات جديدة.

لا يعني التجديد التخلي عن كل الكلمات القديمة، إذ قد نجد في المخزون الشتائمي الكبير كلمات مدهشة يجب استعادتها إلى الفصحى المعاصرة، وربما كانت كلمة «زمِك» هي الأكثر قدرة على التعبير عن الاحتقار والاستهجان والشعور بالغثيان في مواجهة العنصريين.

من العبث الدخول في نقاش جيني مع أي «زمك» يتحرّش بعامل سوري أو فلسطيني، فهذا النقاش هو إهانة للكلام، بماذا تجيب حثالة القاموس النازي الذي صار استخدامه معيباً، ولا نجده اليوم إلا عند سفهاء التيارات العنصرية الإسرائيلية؟ هل يمكن الدخول في نقاش مع الذين يقومون بمطاردة اللاجئين السوريين بكاميرات التلفزيون البرتقالي التابع للعونيين، مسلحين ببسطار السلطة التي أُعطيت لهم من قبل حزب الله؟

هذا «التزمّك» أو «الاستمزاك» مرض لا علاج له، وهو يجد ساحته الوحيدة في ما كان يسمى خلال أعوام الحرب الأهلية «المناطق الشرقية»، حيث لا رادع ولا من يردعون، وحيث يتملك هؤلاء «الزمكات» شعور بأنهم ورثاء بشير الجميل، عبر الشحن الطائفي والعنصري الأعمى.

وليس غريباً أن يكون دعاة التفوق الجيني اللبناني، الذين يصنعون حملة الكراهية ضد السوريات والسوريين، حلفاء النظام الاستبدادي في دمشق. تخيّلوا هذا المشهد، حلفاء سوريا هم أعداء الشعب السوري الذين يعلنون تفوقهم «الجيني» على شعب اللاجئين.

لن ننصحهم بالتوقف عن هذه الحملة المسعورة، فأنت لا تستطيع أن تنصح من أعماه الحقد. ضعفاء العقول والنفوس، الذين يعرفون جيداً أنهم الأضعف في المعادلة اللبنانية، وأن استقواءهم نابع من السلاح الذي يحمي انتفاخهم الوهمي بالسلطة، هؤلاء يتمرجلون على اللاجئ الضعيف الذي طرده الوحش المستبد من بلاده. لقد وجدوا في السوريين اليوم مكسر عصا، مثلما سبق لمن كان قبلهم أن جعل من الفلسطينيين المضرّجين بمذبحة شاتيلا وصبرا كبش محرقة الحرب الأهلية.

يعرف هؤلاء الطائفيون أن لعبة الجينات التي بدأت ضد السوريين مرشحة للامتداد ضد اللبنانيين الآخرين. ألم تبدأ الحرب الأهلية بخطاب كراهية ضد «الغرباء» الفلسطينيين ثم صار كل اللبنانيين الذين لا ينتمون إلى «الطائفة المختارة»، أعداء يمكن قتلهم.

كيف تردّ على «عصفورية» تعيش في «معالي» هستيريا الرؤوس الحامية التي تعتقد أنها عبر بث أشد الأفكار تفاهة ووحشية تستطيع أن تستعيد زعامة ضاعت، وهيمنة انتهت، أو أن تمحو خطيئة العمالة لإسرائيل بخطيئة تغطية نظام الجريمة في دمشق وتشكيل رديف له يقمع ويضطهد الناجين من براميله وأسلحته الكيميائية.

صحيح أنني لا أملك لغة شبيهة بلغة الزمكات كي يستوعب هؤلاء ما أريد أن أقوله لهم، لكن لي رجاء واحد، أن يتمسكوا بخطابهم ولا يستبدلوه حين ينقلب الزمن، وهو سينقلب، لأن هذا هو قانون الحياة، رجاء لا تعودوا إلى لغة الإحباط والتباكي مثلما فعلتم حين انسحب الإسرائيليون وتركوكم لقمة سائغة بين فكي النظام السوري.

يجب أن تعرفوا أنكم تربّون الحقد في نفوس أبناء الشعب السوري، وفي نفوس كثير من اللبنانيين، وأن ثمن هذا الحقد سيكون كبيراً وموجعاً.

أسفي أن أعوام الهيمنة الســــورية وأعوام زمن الاغتيالات أفقدانا القدرة على ردعكم من أجل إنقاذكم من أنفسكم.

القدس العربي

العنصرية المتعنّتة/ سلام الكواكبي

كتب أستاذ جامعي لبناني على قدر كبير من العلم والإنسانية، تعليقاً غاضباً في وسائل التواصل الاجتماعية على العنصرية الرسمية التي قدّر، كما كثيرين غيره، وجودها بنسبة عالية في مواقف بعض المسؤولين اللبنانيين خلال الأشهر القليلة الماضية. عنصرية لا تُخفي وجهها، وتنعكس تخبّطاً في التعاملين، الرسمي والشعبي، مع مسألة اللجوء السوري. عنصرية ممأسسة صار بعض الإعلام اللبناني يفخر بها من خلال متابعات مصوّرة ومتفشية لملاحقات أمنية استعراضية، يقوم بها “رامبويات” الأمن تجاه عامل بناءٍ هنا، أو بياع بسطةٍ هناك، تجاه ماسح أحذية هنا وبائع كعك هناك، ويخال لمن يتابعها أنهم يجهدون في محاربة مجموعات إرهابية أو عصابات تهريب المخدرات. تصرفات يستعملها متطرّفون في إذكاء مشاعر البغض والكراهية بين الشعبين. وقد أشار إلى التشابه الفظ القائم بين الحملة التي قام بها النازيون الألمان سنة 1933 حين كانوا يدعون الألمان إلى عدم الشراء من محالّ اليهود، وما يتم اليوم في لبنان “الباسيلي” (نسبة إلى وزير الخارجية جبران باسيل)، وفي سنة 2019، حيث تتم الدعوة إلى مقاطعة محالّ السوريين، وتشجيع اللبنانيين على الشراء فقط من محالّ أبناء جلدتهم، وبالتالي، يُضيف ساخراً وبمرارة: “ماذا نفعل مع السوريين الذين يلوثون نقاء الجينات اللبنانية، أي الفينيقية؟”.

حملة “السعار” التي تقودها قوى سياسية شعبوية يمينية متطرّفة على الوجود السوري الشعبي في لبنان، الذي حتماً يُشكّل معضلةً نسبيةً اقتصادياً واجتماعياً بعيداً عن أيّ مبالغات ومزاودات شعبوية، بدأت تجد لها مسارب سياسية صريحة، وحوامل إعلامية لا تخجل من أداء دور “إذاعات الموت” في رواندا في أثناء مذابح تسعينيات القرن المنصرم، التي صارت تُدرّس في كليات الإعلام الأوروبية، والتي تُحرّض عن سابق إصرار وتصميم، أو عن نفحة مرتفعة من نسبة الغباء، على الأجنبي عموماً والسوري خصوصاً، ليصل الأمر في بعض الحالات إلى القيام بعلميات “شعبية” للقضاء على هذه “الظواهر” التي تَعيبُ “وحدة” النسيج المجتمعي المحلي الذي تشتهر به البلاد، منذ حربها الأهلية، وتقضي على خصوصياته.

صارت الملاحظات العنصرية مصدراً لا ينضب للكوميديا السوداء، فمن قائل بضرورة منع تجوّل السوريين في المساء لعدم تمكّنهم (الجيني؟) من رؤية نساءٍ غير محجبات، وبالتالي عدم قدرتهم على السيطرة على هرمونات التحرّش التي أتوا بها في حقائبهم، إلى القول إنهم حملوا معهم ميكروباتٍ سببت تزايد أعداد مرضى السرطان في البلد، وصولاً إلى استعراض الارتفاع المؤسف في حوادث السير، وربطه بوجود السوريين “الآتين من الريف”، حيث لا سيارات يتعاملون معها، ما يؤدي إلى عبورهم العشوائي في شوارع سويسرا الشرق، وصولاً إلى مساهمتهم في مأساة النفايات، ليس حجماً، مما يمكن قبوله رياضياً، ولكن في طريقة التخلص منها، حيث هم آتون من بقاعٍ لا تعرف النظافة، وترمي نفاياتها كيفما اتفق من نوافذ بيوتها. لا تتوقف السلسلة المضحكة المبكية عن التطوّر والتطاول، ويحسب المتابع أن هناك مؤلفاً مسرحياً محدود الموهبة يقف وراء اختراعها كلها. حتى إن زائر البلاد لأيام يخشى، إن لاحظ أن الحرارة مرتفعة وتصاحبها رطوبة شديدة، أن يتأفف من هذا الحال، كي لا يسمع الإجابة والتوضيح السريعين بأنها حرارة أنفاس السوريين ورطوبة تحت آباطهم المتعرّقة.

في خضم الجدل القائم على نظرياتٍ عنصرية، يساهم فيها سياسيون وإعلاميون، تحمل كثيراً من الفوقية والإقصاء، لدينا جدلٌ من نوع آخر، يقترفه بإساءة بعض من يدّعي ذوداً عن قضايا الضحايا، فمن النادر للغاية أن نسمع أو نقرأ موقفاً عنصرياً مقابلاً لمن يعاني الأمرّين في المشهد اللبناني من السوريين العالقين بيد مطرقة الإجراءات وسندان الانتهاكات، إلا أننا كثيراً ما نقرأ تعليقاتٍ لا تقل عنصرية وفوقية عن “شقيقتها” اللبنانية ممن يسعى إلى الدفاع عن حقوق المنتهكة حقوقهم من السوريين خصوصاً، فتحفل وسائل التواصل بعنصرياتٍ متبادلة لا تثري الحوار إلا سلباً، ولا تفيد الضحايا الحقيقيين، بل على العكس، هي ترفد “أسلحة” العنصريين من اللبنانيين بذخيرةٍ تستند إلى “عنصرية” سورية دفاعية مقابلة. ويبقى اللبنانيون، والسوريون الواعون إلى حقيقة المخاطر التي تحملها نفحات العنصرية المتبادلة، الأقدر على مواجهتها وإدانتها والتصدي لها بكل وسائل التعبير المشروعة والمتاحة.

وهم يستندون في ذلك خصوصاً، إلى العمل المميز الذي يقوم به باحثون لبنانيون جادّون من اقتصاديين وديموغرافيين، للرد على المبالغات والأكاذيب المتعلقة بملف اللجوء السوري، بالاعتماد على دلائل علمية مدققة ومحققة، كما يفعل معهد عصام فارس للسياسات العامة في الجامعة الأميركية مثلاً، واضعين النقاط على الحروف من خلال عمل وحدة بحثية متخصّصة في مسألة اللجوء، وانعكاساته الحقيقة على الوضع الاقتصادي اللبناني. كما يسعى باحثون سوريون يعملون إلى جانب “أشقائهم” اللبنانيين، إلى إجراء دراسات ميدانية موضوعية، وبعيدة عن الحساسيات المنفّرة.

في ردّه على الأستاذ الجامعي الذي قارن مع حقبة النازية، علّق زميلٌ له مستغرباً هذه المقارنة، ولم يكتف بذلك، فأطنب متسائلاً عن وجه المقارنة بين اليهود المثقفين والمتعلمين والمهنيين الرفيعين من جهة، والسوريين وما يحملونه من جهل وفقر ومخاطر أمنية (…). إنها العنصرية المتعنّتة.

العربي الجديد

في هجاء “الصواب السياسي”/ أرنست خوري

يعرّف معجم جامعة كامبريدج البريطانية مفهوم “الصواب السياسي” (political correctness) بإيمان معتنقه بأن لغة التخاطب والممارسة يجب ألا تكونا استفزازيتيْن للمخاطَب، أكان فرداً أو جماعة دينية أو قومية أو ثقافية أو سياسية، فيتحول الحُكم على ما يقوله أيّ كان، من تدقيق في جوهر الكلام، إلى تتبع للمصطلحات المستخدمة، للإشارة إلى معنىً سياسيٍّ ما، كقول ضيفٍ على شاشة تلفزيونية لزميل يعارضه، إن “كلامك يفتقد إلى الدقة”، بينما كان يمكن أن يكون أكثر صراحةً، ويواجهه بمثل “أنت كذاب ومزوّر للحقيقة”.

في العقد الثامن من القرن الماضي، مع صعود الشعبويات، خصوصاً اليمينية منها في الغرب، ربما كان “الصواب السياسي” أكثر من ضروري، بما أنه كان يجب الوقوف في وجه تلك التيارات الباحثة عن مشروعيتها في انتعاش القوميات والوطنيات والهويات الدينية والطائفية، إثر مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية، والشعور الأوروبي العام بالذنب حيال كل ما يذكّر بالنازية والفاشية والحرب. ولكن ذاك “الصواب السياسي” اليوم صار يواجه، كحال والده الشرعي، أي الديمقراطية، مساءلةً واسعة النطاق مع التقدّم الهائل للفاشيات الجديدة واليمين المتطرّف عموماً: فمثلما لا يزال يصعب الحسم في ما إذا كان يجب السماح للنازيين بالوصول إلى الحكم عبر انتخاباتٍ شفافة، أي بأدوات الديمقراطية، ليقضوا بدورهم على الديمقراطية التي أوصلتهم إلى ما وصلوا إليه، يبقى أيضاً بلا جوابٍ سؤالُ وجوب مواجهة العنصريين الجدد في كل مكان، بلغة “صائبة سياسياً” تتفادى إشعارهم بأي تمييزٍ ضدهم، وتصرّ على احترام رأيهم وكأنه رأي أصلاً، لا خطاب كراهيةٍ يحرّض على القتل والاعتداء والتهميش والتمييز بين البشر على أسس لون البشرة والديانة واختلاف الثقافة واللغة.

تُطرح تلك الإشكالية اليوم في مواجهة كل الفاشيين الجدد، في الغرب وعندنا. ولنا هنا نصيبٌ في لبنان مع وزير الخارجية، جبران باسيل، وأتباعه، وهم للأسف كثيرون. الظاهرة الباسيلية وُلدت من رحم دفن كل ما يتعلق بالصواب السياسي في تعريفه الأكاديمي إياه (حسب كامبريدج) لناحية الحرص على عدم إشعار أي مجموعةٍ بشريةٍ بأي نوعٍ من التهميش من خلال خطاب وممارسة استفزازيين أو “عدائيين”. وعندما يكون سياسيٌّ مثل باسيل، وهو ثاني أقوى شخصية عامة في هذا البلد بعد حسن نصر الله، يجاهر بخطابٍ عنصريٍّ بداعي الوطنية، ويوفّر الغطاء السياسي والإعلامي والأمني للاعتداء على عمالٍ سوريين ولاجئين فقراء في لبنان، بهدف الحفاظ على النقاء الجيني للبنانه، على ما يخبرنا بوتيرة يومية، فهل ينفع التزام خصومه وخصوم تياره اليميني المتطرّف بأصول “الصواب السياسي”، وعدم تسمية الأمور بأسمائها الأصلية من دون تدوير زوايا وتنعيم ألفاظ؟ أليس إشعار هؤلاء بأنهم منبوذون فعلاً، لا بل مكروهون، واجباً على كل مواطن أو مقيم في هذا البلد، لديه حقوق وواجبات نابعة من إقامة شرعية ودفع ضرائب واحترام قوانين، من دون أن يتفاخر بتفوقٍ جيني وسموّ ديني ــ ثقافي ــ تاريخي متخيَّل؟

تُطرح هنا أزمة أخرى مزدوجة: قانونياً، أسهل بكثير على السلطات اللبنانية الأمنية والقضائية ملاحقة معارضي هذا الخطاب، في حال كان صريحاً واضحاً “غير صائبٍ سياسياً”. أما النقطة الثانية، وهي الأخطر، فهي تُختصر بأن الخروج عن الخطاب الصائب سياسياً في مواجهة أدبيات الحاكم العنصري، ربما لا يجد حاضنةً شعبيةً واسعةً بما يكفي لتوفير الحصانة للمتحدثين باسم غير العنصريين، وهنا الطامة الكبرى في حال صحّت تلك النظرية، لأن ذلك لن يعني إلا أن خطاب باسيل يعبّر بالفعل عن طيفٍ واسع من اللبنانيين، ومن مختلف الطوائف والمناطق، يحاكيهم ويحكي باسمهم. لذلك ربما يكون فعلاً المرشح الأقوى لخلافة والد زوجته في رئاسة الجمهورية.

العربي الجديد

لبنان وتفاقم النزعة العنصرية/ أحمد عثمان

تشهد الساحة اللبنانية تصاعداً للخطاب العنصري بحق اللاجئين السوريين والفلسطينيين، أفضى إلى ممارسات عنصرية فجّة أخيراً، تمثل بعضها بمنع تجوال السوريين في بعض المدن والقرى ليلاً، وفي منعهم من عبور بعض الطرق ليل – نهار، وفي إجبارهم على ترك بيوتهم المستأجرة بشكل قانوني في أحد أحياء بيروت بدون أي إنذار مسبق وفوراً، بناءً على تبليغ شفوي لا غير.

واقتلع مخيم كامل للنازحين في محافظة بعلبك الهرمل، بعد إشكالٍ بين بعض مقيميه وعنصر من الدفاع المدني اللبناني، على خلفية حريق في أحد الأحراج المجاورة للمخيم. والغريب أن الرواية الوحيدة التي استمع إليها بما يتعلق بهذه الحادثة هي رواية عنصر الدفاع المدني الذي كان يقود سيارة إطفاء، أما رواية اللاجئين في المخيم فلم يأخذ بها أحد. وعمد الجيش اللبناني إلى اعتقال أكثر من ثلاثين شاباً من المقيمين في هذا المخيم، على خلفية الحادث الذي أصيب خلاله عنصر الدفاع المدني، نتيجة رشقه بالحجارة التي حطمت زجاج السيارة. وفي حين يدّعي السائق أنه تعرّض للهجوم في أثناء تحريك سيارته لإطفاء الحريق، ما أثار الغبار في الخيم، يقول سكان المخيم أن سيارته دهست خيمتين فيهما أطفالٌ رضّع، ما أثار غضب الشبان، فرشقوه بالحجارة بعدما لم يتوقف.

والمؤسف أكثر التنافس الكبير بين أتباع القوى السياسية المختلفة، في شنّ هجوماتهم العنصرية على اللاجئين السوريين، عقب هذه الحادثة، في خطابٍ شديد الإسفاف، يخشى أن يقابل بخطاب مماثلٍ من ناشطين سوريين، فيزيد الأمر خطورة، ما يجعلنا نؤكّد أن العنصرية لا تواجه بالعنصرية، فحذار أن تذكي العنصرية عنصرية أدهى مقابلة لها، فالكل في ذلك خاسر خسراناً مبيناً.

والبشر ليسوا عنصريين بطبيعتهم. وقد أثبتت تجارب كثيرة أن الأطفال من أصول عرقية -إثنية، أو دينية – ثقافية مختلفة، وفي حال توفر الحرية التامة من أي مؤثرات خارجية سلبية، يتعايشون بشكل طبيعي، ويتشاركون ألعابهم، ويتبادلون ما لديهم من مشاعر وأفكار بدون أي شكلٍ من أشكال الحذر أو الخوف أو العدائية، حتى وإن اختلفت لغاتهم.

العنصرية يُدفع إليها الناس دفعاً. وإذاً، وراء كل ظاهرة عنصرية جهة مستفيدة. ولا ينحصر شكل الاستفادة من التمييز العنصري على الاستفادة المادّية المباشرة، وإنما قد يتعدّاها إلى أشكال متعدّدة، وصولاً إلى السياسة منها في بناء الحكم والسيطرة والنفوذ، وفي تمتينها وإدامتها.

تقوم العنصرية على فرضية الانسجام العرقي، أو الديني أو الثقافي، للجماعة، وعلى ادعاء التفوق، وبناء منظومة الاستعلاء على الآخر المختلف، والحطّ من قدره، ووصمه بالتخلف والبربرية، وبكل أنواع الخبائث. ومن ثم تعميم الخوف منه، واعتباره تهديداً وجودياً لكيان تلك الجماعة المتفوّقة يجب السيطرة عليه، أو حتى التخلص منه نهائياً

وفي لبنان، حيث يتصاعد اليوم الخطاب العنصري، ومن ثم الممارسات العنصرية، ضد اللاجئين السوريين، وبدرجة أقل ضد اللاجئين الفلسطينيين، ويتوسّع بشكل مخيف الخطاب العنصري الذي طالما عانى منه العاملون والعاملات العرب والأجانب في لبنان، لا يمكن الفصل بين هذا الخطاب وطبيعة النظام السياسي الطائفي والزبائني الذي تفرضه القوى السياسية المسيطرة، فالخطاب العنصري هو امتداد وتأصيل للخطاب الطائفي الذي يتحصّن به نظام ائتلاف المافيات المسيطرة في لبنان، القائم أساساً على تخويف الناس من الآخر المختلف دينياً ومذهبياً، واعتباره منافساً في اغتنام مغانم السلطة وامتيازاتها، ومقومات العيش من عمل وخدمات وموارد. وهذا ما وثّقت تلك القوى ربطه بنظام زبائني تحاصصي في الوظيفة والعمل والخدمات الأساسية، من طرق ومواصلات وبنى تحتية مختلفة.

لقد برع التيار الوطني الحر (العونيون، نسبة للرئيس ميشال عون مؤسس التيار)، في استغلال ما كان يعرف بـ”الإحباط المسيحي”، ورفعوه إلى رتبة “المظلومية” المسيحية، باعتبار أن المسيحيين في لبنان قد حرموا في ظل الوصاية السورية من إيصال نواب يمثلونهم، إذ اقتصر التمثيل المسيحي في البرلمان على نوابٍ مسيحيين أعضاء في التكتلات البرلمانية لأحزاب وتيارات وتحالفات تعتبر ممثلةً للطوائف الأخرى، ونواب ملحقين بالوصاية السورية مباشرة، وأسسوا على ذلك مهمتهم التاريخية في استعادة حقوق المسيحيين! التيار الوطني الحر الذي فرضه تحالفه مع حزب الله وقوى الممانعة في السلطة، الذي لم ينل ما ناله منها لولا هذا التحالف، فامتد وتغلغل في مؤسساتها جميعاً، مستفيداً من النظام الزبائني التحاصصي والطائفي، ومعزّزاً له، فقام بتغذية الخطاب العنصري وتعميمه بين أنصاره، ليصبح، مع كل ما فيه من وضاعة وإسفاف، الممر الإجباري الذي من خلاله تتعزّز مصالح أزلام هذا التيار ومناصريه، فكلما ارتفعت وتيرة هذا الخطاب انفتحت أمام أصحابه أبواب النفوذ والسيطرة في التيار، وفي المؤسسات التي تغلغل فيها.

المختلف السوري والمختلف الفلسطيني يصبحان فريسة سهلة للخطاب والممارسات العنصرية المقيتة، وباعتبار انتمائهما الطائفي والمذهبي، يتعرّضان لتمييز مضاعف من عتاة الطائفية والعنصرية في التيار الوطني الحر، الذي يسوّق لخطابه في مختلف وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي، باعتباره خطاباً تحريضياً مسيحياً وممانعاً و”لبنانياً”.

وإذا كان التيار الوطني الحر قد استفاد في السلطة والنفوذ من خطابه الطائفي والعنصري إلى هذا الحدّ، فإن القوى “المسيحية” الأخرى التي تضرّرت من صعود هذا التيار وجدت نفسها مضطرة للمزاودة عليه في هذا السياق، وأكثر، في الخطاب العنصري “اللبناني” في مواجهة اللاجئين.

ويصبح المختلف السوري أشد تعرّضاً للخطاب وللممارسة العنصرية اليومية، ما دام معارضاً لنظام عصابة الأسد. أما أتباع نظام الأسد ومناصروه من السوريين المقيمين في لبنان، فيمارسون لا فقط سيطرتهم على أصحاب ذلك الخطاب وتلك الممارسات، بل يوجّهونهم ويشجعونهم ويذلونهم أيضاً.

ولا يُنسى أنّ تفاقم الهجمة على اللاجئين يرخي بظلاله على الواقع اللبناني المتدهور، ويغطي على النقمة المتزايدة وتصاعد الاحتجاجات القطاعية والشعبية، على سياسات قوى السلطة الاقتصادية والمالية والاجتماعية والبيئية والتربوية، التي تفاقم الضغوط على الطبقات الاجتماعية والقطاعات المختلفة. ومن ثم، تستفيد القوى المسيطرة، ولو بشكل غير مباشر، من هذه الهجمة ومن تفاقمها.

في المقابل، ترتفع أصوات لبنانية كثيرة، ولكن من جهاتٍ متفرقة، لم تصل إلى حد توحيد خطابها ضد هذا الخطاب وتلك الممارسات، ومن بينها إعلاميون وحقوقيون ومجموعات مدنية وسياسية مختلفة، باتت مسؤولياتها مضاعفة اليوم، لا فقط لمواجهة هذا الخطاب وتلك الممارسات، وإنما أيضاً لفضحها وفضح أسبابها المادّية الحقيقية، ومراميها الخبيثة، ومن ثم المساهمة الفعلية في منع توسعها وتعميمها بين اللبنانيين.

وأختم بما كتبه ياسين الحاج صالح في هذا الموضوع: “كلما صار لبنان أكثر شبهاً بـ”سورية الأسد” صار فيه عنصرية أكثر تجاه السوريين”. أصل العنصرية اللبنانية ليست اختلاف لبنان أو وجود عنصر لبناني متميز، بل بالضبط اتجاه الفرق إلى الانعدام. وتسهم العنصرية اللبنانية بمحو الفرق، تجعل لبنان أسدياً أكثر، مع تغذية الوهم بالتميز باعتباره تعويضاً. ولذلك الأكثر أسدية بين اللبنانيين، سياسياً وإعلامياً وعسكرياً، هم الأكثر عنصرية.

العربي الجديد

كل هذه العنصرية في لبنان/ وائل نجم

منذ اللحظة الأولى لتدفق أولى موجات اللجوء السوري إلى لبنان، بعد أحداث عام 2011 وثورة الشعب السوري بوجه نظامه، ارتفعت في لبنان أصوات اعترضت، في حينه، على السماح للّاجئين الفارّين من جحيم الموت الدمار بالدخول إلى لبنان، أو إقامة مخيماتٍ منظّمة لهم، أو حتى تقديم أبسط الخدمات التي تقيهم الهلاك، وهو ما أدّى إلى نشوء حالةٍ من فوضى اللجوء السوري في لبنان، حيث انتشرت أعداد كبيرة من اللاجئين في معظم المناطق، وتسرّبت غيرها إلى كل الأحياء والقرى.

وما إن استقرّ الأمر باللاجئين السوريين في أماكن تأمّنت لهم فيها الحدود الدنيا من الأمن والاستقرار والحقوق، حتى علت أصوات عنصرية، راحت تطالب بطردهم وإعادتهم إلى سورية، غير مكترثةٍ بأجواء الحرب والقتال التي كانت سائدة، وما يمكن أن يلحق بهؤلاء اللاجئين، فيما لو عادوا. بعد ذلك تطوّرت المطالبة إلى ممارسات عنصرية، حيث فُرضت قيود جائرة على اللاجئين، ومنها فرض الغرامات المالية عند تجديد بطاقات اللجوء، ومنها المضايقات الأمنية، فضلاً عن إجراءات منع اللاجئين من العمل، أو حتى التجوّل في بعض الأوقات والأماكن، أو حتى عدم إدخال أبنائهم إلى المدارس، ناهيك عن المعاناة الصحية على أبواب المستشفيات.

بعد ذلك، بدأت سياسات ترحيل اللاجئين السوريين من خلال الضغط الدائم عليهم، سواء في مخيمات منظّمة، أو في أماكن مبعثرة ومشتتة. تجلّى ذلك بحملات المداهمة المكثّفة التي حصلت في مرّات عديدة، تحت عنوان الملاحقات الأمنية لأفراد متورّطين بأعمال تصنّف “إرهابية”. وقد تزامنت هذه الإجراءات مع حملات إعلامية وسياسية عملت على “شيطنة” اللجوء السوري في البلد، فراحت تحمّل أوزار أعمال الفوضى والفساد والتردّي الاقتصادي والاجتماعي والأمني وغيره للاجئين السوريين، كما راحت تحرّض عليهم، بشكل غير مسبوق أو غير معهود. وشاركت في ذلك محطات تلفزيونية وإذاعية وصحف، فضلاً عن مواقع التواصل الاجتماعي. وتولّى الحملة، بشكل أساسي وكبير، وزراء في الحكومة، ونواب كانوا في مرحلةٍ سابقة، يكنّون عداءً سافراً وكبيراً للنظام في سورية، وهم يعتبرون أنفسهم بذلك مدافعين عن حقوق مكوّنات طائفية في البلد. وقد رافقت كل تلك الحملات دعوة أمام المحافل كافة، لإعادة اللاجئين إلى سورية تحت عنوان العودة الطوعية.

تتجلى العنصرية اليوم أكثر من قبل، في إصدار أوامر بهدم كل المخيمات التي تدخل في تكوينها مادة الأسمنت، وقد جرى ذلك في منطقة عرسال، وتُرك اللاجئون من دون مأوى أو سقف يأويهم. والمشهد الثاني الذي تجلّت فيه العنصرية، هو الذي تابعه الجميع في مخيم كاريتاس، قرب بلدة دير الأحمر في منطقة بعلبك البقاعية، حيث عمدت البلدية إلى إنذار اللاجئين بإخلاء المخيم، وهو ما حصل تحت التهديد، ومن ثم جرى إحراق خيام عديدة في المخيم، بما حوت من أدوات وحاجات ومتاع يستخدمها اللاجئون في شأنهم اليومي، بل أجبرت لاجئاتٌ سوريات على هدم خيمتهن فوق رؤوس أبنائهن الأيتام، من دون رحمة أو شفقة أو احترام أو التزام بمعايير القانون الدولي الإنساني في مثل هذه الحالات. وما جرى أخيراً في هذا المخيم ليس عملاً منظماً من أجهزة الدولة. لقد تخطّى مسألة تنفيذ أوامر صدرت عن سلطة صاحبة قرار (بغض النظر عن صواب ذلك من عدمه)، إنما ما جرى هو نتيجة واضحة لحجم خطاب الكراهية والعنصرية والحقد، الذي يعتمده ويمارسه تيار رئيسي في البلد، بحجة الحفاظ على لبنان ومصالحه وتنوّعه وتوازنه، فيدفع نحو الكراهية والحقد الذي ترجم نفسه بهذه الطريقة الوحشية.

اللجوء السوري في لبنان اليوم في خطر. ويواجه اللاجئون السوريون مصيراً صعباً لا يقلّ خطراً عليهم من خطر الإبادة التي كان من الممكن أن تلحق بهم، لولا فرارهم من الموت المحتّم، وهذا ما يمكن أن يشكّل، مستقبلاً، خطراً على لبنان وصيغته الاجتماعية، إذا لم يُصَر إلى تدارك الموقف، ووقف خطاب العنصرية والكراهية، فضلاً عن أن منظمات حقوق الإنسان معنيّة، ومدعوّة إلى وضع حدّ لهذه العنصرية المتوحّشة.

العربي الجديد

عنصريون..ولكن!/ ساطع نور الدين

يمكن أن تنسب العنصرية التي يستخدمها رئيس التيار العوني الوزير جبران باسيل في خطابه اليومي الى ثقافة ضحلة لا تستثني كثيرين من ساسة لبنان، والى سياسة عميقة إعتُمدت عن سابق تصور وتصميم، من قبل غالبية القوى السياسية. العونيون ليسوا العنوان الوحيد لتلك الظاهرة، لكنهم العنوان الاسوأ، لأنهم يحيلون الاجتماع اللبناني الى مراحل ماضية من الاشتباك الطائفي، كان يعتقد أنها طويت.

جدل العنصرية هو في الاصل مستورد من الخارج، من الغرب تحديداً. لم يكن في أي يوم من الايام متجذرا في الوعي اللبناني، الذي لا يحفظ عبر التاريخ سوى محاولات متلاحقة لتصفية الآخر، وتهجيره، وإنكار تميزاته وبالتالي حقوقه. الارتقاء بهذا الجدل، الذي كان وسيظل محصوراً في أوساط النخبة الثقافية، وليس السياسية، لم يكن له اي أثر لا في النفوس ولا في النصوص.. والادهى من ذلك، أن بعض المثقفين اللبنانيين عطلوا هذه المهمة، عندما إندمجوا قديماً في الفرز العنصري، على طريقة المثقفين الغربيين الذين أرسوا أسس الاستعمار الغربي، حسب الراحل إدوار سعيد.

لا يبدو الحساب مع باسيل جائزاً، لا في الثقافة ولا في السياسة، لا سيما وأنه ينتمي ويقود تياراً هو الاقل إعتماداً على إيديولوجيا واضحة ومحددة، من بين بقية الاحزاب والتيارات والتنظيمات اللبنانية. سلاحه الوحيد، الذي شهره منذ اليوم الاول لإنخراطه في اللعبة السياسية، بعد عودته من المنفى، هو سلاح العصبية الطائفية ، التي شاع إستخدامها من قبل جميع الخارجين من الحرب الاهلية، ورثة “القوى الايديولوجية” التي حطمتها تلك الحرب، وأطلقت أسوأ ما فيهم من عصبيات تاريخية متأصلة.

القول أن باسيل هو لسان حال الرئيس ميشال عون وخلاصة عقله وأسلوبه، لا يخدم في تقويم أو تصويب، بل ربما أدى الى العكس تماماً بالنظر الى تجربة الرجل وخدمته، التي لا تعرف الكثير من السياسة ولا تعترف بالقليل من الثقافة، بل تورث الحقد والكراهية لطبقة سياسية، ليس فيها ملائكة ولا قديسون، يمكن ان يتحدوا التيار العوني، أو يتّحدوا ضده على أقل تقدير. فالجميع يعرف أن التيار هو أقل فساداً من منافسيه، وهو يمارس اليوم لعبة البيع والشراء للحقوق والحصص التي سبق أن أتقنها خصومه جميعا.

أما الزعم أن باسيل هو المعبر عن وعي الموارنة خاصة والمسيحيين عموما، وعن مطالبهم الراهنة، فهو كلام لا يخلو من العنصرية المضادة أيضاً. المزاج الشعبي الماروني والمسيحي، يتفاعل مع الخطاب العوني أكثر من أي خطاب آخر، لأنه يستمد عناصره من الحاجة الدفينة للعودة بالبلد الى ما قبل الحرب الاهلية، لا الى الحرب نفسها، بل الى حقبة الامتيازات الشهيرة، التي كانت واحدة من حجج الحرب وصواعق تفجيرها.

وهو سلوك سياسي طبيعي جداً، في أعقاب سياسة العزل الاسلامية (والسورية) السابقة، التي أسفرت عن وراثة مشوهة لنظام “الامتيازات”، عاث فيها المسلمون فساداً في الدولة ومؤسساتها، وقدموا نموذجاً يشبه الى حد بعيد النموذج الفاضح الذي أرساه شيعة العراق منذ أن ورثوا الحكم من السنة. لكنه في الوقت نفسه، سلوك خطر، لأنه من جهة يفسح المجال لأسوأ نماذج ما كان يسمى ب”المارونية السياسية”، التي لا تقل تخلفاً وفساداً عن فضائح الاسلامية السياسية ، ولأنه من جهة أخرى، يعيد إنتاج نظرية التفوق “الجيني”، الذي يستهدف الآن النازحين السوريين واللاجئين الفلسطينيين، لكنه يصيب في العمق المواطنين المسلمين المقيمين على الارض اللبنانية، ويحرك عصبياتهم القديمة. 

سياسة لاأخلاقية، نعم، بلا أدنى شك. لكن العونيين، متصالحون مع أنفسهم، مع قيادتهم، مع رئيسهم، وهذا وحده دليل على أن البلد منسجم مع نفسه ومع جميع مكوناتها وهوياته وعقائده. لا فضل لمواطن على آخر، إلا بدرجة إدعائه أن عنصريته مختلفة عن عنصرية الاخرين، سواء كان ذلك السلوك موجهاً الى الخارج، أو الى الداخل.

المدن

باسيل الأسوأ من لوبان/ حسن مراد

على مدار الأيام الماضية، ضج الفضاء الافتراضي في لبنان بتغريدتين لوزير الخارجية جبران باسيل أثارتا موجة من الجدل. تناولت التغريدة الأولى مفهوم معاليه للانتماء اللبناني حيث وصفه بالانتماء الجيني، أما الثانية فاستعادت خطاباً حول أفضلية اليد العاملة اللبنانية.

وأظهرت ردود الأفعال مع هاتين التغريدتين أن اللبنانيين اعتبروا المقصودين بكلام باسيل، السوريين المقيمين في لبنان، خصوصاً إذا ما ربطت هذه التغريدات بتصريحات سابقة له عكست تحاملاً عليهم لا سيما اللاجئين منهم.

أضف إلى ذلك أن شريحة من اللبنانيين، ومن ضمنهم محازبوه، لا تخفي عدائيتها تجاههم وتجلى ذلك بوضوح مع “حملة التوعية” التي اطلقها قطاع الشباب في التيار الوطني الحر، حملة واكبها تلفزيون OTV بتغطية إعلامية لافتة.

إذا ما تم التمعّن في كلام جبران باسيل، يتضح أن ما قدمه من حجج للتصويب على اللاجئين السوريين بهذا الشكل المسيء، يتقاطع مع الخطاب السياسي لأحزاب اليمين المتطرف الأوروبي، لا سيما حزب التجمع الوطني الفرنسي. ففي معرض مقاربتها لما تصفه “تدفق اللاجئين والمهاجرين” إلى فرنسا، ترتكز مارين لوبان على حجتين اثنتين: تصوير الأمر على أنه تهديد اقتصادي لفرنسا، وتهديد ثقافي للبلد.

والتقاطع لا يتوقف على الشكل، بل ينسحب أيضاً على المضمون. فتفكيك هذه الحجج ومقاربتها بواقعية وعقلانية بعيداً من الديماغوجية، يؤدي دوماً إلى تعريته: هو خطاب شعبوي عابر للحدود وليس إلا للاستهلاك الإعلامي. 

بيد أنه يمكن تسجيل مفارقة في طريقة التصدي الإعلامية لهذا الخطاب. فرغم أن ما يصدر عن اليمين المتطرف يلقى صدًى إعلامياً، فإن الإعلام الفرنسي يؤدي دوراً محورياً في تفنيده. فالصحف على وجه الخصوص، متأهبة دوماً لمجابهة ما يتم تداوله من معلومات وأخبار مضللة.

واللافت على هذا الصعيد أنها تهوى نشر البيانات الإحصائية والدراسات العلمية لتدعيم موقفها ومحو الصورة النمطية عن المهاجر القادم إلى فرنسا بغية الاستفادة من نظام الرعاية الاجتماعية والطبابة المجانية أو منافسته لليد العاملة الفرنسية أو استحالة اندماجهم في المجتمع الفرنسي.

في المقابل، لم يكتف بعض وسائل إعلامية لبنانية بدور المتفرج، بل تحول أيضاً إلى شريك في تغذية هذا الخطاب المسيء والتضليلي، سواء عبر تقارير إخبارية ومقالات صحافية أو حتى برامج كوميدية، ما يحيلنا إلى مسألة ذات أهمية كبيرة وهي دور الاعلام في إثارة الشارع والتحلي بالمسؤولية والموضوعية في نقل الصورة والمشهد.

ونلاحظ كذلك أن التصدي لما غرد به جبران باسيل كان في إجماله رداً سياسياً خاصة لناحية الدعوة لاستقالته. صحيحٌ أنه تم تداول بعض الأرقام في مواقع التواصل الاجتماعي وفي برامج حوارية لتفنيد هذا الخطاب، لكن الأمر ظل محدوداً، مقارنةً “بنشاط” الإعلام الفرنسي على هذا الصعيد.

من جانب آخر، الحملة المناوئة لهذه التغريدات أتت بشكل رئيس من مواقع التواصل الاجتماعي. ورغم أهمية الفضاء الافتراضي وتحوله إلى مصدر للمعلومات، إلا أن ذلك لا يمحو دور الإعلام التقليدي، ما يعني وجود فراغ لم يُملأ في لبنان بخلاف الوضع في فرنسا، خصوصاً أن الفضاء الافتراضي لا تحكمه المهنية الإعلامية ولا ضوابطها.

لكن سبباً آخر يساعد في تفنيد هذه الحجج، وهو اختلاف البيئتين اللبنانية والفرنسية. ففي فرنسا نجد منظومة قضائية وتشريعية تضبط هذا الخطاب وتصوبه، عند الحاجة، كما تدين كل كلام عنصري، ما يدفع السياسيين إلى توخي الحذر في اطلالاتهم العامة ومجالسهم الخاصة، لا سيما لناحية العبارات المستخدمة. فعلى الرغم من عنصريته، يجهد اليمين المتطرف الفرنسي لتقديم رؤيته في قالب اقتصادي، أمرٌ يُسهّل التسويق الإعلامي المضاد وتفنيد هذه الحجج بالأرقام أي بمحاكاة عقلانية بعيدة عن الشعبوية. 

ويبقى أن الانقسام اللبناني حيال هذا الملف حاد، ويأخذ بُعداً ديموغرافياً، بأثر من هواجس وجودية لدى شريحة من اللبنانيين، لا سيما المسيحيين، بخلاف فرنسا التي استقر فيها لاجئون ومهاجرون منذ عقود وباتوا مع مرور السنوات مواطنين فرنسيين.

هذا الواقع الفرنسي يطيح قانونياً، محاولات اليمين المتطرف الخلط بين المهاجرين واللاجئين الجدد من جهة، والفرنسيين من أصل أجنبي من جهة ثانية (سواء استحصلوا على الجنسية أو ولدوا في فرنسا وترعرعوا فيها). إذ يسهل على الاعلام التصويب على خطاب اليمين المتطرف من زاوية تبنيه سياسة تمييزية تحيل المواطنين الفرنسيين إلى درجة أولى وثانية، خصوصاً عندما يصل الأمر إلى الغمز من زاوية “الاستبدال العظيم”.

أما على صعيد منافسة اليد العاملة، يهوى الموالون لتغريدات باسيل تصوير السوريين كسبب للمشكلة، متناسين (عن عمد أو جهل) أن أعداداً كبيرة منهم عرضة للاستغلال إذ تدفعهم ظروفهم الاجتماعية لقبول راتب أقل، لساعات عمل أكثر ومن دون أي ضمانات. بل ويتناسون أيضاً حجم القوى العاملة (والمهاجرين والمجنسين) اللبنانية حول العالم، لا سيما في العالم العربي. ولمُ يُنسَ بعد الرد السعودي على تغريدة باسيل بشأن القوى العاملة الأجنبية في لبنان ومن بينها السعودية، إذ تم تذكير وزير الخارجية بمئات الآلاف من اللبنانيين العاملين في المملكة، والذين يمكن طردهم إن تقرّرت معاملة بالمِثل.

اللافت، في هذا الخصوص مبادرة أنصار باسيل لاستحضار أسواق العمل الأجنبية ومقارنتها بلبنان، وكأن منافسة اليد العاملة والرأسمال الأجنبيين بصورة غير مشروعة (على حد وصفهم خلال “حملة التوعية”) ليست بسبب الفوضى التي تحكم سوق العمل اللبناني في ظل غياب التشريعات، على عكس الدول الأجنبية التي ترعاها أطر قانونية تنظم عملية استيعاب اليد العاملة الأجنبية ما يلجم، نوعاً ما، الخطاب العنصري في الغرب. بالتالي، ومن خلال هذا النوع من المقارنة والتصويب العشوائي، نلمس محاولة في لبنان لإسباغ صفة “الجلاد” على الضحية.

وفيما يتوجب اتخاذ مقاربة هذا الملف في فرنسا دوماً من زاوية عقلانية، لكن بالحد الأدنى ثمة منظومة إعلامية، قانونية وسياسية، تحد من انتشاره، على عكس الحال في لبنان حيث الأمور منفلتة من عقالها.

المدن

جبران باسيل: خصوصيّات ومقارنات/  حازم صاغية

لا بدّ من الاعتراف بأنّ وزير خارجيّة لبنان هو اليوم نجم السياسة اللبنانيّة. بالتصريح. بالخطابة. بالحيويّة التي تدبّ فيه. باصطناع مناخ من هستيريا جماعيّة. بالتحريض على اللاجئين… إنّه في الدولة وزير أعلى، وهو في المجتمع الصوت. سواه الصدى.

التواصل الاجتماعي أعطاه منبراً فعّالاً للكشف عن تواضعه. غرّد مؤخّراً: «لتكن سوريا أول الحلول، ولنبدأ بعلاج الجرح السوري وختمه نهائياً لأن لائحة مشاكلنا طويلة وصعبة، فليبيا واليمن تنتظراننا وعلينا المبادرة، وفلسطين على شفير الضياع وعلينا المبادرة، والسودان والجزائر ليسا بأفضل الأحوال». هموم العالم إذن تجلس في غرفة انتظاره.

بقليل من المبالغة بات يمكن القول: ما تحدّث لبنانيّان إلاّ كان ذكر جبران باسيل ثالثهما. ضجيجه يذكّر بزعماء شعبويين في العالم. هؤلاء من شروط زعامتهم إثارة الصخب، وإبقاء الأعصاب مشدودة، وإرفاق السياسة بالتعبئة. العاديّة خطر على زعامتهم. الاستثناء هو البحيرة التي يسبحون فيها.

مراقبون ومعلّقون، من مُريديه ومن نقّاده، لاحظوا أوجه شبه بين باسيل وكلّ من الرئيس الراحل كميل شمعون، الذي حكم بين 1952 و1958 واختُتم عهده على حرب أهليّة محدودة، والرئيس المنتخب بشير الجميّل الذي اغتيل بُعيد انتخابه للرئاسة في 1982: الثلاثة مثّلوا مسيحيّة قصوى في السياسة وخاطبوا قاع الوجدان المسيحي من موقعهم في الدولة ومن خارجه. هكذا منحتهم طائفتهم زعامة غير قابلة للمنافسة.

الشَبه، إذا صحّ، لا يغني عن تحفّظين:

– كميل شمعون انتقل إلى التطرّف الطائفي بعد 1956. أي بعد الهجمة التي قادتها الناصريّة مُستعينة بانتصارها السياسي (رغم هزيمتها العسكريّة) في «حرب السويس» أو «العدوان الثلاثيّ». الناصريّة يومذاك هدّدت عموم الوضع القائم في المشرق العربي وفي عداده لبنان الذي خاف مسيحيّوه وتصلّبوا.

ما قد يعادل الهجمة الناصريّة حينذاك هو الهجمة الإيرانيّة الحاليّة لإطاحة الوضع القائم في المنطقة، لكنّ باسيل يتحالف معها ولا يرى فيها سبباً موجباً للقلق.

– أمّا بشير الجميّل فنَمَتْ ظاهرته في مواجهة الكفاح الفلسطيني في لبنان، والذي بدأ سلاحه يتمدّد في عهد شارل حلو، وفي موازاته تعاظم خوفٌ أصاب المسيحيين بصورة خاصّة فتشدّدوا وتعسكروا.

ما يعادل سلاح المقاومة الفلسطينيّة، بل يفوقه كثيراً في الفعاليّة والتأثير، هو اليوم سلاح «حزب الله». باسيل حليف لهذا السلاح، يجمعه به «تفاهم مار مخايل»، وبالتالي هو لا يرى فيه سبباً للقلق.

بلغة أخرى، شمعون وبشير الجميّل توهّما طرد الخوف المسيحي المبرّر بالإخافة غير المبرّرة لغير المسيحيين. باسيل، في المقابل، يتبع «استراتيجيّة» أقلّ ما يقال فيها أنّها غريبة. إنّه يقرع طبول الحرب في زمن يُفتَرض أنّه واحد من اثنين:

– إمّا غير حربيّ، يمسك بمفاصله «عهد قويّ» يصفه محازبوه بأنّه أنهى النزاعات وجعلها من الماضي. وفي هذه الحال يجوز التساؤل: إذن لماذا تُقرع الطبول صباحاً ومساء مُعكّرة صفو الجنّة على أرضنا؟

– وإمّا أنّه زمن حرب، أو على الأقلّ توتّر، سببه الهجمة الإيرانيّة وسلاح «حزب الله». وهذا ما يحمل على التساؤل: إذن لماذا يقرع باسيل طبوله في اتّجاهات أخرى؟

كائناً ما كان الأمر يبقى أنّ الوزير اختار الطرف الأضعف كي يكون عدوّه، أي المهاجرين واللاجئين العزّل، فيما سبق لشمعون والجميّل أن اختارا التصدّي لأقوياء رأت بيئتهما أنّ قوّتهم خطَر، وأنّ ذاك الخطر هاجم عليهم. جمال عبد الناصر لم يكن لاجئاً والمقاومة الفلسطينيّة لم تكن عزلاء.

اختيار اللاجئين العزّل عدوّاً مسألة أخلاقيّة قبل أن تكون سياسيّة. صحيح أنّ حجم النزوح السوري غير عاديّ، لكنّه ليس تلك الكارثة المصيريّة كما يرسمها قارع طبول الحرب، هذا فضلاً عن الاختلاف في تأويل الأسباب، والصمت عن الشقّ الإيجابي من النتائج الاقتصاديّة.

بيد أنّ الفارق بين الاختيارين يصدر عن أسباب عدّة:

فالحرب، ما بين 1975 و1990. طعّمت الحياة السياسيّة بنخبة أردأ من نخبة ما قبل الحرب: حسّ المسؤوليّة العامّة تراجع وسلوك القنص الذئبي تعاظم. كذلك فالمسيحيّون رضَّهم شعور عميق بالمظلوميّة بعد الهزيمة، لا سيّما في حرب الجبل، ثمّ بسبب تهميش الوصاية السورية واضطهادها لهم، قبل أن يُشعرهم «التحالف الرباعيّ» بأنّهم محكومون باستبعاد مؤبّد. والمظلوميّة تُغري صاحبها دوماً بطلب الامتياز وبمحو الخطأ بالخطأ.

وهناك أخيراً الفارق بين تكوين الثلاثة وتجاربهم.

فكائناً ما كان الموقف من شمعون والجميّل، يبقى أنّ أوّلهما صنع بيده زعامته الجبليّة ثمّ اللبنانيّة، وهو صنعها يوماً بيوم، فحالف وخالف وزاول العمل الدبلوماسي وانخرط في السياسات الإقليميّة صديقاً وخصماً. أمّا بشير الجميّل فلم يَحلْ صدوره عن بيت سياسي دون جهد ميداني مارسه بالسياسة كما بالدم، وبالصداقة كما بالعداوة. هذا ناهيك عن إحداثه انقلاباً في حزب أبيه، وهو بدوره حزب بُني بالانشقاق عن عائلات التقليد السياسي يومذاك.

خلفيّات كهذه لا تعصم الزعامة السياسيّة عن العيوب والنواقص، لكنّها تثقّلها، فلا تعود مجرّد معطى طارئ أو عابر. الأمر مختلف حين تقتصر الخلفيّة على مصاهرة، فيما يتشابه البحث عن الكاريزما والبحث عن الذهب في الغرب الأميركيّ.

الشرق الأوسط

عاش الضعف… تسقط القوّة/ حازم صاغية

دفع وزير خارجيّة لبنان وطنيّتَه إلى سويّة «جينيّة». أوضح بعد ذلك أنّه جيني لأنّه وطنيّ، مساوياً بين المعنيين.

إذاً نحن مصنوعون صناعة جينيّة خالصة لا يعدّلها قرار إنسانيّ. هذا قضاء وقدر نحن محكومون بهما.

والسويّة الجينيّة سبق أن نشأ عنها «عِلم» زائف سهر عليه النازيّون وعُرف بـ«علم تحسين النسل (Eugenics)» هذا «العلم» سمح، بين ما سمح، بالتعقيم الإجباري لمُنتمين إلى «أعراق منحطّة» ينبغي أن لا تُنجب وتتكاثر. فالفأر يجب ألاّ يحتكّ بالسوبرمان: الأوّل لن يصير سوبرماناً، لكنّ الثاني قد ينحطّ إلى الفأريّة.

لا بأس باستعادة بضع وقائع. فلبنان يشهد حيال اللاجئين السوريين والفلسطينيين أعمالاً يهجس بعضها بما يقارب «تحسين النسل». كذلك ترتفع شعارات، بل «سياسات»، تطالب بإعادة السوريين فوراً إلى بلادهم التي صارت «آمنة للعودة». إنّ نشرة أخبار واحدة عن حماة وإدلب كفيلة باعتبار تلك «السياسات» دعوة صريحة إلى قتل السوريين «غير المفيدين». يترافق هذا مع كلام تبثّه أمكنة قريبة من البيئة السياسيّة للوزير، كلامٍ يمجّد العنصريّة بتباهٍ معلن: «نعم، نحن عنصريّون» يقولون.

في الحدّ الأدنى، ثمّة سعي مَرَضي إلى إظهار القوّة. في الانتخابات النيابيّة الأخيرة كان واضحاً مدى الحاجة إلى تعبيري «قوّة» و«قويّ» في وصف اللوائح والمرشّحين، وأيضاً في وصف المناطق التي يريدون تمثيلها: الجبل قوي والسهل لا يقلّ قوّة. التناطُح بالقوّة بين شمال وجنوب وبقاع جرى على قدم وساق. أمّا حين لا تُذكَر «القوّة» فيُذكَر ما يُفترض أنّه مرادفاتها: الرجولة، الأصالة، العنفوان، طحن الصخر… لا عجب إذاً ألاّ يُعطى لكائن «ضعيف» كالأمّ حقّ منح الجنسيّة إلى ابنها أو ابنتها.

والقوّة، أخيراً، هي موضة يومنا: هكذا هُم زعماء العالم. وإذا قرّرتْ كتل عريضة في تلك البلدان، وبعضها متقدّم، أن ترتدّ عن الحداثة والتنوير، فلماذا تعزف كتل مماثلة في لبنان عمّا اختاره السيّد ترمب أو السيّدة لوبين؟

والحال أنّ هذا البلد، الذي شارك أحد أبرز أحزابه في الحرب على سوريّا، مصاب فعلاً بإغراء «القوّة» على نحو لا يبعث إلاّ على التساؤل عن سرّ الضعف الذي يراد التستّر عليه.

نحن أقوياء، يقول «حزب الله» ملوّحاً بالصواريخ. «العهد» بدوره قويّ، وفقاً لحكمة تردّدها البيئة العونيّة بإيقاع ببغاويّ. شريكا «تفاهم مار مخايل» هذان وجدا طريقهما إلى نادي الأقوياء.

لكنّ الفوارق لا تخطئها العين. «التيّار» يتحدّث عن «القوّة» بقدر ما يمارسها «الحزب»، لا بل إنّ قوّة الثاني وجيشه هما ما يحول دون حمل «قوّة العهد» على محمل الجدّ. مع ذلك، هناك قاسم مشترك هو أنّ الطرفين ليسا قويين بالمعنى الذي يريدانه. لن يستطيعا، مثلاً، أن يفرضا علينا «تحسين النسل» أو أي مهمّة أخرى مشابهة كأنْ نصير «لبنانيين أقحاحاً» أو «مجاهدين ضدّ الصهاينة والتكفيريين». هكذا يمضي «الحزب» في تصريف معظم قوّته في الخارج، مكتفياً بأن ينتزع من الداخل شروط أدائه للمهمّة الخارجيّة.

التفاوت هذا مردّه إلى أنّنا أمام حالات طائفيّة مسعورة ولسنا أمام حالة قوميّة مسعورة. والطوائف قد تنتج ردّات فعل وزفرات فاشيّة لكنّها لا تنتج الفاشيّة التامّة التي ترتبط، بين أمور أخرى، بهيجان القوميّة الجامعة. هنا يمسرح الطائفيّون القوميّة متوهّمين التعويض عن افتقارهم للقوميّ. يحاولون، مثلاً، إقناعنا بأنّ «الأمّة» كلّها تقف وراء مطلبهم في الحرب خارج الحدود أو في طرد الغرباء.

هذا الفارق بين الطائفيّة والقوميّة هو ما يحاول ردمَه الإنشاءُ اللبناني المألوف بتعبير «عملقة». والمتعملقون إذ يخدعوننا بوجود وحدة مزعومة تكبّر الصغير، يبتزّوننا بالأبطال الذين يُضحّون بالنيابة عنّا، وطبعاً لمصلحتنا، من أجل إنجاز الأهداف تلك.

لكنْ «الويل لأمّة بحاجة إلى أبطال»، كما قال غاليليو على لسان بريخت. ومن لا يصدّق فلينظر إلى أحوال لبنان المتنازع على كلّ شيء، والفاقد كلّ قوّة ما عدا النّزر اليسير الذي يمنّ به طرف خارجي ما على طرف داخلي ما.

أزمة اللبنانيين هذه يزيدها تأزّماً انعقادها على مشكلات الأقليّات في لبنان وعموم المشرق. والمُغرض والمتعصّب وحدهما مَن ينكران هذه المشكلات التي تتفاقم يوماً بيوم. لكنّ المغرض والمتعصّب وحدهما من يتوهّمان أنّ القوّة والتجبر سبيل العلاج. ووراءنا ما يكفي من القرائن على أنّ «القوّة» في لبنان أداة تفعيل لكراهية ضخمة بين اللبنانيين يُنفَق بعضها القليل في الكراهية لسواهم. ما يتوافر منها يحملهم على قتل بعضهم، أو اشتهاء ذلك في انتظار الوقت الملائم، وهم يفعلون هذا باسم أمّة غير قائمة أو تحرير غير ممكن أو تفوّق غير موجود، فلا يبقى لنا إلاّ التمعّن العاجز في عبارة شهيرة قالها سياسي حكيم واستحقّ عليها الكثير من الرجم: «إن قوّة لبنان في ضعفه».

الرد على العنصرية دفاعاً عما تبقى من آدمية/ حسام عيتاني

يولد تصاعد المواقف والممارسات العنصرية التي تستهدف اللاجئين السوريين في لبنان، حيرة في كيفية التعامل معها ومنعها من إلحاق مزيد من الضرر بمستقبل اللبنانيين ومصالحهم ووعيهم.

جانب من الحيرة هذه يتعلق بما قد يعتبره معارضو الانقضاض اليومي على اللاجئين، ترفعاً ضرورياً عن الانزلاق إلى تراشق مع قوى تملك من السلطة والغطرسة – ناهيك عن الجهل – ما سيصيب حتماً كل ناقد للعنصرية اللبنانية برذاذ من أذى معنوي أو مادي. إضافة إلى الاعتقاد أن آفاق كل سجال مع عنصريين يفتخرون على شاشات التلفزة بصفتهم هذه، مسدودة وغير قابلة للاختراق، في ظل تقوقع «الجماهير» اللبنانية ضمن شرانقها الطائفية، وصمّها الآذان عن أي نغمة لا تلائم المقام الذي يُطرِبها.

أما الموقف الأعمق دلالة فهو الذي يرى أن كل رد على السعار العنصري الحالي سيسقط، لا محالة، في الفخ الطائفي، وسنعود إلى حالة من المواجهة العقيمة بين نزعتين تتساويان في طائفيتيهما؛ الأولى مسيحية تتوسل الحماية الشيعية لترويج خطاب الذعر الديموغرافي والتميز الجيني الذي يسوّغ كل خطاب عنصري، ويبرر المساعي إلى كسر التسوية السياسية التي أقرها اتفاق الطائف (1989)، والثانية، مُسلمة سنيّة متلعثمة ومرتبكة، بين التأكيد على الانتماء إلى وطنية لبنانية هزيلة، والانخراط، بالتالي، في الحملة على اللاجئين، وبين مشاعر التضامن المذهبي مع اللاجئين واستعادة نتف من خطاب المرحلة الأولى من الثورة السورية، وشذرات من حطام مقولات فريق «14 آذار» المندثر، في الوقت الذي يتعرض فيه الناشطون في الدفاع عن اللاجئين إلى الاغتيال الغامض، على نحو ما جرى في بلدة شبعا.

ولا تفتقر الموجة الحالية من الممارسات والمواقف العنصرية إلى دوافع سياسية، تجد في اللاجئين كبش فداء للفشل الذريع الذي مُني به العهد الحالي، وعجزه عن تحقيق أي من وعوده البراقة التي قطعها، فكان المخرج من هذا المأزق تجييش الجمهور الطائفي المستقوي باختلال الموازين الداخلية، ودفعه إلى المحال والورش الصغيرة التي يعمل فيها سوريون لطردهم من وظائفهم، في ظاهرة لا تقل عفناً عن اعتداءات النازيين الجدد وحليقي الرؤوس على المهاجرين في أوروبا، ما يعيد إلى الذهن ليس فقط المد الشعبوي الحالي؛ بل أيضاً فترة الثلاثينات من القرن الماضي، عندما ظهر كل اختلاف بمظهر المرض الذي يتعين استئصاله.

وتبلغ الدعوة إلى الترفع ذروتها عند فكرة أن الرد على آراء العنصريين وتفكيك خطابهم وإظهار زيفه وتهافته، لا يشكل معركة فكرية تستحق أن تخاض، لعدم انطوائها على مضمون معرفي جديد. شيء مشابه قاله الفيلسوف السلوفيني سلافوي جيجك، عندما اعتبر أن ما من شيء مهم في الثورة السورية؛ لأنها تدور بين نظام ديكتاتوري وقوى دينية متخلفة، ولا تقدم غير معاناة إنسانية من دون أي مضمون سياسي.

الجانب الآخر من الحيرة يتأسس على معنى الانخراط في السجال العام ووظيفته، ليس فقط كانعكاس لخطاب الجماعة والإعلان عن هويتها وشحذ عصبيتها مقابل العصبيات المعادية وعلى الضد منها؛ بل خصوصاً كدفاع عن المجال العام، والحيلولة دون طيه تحت إبط العنصريين الشوفينيين والاستيلاء عليه نهائياً، بعد انهيار القوى التي ادّعت الدفاع عن قيم الحرية والسيادة والاستقلال.

تفنيد مقولات التفوق الجيني والاستعلاء الطبقي والطائفي ودحضها؛ بل والسخرية – وهي تدعو إلى السخرية فعلاً – من ضحالتها، وانعدام مخيلة أصحابها وفراغ ادعاءاتهم، يبدو مهمة يومية ضرورية للحفاظ على المواقع الأخيرة لحرية الرأي والتعبير في لبنان، من جهة، ومنع تحويل الأنظار عن الأزمة البنيوية التي تعصف بالدولة اللبنانية ونظامها السياسي، وتحميل اللاجئين السوريين مسؤولية تشظي المجتمع والدولة. ولا ينفي ذلك حجم مشكلة اللاجئين، على ما بات معروفاً. لكن حلول هذه المشكلة لن تتم داخل الأراضي اللبنانية فقط، ذاك أنها مشكلة متعددة الأبعاد، يتعمد العنصريون اللبنانيون إغفال الحقيقة البسيطة فيها، وهي أن النظام السوري هو المسبب الأول لكارثة اللجوء، وعليه أن يجد حلاً لها بالتعاون مع المجتمع الدولي.

ولا ريب في أن المهمة هذه محض دفاعية، في ظل هجوم كاسح للمستثمرين في النعرات الطائفية والمذهبية، والتعبئة الشاملة لوسائل إعلام وسياسيين لحصر كل الكلام المتداول اليوم في لبنان بمسألة اللاجئين. ولعل ثمة فائدة في فهم أسلوب إدارة المعسكر العنصري الطائفي للحملة الحالية ووظيفتها في مشروعه السياسي – السلطوي، أي بكلمات ثانية، إصراره على المضي في هذا المسار مهما كلف الأمر، ومن دون اكتراث لردات الفعل بسبب ارتباط هذا المشروع بطموحات شخصية لبعض المتسلقين السياسيين. لكن الفائدة الأكبر تكمن في تجميع المتضررين من تدمير الحيز المشترك والعام، ليس فقط للتعبير عن التضامن الإنساني والأخلاقي مع اللاجئين؛ بل أيضاً وربما خصوصاً للحفاظ على بقية من آدمية اللبنانيين.

الشرق الأوسط

السوريون بين غَزَلٍ مصري وعَزلٍ لبناني/ مايا الحاج

عندما انقطع البث عن القاهرة أثناء العدوان الثلاثي، قال المذيع السوري عبد الهادي البكار عبارته الشهيرة “من دمشق هنا القاهرة”. بعد أكثر من 4 عقود، عاد صدى هذه الجملة ليتردّد عبر “هاشتاغ” أطلقه مغرّدون مصريون بالعاميّة: “السوريين منورين مصر”.

انتشرت هذه العبارة الترحيبية عقب بلاغٍ قدّمه المحامي سمير صبري يطالب فيه بالكشف عن مصدر أموال السوريين في مصر. والمعروف أنّ قضايا هذا المحامي لا تنفكّ تُشعل سجالاتٍ مُستمرّة، خصوصاً أنّها مدفوعة غالباً من النظام المصري نفسه. وقد تخوّف السوريون من أن يكون بلاغ صبري تمهيداً للكشف عن رغبة الحكومة في الاستيلاء على الاستثمارات السورية في مصر. لكنّ دعوى المحامي المثير للجدل جابهتها ردود أفعال نخبوية وشعبوية، اجتمعت تحت عبارةٍ “منورين مصر”، التي تحمل الكثير من الود الاحتواء في عالمٍ عربي غارق في كراهيته وصراعاته وانقساماته.

تركزّت تلك الحكايات على جمالية الحياة في ظل اختلاط سوري مصري، سواء عبر المطبخ السوري اللذيذ الذي انتشر عبر مطاعم ومحلات عديدة في مصر أو عبر المخزون اللغوي المفعم بالكلمات المُحبّة من “تسلم روحك” إلى “تسلم يا حبّاب” و”على عيني”.

وإذا راقبنا تفاعل المثقفين والفنانين مع “الهاشتاغ” الذي تصدّر قائمة التغريدات، نجدها كلّها داعمة ومساندة للوجود السوري في مصر. نوّارة أحمد فؤاد نجم، وهي من رموز ثورة يناير، كتبت على صفحتها: “انتو بتخلوا كل مكان بتكونوا فيه أجمل. احنا زارنا النبي”. سامية صلاح جاهين قالت: “والله مش محتاجين نكتب هاشتاغ علشان نقول السوريين منورين مصر. بيتكم ومطرحكم ولينا الشرف اننا في وسطكم. واللي يقول غير كده ولا يحسسكم بغير كده داهية تاخده انشالله، قولوا يا رب”.

أما الشاعر الفلسطيني – المصري تميم البرغوتي، فقال: “يا أهل الشام الشريف، كل بلاد العرب بلادكم، ومن أراد إخراجكم منها فليخرج هو، وهذه الحدود والأعلام أصباغ على الخرائط وألقاب بلا معنى”. بينما كتبت الفنانة السورية كندة علوش، المتزوجة من الممثل المصري عمرو يوسف: “هاشتاغ جميل وكله محبة. لقيتو متصدر التراند في مصر فرحت جداً صراحة… وأنا مني المصريين منورين الدنيا”.

في مقابل النقاش السوري المصري الايجابي بدا المشهد اللبناني وعلاقته باللجوء السوري أكثر اشكالية وتعقيداً بل وعدائية.

التصريحات المتكررة لوزير الخارجية اللبنانية جبران باسيل وفريقه السياسي التي تحمل اللجوء السوري مسؤولية المشاكل الاقتصادية والاجتماعية والأمنية وآخرها تصريحه “الدارويني” عن التفوّق الجيني وهجومه على اليد العاملة السورية لم يرافقه استنكار شعبي واسع سوى انتقادات عبر السوشيل ميديا ووقفة تضامنية ضد تصريحات باسيل.

لكن ما حدث على الساحة اللبنانية لم يكن بحجم ما حدث على حسابات المصريين، الذين نشروا صور مطاعم سورية ومحلات سورية اعتادوا عليها ودافعوا عن الوجود السوري لأجلها…

قد تصعب مقاربة اللجوء السوري في لبنان مع أي بلد عربي، نظراً إلى مساحة البلد الصغيرة (10452 كلم2) وعدد اللاجئين الكبير نسبة إلى عدد السكان (مليون و200 ألف لاجئ)، إضافة إلى أزمات لبنان الاقتصادية والسياسية والبيئية في حين إن عدد اللاجئين والمقيمين السوريين في مصر لا يشكل أكثر من ثلاثمئة ألف في بلد يفوق عدد سكانه عن المئة مليون نسمة. ولنعترف أنّ مسألة اللجوء السوري في لبنان لا يتم تقديمها بأرقام ومعلومات صحيحة إذ يجري غالباً توظيفها في السياسة وفي حسابات الأطراف المحلية.

نعم هناك عبء يرزح تحته لبنان لكنّ تكريس التفرقة والكراهية لا يُمكن تبريرها، خصوصاً أنّ خطاب باسيل الأخير عقبه اقتحامات نفذها مناصرو “التيار الوطني الحرّ” على بعض المحلات السورية في لبنان بشكل استفزازي وغير مقبول لجهة طريقة التعامل مع العمال والموظفين.

أزمة اللاجئين السوريين سبقت خطاب باسيل بأعوام، والشرخ الحاصل بين اللبناني (المواطن) والسوري (اللاجئ) مُعلن، وقضية اللاجئين دخلت في غياهب المعترك اللبناني حيث يغطس اللبنانيون أنفسهم في أزمات لا تنتهي.

كثيرون رفضوا خطاب باسيل “الشوفيني”… ولكن هل نجد في لبناذن من يردّد على طريقة عبد الهادي نصّار، عبارة “من بيروت… هنا دمشق”. وبعد تحميل السوريين فاتورة انقساماتنا اللبنانية وعجزنا الاقتصادي وتفاقم عللنا وتلوّث بيئتنا، هل ثمّة من يقول للسوريين: “السوريين منورين لبنان؟”.

درج

حين تتحوّل تغريدة عنصريّة إلى حملة منظّمة: ماذا يمكن أن يحصل بعد؟/ مايا العمّار

بسرعة قياسيّة، تطوّرت فصول الحملة التي افتتحتها تغريدة وزير الخارجيّة اللبناني جبران باسيل، والتي يشرح فيها نظريّة “الانتماء الجيني اللبناني”، لتتحوّل في غضون ساعات إلى حملة مرئيّة مبرمجة بادر إلى تنظيمها قطاع الشباب في التيّار الوطني الحرّ لمكافحة اليد العاملة الأجنبيّة في لبنان.

مع التغريدة “التيّاريّة” ومداهمات جهاز أمن الدولة والحملة الإعلاميّة المنظّمة التي ترافقها وتقودها بحماسة والتزام شديدَين الشاشة البرتقاليّة، ويشارك فيها غيرها من القنوات التلفزيونيّة، تنطلق رسميّاً في لبنان حملة التطهير العرقي، هذه المرّة من قلب أسواق العمل في عددٍ من البلدات التي يغلب عليها الطابع المسيحي، بهدف إقفال المحالّ التجاريّة المخالِفة وتوقيف العمّال الأجانب المخالفين للقانون.

أخذت رقعة المتحمّسين تتّسع شيئاً فشيئاً لتعلو معها موجة التباهي بأعراض التطرّف “للانتماء اللبنانوي” والأنظمة اللبنانيّة ووجوب حماية اليد العاملة المحليّة من منافسة الأجانب لها. ولكن بدايةً، لنتوقّف عن استخدام كلمة “أجانب” الفضفاضة، واللّطيفة بعض الشيء، ونستبدلها بكلمة “السوريّين”، علّنا نكون أكثر صدقاً مع أنفسنا وأكثر دقّةً في الاصطلاح، لأنّه من الواضح أنّ الفرنسيّين والألمان، وحتّى السعوديّين الذين شملهم باسيل في تغريدة أخرى أراد فيها تحدّي اتّهامه بالعنصريّة أو الانحياز لجنسيّةٍ دون أخرى، غير مهدّدَين بتاتاً بالإجراءات الأمنيّة والإعلاميّة التي تُتّخذ اليوم ضدّ العمّال الأجانب، ذلك أنّها تستهدف بشكل أساسي أولئك المُصنَّفين ضمن الفئتَين الثالثة والرابعة، أو المحرومين أصلاً من العمل بشكلٍ قانوني نتيجة إجراءات قانونيّة تقصّد المسؤولون تعقيدها ورفع كلفتها. لكن ما لا يدركه المتحمّسون هو أنّ حملة استعادة “الشرعيّة” المنشودة لا تنقلب على “الأجانب” حصراً، بل ترخي بظلالها على اللبنانيّين وأعمالهم التي تعتمد إلى حدّ كبير على اليد العاملة الأجنبيّة التي لا تُنتج وحسب، بل تستهلك أيضاً.

فمَن المتضرّر من شلّ قدرة اليد العاملة الأجنبيّة على العيش، وبالتالي، استهلاك السلع والبضائع من التجّار المحليّين الذين يملكون رأس المال، واستئجار المنازل، والاشتراك في خدمات الاتّصال؟ مَن المتضرّر من تفضيل اللبنانيّين عدم تأدية أنواع معيّنة من المهن، بصرف النظر عن قيمة الرواتب المخصّصة لها؟ مَن المتضرّر من تعطيل دور الوكالة الوطنيّة للاستخدام في تنظيم فرص العمل ومَن الذي يعرقل تفعيلها أصلاً؟ مَن المتضرّر من زيادة ما وصفه مستشار وزير الاقتصاد اللبناني، جورج عبد الساتر، المشارِك في الحملة، بحالات “الهروب الجماعي” للعمّال الأجانب، خوفاً من الاعتقال أو الترحيل أو الإذلال إثر توقيفهم عن مهنةٍ لا يحقّ لهم ممارستها، أو بسبب ورقة إقامة مكسورة لن يستطيعوا أصلاً تأمين المبلغ اللازم للاستحصال عليها إذا كانوا لا يعملون! بالطبع، العمّال هم المتضرّرون بالدرجة الأولى، ولكن من غير الصعب توقّع امتداد تداعيات هذه الإجراءات إلى فئات أكثر وأبعد من تلك التي تستهدفها مباشرةً، وانقلاب السحر على الساحر والمتفرّجين عليه.

وفي خضمّ هذه المعمعة، فاجأ التيّار الوطني الحرّ الجمهور بدفاعه عن حملته متسلّحاً بأساليب مناوئيها الحقوقيّين وأدواتهم، أبرزها “الاتفاقيّة الدوليّة للقضاء على جميع أشكال التمييز العنصري”. هذا ما كان ينقص: أن تتحوّل المنظومة الحقوقيّة الدوليّة ومعاهداتها إلى سلاحٍ لتبرير ما وُجدت لإنهائه، وأن تستولي المنظومة السياسيّة والأمنيّة على لغة المجموعات الحقوقيّة التي ما كانت لتفوّت فرصةً لإخراسها أو إحراجها، لو أُتيح لها ذلك.

وفي التفاصيل، نشر موقع التيّار ردّاً فريداً من نوعه على اتّهامه بالعنصريّة حيال السوريّين وغيرهم من الذين لا يودّ رؤيتهم يعملون في المحالّ التجاريّة أو صالونات تصفيف الشعر الآمنة، إنّما فقط في الورش والمزارع التي من شأنها أن تفاقم المخاطر على صحّتهم وتقصّر عمر الإنسان. نعم، فهذا هو القانون.

اختار التيّار بتأنٍّ الفقرات التي تناسبه من اتّفاقيّة الأمم المتّحدة المذكورة، فوقع نظره صدفةً على الفقرة الثانية من المادّة الأولى التي تستثني تمييز الدولة أو تفضيلها بين المواطنين وغير المواطنين، والفقرة الثالثة التي تحظّر المساس بالأحكام القانونيّة السارية في الدول الأطراف والمرتبطة بمنح الجنسيّة والتجنيس والمواطنة.

أهمل التيّار عنوةً سائر مواد الاتفاقيّة اللّازم احترامها لتحقيق المرجوّ منها وخدمة جوهرها الأساس التي أُبرمت من أجله، ألا وهو القضاء على التمييز العنصري. فأشاح بنظره عن الشرط المذكور في الفقرة الثالثة من المادّة الأولى نفسها التي استند إليها في تبريره الحقوقي المتميّز، وهو وجوب أن تخلو “الأحكام من أي تمييز ضد أي جنسيّة معيّنة“.

إلى ذلك، بدا وكأنّ التيّار توقّف عند المادّة الأولى دون أن يتابع قراءة ما جاء في صلب المواد المتبقّية، كالمادّة الثانية غير البعيد موقعها عن المادّة الأولى، والتي تدعو الدول الأطراف إلى اتّخاذ التدابير اللازمة “لتعديل أو إلغاء أو إبطال القوانين أو الأنظمة التي تؤدّي إلي إقامة التمييز العنصري أو إلى إدامته حيثما يكون قائماً“.

حظرُ التجوّل ليلاً تحت راية الحفاظ على راحة سكّانٍ هم أصلاً يعتمدون بشكلٍ أو بآخر على مَن يُحظَّر تجوّلُهم. حظرُ تجوّل أكثر تطوّراً، يشمل “الليل والنهار” على أوتوستراد بلدةٍ عريقة تشجيعاً لسياحةٍ بيضاء اللّون. تقييد أو منع من العمل بحجّة قوانين وأنظمة قائمة، هي في الأصل مخالِفة لاتفاقيّة القضاء على جميع أشكال التمييز العنصري التي أعاد التيّار إحياءها مشكوراً. تكريسٌ لنظام الكفالة الذي يضع العامل الأجنبي تحت رحمة صاحب العمل. نشرٌ لخطاب كراهيّة مقيت متخفٍّ وراء شعارات شعبويّة لها منطلقات معيشيّة لا شكّ في أنّها تستحقّ الاهتمام الصادق والمعالجة الجديّة. تشجيعٌ على “عودة آمنة” إلى بلادٍ يعلم الجميع أنّها ستؤول حكماً إلى اعتقال، أو اختفاء، أو خدمة عسكريّة قسريّة، أو قتل، أو الموت قهراً على عقارٍ مسلوب. دفاعٌ عن أفتك نظامٍ على وجه المسكونة، اقترف ما اقترف أيضاً بحقّ ضحيّةٍ لبنانيّة يُخشى أنّ بعض طرائقه باتت تلقى استحسانها اليوم.

لو أردنا فقط تطبيق بعض فقرات اتفاقيّة القضاء على التمييز العنصري، لكان إطلاقُ الحملة واجباً علينا نحن الذين ما زلنا متمسّكين بشيء من المنطق، ضدّ المسؤولين عن الممارسات “غير الشرعيّة” المذكورة أعلاه، لا على إعلامٍ تسول له نفسه تعريض حياة العمّال “الآخرين” للخطر عبر فضح وجوههم وعرض تفاصيل وضعهم القانوني وإذلالهم على الهواء وسوقهم إلى مجهولٍ قاتم؛ ولا على تيّارٍ يروقه ثوب المواطن الضحيّة حيناً وتجذبه نصاعة بياض الكلوك كلوكس كلان حيناً آخر.

ماذا يمكن أن يحصل بعد؟

دعاية، فحشد، فمداهمة… يظنّ بعضهم أن الأمور ستتوقّف عند مرحلة المداهمة، لتتبعها جنّة التوظيف المشتهاة وسيادة القانون. فات هؤلاء أنّ ما بعد المداهمة كان دوماً الأساس في رسم ملامح الآتي…

درج

يهود ومسلمون وسوريون في لبنان/ حازم صاغية

المسلمون الذين نزحوا إلى أوروبا جاءوها من بلدان غير ديمقراطيّة، ومن مجتمعات ضعيفة المساواة بين الرجل والمرأة، وبين المسلم وغير المسلم، وهي مجتمعات تُقحم الدين بقوّة في الشأن العامّ. هي، فوق هذا، بلا تقاليد في الانشقاق وفي نقد «الأخ» أو التضامن مع «الغريب»، وكثيرون من أبنائها يصرّون على إشهار خصوصيّاتهم الحادّة في المأكل والملبس وفي التصنيف السلبي للمختلف والمخالف.

هذا كلّه صحيح، يستدعي الحضّ على درس تلك الظاهرات والإسهام في تغييرها من أجل توسيع المساحات الإنسانيّة المشتركة، وفي سبيل حياة أكثر سلاسة للجميع.

لكنّ هذا ليس أساس المشكلة. أساسها أنّ أوروبا اليوم مريضة ومأزومة، والمأزوم يبحث عن أكباش محارق. وإلاّ فكيف نفسّر عنصريّة بعض البريطانيين حيال البولنديين الذين يشاركونهم مسيحيّتهم و«نصاعة» بياضهم والكثير من قيم الحداثة، وكيف نفسّر انبعاث العنصريّة حيال اليهود المندمجين منذ عشرات السنين؟

في ألمانيا مؤخّراً، وهي البلد ذو الضمير المثقل بما أنزله باليهود، وحيث أُنفقت جهود وثروات طائلة في مراجعة الماضي، أسِفت المستشارة أنغيلا ميركل على «ما وصلنا إليه»: لقد صار أي مركز ديني أو ثقافي لليهود بحاجة إلى حماية الشرطة. مسؤول رسمي ألماني سبق أن نصح اليهود بعدم ارتداء القلنسوة في أي وقت وفي كلّ مكان! الأرقام الرسميّة تقول إنّ 90 في المائة من الاعتداءات عليهم مصدرها اليمين المتطرّف المصاب بالعداء للإسلام.

إذن، وكما في حقب سابقة من التاريخ، كالحروب الصليبيّة والتفتيش الإسبانيّ، يجتمع العداء لليهود والعداء للمسلمين في رزمة واحدة.

طبيعة المرحلة اليوم تتطلّب أيضاً عداوة المختلف: القلق والغموض حيال المستقبل بتقدّمه التقني المذهل، وثورته العولميّة والمعلوماتيّة، وجشع الاقتصاد النيوليبراليّ، فضلاً عن انهيار الوسائط الحزبيّة التقليديّة كما عرفتها سنوات ما بعد الحرب العالميّة الثانية، وهو ما دلّت إليه الانتخابات الأوروبيّة الأخيرة. سرعة التغيّر تستدعي التشبّث بما نتوهّمه ماضياً أصيلاً وجذوراً وهويّة، أي بعهد الصفاء الأسطوريّ: يوم كنّا وحدنا بلا غرباء. هكذا نروح نتحدّث عن الفوارق الجوهريّة وعن الحصون والحدود التي تصدّ برابرة طامعين يختلفون عنّا. والذاكرة، على عكس ما يقال، قد تنسى أكثر مما تتذكّر وقد تفبرك أكثر مما تنقل بأمانة: إيطاليّو سالفيني، مثلاً، ينسون أنّ أجدادهم، حين باشروا الهجرة إلى سويسرا، وجدوا في مواجهتهم حركة لئيمة شعارها «سويسرا أوّلاً».

توهّمُ الاستفادة اليهوديّة من الإسلاموفوبيا مثل توهّم الاستفادة الإسلاميّة من اللاساميّة. بنيامين نتانياهو، صديق الهنغاري فيكتور أوربان، يمثّل الميل الأوّل. الابتهاج بحزب العمّال البريطاني في ظلّ جيريمي كوربن يمثّل الميل الثاني. هذان الميلان يعبّران، في أحسن الأحوال، عن قصر نظر. في أسوئها، هما خليط من عنصريّة ونزعة تدمير ذاتيّ. عبرة الحاج أمين الحسيني طريّة في الأذهان.

ما تشهده أوروبا يستهدف المسلم واليهودي لأنّهما «آخر»، والأزمة تقضي بمعاداة الآخر. لهذا ليس من الحكمة ربط ما يجري في أوروبا بالنزاع العربي – الإسرائيلي أو ما تبقّى منه. المسألة هناك لا هنا. وهناك، المسلمون واليهود في قارب واحد.

هذا الجوّ الموبوء لسنا بعيدين عنه في الشرق الأوسط. في أقلّ من أسبوعين، قرأنا وسمعنا الأخبار التالية (دعك مما لم يُكتَب ولم يُسمَع):

– طُردت عائلات سورية من أحد مباني محلّة الظريف في بيروت، مع أنّ تلك العائلات ومعها عمّال آسيويّون سبق أن استأجروا مساكنهم وفق عقود قانونيّة. الأمر لم يتطلّب أكثر من قرار شفوي أصدره محافظ العاصمة مستجيباً لـ«شكوى بعض الأهالي المحتجّين». الإخلاء كان بالغ القسوة: تردّد أنّ المطرودين أُجبروا على مغادرة مساكنهم من دون أن يُسمح لهم بنقل أمتعتهم.

– خمس منظّمات حقوقيّة، بينها «هيومن رايتس واتش»، اتّهمت السلطات اللبنانيّة بترحيل 16 سوريّاً من مطار بيروت، بعد إجبارهم على توقيع وثيقة تنصّ على أنّ عودتهم إلى سوريّا طوعيّة.

– على ذمّة «هيئة العلماء المسلمين في لبنان»، صدر قرار من مجلس الدفاع الأعلى يقضي «بهدم كلّ بناء أنشئ كسكنٍ للنازحين السوريين على الأراضي اللبنانيّة، بما في ذلك الخيم التي أطرافها من لبن أو باطون».

– على ذمّة «المفكّرة القانونيّة»، فرضت المديريّة العامّة للأمن العامّ على المواطنين السوريين شروط دخول إلى لبنان مخالفة للقانون وللأحكام القضائيّة. ترتّبت على ذلك قرارات ترحيل لا تخالف الدستور والتزامات لبنان الدوليّة فحسب، بل تخالف أيضاً القرارات القضائيّة المبرمة.

أبلغ من نُطق الواقع صمت «الواقعيين»؛ خصوصاً مع تراجع القدرة على استثمار العنصر السوري في المناكفات اللبنانيّة. والحكمة الجامعة اليوم مفادها أنّ سوريي لبنان أحرار: يستطيعون التوجّه إلى جنوب إدلب أو شمال حماة حيث يتولاّهم الروس، ويستطيعون التوجّه إلى المناطق الحدوديّة حيث يستضيفهم «حزب الله».

إنّ اللبنانيين مأزومون ومرضى أيضاً، يلهثون سعياً وراء أكباش المحارق.

هذا عالم بشع أينما كان، وكائناً مَن كان المظلوم ومَن كان الظالم.

اللاجئون السوريون في بازار السياسة اللبنانية/ بسام يوسف

تتفاقم مشكلة اللاجئين السوريين في لبنان يوماً بعد يوم، وتتخذ أشكالاً متعددة، وترتدي في أغلب تجلياتها وجهاً عنصرياً بالغ البشاعة، ينتهك أبسط حقوق الإنسان، أو حقوق اللاجئين التي أقرها ميثاق الأمم المتحدة.

لا يكاد يمر يوم دون خبر عن ممارسة عنصرية بشعة، يمارسها لبنانيون (أفراد، أو أحزاب، أو حتى مؤسسات الدولة) بحق سوريين: مضايقات، وإهانات عند المعابر الحدودية وفي المطار، وحرق خيامهم، وهدم بيوتهم الصفيح، ومن تهجير قسري إلى اعتقال تعسفي لا يراعي قانوناً ولا حقوقاً، ومن منع للتجوال إلى منع للعمل مروراً بمنع الدخول إلى بعض المحال التجارية… إنها الممارسات التي نسيتها البشرية، أو كادت أن تنساها في قرنها الواحد والعشرين. لكن بعض الأشقاء اللبنانيين يستعيدونها، ويرون فيها وجها للبطولة؛ فيبالغون.

وفي مفارقة غريبة، يتجاهل بعض اللبنانيين، أن أقل من ثلثهم فقط يعيش في لبنان، (30% من اللبنانيين يعيشون في لبنان) والثلثان الباقيان يعيشان خارج لبنان؛ فهناك ما يزيد عن أربعة عشر مليون لبناني لا يعيشون في لبنان، فهم ينتشرون في أنحاء المعمورة. وهم يتجاهلون أن هذه الهجرة قد بدأت منذ أكثر من قرن، ويتجاهلون أن عمل اللبنانيين في مغترباتهم وتحويلاتهم المالية يشكل مصدراً بالغ الأهمية للاقتصاد اللبناني. ومع هذا، فإن هذه الحقيقة البسيطة لم تدفع بعض اللبنانيين إلى احترام الحقوق الدنيا لحقوق اللاجئين، وعدم زج قضية العمل، والعمالة الأجنبية في حقل السياسة والمتاجرة بها!

تتباين الأرقام عن عدد اللاجئين السوريين في لبنان، الذين هربوا من حرب متوحشة، هدمت بيوتهم، وقتّلت ما يقارب المليون منهم، وما زالت تهدد حياتهم؛ إذ تشير أقل الأرقام إلى “850” ألف لاجئ، بينما يتحدث أعلاها عن أكثر من مليون لاجئ، وعلى افتراض أن العدد هو مليون لاجئ، فإن من المهم الإشارة إلى حقائق أساسية حولهم، هي التي يتم تجاهلها، أو تنحيتها جانباً، عند تناول قضيتهم.

أولى هذه الحقائق، هي: أن نسبة كبيرة من هؤلاء يعيشون من أموالهم الخاصة، وهم يستأجرون أماكن سكنهم، وبالتالي فهم ليسوا عبئاً اقتصادياً على لبنان، لا بل ربما يساهمون في زيادة دوران عجلة هذا الاقتصاد.

ثاني هذه الحقائق، هي: أن الحكومة اللبنانية لا تقدم أي خدمات لأي لاجئ، فهي ليست ملزمة بشيء اتجاه اللاجئين. فلماذا إذاً يتم تصوير موضوع اللاجئين السوريين على أنه سبب المشكلة الاقتصادية في لبنان؟!

ثالث هذه الحقائق، هي: أن الحكومة اللبنانية قد تلقت منذ عام 2013 وحتى عام 2018 ما يزيد عن خمسة عشر مليار دولار مساعدات دولية لهؤلاء اللاجئين.

2013     2,2 مليار دولار

2014     2,3 مليار دولار

2015    2,7 مليار دولار

2016    3 مليار دولار

2017    2,6 مليار دولار

2018    2,4 مليار دولار

المجموع    15,2 مليار دولار

رابع هذه الحقائق، هي: أن النسبة الساحقة من اللاجئين السوريين في لبنان هي من المناطق السورية القريبة من لبنان. هذه المناطق التي دُمرت، وهُجر سكانها جراء عمليات حزب الله الحربية: حزب الله الذي يقود لبنان سياسياً واقتصادياً، وهو من يسيّر الحكومة اللبنانية عملياً، وبالتالي فإن من المنطقي أن يتحمل حزب الله مسؤولية هذا الفعل، وما يترتب عنه، أمام المجتمع اللبناني والدولي.

خامس هذه الحقائق، هي: أن لبنان يغرق في أزمة اقتصادية -وسياسية- عميقة وقديمة. ويكفي أن نعلم أن ميزانيةً لم تقر في لبنان طوال اثني عشر عاماً (2005 – 2017)، وأن في عام 2006 -أي قبل سبع سنوات من وصول اللاجئين السوريين إلى لبنان- قد بلغ معدل الدين العام 178% من الناتج المحلي اللبناني، وأن لبنان -باعتراف معظم شخصياته السياسية والاقتصادية- يعاني من فساد قد تفاقم حتى وصل إلى بنية الدولة اللبنانية العميقة، وهو ينخرها بلا هوادة.

بالتأكيد، إن أي تغيير ديموغرافي كبير في مجتمع ما، لابد أن يؤثر في هذا المجتمع، ولابد أن يتسبب بمشكلات لهذا المجتمع، ولكن هذا غير ذاك. إن (نسبة اللاجئين السوريين إلى عدد من يعيشون في لبنان، هي: 16% فقط، وليست 40% كما يدعي السيد جبران باسيل وزير الخارجية اللبنانية).

لكن، كيف تتعامل الطبقة السياسية في لبنان مع المشكلات التي يتسبب بها اللجوء السوري في لبنان، وكيف يتعامل المجتمع اللبناني معها أيضاً؟

من يتمعن في تحولات ومتغيرات قضية اللاجئين السوريين في لبنان، سيدرك بسهولة أن العامل الأهم والأساس في طريقة التعامل هذه، هو: العامل السياسي. وعليه، يمكن التمييز بين تيارين أساسيين: أحدهما يندفع بقوة إلى رفض هذا الوجود، والعمل بكل الوسائل القانونية وغير القانونية لإنهائه بما يخدم النظام السوري، ومن المعلوم أن التيار الوطني الحر هو من يتصدر هذا التيار في هذا، تساعده في ذلك الأحزاب المؤيدة للنظام السوري في لبنان، تحت إشراف حزب الله. بينما تقف الأحزاب والجهات السياسية ذات العلاقة السيئة مع النظام السوري على الضفة الأخرى.

أما فيما يتعلق بالمجتمع اللبناني، فقد بدا واضحاً انعكاس الانقسام السياسي على البيئات المنتمية سياسياً، بينما بنى الآخرون موقفهم معتمدين على الوجه الاقتصادي والمصالح الخاصة من هذا الوجود.

ما يصدم في قضية اللاجئين السوريين في لبنان، هو تراجع الوجه الإنساني والحقوقي لقضيتهم، وعدم فصل هذا اللجوء عن الاستثمار السياسي أو الاقتصادي، وكأن هؤلاء اللاجئين ليسوا بشراً، قد فروا من جحيم حرب، وكأنهم لا يتعرضون لظروف بالغة القسوة، وكأن القانون الدولي لم يقر حمايتهم.

وما يصدم أكثر هو، أن اللاجئين السوريين، وفي سابقة خطيرة لم تعرفها البشرية سابقاً على هذا النحو من الوقاحة والصفاقة، وهي أن تكون حكومة بلدهم التي يفترض بها الدفاع عنهم، هي رأس الحربة في المتاجرة بهم وفي تعقيد شروط حياتهم. ولن أتطرق هنا إلى الدور الفضيحة الذي تلعبه مؤسسات المعارضة السورية في هذه المأساة التي تتفاقم يوماً بعد يوم.

بتكثيف شديد: إن استعمال ملف اللاجئين السوريين في البازار السياسي اللبناني، هو عار على الطبقة السياسية اللبنانية، وإن تحميل اللاجئين السوريين وزر الفساد وهيمنة الولاءات السياسية ولعبة التحالفات السياسية المفضوحة في المنطقة، هو أوقح عهر سياسي يمكن أن تعيشه دولة بشكل علني. إن مشكلة هذا اللعب الرخيص، هي: أن اللاجئين السوريين هم من يدفع ثمنه -كل يوم- دماً وذلاً واضطهاداً.

إن وجود اللاجئين السوريين في لبنان، هو: وجود إنساني وحقوقي أولاً، ووجود سياسي ثانياً. أما تجريده من وجهه الإنساني والحقوقي وحصره في بازار سياسة الرخيصين؛ فهو أمر معيب، يوجب على المجتمع الدولي ومنظماته المعنية، وعلى المثقفين والحقوقيين والسياسيين، التصدي لهذا الاتجار الرخيص بحياة ومصائر مليون سوري يتعرضون لظروف قاسية في لبنان.

تلفزيون سوريا

الشعبوية وإفلاس السياسة/ رضوان زيادة

الحملة الشعبوية العنصرية التي يقودها وزير الخارجية اللبناني مع تياره ضد اللاجئين السوريين في لبنان ليست فقط كريهة ومقيتة، وإنما الأمر أنها لا تجد من يضع حداً لها في لبنان أو يشعر من يقوم بها بالعار والخطيئة فهم يبدو أنهم فخورون بما يقومون، اللهم إلا بعض الأصوات الجريئة والعقلانية في المجتمع اللبناني التي تنتقد بحدة هذه التصريحات والتصرفات، ما عدا ذلك يبدو رئيس الجمهورية نفسه جزءا منها وهو ما يضع لبنان في خانة سيئة من حيث نظرة المجتمع الدولي لها ولقادتها الذين يتكلمون باسمها اليوم.

ذكر الفيلسوف أشعيا برلين أن الناس عادةً ما يرغبون بالحصول على كثير من الأشياء المتشابهة: الأمن، المكانة، الحب، العمل الهادف، الحرية وَالثروة الكافيتين لعيش حياةٍ جيدة وفقاً لجميع الطرق المتخيلة. إلا أن توفير هذه الأشياء لأكبر عددٍ من الأشخاص يقتضي أن تستوعب السياسة كلاً من الحرية التي يريدها التقدميون ذوو الأفكار التحررية وَالتجذر الذي يريده المنغلقون أو المتعصبون، فالشعبيون إنما يخاطبون النصف الثاني من المجتمع وهنا يسود شيء من التوتر بين الفريقين.

في كتابه حول سياسة الولايات المتحدة الأمريكية  ’الجمهورية المكسورة‘ (The Fractured Republic)، يزعم يوفال ليفين أننا قد أضعنا اللحظة التاريخية التي كان من الممكن عندها القيام بمزاوجةٍ سهلةٍ بين الرؤيتين. حيث يشير إلى العقود الأولى عقب الحرب الأهلية في الولايات المتحدة الأمريكية، التي ازدهر الاقتصاد خلالها وَكان بمقدور البلاد أن تصبح أكثر تحرراً وأقل تقليديةً دون أن يعم الشعور بالفوضى أو التكسر كما صار يحدث غالباً اليوم، على الأقل بالنسبة للملايين الكثيرة التي صوتت لدونالد ترامب.

ففي حال ثبتت صحة تشاؤمه فهذا يعني أننا قد نكون نمر عبر مرحلةٍ وعرة. فقد تعرضت أوروبا لأكثر من حكمٍ دكتاتوريٍ، مذابح، قتل جماعي وَثورات للأقليات. لكن وَمع أنه من المستبعد أن يعيد التاريخ نفسه، إلا أنه من الوارد عودة تأجج العنف السياسي الواسع في الشوارع الأوروبية.

لكن ثمة احتمالٌ كبير، في حال استمرت هيمنة الخطاب الشعبوي أن تصبح البلدان التي تحكمها أكثر انقساماً، أقل سعادةً وأكثر سخطاً يتصف بارتفاع التعداد السكاني كما سترافق ذلك مع انسحاب العديد من جماعات الأقليات العرقية وَالاجتماعية المختلفة داخل قوقعه حياتهم الموازية.

سيرتفع صوت الشعبوية المعتدلة ربما كما نجد اليوم في أوروبا بعد أن كانت منبوذة وفي حال لم تقم المجتمعات الحديثة بالسيطرة على الخطاب الشعبوي بما فيها استيعابٍ أفضل لمشاعر وَمصالح المتعصبين منهم فسوف نشهد حدوث المزيد من نماذج الاضطراب السياسي بل لعلنا سوف نشهد أعمال عنفٍ متقطع في حال نجحت أعمال إرهابية في نشر الذعر عبر المدن الأكثر انقساماً.

فمعظم الناس حتى ضمن مجتمعاتنا الأكثر غنىً وَحركيةً ما يزالون متجذرين ضمن عائلاتهم وَمجتمعاتهم، فهم غالباً ينظرون للتغيير على أنه يمثل خسارةً لشيء ما وَيشعرون بهرمية تسلسل الروابط وَالالتزامات الأخلاقية نحو الآخرين.

فبوسعنا القول أنه قد صار من الممكن عقب صدمة عام 2016 حيث انتخاب ترامب والبريكست إحداث تعايشٍ أكثر سعادةً. الأمر الذي يعني أن الكأس المقدسة التي يجب أن ترفعها سياسة الجيل القادم يجب أن تتمثل بالمطالبة بتحقيق تسويةٍ جديدةٍ أكثر استقراراً بين المنفتحين والمُنغلقين الأمر الذي سيؤدي إلى المصالحة بين شطري الروح السياسية للإنسانية.

لا يا لبنان.. ما هكذا الأخوّة!/ يحيى العريضي

قبل مئة عام، شرق المتوسط، كنّا جميعاً من أهل الشام. الآن هناك الأردني والفلسطيني والسوري واللبناني. استطاع “سايكس بيكو وبلفور” أن يكونوا أقوى من أي رابط بيننا؛ لا الدين استطاع إعادة لحمة “خير أمة أخرجت للناس” ولا المد اليساري أو القومي استطاع أن يحمينا ويطورنا؛ ولا التاريخ أو اللغة أو الآمال أو الآلام استطاعت أن تحمينا منهم أو واحدنا من الآخر. الاستعمار والفقر والعسكر والحماقات والتعامل والرخص وجشع العدو كله ساهم ببعثرتنا. بعد سايكس بيكو، تحولت سوريا الشام إلى جسد بلا أطراف. بقي القلب نابضاً، ولكن هناك من خنقه لخمسين عاما، بعد أن كان ساهم بخنق فلسطين وخنق لبنان لعقد ونصف.

نحن واللبنانيون افتراضياً واحد؛ معظم العائلات جذرها واحد؛ سلطة الاستبداد كَوَتْ لبنان كما لا يكوي عدو عدوه. اليوم، وكأن اللبنانيين يثأرون لما فعله بهم نظام الاستبداد الأسدي من سوريين عزل استجاروا بهم هرباً ممن كان جلادهم بالأمس. جبران باسيل ترك وزارة خارجية لبنان، وتفرغ للنازحين السوريين ضحايا منظومة الاستبداد وشريك عمه حزب الله. لا يتوقف السيد ميشيل عون وصهره عن الحديث حول الأذى الذي يتسبب به النازحون السوريون للبنان اقتصادياً ومالياً وديموغرافياً وحتى ثقافياً وحضارياً؛ وإن سوريا آمنة والأوضاع طبيعية؛ ولابد أن يعودوا إلى بلادهم. إذا كان هناك من يعرف بأن سوريا غير آمنة، وأن النظام لا يُؤتَمَن جانبه، فيكون ميشيل عون ذاته؛ فهو- بكل قوته وشهرته- وبعد سنوات في فرنسا- لم يعد إلى لبنان إلا بضمانات دولية، بسبب النظام تحديداً؛ فكيف به يدفع هؤلاء السوريين إلى التهلكة، وهو يعرف مصيرهم سلفاً؟! أي عقل، وأي أخلاق تلك التي تحكم هكذا موقف؟!

أما بخصوص القلق الاقتصادي والمالي والديموغرافي للسيد جبران باسيل، صهر الحكم، فهناك حقائق رقمية تدحض كل تخرصاته. بداية، هذه الشكوى من العوز الذي يسببه وجود النازحين السوريين في لبنان ليس إلا أكذوبة يراد منها إما سحق هؤلاء خدمة للنظام أو مزيدا من الابتزاز للأمم المتحدة والدول المانحة، فخلال ستة أعوام تم ضُخَّ عشرة مليارات دولار في الاقتصاد اللبناني على شكل مساعدات دولية من أجل اللاجئين السوريين؛ وهذا الرقم هو حصيلة مساعدات صافية دخلت الخزينة اللبنانية مقدارها 5.8 مليار دولار، مضافاً إليها ما يقارب الأربعة مليارات نتجت عن قيمة عمل هؤلاء اللاجئين وعن فرص العمل والاستثمارات التي وفرها وجودهم للبنان.. وعلى سبيل المثال، أحد مراكز البحوث يقدم توثيقياً إحصاءات وأرقام ونسب تدحض التزوير الذي يطرحه الوزير باسيل وجوقته:

– يقولون إن لبنان في خطر ديموغرافي، حيث تجاوز عدد النازحين السوريين 40% من عدد سكان لبنان؛ والإحصاء الحقيقي حسب عدد المسجلين وغير المسجلين أقل من 25%

– تقول الجوقة إن الولادات السورية أكثر من الولادات اللبنانية؛ والصحيح أنه خلال سنوات النزوح تم تسجيل 25000 ولادة؛ بينما تقول إحصاءات وزارة الصحة اللبنانية أن عدد الولادات اللبنانية هو 90 ألف سنوياً.

– يدعون بأن السوريين يحرمون اللبنانيين من فرص العمل؛ والحقيقة أن وجود السوريين وفر عشرات آلاف فرص العمل للبنانيين أنفسهم؛ هذا إضافة إلى أن هؤلاء النازحين يقومون بأعمال لا يقوم بها اللبنانيون: كالبناء والزراعة والتنظيف

– يدعون أن السوريين يرتكبون الجرائم؛ وإحصاءات الدراسات التي أجراها مركز البحوث تقول إن نسبة الفعل الشائن أو الجريمة من قبل السوريين لم تتجاوز الخمسة بالألف من الجرائم التي تُرتكب في لبنان؛ أما الجرائم بحق السوريين فتشكل أكثر من ثمانين في المئة حيث يكون الضحية سوريّا أو سورية. مركز البحوث إياه يقدّم مزيداً من الإحصائيات، فيقول إن استخدام الهاتف النقال ارتفع في لبنان من مليونين إلى ما يقارب الأربعة وهذا وحده يدر مئات ملايين الدولارات. من جانب آخر، يدفع اللاجئون السوريون ما يقارب نصف مليار دولار أجرة سكنهم كل عام للبنان؛ والأهم يراه الاقتصاديون بأنه بسبب السوريين فقد زادت الإيرادات الحكومية بحكم دفع هؤلاء النازحين لضرائب تجاوزت المليار دولار؛ إضافة إلى أن وجودهم خلق عشرة آلاف فرصة عمل سنوية للبنانيين معظمها دوام كامل.

والآن ما المخرج؟! ماذا يريد حزب الله وأدواته أن يفعل بأناس فتحوا له بيوتهم عندما كان لبنان ممتحناً إسرائيلياً؟ وهل هذا هو الوفا؟! وبحكم جوار إسرائيل ألا يُتوقَّع للبنان أن يقع في المحنة ذاتها؟! وهل له من طريق ومكان نجاة وأمان إلا سوريا؟ ماذا لو انقلب حزب الله الإيراني على حلفائه، وهو المعروف بأن لا عهد له؟! فمن يقتل أولئك الذين آووه في بيوتهم من السوريين لن يتردد بأن ينقلب على أي كان. وهل يعتقد حزب حسن الإيراني أن منظومة الاستبداد باقية للأبد؟ وهل يعتقد حلفاؤه الشيء ذاته؟ منظومة الاستبداد بحكم المنتهية؛ إنها اللعبة الدولية التي نشهدها على الأرض السورية الآن.

أما السوريون وسوريا فهم باقون؛ وسيأتي الغد؛ ولا أدري كيف سيضع مَن ظلم سورياً عينه بعين أي سوري! جرب اللبنانيون الوجع والمرار على يد نظام استبدادي تحكم بحياتهم وقدرهم لربع قرن تقريباً؛ وفِي هذا الموقف الذي يتخذونه تجاه السوريين كأنهم اشتاقوا للعودة لمرار من نوع آخر؛ وبسبب النظام إياه؛ ولكن في هذه المرة لن يكون الباب السوري الحقيقي مفتوحاً؛ ستُغلَق الأبواب، لأن هناك من تسبب بإغلاق الأرواح. لا يا لبنان؛ ما هكذا الأخوّة.

العنصرية في لبنان تدخل مرحلة الخطورة/ مالك ونوس

تجاوز إناء العنصرية في لبنان مرحلة الامتلاء والنضح، ووصل إلى مرحلة الفيضان، فأخذ ينسكب عبر تصريحات عدد من اللبنانيين، منهم وزير خارجية البلاد الذي لم يتنطع له رادع يردعه عن الإيغال بعنصريته وتوجيهها الوجهة التي يحسبها والتي لا يحسبها. وواضحٌ أن الطبقة السياسية في البلاد راضية بخطابٍ كهذا؛ إذ لم تُخضِع الوزير لمساءلة برلمانية أو وزارية على خلفيته، وهو أمرٌ غير مستغرب، لأن هذه الطبقة منفصلة عن اللبنانيين، وتستعلي عليهم، فما بالك بغيرهم؟ لكن الخطورة تكمن في عادية هذا الخطاب، وعدم ملاقاته من النخبة الثقافية بالدراسة، ومن الأحزاب السياسية ومؤسسات المجتمع المدني بالنقض.

في 8 أكتوبر/ تشرين الأول 2017، نشر رئيس حزب التيار الوطني الحر، وزير الخارجية والمغتربين اللبناني، جبران باسيل، تغريدةً، ربما أراد فيها تعمَّد اقتراف الخطأ اللغوي، إمعاناً باقتراف الاعتراف بالخطأ العنصري وممارسته، عنصرية أعلن تبنّيها، حين قال في التغريدة: “عنصريين بلبنانيّتنا، مشرقيّين بتكويننا، عالميّين بانتشارنا..”. هكذا وبكل خفة، ومن دون التفكير بتبعات خطابه، كرَّس الوزير لمسيرة من الخطابات العنصرية التي يطلقها، والتي بدأت مستترة منذ دخوله الحكومة اللبنانية قبل سنوات عشر.

وبعد تغريدةٍ له، بداية شهر يونيو/ حزيران الحالي، لا تُعد غريبة بقدر ما تُعد تتويجاً وإعلاناً صريحاً عن أفكاره التي يتبنّاها جهاراً، تحدَّث فيها عن أن تفوق اللبنانيين على الآخرين جيني، وبعد خطاب له قبل أيام، وُصِف أنه عنصري، تحدّث فيه عن العمالة الأجنبية في لبنان، وبعد متابعة سلسلة تصريحاته التي يعترف في أحدها صراحة بعنصريته، وباتت تؤسس جميعها لخطاب كراهيةٍ حقيقي، يمكن القول: إن تصريحاته العنصرية أصبحت ظاهرةً اعتاد عليها الشارع اللبناني. وهو اعتياد جعله يتعاطى معها بخفةٍ ولا مبالاة، لا يدري أحدٌ ما يمكن أن يؤدّي إليه التغاضي عنها، وعدم تناولها بالدراسة والتحليل والنقض. وعلى الرغم من أن خطاب الكراهية هذا موجهٌ بالتحديد للاجئين الفلسطينيين والسوريين في لبنان، إلا أنه يحمل خطورةَ

“قال جبران باسيل: “عنصريين بلبنانيّتنا، مشرقيّين بتكويننا، عالميّين بانتشارنا..””

تأسيسه حالةً من العدائية والإنكار تجاه الآخر، أي آخرٍ، في لبنان.

تنطلق العنصرية من فكرة إلغاء الآخر، وتصل إلى فعل الإلغاء الفعلي بقتل الآخر. ولن يكون مفاجئاً الوصول إلى هذا الفعل، بل سيكون مفاجئاً تسامح العنصريين مع الآخر، وعدم الوصول إلى عملية إلغاء وجوده الفيزيائي. إذاً سيصل باسيل وحزبه إلى هذه المرحلة، متبنين إيديولوجيات نازية وفاشية كالتي تنتشر هذه الأيام في أوروبا، متخذةً من العداء للمهاجرين ركيزة لها، لتتكرّس أحزاباً وحركاتٍ سياسية ذات وزنٍ وفعلٍ تكتسب مؤيدين، وتحصد نتائج جيدة في الانتخابات.

اكتسب باسيل مؤيدين من هذا القبيل، وحوَّل الحزب الذي يترأسه، التيار الوطني الحر، إلى حزبٍ يكرِّس أعضاؤه على الأرض ما يتفوَّه به رئيسُهم على المنابر. إذ أطلق قطاع الشباب في هذا الحزب، في 10 يونيو/ حزيران الجاري، حملةً معاديةً للعمال السوريين، اتخذت لها عنواناً عنصرياً هو: “بتحب لبنان؟ وظِّف لبناني”، ردّاً على تشغيل العمال السوريين في هذا البلد. ولم يغب عن بال هؤلاء الذين جالوا على المحال التجارية والمؤسسات والمعامل في بيروت وغيرها، طالبين من أصحابها طرد السوريين، وتوظيف لبنانيين مكانهم، وهدّدوا عمالاً سوريين وطالبوهم بالعودة إلى بلادهم، بعدما أصبحت آمنة، لم يغب عن بالهم أن يرتدوا زياً موحداً، أسوة بالزي الموحد الذي اعتاد نازيو أوروبا ارتداءه خلال مظاهراتهم، فقطعُ أرزاق الناس هو بمثابة قتلهم معنوياً، أي إلغائهم، وهو ما يريده باسيل وتياره.

يندرج خطاب الوزير جبران باسيل الشعبوي، وممارسات عناصر حزبه، في فئة جريمة التمييز العنصري الذي نصت عليها “الاتفاقية الدولية للقضاء على جميع أشكال التمييز العنصري”، والتي اعتمدتها الأمم المتحدة سنة 1965، وأصبحت نافذة سنة 1969، وكان لبنان من بين الدول التي صدّقت عليها. وبحسب البند الأول من المادة الرابعة في الاتفاقية، يعد “نشر الأفكار القائمة على التفوق العنصري” و”كل تحريض على التمييز العنصري” “جريمةً يعاقب عليها القانون”، وهذا بالضبط ما يقوم به الوزير باسيل، حين يُحرِّض على العمال غير اللبنانيين، ويدعو إلى إعطاء الجنسية لأي أجنبي متزوج من لبنانية، ما عدا حاملي الجنسيتين الفلسطينية والسورية. كما يُعد “كل عمل من أعمال العنف أو تحريض على هذه الأعمال يُرتكب ضد أي عرق أو جماعة” جريمةً يعاقب عليها القانون، وهو ما قام به أعضاء حزب باسيل أيضاً، حين هدّدوا العمال السوريين، ودعوهم إلى مغادرة لبنان، ومن هؤلاء مَن يعتقد أنه قد يواجه مخاطر في حال عودته.

لقد وصل خطاب باسيل العنصري، وممارسات أعضاء حزبه، إلى مرحلةٍ من الخطورة يمكن لها أن تجرّ لبنان إلى هوةٍ تحضر الأجواء لمرحلة من الصراع الذي يؤسّس له التمييز العنصري. كما أن خطاباً عنصرياً من هذا القبيل يمكن له أن يُسهِّل عودة الخطاب والممارسة الطائفيّين، ليكونا سيِّدا التناول في الإعلام والتعاطي في الحياة اليومية، ليعيدا أجواء الأيام التي سبقت الحرب الأهلية اللبنانية، حيث الأرض اللبنانية خصبة وقابلة لإنبات حربٍ كهذه، لدى أي منزلق غير محسوب. كما أنها يمكن أن تكون دافعاً إلى لجوء العمال السوريين إلى أعمال غير قانونية، للحصول على حاجاتهم المعيشية، إن وجدت طريقها إلى التنفيذ، وجرى الاستغناء عن خدمات العمال السوريين.

من جهة أخرى، لا يبالي باسيل بردود الفعل على كلامه، أو على تداعيات خطابه وأثرها على علاقات بلاده الدبلوماسية والاقتصادية مع الدول الأخرى، وهو وزير الخارجية الذي عادةً ما تناط به مهمة تحسين هذه العلاقات. يقول بعضهم إنه ربما لا يدرك التداعيات والآثار السلبية التي يمكن أن يسببها خطابه على أبناء بلده، وخصوصاً العاملين في دول الخليج. وقال آخرون إن وزير المغتربين اللبناني أضر بالمغتربين. من هنا، كان رد الفعل الأفصح على كلام أطلقه قبل أيام حول أولوية اللبناني في التوظيف على السوريين والفلسطينيين والفرنسيين والسعوديين والإيرانيين والأميركيين، قد جاء على لسان مسؤولين ومغرِّدين خليجيين، تحدثوا عن وجود أكثر من ثلاثمئة ألف لبناني يعملون في السعودية وحدها. وانتقد هؤلاء كلامه في المؤتمر السنوي للطاقة الاغترابية في بيروت، في 7 و8 و9 يونيو/ حزيران الجاري. وسخر أحد المسؤولين السعوديين من كلام الوزير عن عمال سعوديين في لبنان، متحدثاً عما يمكن أن تؤدي له المعاملة بالمثل من منع اللبنانيين من العمل في السعودية، وبقية دول الخليج، وما ينتج عنه من طرد خمسمائة ألف عامل لبناني، وعودتهم إلى لبنان الذي يفتقر لفرص العمل.

طولب الوزيرَ بالاعتذار عن تغريداته وتصريحاته العنصرية، كما طولب بإقالته، أو على الأقل مساءلة رئيس حكومة البلاد له. كما تكلَّم بعضهم عن مسؤوليته عما وصلت إليه حال العمالة في لبنان من سوء، فهو لم يساهم في صياغة قوانين عصرية تحمي حقوق أبناء الشعب اللبناني، ولا في اتباع سياسات تعزّز اقتصاد البلاد وتوفر فرص العمل لأبنائها. فهو بذلك ينطلق من فشل إلى محاولة حصد نجاح لا قاعدة له سوى الخطاب الشعبوي الذي يجد آذاناً صاغية لدى فئةٍ تدغدغ كلماته أحاسيسها الطائفية، وتساعد في زيادة عدد ناخبي الرجل، في غياب مؤسسات المجتمع المدني والأحزاب السياسية والبرلمان، أو النيابة العامة التي يمكن لها مساءلة وزيرٍ يهدّد استقرار البلاد الاقتصادي والأمني، باقترافه جريمة كراهيةٍ وتمييزٍ طائفيٍّ موصوفة.

العربي الجديد

“مكافحة العمالة الأجنبيّة”: السلطات مستمرّة في التصعيد… فما الهدف؟/ مايا العمّار-

أفران شبه فارغة. مطاعم صغيرة يائسة. دكاكين خائفة. وظائف متواضعة شاغرة، لم يتدافع اللّبنانيون لملئها ولم يصطفّوا في طوابير تعجّ برجالٍ يترقّبون ساعة المناداة باسمهم، كما توهّم بعض المسؤولين الحريصين على إنقاذ العمّال اللبنانيّين من مزاحمة العمّال الأجانب لهم.

خسر “طوني” عاملَيْن سوريَّين في مطعمه المتواضع في منطقة الدورة، نتيجة مخالفتهما القوانين المرعيّة. لم يجد “طوني” لبنانيّين في منطقة عمله يقبلون بتأدية وظائف الخدمة و”الديليفري” التي تولّاها السوريّان، رغم محاولات عدّة. فمَن الذي توظّف مكانهما؟ عاملٌ مصريّ الجنسيّة.

العودة إلى سوريا ليست “طوعيّة” ولا “آمنة”

في لبنان، لم يعد دقيقاً الحديث عن حملة مكافحة “العمالة الأجنبيّة غير الشرعيّة”، وهو شعار رنّان يُدغدغ مشاعر الوطنيّة والعصبيّة القوميّة لدى شرائح واسعة من المجتمع اللبناني. فما يجري اليوم هو أقرب إلى حفلة جنون. وما التطوّرات الأمنيّة والوزاريّة والبيانات التي أصدرتها وزارة العمل والمديريّة العامة للأمن العام، ودَعَمها مقال وزير العمل السابق سجعان قزّي الذي أبى إلا أن يُذكّر اللبنانيّين بأنّه السبّاق في التصدّي للعمالة الأجنبيّة، سوى مدماك لورشةٍ مُمنهَجة مآلاتُها أبعد بكثير من حماية اليد العاملة الوطنيّة.

فهذه الحملة، بالحدّ الأدنى، تضرّ بمصالح الكثير من اللبنانيّين الذين لا يجدون بديلاً للعمالة الأجنبيّة في محلّاتهم ومؤسّساتهم، كما تساهم في إعادة تأجيج التوتّر بين المجتمعَين السوري واللّبناني بدلاً من إخماده. والأخطر من ذلك، أنّها تحمل مئات آلاف السوريّين على عودةٍ قاتمة إلى قرًى ومدن ما زالت معظم دول العالم ومنظّمات حقوق الإنسان تُصرّ على استحالة توصيفها بـ”الطوعيّة” أو “الآمنة“، بناءً على جملة معطياتٍ ميدانيّة وشهاداتٍ حقّة. وقد استندت المنظّمات في تقاريرها إلى أحداث ترحيل وتقييد وتضييق وثّقتها طوال أشهر لتبيان كيف أنّ اعتماد السلطات اللبنانيّة لسياساتٍ قاهرة وقمعيّة بحقّ اللاجئين هو الذي يؤدّي فعليّاً إلى اتّخاذ بعض العائلات والأفراد قرار العودة إلى سوريا، لا رغبتهم الحقيقيّة في العودة أو إرادتهم المبنيّة على معرفة مستنيرة. وقد نُشرت حديثاً تلك المعطيات والشهادات لتكون بمثابة أدلّة واضحة على تجاوز السلطات اللبنانيّة، والسوريّة، لشروط العودة “الطوعيّة” و”الآمنة” والأعراف الدوليّة؛ ولتكشف مخالفة الأجهزة الأمنيّة اللبنانيّة للقوانين المحليّة عن طريق اتّخاذها قرارت ترحيل أحاديّة، لا سيّما قوى الأمن الداخلي والجيش، من دون العودة إلى القضاء الجزائي واحترام حقّ الفرد في الدفاع عن نفسه.

ما الجديد في ملفّ العمالة الأجنبيّة؟ 

ليس الحديث عن منافسة العمّال السوريّين للعمّال اللبنانيّين بالأمر الجديد، ولا المطالبة بالتشدّد في تطبيق قوانين العمل بالدعوة المفاجئة. فعلى امتداد السنوات القليلة الماضية، كان صحافيّون لبنانيّون ووزراء ومسؤولون عديدون يمهّدون عبر تقاريرهم وتصاريحهم لتصادمٍ قبيح مُفتعَل، دون أن يبادروا في مراحل اللجوء الأولى إلى إيجاد معالجة مناسِبة تأخذ في الاعتبار واقع وجود أكثر من 1.5 مليون لاجئ سوري على الأراضي اللبنانيّة، من بينهم 938,531 مسجّلون مع المفوّضية السامية للأمم المتّحدة لشؤون اللاجئين، ومصالح المجتمع اللبناني الذي تناسته الطبقة الحاكمة قبل توافد اللاجئين إلى لبنان وبعده.

إذاً، ما الجديد في هذا الملفّ؟

يمكن حصر الإجابة عن هذا السؤال بأربع مسائل مستجدّة خطيرة، تتمثّل أولاها بالجهود المبذولة لتحويل المواطن العادي إلى عنصر أمنيّ ومُخبِر يمارس مهام الرصد والمداهمة، غالباً ضدّ عاملٍ هو أضعف منه يؤدّي مهنةً يستبعد المواطن اللبناني على الأرجح اختيارها لنفسه.

“أحمد” يعرف وجوه “الفسّادين”

حتّى لو أراد العامل السوري التقدّم بطلب إجازة عمل من الفئتين الأولى والثانية، تبقى مهمّة الاستحصال عليها صعبة جدّاً ومنوطة بقدرة العامل على دفع آلاف الدولارات “كتكلفة غير رسميّة” للإجازة، بالإضافة إلى وديعة مصرفيّة تبلغ 155 مليون ليرة لبنانيّة، وفق ما روى المواطن السوري “أحمد” لـ”درج”.

يسعى “أحمد” اليوم إلى استعادة أوراقه من الأمن العام والحصول على إجازة عمل-فئة أولى، علماً أنّه يمتلك حاليّاً إجازة عمل قانونيّة-فئة ثالثة، ليتمكّن مع شركائه اللبنانيّين من تسجيل مؤسّسته وافتتاح مطعمه الصغير في بيروت الذي كلّفه عشرات آلاف الدولارات، حصيلة عمله على مدى 23 سنة في لبنان.

يشعر “أحمد” اليوم بالغبن والإذلال، ويقول “هاجمنا عناصر الأمن العام مطلع الأسبوع الماضي كأنّنا أعضاء في جماعة إرهابيّة أو “عاملين شي عملة”… نحن عمّال نصرف ما نجنيه في السوق اللبنانيّة، وموجودون في لبنان منذ فترة طويلة، لكنّنا ندفع اليوم ثمن ظروفٍ لا ذنب لنا فيها. ويضيف، “اليوم راح الآدمي مع الرذيل”؛ ونحن نعرف وجوه الذين يشون بنا، لكنّنا نقوى بمحبّينا من الجيران والأصحاب اللبنانيّين، وهم كثر”.

ويتابع أحمد، “إنّ الضمان الذي أدفع من أجله سنويّاً 1.8 مليون ليرة لبنانيّة كشرط لحصولي على إجازة عملي لا يفيدني بحبّة بنادول، وهو مجرّد ضمان شكلي لا أكثر. حتّى البنوك التي نلجأ إليها لفتح حساب وننهي المعاملات التي ستضعنا على السكّة القانونيّة الصحيحة تُحقّق معنا كمجرمين وغالبيّتها ترفض طلباتنا… فماذا يريدون منّا أن نفعل بعد؟”

الأجهزة الأمنيّة تكثّف “زياراتها”

ترتبط المسألة الثانية المستجدّة على هذا الملفّ بتكثيف الأجهزة الأمنيّة لـ”زياراتها” الميدانيّة وإقفالها لعددٍ من المؤسّسات التجاريّة الصغيرة والمتوسّطة المخالِفة، حتّى قبل إعلان وزارة العمل عن إعطاء مهلة شهر تبدأ من 10 حزيران/يونيو لتسوية المخالفين لأوضاعهم القانونيّة، وقبل شرحها لخطّتها التي لم تقرّها الحكومة أصلاً بعد، مع العلم أنّ عدم امتلاك الكثير من العاملين السوريّين لإجازات عمل يعود بشكل أساسي إلى اعتماد شروط إقامة شبه تعجيزيّة، والتأخير في البتّ في طلباتهم، ويأسهم وأصحاب عملهم من المحاولات الفاشلة لإصدار إجازات عمل.

وقد بيّنت أرقام وزارة العمل أنّ عدد الإجازات الخاصّة بالسوريّين التي صدرت بين عام 2016 وشهر أيّار/مايو عام 2019، يصل إلى 1733 إجازة عمل فقط، وهو رقم لا يُقارن بالعدد الفعلي الذي يُقدّر بمئات الآلاف. وحين طرحت الوزارة السؤال حول مسبّبات هذا الواقع، وجدت أنّ العمال السوريّين “لا يتقدّمون للاستحصال على إجازات عمل من وزارة العمل لعدم خوفھم من الترحيل بسبب السياسة المتّبعة من الدولة اللّبنانية لتاريخه، رغم وجود تسھيلات عديدة لھم”.

في هذا السياق، تُذكّر الباحثة القانونيّة والمحامية غيدة فرنجيّة في حديثٍ مع “درج”، بإبطال مجلس شورى الدولة عام 2018 شروطَ دخول السوريّين وإقامتهم في لبنان التي كان الأمن العام قد أصدرها مطلع عام 2015، مُعلناً أنّ تلك الشروط غير قانونيّة لصدورها عن جهة غير مختصّة. وبالتالي، “تُطبّق اليوم شروط إقامة مرتبطة بإمكانيّة العمل هي مخالِفة أصلاً للقانون؛ وفي المقابل، يتمّ التشدّد في تطبيق قوانين العمل، ممّا يدلّ إلى استنسابيّة واضحة في استخدام القوانين”.

وزارة العمل تتبنّى شعارات شعبويّة

أمّا الحدث الثالث المستجدّ على ملفّ “العمالة الأجنبيّة”، فيتمثّل بخطوةٍ إعلاميّة لافتة أضْفت طابعاً رسميّاً ومؤسّسيّاً على شعاراتٍ شعبويّة حماسيّة تبنّتها وزارة العمل كرسائل رسميّة في الحملة الوطنيّة التي أطلقتها “لمكافحة العمالة الأجنبية غير الشرعيّة”. وعن أسباب اختيار كلمة “مكافحة” بدلاً من “تنظيم” مثلاً، فلا إجابات واضحة. لكنّ المؤكّد أنّ لهذا الخيار دلالات جسيمة ليس أقلّها ارتفاع درجة الاحتقان والتحريض وحشد مساعي شدّ العصب اللبناني لدى أصحاب العمل والمجتمع على حدّ سواء.

ترى المحامية فرنجيّة أنّ هذا التشدّد في تنفيذ القوانين لا يحلّ الأزمة الراهنة، إنّما ينبغي اتّخاذ إجراءاتٍ أخرى لمعالجتها، كـ”تفعيل دور المؤسّسة الوطنيّة للاستخدام لدعم اللبنانيّين الباحثين عن فرص عمل، ودراسة حاجات قطاعات لبنان الاقتصاديّة مع إعطاء الأولويّة للعمّال اللبنانيّين، لكن من دون منع أصحاب العمل من استخدام العمّال الأجانب حين لا يجدون عمّالاً لبنانيّين يشغلون الوظائف المعروضة”.

وتضيف فرنجيّة، “من الأجدى أن تصبّ السلطة اهتمامها في هدف تحقيق ما يعود بالفائدة والفاعليّة على المؤسّسات التجاريّة وسوق العمل، لا في سياسات المنع المُشدَّدة والصارمة التي لن تحلّ المشكلة، بل تكتفي بحرمان الناس من الاسترزاق، مع كل ما يستتبع ذلك من نتائج على إمكانيّتهم في العيش الكريم”.

وأخيراً، تتعلّق المسألة الرابعة المُستجدّة على هذه القضيّة بممارسةٍ شديدة الخطورة تثير التوجّس والقلق في نفوس العديد من الحقوقيّين اللبنانيّين والسوريّين. فخلال الأسابيع القليلة الماضية، تنامت عمليّات استهداف الأمن العام اللّبناني للمنظّمات الحقوقيّة والإنسانيّة، بخاصّة تلك التي يعمل أو يتطوّع فيها عددٌ من السوريّين الفاعلين في مجال تقديم الدعم الإنساني والاجتماعي والقانوني لمجتمعاتهم؛ وتصعيده الملحوظ ضدّ منظّماتٍ لبنانيّة أيضاً، هدّد في بيان بأنّه سيُراجع “القضاء لوقف أُجرائها ومستخدميها”، الأمر الذي يشير إلى تشديدٍ غير مسبوق للأمن العام في لهجته ضدّ جمعيّات لم تكن إدارة الأزمة الراهنة ممكنة لولاها.

عينُ الأمن العام على الجمعيّات

في هذا الإطار، تحدّث “درج” مع “سهام”، وهي ناشطة حقوقيّة سوريّة في إحدى أهمّ المنظّمات الداعمة للّاجئين السوريّين في لبنان، والتي استهدف عناصر الأمن العام مراكزها منذ فترة وجيزة طالباً لوائح بأسماء العاملين فيها.

“إنّهم يستسهلون استهداف منظّمات المجتمع المدني”، هكذا تعلّق “سهام” على تحقيقات الأمن العام الأخيرة، وتردف، “يجب أن تعلم السلطات أنّ ما توفّره تلك المنظّمات لفرق عملها لا يعدو كونه بدلاً مادّياً بسيطاً يضمن ألا يموت الإنسان من الجوع، ويؤمّن له بعض مستلزمات العيش الأساسيّة التي ستعود وتصبّ في دورة الاقتصاد اللّبناني”.

تروي “سهام” كيف أنّ “المتطوّعين باتوا اليوم خائفين أكثر بسبب عدم حيازة بعضهم على إقامة قانونيّة سارية بسبب التعقيدات المفروضة عليهم، غير أنّهم عازمون على الاستمرار في خدمة مجتمعهم ومزاولة نشاطهم لأن لا خيار آخر لديهم”.

وتسأل “سهام”، “كيف سيحلّ هؤلاء مشكلة إقامتهم “المكسورة” إذا ظلّت السلطات ترفض تسهيل الشروط القانونيّة وتخفيض كلفة الإقامة، وتمنع عنهم عملاً لا يتنافسون عليه أصلاً مع اليد العاملة اللبنانيّة، إذ يؤدّونه لخدمة ناسهم ومحيطهم؟”

وهنا لا بدّ من طرح السؤال معكوساً. ألم تنشئ الأزمة السوريّة آلاف فرص العمل للبنانيّين في قطاعات مدنيّة وإنسانيّة مختلفة، استجابةً لموجات اللّجوء السوري وتداعياته على المجتمعات المضيفة واللاجئة؟

ترى “سهام” أنّنا اليوم أمام خيارَين، “فأيُّهما أفضل؟ أن يُعطى الأفراد الذين نجهد على تمكينهم ودعمهم فرصةً لأداء عمل لقاء بدلٍ متواضع يُمكّنهم من الاستمرار في العيش، أو أن يُرمى هؤلاء في الطرقات؟ ألن يزداد خوفهم إذا ما تحقّق الاحتمال الأخير؟!”

تلوح في أفق سوريا ورشة إعمار ينتظرها بفارغ الصبر رجال أعمال لبنانيّون، يؤمنون بأنّهم من طبقة رفيعة المستوى غير معنيّة بالشروط المفروضة على مَن هم أدنى منهم في هرم الأعمال. مئات الآلاف من العمّال السوريّين، لامس عددهم الـ600 ألف بحسب تقدير منظّمة العفو الدوليّة، كان معظمهم عمّال بناء خلال رئاسة رفيق الحريري للحكومة اللبنانيّة. آنذاك، أحداً لم يعترض على هذا العدد الضخم الذي لم يسبّبه لجوء أو نزوح، ولم تُسجّل حالات تذمّر تُذكَر من تسليم ورشة الإعمار اللبنانيّة إلى العمّال السوريّين وما قد ينتج عن ذلك من منافسة لليد العاملة الوطنيّة، البقاعيّة أو العكّاريّة…

مَن قال لكم إنّ شبّان الجيش من عكّار والهرمل ما كانوا ليختاروا العمل في حقول الورش والبناء بأجورٍ محترمة بدلاً من حقول العسكر، لو أُتيح لهم الخيار؟

درج

المجتمعات الناجزة ودولنا المريضة/ رشا عمران

العنصرية والإحساس بالتفوق العرقي أو الديني ازدادا جدا خلال العقد الحالي، بسبب المتغيرات السياسية والاقتصادية في العالم من جهة، وبسبب الحروب والكوارث الاجتماعية التي يخلفها عنف أنظمة دول العالم الثالث واستبدادها، خصوصا بعد الربيع العربي الذي قرّر النظام العالمي الحاكم تحويله إلى خراب ودمار، عبر دعمه الأنظمة العسكرية الحاكمة التي لم تتوان عن استخدام أعتى أساليب الإجرام والقتل ضد شعوبها. دفع هذا الإجرام شعوبا كثيرة في هذه الدول إلى الهرب، طلبا للأمان، إلى الدول القريبة أو البعيدة، ولا سيما أوروبا، التي استقبلت أعدادا كبيرة من اللاجئين المسلمين منهم خصوصا، من معظم دول العالم الثالث، وكان للعرب منهم نصيب كبير، وسرعان ما استغل اليمين العنصري الغربي حركة اللجوء هذه، ليعود إلى نشاطه السياسي، محذّرا من التغيرات التي قد تطرأ على المجتمعات الأوروبية بسبب وجود المسلمين، ومستغلا حالة الإسلاموفوبيا التي سادت المجتمع الغربي بعد أحداث “11 سبتمبر”، والتي تعيد إشعالها، كلما انطفأت وخمدت قليلا الحركات الجهادية الإسلامية، بشقيها “القاعدة” و”داعش”، عبر عمليات إرهابية تستهدف الأوروبيين.

ساعدت هذه المتغيرات على انتشار خطاب سياسي يميني شعبوي، استطاع تحقيق نتائج مهمة، بدأت في أميركا مع انتخاب ترامب، وامتدت إلى معظم دول المجتمع الغربي وأوروبا التي شهدت صعودا واضحا لليمين في تصويت الاتحاد الأوروبي، لم تنج منه سوى دول قليلة، وينذر بمستقبل مضطرب يعيد اللاجئين إلى مربع الخوف نفسه الذي عانوا منه قبل استقرارهم في العالم الأول، خصوصا مع علو نبرة الخطاب العنصري في الشارع، وهو أمرٌ بالغ الخطورة، لما يمكن أن يؤدي إليه من حالات تصادم عنفي متبادل، لا أحد يمكن له ضمان نتائجها وعواقبها.

والحال، أنه يمكن، إلى حد ما، تفهم حالة العنصريين الغربيين الذين يعتقدون أن المسيحية الغربية باتت مهدّدة. وهي، في كل حال، لا تختص فقط بالتوجه إلى المسلمين، وإن كانت تبدو أكثر وضوحا نحوهم، وإنما تمتد حالة العداء نحو الأقليات المجتمعية، وليس فقط العرقية أو الدينية، وهي ظواهر يعتبرها متطرّفو اليمين تساهم في تفكيك المجتمع الأوروبي المسيحي، وتغير بنيته. على أن المجتمع الأوروبي تحميه من انتشار العنف العنصري القوانين التي تعاقب المعتدي على اعتدائه، اللفظي أو المادي، تجاه الآخر المختلف، وهي تحتاج وقتا طويلا جدا كي يتمكّن اليمين، في حال تمكّنه من الحكم، من تغييرها، وستبقى هذه القوانين المستمدة من شرعة حقوق الإنسان حامية للاجئين والأقليات وحقوقهم، مهما علا صوت الخطاب الشعبوي المتطرّف، فما وصل إليه المجتمع الغربي من احترام حقوق الإنسان لا يمكن التنازل عنه بسهولة، وهذا ما يعرفه اليمين جيدا، ويسعى جاهدا إلى تغييره.

على أن ما لا يفهم هو الحالة العنصرية اللبنانية تجاه السوريين، وهي حالة تفوقت على العنصرية، ووصلت إلى مرحلة النازية، سواء في الخطاب السياسي أو في التحريض ضد اللاجئين والعمالة السورية، أو الممارسات الرسمية والفردية بحق اللاجئين، لإجبارهم على العودة إلى سورية، على الرغم من أن النظام هناك يرفض عودتهم، وأن تقارير كثيرة للأمم المتحدة تحذر من عودتهم، بسبب تنكيل النظام السوري بهم فور عودتهم، ولكن الدولة اللبنانية التي دخلت في الحرب السورية بأحد أطرافها الثقيلة (حزب الله) لا تكترث لا بالقوانين الدولية، ولا بقرارات الأمم المتحدة وتقاريرها ولا بأي شيء، إذ تواصل خطابها النازي نحو اللاجئين، إلى حد أن لبنانيين يقتلون عمالا سوريين لمجرّد أن أحدهم تأخر دقائق في إحضار طلب الزبون في مقهى، ولبنانين آخرين يوزّعون منشورات تحرّض على السوريين، وتدعو إلى تكسير ممتلكاتهم، ويتم هذا كله بدعم من الحكومة اللبنانية التي تحاول تغطية أزماتها الداخلية بالتحريض على السوريين، وهي حالة يجب أن توثق للتاريخ، فلم يسبق أن دعمت حكومة بلدٍ حركة متطرّفين ما، حتى لو كانت ضمنيا موافقة على هذا التحريض، إذ عادة ما تحرّك الحكومات طوابيرها الخامسة، لإثارة مشكلةٍ ما تغطي بها على حدثٍ سياسي أو اقتصادي، ثم تحاول الظهور بمظهر المحافظ على القانون والنظام العام، أما ما يحدث في لبنان تجاه السوريين فلا مثيل له، وهو يدل ليس فقط على فشل الحكومة والدولة اللبنانية، وإنما على ما يمكن أن تؤدي إليه التوافقات السياسية والمصالح الاقتصادية والسلطوية في بلدٍ نخرته الطائفية والمصالح إلى حد الاهتراء.

العربي الجديد

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى