سياسة

لعبة عض الأصابع بين واشنطن وطهران واحتمالات الحرب –مقالات مختارة-

التصعيد الأميركي – الإيراني واحتمالات المواجهة العسكرية

المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات

مقدمة

بلغ التوتر الأميركي – الإيراني مستويات غير مسبوقة بعد أن أقدمت إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب، في وقت مبكر من أيار/ مايو 2019، على إلغاء الإعفاءات النفطية لإيران؛ ما يعني حظر تصدير النفط الإيراني عمليًّا. أتبعت واشنطن ذلك بفرض عقوبات على قطاع التعدين الإيراني. وتسعى إدارة ترامب إلى فرض “أقصى درجة من الضغط” على إيران لإرغامها على إعادة التفاوض على برنامجها النووي. وتضاعف التوتر بين الدولتين مع مزاعم أميركية عن نيات إيران، أو وكلاء لها، شن هجمات على القوات الأميركية وحلفائها في المنطقة، وهو ما نفته طهران. وعلى إثر ذلك عززت الولايات المتحدة الأميركية من وجودها العسكري في المنطقة. وجاء رد إيران بتأكيد قدرة قواتها على التصدي لأي هجوم عسكري أميركي، كما أنها هددت بالانسحاب من الاتفاق النووي الموقع عام 2015 إن لم تتمكن من تصدير نفطها وحماية قطاعها المصرفي من العقوبات الأميركية.

ومع أن الطرفين يقولان إنهما لا يريدان حربًا، فإن التهديدات التي يصدرها مسؤولون في الدولتين، فضلًا عن إمكانية وقوع خطأ في حسابات أحدهما، قد تشعل فتيل حرب في المنطقة. أضف إلى ذلك أن ثمة تيارًا متشددًا في الإدارة الأميركية يدفع في اتجاه الحرب. ولعل أعمال التخريب التي تعرضت لها عدد من الناقلات النفطية في المياه الإقليمية الإماراتية، رغم غموض تفاصيلها وهوية من يقف وراءها، تقدم مؤشرًا على إمكانية أن تقوم حرب قد لا يكون الطرفان يريدانها فعلًا.

إحكام الطوق حول إيران

في الثاني من أيار/ مايو 2019، دخل قرار واشنطن عدم تجديد الإعفاءات الممنوحة للدول التي تشتري النفط الخام الإيراني حيّز التنفيذ. وكانت إدارة ترامب أعلنت، بموجب القرار، أن أي دولة تشتري النفط الإيراني تواجه احتمال فرض عقوبات اقتصادية أميركية. وتمثل عوائد النفط مصدر دخل إيران الرئيس. وأعلن ترامب في 8 أيار/ مايو 2018 انسحاب الولايات المتحدة من الاتفاق النووي مع إيران المبرم عام 2015، وإعادة فرض عقوبات عليها بذريعة أن “الاتفاق معيب في جوهره” وبأنه لا يمكن “منع تصنيع قنبلة نووية إيرانية بموجب … الاتفاق الحالي”[1]. وفي اليوم ذاته أصدرت وزارة الخزانة الأميركية بيانًا حددت فيه الآلية التي ستتبعها الولايات المتحدة في إعادة فرض العقوبات على إيران ومن يتعامل معها، والتي ستطبق على مرحلتين. وقد رحّلت حينها العقوبات التي تخص قطاع النفط إلى شهر تشرين الثاني/ نوفمبر 2018[2]. إلا أنه تحت ضغط الدول المستوردة للنفط الإيراني، كتركيا والهند وكوريا الجنوبية واليابان والصين، وافقت إدارة ترامب على إعطاء هذه الدول مهلة ستة أشهر انتهت في 2 أيار/ مايو 2019. وتهدف الولايات المتحدة إلى تصفير صادرات النفط الإيراني للضغط على طهران اقتصاديًّا للقبول بالتفاوض على برنامجها النووي.

وقبل ذلك، في نيسان/ أبريل 2019، صنفت واشنطن الحرس الثوري الإيراني “منظمة أجنبية إرهابية” يحظر التعامل معه[3]. ويُعدّ تصنيفه منظمةً إرهابية سابقة أميركية؛ إذ إنها المرة الأولى التي تستخدم فيها الولايات المتحدة هذا التصنيف ضد مؤسسة حكومية أجنبية. وفي 5 أيار/ مايو 2019، زعمت واشنطن أن لديها معلومات استخباراتية عن نية طهران ووكلائها في المنطقة شنَّ هجمات على قواتها ومصالحها، ومصالح حلفائها[4]، فضلًا عن ناقلات بحرية تجارية[5]. كما ادعت أن إيران نشرت صواريخ باليستية قصيرة المدى، وصواريخ كروز على قوارب صغيرة في الخليج العربي[6]. وهو ما جعلها ترسل تعزيزات عسكرية إلى المنطقة كرسالة “ردع”، مع أنها أكدت أنها لا تريد حربًا مع إيران[7]. ووفق الولايات المتحدة، فإن إيران تواصلت مع ميليشيات شيعية مسلحة في العراق وسورية لمهاجمة الجنود الأميركيين هناك[8]، وهو ما نفته إيران. وللولايات المتحدة حاليًّا نحو 5200 جندي في العراق ونحو 2000 في سورية.

وأمام الضغوط المتزايدة، أعلن الرئيس الإيراني، حسن روحاني، في 8 أيار/ مايو 2019، أن بلاده ستتراجع عن تنفيذ بعض التزاماتها في الاتفاق النووي، وهدد باستئناف تخصيب اليورانيوم بمستويات عالية بعد ستين يومًا، إن لم تفِ الدول الأخرى الموقعة على الاتفاق بتعهداتها لطهران بحماية قطاعيها النفطي والمصرفي من العقوبات الأميركية[9]. وردت واشنطن على ذلك بقرار آخر لترامب يفرض عقوبات على قطاع التعدين الصناعي في إيران، والذي يمثل ما قيمته 10 في المئة من صادراتها الكلية، بحسب البيت الأبيض. وهدد ترامب بمزيد من الإجراءات، ما لم تغير طهران سلوكها “بشكل جوهري”[10].

ولا تخفي إدارة ترامب أنها تسعى إلى فرض “أقصى درجة من الضغط”[11] على إيران؛ لإرغامها على إعادة التفاوض على برنامجها النووي، فضلًا عن برنامجها للصواريخ الباليستية وأنشطتها التي تصفها واشنطن بالمزعزعة للاستقرار في المنطقة، في حين تذهب إيران إلى إنها لن تقبل بالتفاوض تحت وطأة التهديدات والعقوبات.

الحشد العسكري الأميركي في المنطقة

بناء على المعلومات الاستخباراتية الأميركية عن نية إيران أو وكلائها في المنطقة شن هجمات على القوات والمصالح الأميركية ومصالح حلفائها، ووصفها وزير الخارجية مايك بومبيو بـ “الوشيكة”[12]، أمرت وزارة الدفاع الأميركية بإرسال حاملة الطائرة الأميركية “يو إس إس إبراهام لنكولن” إلى المنطقة مع عدد من المدمرات التابعة لها. وأوضح بيان أصدره مستشار الأمن القومي جون بولتون في 5 أيار/ مايو 2019، أن الهدف “إرسال رسالة واضحة لا لبس فيها إلى النظام الإيراني، بأن أي هجوم على المصالح الأميركية أو مصالح حلفائنا سيتم التعامل معه بقوة لا هوادة فيها”. وأضاف: “لا تريد الولايات المتحدة حربًا مع إيران، ولكننا على أهبة الاستعداد للتصدي لأي هجوم، يشنّه وكلاء، أو الحرس الثوري الإسلامي، أو القوات الإيرانية التقليدية”[13]. وقد عبرت مجموعة لنكولن قناة السويس في 9 أيار/ مايو 2019 في اتجاه مضيق هرمز. وفي اليوم ذاته، وصلت أربع قاذفات من طراز B-52 إلى قاعدة العديد في قطر[14]. كما حطت قاذفات أخرى من الطراز نفسه في قاعدة أخرى بالمنطقة، يرجح أن تكون قاعدة الظفرة في الإمارات[15].

وفي 10 أيار/ مايو 2019، أعلنت وزارة الدفاع الأميركية موافقة وزير الدفاع بالوكالة باتريك شاناهان على إرسال السفينة الحربية “يو إس إس أرلينغتون” إلى المنطقة، فضلًا عن بطارية صواريخ باتريوت استجابة لـ “استعداد إيراني متزايد للقيام بعمليات هجومية”[16]. واعتبر مسؤول أميركي أن هذه التعزيزات “دفاعية بطبيعتها… توفر لنا خيارات في حال فشل الردع واحتجنا إلى رد”[17]. وقد صممت سفينة أرلينغتون لنقل قوات مشاة البحرية الأميركية (المارينز)، كما أنها تحمل عربات برمائية ومعدات ومروحيات قتالية. أما بطارية صواريخ باتريوت على متنها، فإنها منظومة صواريخ دفاعية اعتراضية ضد الطائرات الحربية، والطائرات دون طيار، فضلًا عن صواريخ كروز والصواريخ الباليستية التكتيكية. وكانت وزارة الدفاع الأميركية قررت، أواخر أيلول/ سبتمبر 2018، نقل أربعة أنظمة باتريوت من الشرق الأوسط إلى مناطق أخرى، في إطار ما وصفته بـ “إعادة التوازن” لمواجهة التهديدات المتزايدة من روسيا والصين[18]، قبل أن تعيد واحدة منها في أيار/ مايو 2019 بسبب التصعيد مع إيران. وشدد شاناهان على أن أي هجوم إيراني على الولايات المتحدة أو مصالحها “سيقابل برد مناسب”[19].

ورغم التعزيزات العسكرية الأميركية في المنطقة، فإنها تبقى صغيرة نسبيًّا، وتكفي لإرسال رسالة ردع بالدرجة الأولى[20]. وبحسب تحليل قدمته وكالات استخباراتية أميركية، فإن النظام الإيراني، الذي يعاني تراجعًا في شعبيته داخليًّا بسبب وطأة العقوبات الاقتصادية، يسعى إلى استدراج الولايات المتحدة إلى هجوم عسكري محدود، لا إلى حرب مفتوحة، لرفع شعبيته داخليًّا، وتعزيز موقفه الإستراتيجي خارجيًّا[21]. ويُعدّ هذا التحليل مناقضًا لتحليل أميركي آخر صدر قبل أسابيع قليلة، مفاده أن طهران ستحاول تحمل العقوبات الأميركية والمناورة حولها على مدى العشرين شهرًا المقبلة، على أمل أن يخسر ترامب في الانتخابات المقبلة في تشرين الثاني/ نوفمبر 2020، والتعامل مع رئيس جديد عام 2021. لكن، وفقًا للتحليل ذاته، فإن حجم وطأة العقوبات التي فرضتها إدارة ترامب قد يكون دفع الإيرانيين إلى تغيير إستراتيجيتهم الآن والتركيز على محاولة استفزاز عمل عسكري أميركي محدود، وذلك عبر تهديد المصالح الأميركية، ومصالح حلفائها في المنطقة، بما يشمل التهديد بإغلاق مضيق هرمز الذي يمر منه نحو ثلث الخام المنقول بحرًا في العالم، أو عبر استهداف السفن التجارية، بما في ذلك ناقلات النفط، أو السفن العسكرية الأميركية في البحر الأحمر أو مضيق باب المندب أو الخليج العربي[22].

تأثير العقوبات في إيران

تشير العديد من التقارير إلى أن العقوبات الأميركية كان لها تأثير بالغ في الاقتصاد الإيراني. فمن ناحية، فقدت العملة الإيرانية أكثر من 60 في المئة من قيمتها مقابل الدولار في السنة الماضية، في حين يتوقع أن تصل نسبة التضخم إلى 40 في المئة عام 2019. وبحسب صندوق النقد الدولي، فإن الاقتصاد الإيراني انكمش بنسبة 3.9 في المئة عام 2018، وتوقع أن ينكمش إلى 6 في المئة عام 2019[23]. ومن المهم الإشارة هنا إلى أن هذا التقدير صدر قبل أن تدخل عقوبات النفط حيز التنفيذ مطلع أيار/ مايو 2019، وقبل العقوبات الأميركية اللاحقة على قطاع التعدين الصناعي الإيراني.

ومما يضاعف الصعوبات التي تواجهها إيران أن الاتحاد الأوروبي لا يزال عاجزًا إلى اليوم عن تفعيل آلية حماية الشركات الأوروبية التي تتعامل مع إيران ضد العقوبات الأميركية؛ وهو ما حدا بروحاني إلى إصدار تهديد للاتحاد الأوروبي. وتخشى الشركات الأوروبية من العقوبات الأميركية؛ ذلك أن حجم استثماراتها وتعاملاتها كبير جدًّا في الولايات المتحدة مقارنةً بالسوق الإيرانية[24].

المشكلة الأكبر التي تواجهها طهران تتمثّل في تراجع صادراتها من النفط، وهو ما سيعني شلل اقتصادها كليًّا. وبحسب تقرير لموقع بلومبيرغ الأميركي، فإن أيًا من ناقلات النفط الإيرانية لم تغادر الموانئ المحلية في الأيام التسعة الأولى من أيار/ مايو 2019، في حين أن تلك التي هي في خارج المياه الإقليمية الإيرانية غادرت قبل إلغاء واشنطن الإعفاءات مطلع أيار/ مايو 2019[25]. وفي إشارة إلى حجم التحديات التي تواجهها إيران أشار تقرير لوكالة رويترز، في 10 أيار/ مايو 2019، أن أكبر شركتي نفط مملوكتين للحكومة الصينية، قررتا عدم استيراد أي نفط إيراني خشية العقوبات الأميركية[26]. كما تشير تقارير اقتصادية أخرى إلى أن صادرات ألمانيا، أكبر الاقتصادات الأوروبية، لإيران، تراجعت منذ مطلع هذا العام بنسبة 52.6 في المئة، بينما انخفضت الواردات الألمانية من إيران بنسبة 42.2 في المئة[27].

ويلخص المسؤول عن الملف الإيراني في إدارة ترامب براين هوك ذلك كله بالقول: إن المشكلات الاقتصادية للنظام الإيراني ستزداد سوءًا ما دام “يتصرف كنظام مارق”. مضيفًا: “نحن نحرم إيران من القدرة على تمويل وكلائها”[28].

تباينات إدارة ترامب حول إيران

تشير العديد من المعطيات إلى أن ثمة تيارين داخل الإدارة الأميركية، الأول، وعلى رأسه ترامب، يرى في الضغوط الاقتصادية والسياسية والعسكرية على إيران ورقة لإرغامها على إعادة التفاوض على برنامجها النووي، خصوصًا أن ترامب هو من ألغى اتفاق عام 2015، الذي يعتبره اتفاقًا سيّئًا. ويجد ترامب نفسه مضطرًا إلى أن يثبت الآن أنه قادر على إنجاز اتفاق أفضل من ذلك الذي أنجزه سلفه باراك أوباما، أو أنه سيتحمل تبعات استئناف إيران برنامجها النووي. أما التيار الثاني، فهو تيار متشدد، يقوده بالدرجة الأولى بولتون ويدعمه إلى حد كبير بومبيو. ويريد هذا التيار استسلامًا إيرانيًّا كاملًا للشروط الأميركية، في حين يتهمه خصومه من داخل الإدارة بأن هدفه الحقيقي هو استفزاز إيران[29] للرد عسكريًّا على الجهود الأميركية لمحاصرتها اقتصاديًّا وعسكريًّا، ومن ثمّ إشعال فتيل مواجهة حربية واسعة تفضي إلى تغيير النظام في طهران. وبحسب المعلومات التي تسربت من داخل الإدارة، فإن بولتون وبومبيو يستغلان عدم وجود وزير دفاع إلى اليوم، في حين أن القائم بأعمال وزير الدفاع شاناهان يفتقر إلى الخبرة في الشؤون الخارجية. ووفقًا للمعطيات المتوافرة ذاتها، فإن المؤسسة العسكرية، ومسؤولي الدفاع، والخبراء في وزارة الخارجية ومجلس الأمن القومي، لا يؤيدون الخيار العسكري.

على صعيد التيار الأول، كان ترامب واضحًا في حديثه بأنه لا يحبذ الخيار العسكري، من دون أن يستبعده، ولكنه يريد من الإيرانيين أن يتصلوا به، وحينها “يمكن أن نتوصل إلى اتفاق عادل.. (فنحن) لا نريد إيذاء إيران”[30]. وفعلًا، فقد طلب البيت الأبيض من سويسرا التي تمثل المصالح الأميركية في طهران إعطاء المسؤولين الإيرانيين رقم هاتف في حالة رغبتهم في التواصل مع الرئيس[31]، وهو الأمر الذي رفضه الإيرانيون فورًا. ولا يخفي ترامب معارضته للتدخل العسكري الأميركي خارجيًّا، كما أنه يعمل على إعادة الجنود الأميركيين من الخارج، مثل قراره في كانون الأول/ ديسمبر 2018، حول سحب القوات الأميركية من سورية، وهو ما أثار عاصفة سياسية، حينها، في واشنطن، وهو يحاول الآن التوصل إلى اتفاق مع حركة طالبان للانسحاب من أفغانستان.

أما التيار الثاني – الذي لا ينكر ترامب نفسه وجوده داخل إدارته حين قال إنه “يكبح جماح” عدوانية بولتون[32] – فإنه يبحث عن أي ذريعة لافتعال صدام عسكري مع إيران. فبولتون لا يتردد في استخدام موقعه بصفته مستشارًا للأمن القومي، لمطالبة وزارة الدفاع بإعداد خطط عسكرية لحرب محتملة مع إيران. وقد أشارت صحيفة نيويورك تايمز إلى أن شاناهان قدم خطة عسكرية في 9 أيار/ مايو 2019، في اجتماع لمجلس الأمن القومي، تنص على إرسال 120 ألف جندي أميركي إلى الشرق الأوسط في حال أقدمت إيران على مهاجمة القوات الأميركية أو استأنفت برنامجها النووي[33]. ومع أن هذه القوات لا تعد كافية لاجتياح بري لإيران، فإنها تشير بوضوح إلى احتمال وقوع صراع عسكري كبير، قد يتوسع فيما بعد. وتشير المعلومات المتوافرة إلى أن بولتون صمم اجتماعات مجلس الأمن القومي بطريقة تضعف أصوات المعارضين للتصعيد العسكري مع إيران[34]. ورغم قلق المؤسسة العسكرية من خططه، وحديث ترامب عن أنه هو من يقرر في المحصلة، بعد أن يسمع جميع الآراء، فإن ثمة قلقًا من تأثير بولتون الكبير في ترامب، خصوصًا أن بولتون يتمتع بعلاقة عمل مفتوحة مع الرئيس[35]. وتزداد المخاوف من أن تتورط إدارة ترامب في معركة، قد لا يحبذها الرئيس نفسه، ذلك أنه لا توجد شخصيات قوية في إدارة ترامب توازي تيار بولتون – بومبيو، بعد أن تخلص ترامب من هؤلاء، مثل وزير الخارجية السابق المقال ريكس تليرسون، ووزير الدفاع المستقيل جيمس ماتيس، ورئيس طاقم موظفي البيت الأبيض الجنرال جون كيلي.

ولعل في تصريحات ترامب المتشددة تجاه طهران، في 13 أيار/ مايو 2019، ما يؤكد هواجس المتحفظين على أي عمل عسكري ضد إيران والقلقين من تأثير بولتون فيه. وكان ترامب قد حذر إيران من الإقدام على أي تحرك ضد الولايات المتحدة وقواتها ومصالحها في المنطقة، واعتبر أن ذلك سيكون خطأً فادحًا.

خلاصة

يحذر العديد من الخبراء أنه في وقت قد تكون الولايات المتحدة وإيران لا تريدان حربًا واسعة بينهما، فإن هذه الحرب قد تقع من جراء خطأ في الحسابات من أحد الطرفين أو كليهما، وذلك مع افتراض تحجيم تيار الحرب في الإدارة الأميركية. ويرى هؤلاء، أن إدارة ترامب تبالغ في قدرتها على تغيير سلوك إيران، ومن ثمّ فإنها قد تضغط أكثر فأكثر عليها من دون ربط ذلك بأهداف واقعية، أو عبر فتح قنوات اتصال دبلوماسية معها، وهو ما قد ينتج عنه صدام عسكري في المحصلة[36]، فضلًا عن خروج إيران من الاتفاق النووي رسمًّيا وعمليًّا. ويرى هؤلاء، أنه حتى العقوبات الاقتصادية القاسية ليست في وسعها تغيير السلوك الإيراني وإرغام طهران على التفاوض من موقع المهزوم. ويشيرون في هذا الصدد إلى أن تغيير النظام عبر ثورة شعبية مستبعد، كما أن تخلي إيران عن سياساتها التوسعية في المنطقة بسبب الحصار الاقتصادي أيضًا أمر مستبعد؛ ذلك أن عمليات التمويل والتسليح لحلفائها لم تتوقف حتى في الأعوام التي شهدت حصارًا اقتصاديًّا خانقًا عليها، كما كان عليه الأمر خلال الفترة 2011-2015[37]. بل إن ثمة من الخبراء من يرى أن إيران قد تنجح في توظيف العقوبات الاقتصادية المفروضة عليها لخلق أزمة دولية عبر ارتفاع أسعار النفط، ومن ثمّ الضغط على واشنطن، خصوصًا إذا ما شنت إيران هجمات سرية في الممرات المائية النفطية أو بالقرب منها[38]. ولعل الهجوم الغامض على أربع ناقلات نفط في المياه الإقليمية للإمارات، صباح 13 أيار/ مايو 2019، وتأكيد مسؤول أميركي، أن التحقيقات الأولية تشير إلى أصابع إيران أو وكلائها، يعضد مخاوف القائلين بأن إيران قد تسعى إلى خلق أزمة أسعار نفط، أو دفع الولايات المتحدة إلى القيام بعمل عسكري محدود ضدها لتغيير قواعد اللعبة[39]، من دون استبعاد، طبعًا، أن تكون أصابع أخرى قريبة من الولايات المتحدة، أو التيار المتشدد فيها، وراء العملية. وكما يقول أحد الخبراء: “نحن أقرب إلى الحرب مع إيران الآن مما كنا عليه في أي وقت منذ صيف عام 2010″؛ و”أي شرارة في المنطقة يمكن أن تشعل النار”[40].

[1] United States of America, The White House, “Remarks by President Trump on the Joint Comprehensive Plan of Action,” 8/5/2018, accessed on 16/5/2019, at: http://bit.ly/2HqUlP9

[2] “حقائق-كيف سيعيد ترامب فرض العقوبات على إيران بعد الانسحاب من الاتفاق النووي”، رويترز، 9/5/2018، شوهد في 16/5/2019، في: http://bit.ly/2VGksvr

[3] United States of America, The White House, “Statement from the President on the Designation of the Islamic Revolutionary Guard Corps as a Foreign Terrorist Organization,” 8/4/2019, accessed on 16/5/2019, at: http://bit.ly/2W7l38U

[4] United States of America, The White House, “Statement from the National Security Advisor Ambassador John Bolton,” 5/5/2019, accessed on 16/5/2019, at: http://bit.ly/2LKIktt

[5] Tucker Reals, “As B-52 Bombers Arrive in Region, Defiant Iran Says U.S. ‘will not dare’ Attack,” CBS News, 10/5/2019, accessed on 16/5/2019, at: https://cbsn.ws/2Hpekhi

[6]Barbara Starr & Ryan Browne, “US deploying more Patriot Missiles to Middle East, Amid Iranian Threats,” CNN, 10/5/2019, accessed on 16/5/2019, at: https://cnn.it/2EdB1UL

[7] Nicole Gaouette & Kevin Liptak, “Trump Tells Iran ‘Call me,’ Playing Good Cop to Bolton’s Enforcer,” CNN, 11/5/2019, accessed on 16/5/2019, at: https://cnn.it/2Q86g8q

[8] Julian E. Barnes & Eric Schmitt, “Pentagon Builds Deterrent Force Against Possible Iranian Attack,” The New York Times, 10/5/2019, accessed on 16/5/2019, at: https://nyti.ms/2w3fcmC

[9] “EU Rejects Iran Nuclear Deal ‘Ultimatum’, Regrets US Sanctions,” Aljazeera, 9/5/2019, accessed on 16/5/2019, at:

http://bit.ly/30oGXUo

[10] United States of America, The White House, “President Donald J. Trump Is Cutting Off Funds the Iranian Regime Uses to Support Its Destructive Activities Around the World,” 8/5/2019, accessed on 16/5/2019, at: http://bit.ly/2YsxHg8

[11] Ibid.

[12] Barnes & Schmitt.

[13] United States of America, The White House, “Statement from the National Security Advisor Ambassador John Bolton.”

[14] Elizabeth Mclaughlin & Luis Martinez, “Pentagon Deploying Patriot Anti-missile Battery to Middle East to Further Deter Iranian Threat,” ABC News, 10/5/2019, accessed on 16/5/2019, at: https://abcn.ws/2w1YqEk

[15] “أميركا تحشد بالخليج وأنباء عن تحريك إيران صواريخ بالستية”، الجزيرة نت، 11/5/2019، شوهد في 16/5/2019، في:

http://bit.ly/2JJcjPG

[16] Amanda Macias, “The US is Sending Another Warship and More Missiles to the Middle East Amid Iran Tensions,” CNBC, 10/5/2019, accessed on 16/5/2019, at: https://cnb.cx/2JHEkHl

[17] Starr & Browne.

[18] McLaughlin & Martinez.

[19] Ibid.

[20] Barnes & Schmitt.

[21] Ibid.

[22] Reals.

[23] Michael Lipin & Guita Aryan, “Iran Sees Oil Exports Falter, Trade Slump with Germany, US,” VOA News, 11/5/2019, accessed on 16/5/2019, at: http://bit.ly/2HmtDsk

[24]James McAuley & Karen DeYoung, “Europeans Scramble to Save Iran Nuclear Deal but Face New Concerns Over U.S. Sanctions,” The Washington Post, 9/5/2019, accessed on 16/5/2019, at: https://wapo.st/2WK5tgw

[25] Julian Lee, “Iranian Crude Shipments Slump as U.S. Oil Sanctions Bite Deeper,” Bloomberg, 9/5/2019, accessed on 16/5/2019, at: https://bloom.bg/2W4hD6L

[26] Chen Aizhu & Florence Tan, “Sinopec, CNPC Skip Iran Oil Purchases for May to Avoid U.S. Sanctions,” Reuters, 10/5/2019, accessed on 16/5/2019, at: https://reut.rs/2Wa3PaU

[27] Lipin & Aryan.

[28] Ibid.

[29] Shirley Tay, “US Sanctions on Iran Are ‘Deliberately Provocative,’ Expert Says,” CNBC, 11/5/2019, accessed on 16/5/2019, at: https://cnb.cx/2W4hW1p

[30] Gaouette & Liptak.

[31] Ibid.

[32] Jordyn Hermani, “Trump: I ‘Temper’ Bolton’s Hawkish Instincts,” Politico, 9/5/2019, accessed on 16/5/2019, at:

https://politi.co/2WNMAJF

[33] Eric Schmitt & Julian E. Barnes, “White House Reviews Military Plans Against Iran, in Echoes of Iraq War,” The New York Times, 13/5/2019, accessed on 16/5/2019, at: https://nyti.ms/2LNdgt7

[34] Dan Spinelli, “Trump Is Getting Dangerously Close to War with Iran,” Mother Jones, 10/5/2019, accessed on 16/5/2019, at: http://bit.ly/2LNdyjH

[35] Gaouette & Liptak.

[36] Stephen Collinson, “Trump Heats up Yet Another Global Crisis by Escalating China Trade War,” CNN, 10/5/2019, accessed on 16/5/2019, at: https://cnn.it/2VEMSpV

[37] Zaheena Rasheed, “’Dangerous Game’: US, Europe and the ‘Betrayal’ of Iran,” Aljazeera, 10/5/2019, accessed on 16/5/2019, at: http://bit.ly/2YBZ0Fb

[38] Barnes & Schmitt.

[39] Lolita C. Baldor, “Official: Initial US Assessment Blames Iran for Ship Attacks,” WHSV, 13/5/2019, accessed on 16/5/2019, at: http://bit.ly/2JmVVFb

[40] Spinelli.

إيران: في مواجهة بيئة استراتيجية جديدة

عادت إيران لتحتل موقعًا بارزًا في خارطة الإقليم المشرقي السياسية وعلى جدول الاهتمام بتطورات أوضاع الشرق الأوسط وأطراف تحولاته الاستراتيجية. لم تكن إيران قد غابت عن تدافعات المنطقة ومقدراتها، بالتأكيد، ولكنها لم تُعتبر، طوال حضورها الفعال خلال العقدين الماضين، هدفًا ملحًّا للقوى الدولية ولا حتى للمنافسين الإقليميين، بالرغم من أنها عانت من حصار وعقوبات أميركية ودولية منذ إعلان الجمهورية الإسلامية. بل يمكن القول: إن إيران كانت القوة الإقليمية التي أفادت، بصورة مباشرة أو غير مباشرة، وربما بدون قصد أو تخطيط، من مجمل التحولات التي عاشتها المنطقة منذ أحداث سبتمبر/أيلول 2001.

أفادت الجمهورية الإسلامية من قيام إدارة بوش الابن بالإطاحة بنظام طالبان في أفغانستان في خريف 2001، الذي كان قد تبنى سياسات معادية لإيران، وصلت حدًّا طائفيًّا. وأفادت من الغزو الأنجلو-أميركي للعراق وإطاحة نظام صدام حسين، لتصبح صاحب النفوذ الأكبر والأوسع نطاقًا في العراق، الدولة العربية الرئيسة. وساعدت حروب إسرائيل المتتابعة على لبنان وقطاع غزة، والسياسة الأميركية قصيرة النظر في تأييد الحروب الإسرائيلية، في تعزيز نفوذ إيران في لبنان، باعتبارها الداعم الرئيس لحزب الله، القوة المسلحة الوحيدة والأكبر داخل لبنان، وفي تعزيز علاقاتها بحركة حماس، التي تسيطر على قطاع غزة، وشركاء حماس الأصغر في ساحة المقاومة الفلسطينية.

عندما اندلعت حركة الثورة والتغيير في الساحة العربية، في أواخر 2010، بدا أن النموذج الإيراني يواجه تحديًا غير متوقع، بعد أن رفعت الجماهير العربية في دول، مثل: تونس ومصر وليبيا وسوريا واليمن، شعارات الديمقراطية والتعددية، كما تجنبت العنف المجتمعي ورفضت دعاة السيطرة الأحادية والديكتاتورية الأيديولوجية. ولكن تعثر عملية التغيير الديمقراطي في دول الثورة العربية، وتبني الولايات المتحدة ودول الثورة المضادة في الخليج سياسةَ عدم اكتراث بعملية التغيير، أو موقفًا مناهضًا من قوى التحول الديمقراطي، أتاح لإيران استغلال المناخ الاستراتيجي الإقليمي في سنوات ما بعد 2013 لصالحها.

شجَّعت إيران نظام الأسد على مواجهة شعبه بقوة السلاح، وعندما عجز النظام عن إخماد الثورة السورية، تقدمت إيران، بصورة مباشرة، وباستخدام الحلفاء في الميليشيات الشيعية المختلفة، لتقديم العون للنظام وإقامة وجود عسكري واقتصادي عميق الجذور في كافة أنحاء سوريا. وقد أسهم التفاهم الإيراني-الروسي في خريف 2015، الذي أدخل الروس بصورة مباشرة في الحرب السورية الأهلية، في تعزيز العلاقات التحالفية بين موسكو وطهران.

شجَّعت إيران حكومة المالكي على قمع الاعتصامات الشعبية في مدن الأغلبية السنية العراقية في 2013. وعندما انهارت قوات المالكي أمام تنظيم الدولة في صيف 2014، اتخذت طهرات قرارًا براغماتيًّا بالتخلص من المالكي والتعاون، طوال السنوات التالية، مع القوات الأميركية لإيقاع الهزيمة بتنظيم الدولة ووضع نهاية لسيطرته في شمال وغرب العراق. وعندما تأكدت القيادة الإيرانية من توجه إدارة أوباما للتفاوض حول الملف النووي، فاوضت إيران الولايات المتحدة للتوصل إلى اتفاق 5 1 الشهير، الذي فتح الطريق لوضع نهاية لعزلة إيران الدولية والتخلص من معظم العقوبات الأميركية والدولية التي فُرضت عليها في العقود السابقة.

في اليمن، أفسحت سياسات السعودية المعادية لعملية التحول الديمقراطي المجال للحوثيين، حلفاء إيران المقربين، لتحقيق انقلاب على الحكم الانتقالي في خريف 2014، ومن ثم فرض السيطرة على العاصمة ومعظم الشمال اليمني. وبالرغم من الحرب التي أعلنتها السعودية، بتعاون إماراتي، على الحوثيين في ربيع 2015، لم يزل الحوثيون محافظين على مواقعهم، بل وتحولوا، بمساعدة إيرانية تقنية، إلى مصدر تهديد لأمن السعودية الداخلي. وقد باتت الحرب في اليمن، مهما كانت زاوية النظر إلى مجرياتها، مصدر استنزاف مرير، مالي وعسكري، للسعودية، خصم إيران الإقليمي.

على خلفية من هذا التمدد الاستراتيجي، لم يكن غريبًا أن تأخذ الحماسة مسؤولًا ثانويًّا في طهران للقول بأن إيران باتت تسيطر على أربع عواصم عربية. وحتى عملية حصار قطر، التي تعهدها الثلاثي السعودي-الإماراتي-البحريني، والتي حسبت الدول الثلاث أنها ستظل مسألة خليجية بحتة، لم تلبث أن تحولت إلى شأن إقليمي لم يخل من فائدة لإيران. معارضة إيران لحصار قطر، وفتحها أجواءها للطيران القطري، وقلق الكويت وعُمان من النزعة العدوانية السعودية، عملت على توليد مناخ من الود بين طهران من جهة، والدوحة والكويت ومسقط، من جهة أخرى.

اليوم، يبدو أن إيران تواجه مناخًا استراتيجيًّا جديدًا في الإقليم، وعلى صعيد علاقاتها الدولية. ليس لأن خصومها الإقليميين، مثل: السعودية والإمارات، باتوا في وضع أفضل، بل لأن ثمة مؤشرات متزايدة على أن التوسع الإيراني الإقليمي تجاوز حدود القوة الذاتية الإيرانية، للتعارض بين أهداف طهران وأهداف موسكو في سوريا، من جهة، ولأن قرار إدارة ترامب، من جهة أخرى، الانسحابَ من الاتفاق النووي، وربما بصورة غير محسوبة تمامًا، فتح الباب لأزمة متفاقمة في الخليج، تقف إيران في المركز منها.

أزمة في الخليج وجواره

تُوجِّه الولايات المتحدة، بتأييد من عدد من الدول الأوروبية الغربية، الاتهامَ لإيران بتنفيذ هجمات على أربع سفن بينها ناقلتان سعوديتان قرب ميناء الفجيرة، في 13 مايو/أيار الماضي (2019)، والهجمات على ناقلتين تعود ملكية إحداهما لشركة نرويجية والأخرى لشركة يابانية في خليج عُمان في 13 يونيو/حزيران الحالي. استُخدمت في كلتا المناسبتين وسائل تفجير معقدة، يُستبعد أن تمتلكها أو تستطيع التحكم بها جماعات إرهابية. ويقول الأميركيون إن لديهم أدلة استخباراتية لا يتطرق إليها الشك، تشير إلى مسؤولية الإيرانيين عن الهجمات في الحادثتين، فيما تنفي طهران مسؤوليتها، بينما تطالب دول أخرى بينها روسيا بمزيد التحري قبل تحميل المسؤولية لإيران.

قد تبدو إيران مستفيدًا رئيسيًّا في الحادثتين، اللتين تحملان رسائل تهديد لخصوم إيران الإقليميين وللسوق العالمية والقوى الدولية، أكثر منها محاولة لتعطيل الملاحة في الخليج أو إشعال الحرب. ولكن، أيًّا كان الطرف الذي يدفع المنطقة إلى حافة الهاوية، فإن هذا الوضع قد يخدم مساعي طهران الحثيثة للتخلص من مأزق الحصار والعقوبات الهائلة، التي فرضتها إدارة ترامب على إيران، وعلى كافة الشركات والدول التي يمكن أن تتعامل معها اقتصاديًّا وتجاريًّا وماليًّا. وهنا، تقع عقدة التوتر المتفاقم في الخليج، وأسس الأزمة التي تلقي بثقلها على مياهه وعلى الدول المحيطة بساحليه.

ملتزمًا بنهج تنفيذ وعوده الانتخابية، أعلن ترامب، في مايو/أيار 2018، انسحاب الولايات المتحدة من اتفاق 5 1 النووي، الذي توصلت إليه إدارة أوباما مع إيران، في صيف 2015، ووافقت عليه الدول الأعضاء الدائمة الأخرى في مجلس الأمن، إضافة لألمانيا. حينها رأى البعض أن إلغاء ترامب التزام الولايات المتحدة بالاتفاق تقرَّر لإرضاء حلفاء واشنطن في الشرق الأوسط، سيما السعودية وإسرائيل. ولكن المؤكد أن دوافع ترامب كانت أميركية بحتة، ليس فقط لأنه سبق وأعلن نيته الانسحاب من الاتفاق خلال حملته الانتخابية، بل أيضًا لأن الساحة السياسية الأميركية كانت قد انقسمت حول الاتفاق من البداية وبمجرد الإعلان عنه، وهو ما أدى لإخفاق إدارة أوباما في الحصول على تصديق الكونغرس عليه.

ما دفع إليه حلفاء أميركا شرق-الأوسطيين، ربما، كان حثَّ إدارة ترامب على توسيع نطاق الشروط التي وضعتها لبدء التفاوض من جديد مع إيران. ففي حين فصلت إدارة أوباما بين الملف النووي ومسائل الخلاف الأميركي-الإيراني الأخرى عندما بدأ التفاوض في 2014، الذي انتهى باتفاق صيف 2015، تربط إدارة ترامب بين الدعوة لإعادة التفاوض على اتفاق جديد وعدد من المسائل الأخرى، بما في ذلك برنامج الصواريخ الإيرانية، والنشاط الإيراني الإقليمي، وموقف طهران من المسألة الفلسطينية وعلاقاتها بقوى فلسطينية وغير فلسطينية مسلحة في الشرق الأوسط.

خلال فترة قصيرة من خروج الولايات المتحدة من الاتفاق النووي، بدأت إدارة ترامب في فرض عقوبات جديدة على إيران، ليس فقط إعادة تلك التي كانت إدارة أوباما قد فرضتها، ولكن أيضًا سلسلة من العقوبات بالغة القسوة الأخرى، التي وصلت ذروتها في مايو/أيار الماضي. تطول العقوبات الأميركية صناعة وتصدير النفط الإيراني، ومعظم النشاطات الاقتصادية والمالية الأخرى، كما تتضمن وضع الحرس الثوري الإيراني وعدد من قياداته والشركات وثيقة الصلة به على قائمة الإرهاب. ولأن هذه عقوبات أميركية، وليست دولية، فقد زرعت إدارة ترامب لمنظومة العقوبات أسنانًا حادة عندما أعلنت أنها ستعمل على فرض عقوبات ثانوية على الدول والشركات، التي تخترق العقوبات، سيما تلك التي تحتفظ بصلات بالسوق الأميركية.

خروج النفط الإيراني، أو معظمه، من السوق، كان يعني ارتفاعًا حادًّا لأسعار مصادر الطاقة، في وقت يعاني فيه الاقتصاد العالمي من ركود نسبي، لأسباب تتعلق بتوترات أوروبية مختلفة، والحرب الاقتصادية الأميركية-الصينية. ولكن السعودية، المنتِج والمصدِّر الأكبر للنفط في العالم، أعلنت تأييدها للموقف الأميركي من إيران ووعدت بتعويض النقص الناجم عن تراجع الصادرات الإيرانية. وهذا ما حدث بالفعل؛ إذ لم تحافظ أسعار النفط على مستوياتها منذ مايو/أيار 2019، بل إنها تراجعت قليلًا. ولم تتعرض الأسعار للارتفاع الطفيف، والذي يبدو أنه سيكون مؤقتًا، إلا بعد هجمات خليج عمان في 13 يونيو/حزيران الحالي (2019).

ليس ثمة شك في أن ترامب لا يريد حربًا مع إيران، ولا حتى صدامًا عسكريًّا محدودًا. فقد قامت حسابات ترامب على أن العقوبات ستترك أثرًا مدمرًا على الاقتصاد الإيراني، الذي لم يكن قد تعافى بعدُ عندما وُقِّع اتفاق 2015، وأن العقوبات وحدها كفيلة بتركيع إيران والإتيان بها إلى طاولة التفاوض من جديد. ولكن خطوة إلغاء الالتزام الأميركي بالاتفاق، والشروط التي أعلنتها واشنطن للتفاوض، اعتُبرت مهينة في طهران. ويعتقد قادة النظام أن القبول بها سيصنع شرخًا عميقًا في رؤية النظام الإيراني لنفسه، في وضعه الإقليمي، وفي مركب علاقات السيطرة والسيادة التي تربطه بشعبه. فكيف إذن ستخرج إيران من المأزق، مأزق العقوبات التي بدأت في تقويض الوضع الاقتصادي-المالي الإيراني، من جهة، وصعوبة القبول بشروط التفاوض من جديد، من جهة أخرى؟

نظرت طهران بإيجابية لإعلان دول الاتحاد الأوروبي، التي رفضت الانسحاب الأميركي المنفرد من الاتفاق النووي، العملَ على وضع نظام جديد للعلاقات الاقتصادية-المالية مع إيران. ولكن أوروبا لم تتقدم بعد أية خطوات فعلية في إقامة المنظومة البديلة، بل إن هناك شكًّا في إمكانية إيجاد مثل تلك المنظومة. كما أن الأوروبيين أعربوا عن معارضة واضحة لإعلان طهران رفع مستوى تخصيب اليورانيوم إلى مستوى وقود المفاعلات (وليس السلاح النووي)، الذي بدأته إيران بالفعل كوسيلة أخرى للضغط على القوى الدولية المعنية بالحفاظ على اتفاق 2015. ولأن كلتا الخطوتين لا تكفيان لفتح نافذة في جدار الأزمة، تُحمِّل الولايات المتحدة وحلفاؤها في المنطقة إيران مسؤولية التعرض غير المعلن لحركة الملاحة في الخليج.

يقول الأميركيون إنهم رصدوا مؤشرات على تصعيد إيراني في الخليج؛ ما دفعهم إلى حشد عسكري ملموس في المنطقة، وهو ما يُعرف في العسكرية الأميركية بمجموعة حاملة للطائرات كاملة، بما في ذلك سفينة لتقديم الخدمات الصحية العاجلة، إضافة إلى سربين من القاذفات الاستراتيجية. ثم جاءت تفجيرات الفجيرة لتقدم مبررًا إضافيًّا لتعزيز ذلك الحشد. وطبقًا للنيويورك تايمز (15 يونيو/حزيران 2019)، كان هناك اجتماع عالي المستوى، من مسؤولي الدفاع والخارجية، انطلق بالفعل فيما يُعرف في البنتاغون بالتانك، عندما ورد التقرير حول الهجمات في خليج عُمان، لبحث طلب القيادة المركزية، المسؤولة عن العمليات في الخليج والشرق الأوسط، بزيادة عشرين ألفًا من الجنود على القوات المتواجدة في الخليج، لمواجهة التهديدات المحتملة من إيران. في النهاية، ولتجنب الانطباع بأن الولايات المتحدة تستعد لحرب لتغيير النظام في طهران، تمت الموافقة على زيادة تصل إلى ألف فقط من الجنود.

ليس من الواضح أن أيًّا من الوساطات الساعية لخفض التوتر ونزع فتيل الأزمة في الخليج أحرزت تقدمًا، لا تلك التي قام بها العراقيون والقطريون واليابانيون، بطلب أو موافقة أميركية، ولا تلك التي تطوعت بها أطراف أخرى. بمعنى أن أيًّا من الوسطاء لم يعثر بعد على المفتاح السحري لإخراج إيران من مأزق العقوبات وتغيير شروط التفاوض الأميركية المهينة. فالأزمة الآن تمر بلحظة إعادة ضبط الإيقاع لدى كل من إيران والولايات المتحدة. فمن ناحية، لا تستطيع طهران القبول باستمرار العقوبات والحصار طويلًا، وتجد من الضرورة رفع مستوى التوتر إلى أقصاه دون الحرب، لدفع إدارة ترامب إلى تغيير شروط التفاوض. ومن ناحية أخرى، وبعد أن أكدت الإدارة الأميركية على مسؤولية إيران عن هجمات الفجيرة وخليج عُمان، بات عليها الاستعداد لأي مساع إيرانية قد تعطل حركة الملاحة في الخليج، دون أن يتسبب ذلك في حرب معها قد يكون من الصعب تقدير عواقبها ونهايتها.

قلق الوجود في سوريا

عندما دعا الإيرانيون، نيابة عن بشار الأسد، روسيا للتدخل العسكري المباشر في سوريا، لم يأخذوا في الحسبان أن روسيا أكبر من أن تلعب مجرد دور الأداة لحسم الصراع الأهلي على مستقبل الدولة العربية. كان واضحًا من البداية أن ثمة تباينًا بين دوافع كل من إيران وروسيا للتواجد العسكري في سوريا، وأن المسألة مجرد وقت قبل أن يبدأ هذا التباين في التجلي على مستوى الحسابات السياسية وتصور المستقبل السوري.

في 26 أبريل/نيسان الماضي (2019)، قال رئيس هيئة الأركان العامة للقوات الروسية، الجنرال فاليري غيراسيموف: إن دعم موسكو العسكري لنظام الأسد جنَّب “الدولة السورية الانهيار” تحت ضربات الفصائل المسلحة. وأشار إلى أنه لولا الدعم الجوي الروسي لانهار نظام الأسد خلال شهر أو شهر ونصف، عندما كان النظام لا يسيطر على أكثر من 10 بالمئة من الأرض السورية.

تقدير غيراسيموف صحيح، بالفعل. فبالرغم من تورط قوات الحرس الثوري وقوات حزب الله، منذ ما بعد 2012، وتدفق الميليشيات الشيعية المختلفة، التي جندتها إيران، بعد ذلك، في الحرب إلى جانب نظام الأسد، كان النظام وصل إلى حافة الهاوية في صيف ومطلع خريف 2015. ولولا الدخول الروسي المباشر، جوًّا بصورة كبيرة، وبمئات المستشارين العسكريين، على الأرض، لكان مصير سوريا قد اختلف إلى حدٍّ كبير. ولكن السؤال هو: لماذا كان على غيراسيموف أن يقول ما قاله؟ ولماذا الآن، وفي هذا الوقت المتأخر من الحرب الأهلية السورية؟ لا يحتاج غيراسيموف لتذكير بشار الأسد بالدور الروسي، وليس ثمة مؤشر على أن الأسد بدأ انتهاج سياسة مستقلة عن موسكو، على أية حال. الأرجح، أن رئيس هيئة الأركان الروسية أراد تذكير الحليف الإيراني بحقيقة مجريات المسألة السورية، في وقت تصاعد فيه التوتر بين الطرفين الحليفيين في سوريا.

بالرغم من وجود قاعدة بحرية روسية في الساحل السوري، مخصصة لتقديم دعم للأسطول الروسي في المتوسط، إلا أن سوريا لا تمثل ضرورة استراتيجية حيوية لروسيا ما بعد الاتحاد السوفيتي. فسوريا في الحسابات الاستراتيجية الروسية ليست جورجيا ولا أوكرانيا ولا حتى أذربيجان. كما أن بشار الأسد لم يكن بالضرورة حليفًا يُنظر إليه وإلى سياساته بأي قدر من الإعجاب في موسكو. لقد ذهبت روسيا إلى سوريا لأسباب أخرى، تتعلق بانهيار التفاهم الروسي-الأميركي في إدارة أوباما الثانية، والخسائر الفادحة التي أُوقعت بروسيا فيما يُعرف في موسكو بالخارج القريب.

فخروج أوكرانيا من دائرة نفوذ موسكو، بكل ما تعنيه للأمن القومي ولذاكرة الشعب الروسي، وخسارة روسيا النسبية لجورجيا وتوسع نطاق الناتو إلى حافة الحدود الروسية، ونشر الولايات المتحدة لمنظومة الصواريخ المضادة للصواريخ في الجوار الأوروبي والتركي، دفع بوتين للبحث عن أوراق إضافية للعلاقة مع الولايات المتحدة. فجاءت سوريا منحة من السماء لموسكو، التي حسبت في البداية أنها ستدفع الولايات المتحدة للتفاوض حول أوكرانيا، لتعزز من وضع الدولة الروسية في العلاقة مع شعبها، وتعيد وضع روسيا كطرف رئيس على خارطة القوة العالمية. ولكن، وبالرغم من أن الأميركيين لم يكونوا سعداء بالتدخل الروسي في سوريا، فقد نظروا إلى جانبه الإيجابي من جهة المواجهة مع خطر تنظيم الدولة في العراق وسوريا. ولأن سوريا لم تكن أبدًا ضمن دائرة المصالح الاستراتيجية الأميركية، لم تجد واشنطن في الوجود الروسي في سوريا مبررًا للمساومة.

إن دوافع الوجود الإيراني في سوريا مختلفة إلى حد كبير. فمن ناحية، هناك الروابط التاريخية مع نظام أسرة الأسد، وحماية النفوذ الإيراني في لبنان والعراق، والرغبة الإيرانية في جمع أكبر عدد ممكن من الأوراق انتظارًا للحظة التفاوض مع واشنطن، والخشية من وقوع سوريا ضمن دائرتي النفوذ التركي والسعودي، عندما كان يُنظر للرياض وأنقرة باعتبارهما صاحبتي التأثير الأكبر على المعارضة السورية المسلحة وغير المسلحة.

خلال العام الماضي، بدا واضحًا أن ميزان القوى في ساحة الصراع السورية يميل بصورة متزايدة لصالح بقاء نظام الأسد. فالنظام لم يحسم المعركة تمامًا ضد المعارضة، ولا نجح في إيجاد صيغة سياسة لتأسيس شرعية لاستمراره، ولكن سيطرته على الأرض السورية اتسعت ولم يعد وجوده على المحك. وهنا، بدأ التباين في أهداف روسيا وإيران في التبلور الملموس. الوجود الإيراني المسلح في سوريا يُنظر إليه باعتباره مصدر تهديد للأمن الإسرائيلي. وهذا ما دفع الإسرائيليين، الذين تحرص موسكو على إرضائهم، لاستباحة الفضاء السوري، واستهداف مواقع التمركز والتخزين الإيراني. كما أن خروج إيران من سوريا أصبح شرطًا معلنًا لأية مساعدات يمكن أن يقدمها الأميركيون والأوروبيون، كما دول الخليج، لإعادة بناء سوريا (التي تُقدَّر حاجتها بـ 250 مليار دولار على الأقل)، المدمَّرة بصورة هائلة. إضافة إلى ذلك، تعتقد موسكو أن الأزمة السورية لا يمكن أن تنتهي دون توافق سياسي، بينما ترى أن إيران تشجع نظام الأسد على التشدد وعدم الجدية في التفاوض مع قوى المعارضة.

في 27 فبراير/شباط الماضي، وأثناء زيارة لموسكو، قال بنيامين نتنياهو، رئيس الحكومة الإسرائيلية، إنه اتفق مع الرئيس الروسي، بوتين، على تشكيل لجنة لبحث خروج إيران والميليشيات الموالية لها من سوريا. وبالرغم من المفاجأة التي جاء بها تصريح نتنياهو، لم يصدر عن موسكو أي توضيح أو تكذيب لرئيس الحكومة الإسرائيلية. المؤكد، على أية حال، أنه بالرغم من أن الإسرائيليين قاموا بعشرات الغارات على مواقع التمركز الإيراني العسكري في سوريا، فإن منظومة الدفاع الجوي الروسي عن سوريا لم يتم تفعيلها ولو حتى في حادثة واحدة من هذه الغارات؛ بل ثمة اعتقاد بأن الروس يُبلَّغون عادة بصورة رسمية قبل وقت قصير بطبيعة الغارة الإسرائيلية.

خلال أبريل/نيسان الماضي، وردت تقارير تفيد بأن روسيا تعمل على تحجيم دور ماهر الأسد، شقيق الرئيس السوري، نظرًا لعلاقاته الوثيقة مع الإيرانيين. كما اندلعت مواجهات عسكرية فادحة ومكلفة، في أكثر من موقع من سوريا، بين ميليشيات مرتبطة بإيران، وأخرى تدعمها روسيا. وبالرغم من أن إيران تحاول الحصول على امتيازات في صناعة النفط والتعدين السورية، لتعويض خسائرها المالية الهائلة في دعم نظام الأسد، إلا أن رجال المال والأعمال السوريين، سيما السنَّة منهم، بمن في ذلك وثيقو الصلة بأسرة الأسد، يعقدون شراكات مع نظراء روس ويتحدثون بوتيرة عالية النبرة عن ضرورة خروج إيران من سوريا، وإعادة الصلات مع المحيط العربي والخليجي.

من المقرر، في نهاية شهر، يونيو/حزيران 2019، عقد لقاء بين مسؤولي الأمن القومي الروسي والإسرائيلي والأميركي. مثل هذا اللقاء بين الدول الثلاث غير مسبوق، وليس ثمة شأن يشغل الدول الثلاث معًا في هذه المرحلة سوى إيران. وهذا ما دفع كثيرين للتوقع بأن اللقاء يتعلق بوضع إيران في سوريا وكيفية خروجها العسكري من الساحة السورية. الروس ينكرون أن اللقاء سيبحث إخراج إيران من سويا، ولكن الإيرانيين، وعلى اعتبار مؤشرات أخرى في الاتجاه نفسه، قلقون.

في مايو/أيار 2019، حاول الإيرانيون بناء توافق جديد مع تركيا لمواجهة الضغوط الروسية. ولكن أنقرة، التي قطعت خطوات ملموسة في علاقاتها مع موسكو، سواء بسبب الوضع في سوريا أو لأسباب أخرى، ردت بأن طهران تأخرت كثيرًا في عرضها هذا، بعد سنوات من الإعراض عن اقتراحات التوافق الإيراني-التركي في سوريا، التي اقترحتها أنقرة مرارًا. ورغم أن طهران تولي أهمية بالغة لموقف الأسد، وما إن كان سينحاز للعلاقة الاستراتيجية، عميقة الجذور معها، أو أنه بات يرى في الوجود الإيراني عبئًا على نظامه ومستقبله، إلا أنها تمتلك شبكة نفوذ تتجاوز العلاقة مع الأسد. كما أن إيران قادرة على جعل الوجود الروسي مكلفًا في حال تصاعد الخلاف بين الطرفين إلى درجة تهدد مصالح طهران في سوريا.

نهاية مرحلة وبداية أخرى

لا تعني البيئة الاستراتيجية المعادية، الآخذة في التبلور، في مواجهة إيران أن نفوذ الأخيرة الإقليمي سينهار خلال يوم وليلة. القوى التي تنجح في بناء توسع إقليمي بهذا الحجم، سيما القوى متوسطة الحجم مثل إيران، والتي تُحكَم من قِبل نظام أيديولوجي راسخ، لا تخسر استراتيجيًّا بصورة مفاجئة ولا سريعة.

الولايات المتحدة، بالتأكيد، لا تسعى لإشعال حرب مع إيران، كما أن الأخيرة لا تريد حربًا. فكلا الطرفين، ولأسباب تتعلق بالمخاوف من العواقب، يتجنب إشعال الحرب. وقد عاشت الجمهورية الإسلامية مع العقوبات الأميركية والدولية طوال عقود. وليس ثمة ما يشير إلى خشية النظام من اندلاع حركة احتجاجات شعبية واسعة، بل إنه يُظهر ثقة كبيرة في قدرته على التحكم وإخماد أية معارضة داخلية. لم تواجه دولة في الشرق الأوسط، قبل موجة الثورات العربية، احتجاجات بحجم تلك التي شهدتها إيران في 2009، ولكن النظام استطاع مواجهة الاحتجاجات بكفاءة أمنية بالغة.

أما الوضع الإيراني في سوريا، وثيق الصلة بحسابات ونفوذ إيران في لبنان والعراق، فلا يقتصر على الوجود العسكري، بعد أن نجحت طهران في تعزيز وجودها الاقتصادي والثقافي والطائفي، بل وحتى العلاقات مع مؤسسات الدولة السورية. إن اضطرت إيران إلى الخروج العسكري من سوريا، فذلك لا يعني نهاية نفوذها فيها.

هذا كله صحيح، دون شك. ولكن المشكلة أن ابتعاد مخاطر الحرب مع الأميركيين أو السعوديين لا يعني تخلص إيران من العقوبات ثقيلة الوطأة وغير المسبوقة، وأن قدرة النظام على البقاء لا تعني التخلص من الآثار الفادحة للعقوبات على الوضع الاقتصادي-المالي للدولة الإيرانية، التي بدأت بالفعل في الانعكاس على قيمة العملة والسوق الإيرانيين. فتقلص قدرات إيران المالية والاقتصادية سيفضي إلى تقلص قدرات إيران على تعهد مشاريع نفوذ خارجية، وعلى دعم حلفاء حاليين، أو محتملين، في المناطق التي يستهدفها النفوذ الإيراني.

إحدى نتائج العقوبات والحصار يمكن أن تُرى، مثلًا، في طبيعة علاقات إيران بالعراق، حيث كانت إيران السيد الآمر في الساحة السياسية العراقية. اليوم يشعر سياسيون عراقيون بحاجة إيران الملحَّة للعراق الذي يمكن أن يصبح إحدى ساحات الالتفاف على بعض العقوبات، ويرون أن إيران في سياق هذه الأزمة أصبحت عبئًا على بلدهم، وهو ما يعزز موقف القوى الداعية للحفاظ على العراق خارج دائرة الصراع وتجنب الانحياز لأي من طرفي التدافع في المنطقة. كما أن ثمة شكًّا في قدرة إيران على توفير الدعم المالي والاقتصادي لنظام الأسد، الذي كان الشق الآخر (إلى جانب الدعم العسكري) في معادلة خضوع دمشق لطهران.

ومهما كان حجم ونطاق النفوذ الإيراني في سوريا، فإن اضطرت إيران إلى الانسحاب العسكري من البلاد، سيرى كثيرون، بما في ذلك أركان نظام الأسد، أن إيران هُزمت أمام إسرائيل، وأنها أضعف من أن تقاوم الضغوط الروسية. مثل هذا الوضع سيجعل معارضي إيران في نظام الأسد وحوله أعلى صوتًا ويجعل النظام ككل أكثر حرية في قراره، بما في ذلك في دائرة المسائل التي تمس النفوذ الإيراني في سوريا. المشكلة الإضافية، وبالغة الخطر، في التوسع الاستراتيجي الإيراني أنه يقع في مناطق لا يلقى فيها ترحيبًا شعبيًّا، شاملًا أو جزئيًّا، بل يجد مقاومة شعبية في حالات أخرى.

خلال السنوات القليلة الماضية، وصل التوسع الاستراتيجي الإيراني في المحيط الإقليمي إلى مستوى غير مسبوق، مسلحًا بتصميم أيديولوجي ورؤية طَموح للمصالح القومية وروح مبادِرة لالتقاط الفرص التي أتاحتها أخطاء الخصوم الإقليميين والولايات المتحدة. توسَّع النفوذ الإيراني بصورة لم تعرفها الدولة الإيرانية الحديثة منذ تشكلها في أوائل القرن العشرين. وقد تستفيد إيران من خبرتها التاريخية في التمدد الاستراتيجي رغم الحصار والعزلة في تجاوز العقوبات الأميركية المشددة. ولكنها، مع ذلك ليست أول قوة في التاريخ تذهب إلى توسع يفوق طاقتها على الإدارة وتحمُّل التكاليف. وعندما يغيب عن قوة ما إدراك الحد الفاصل بين التوسع الاستراتيجي الضروري، وذلك الذي يتجاوز حدود المقدرات الذاتية، يصبح التراجع حتميًّا.

هل يذهب الخليج إلى الحرب؟/ عروة خليفة

شهدت منطقة الخليج خلال الأسبوع الماضي حادثين عسكريين خطيرين، يمكن أن يكونا نذراً لحرب كبيرة قد تندلع في المنطقة، إذ قامت ميليشيات الحوثيين في اليمن، يوم الأربعاء الماضي 12 حزيران/يونيو، باستهداف مطار أبها السعودي بصاروخ أدى إلى أضرار كبيرة وضحايا بين المسافرين، وفي اليوم التالي تعرضت ناقلتا نفط في مياه خليج عُمان لهجمات، قال مسؤولون أميركيون إنّ إيران تقف وراءها.

وقُبيل هذين الحادثين، كانت الأطراف المعنية بملف العقوبات الأميركية على إيران قد دخلت حالة من الترقب، بانتظار نتائج الوساطة اليابانية التي أتت بطلب من واشنطن، إلّا أن استهداف ناقلتي نفط تنقل إحداهما شحنات مرتبطة باليابان، قبل أن ينهي رئيس الوزراء الياباني زيارته إلى طهران، بدا كما لو أنه رسالة واضحة من القيادة الإيرانية أو دوائر نافذة فيها، تقول إنها تفضل الذهاب إلى حرب قبل أن تفلح العقوبات الأميركية القاسية في زعزعة استقرار حكمها داخلياً.

وكان الأسطول الخامس الأميركي قد أعلن أنه التقط، صباح الخميس 13حزيران/يونيو، نداء استغاثة من ناقلتي نفط في منطقة خليج عُمان، في وقت أعلنت فيه الشركتان المشغلتان للناقلتين، شركة «كوكوكا سانجيو» اليابانية التي تشغل الناقلة «كوكوكا كوريجوس»، وشركة «فرونت لاين» النرويجية التي تشغل الناقلة «فرونت آلتير»، عن تعرض هاتين السفينتين لحوادث أمنية في مياه الخليج، ليتم لاحقاً الكشف عن استهدافهما بألغام لاصقة، وهو ما أدى إلى توجيه أصابع الاتهام لإيران التي سبق واستخدمت هذا الأسلوب ضد سفن مدنية خلال حرب الخليج الأولى في الثمانينات. ولاحقاً، نشرت البحرية الأميركية تسجيلات مصورة تُظهر قيام قوارب تابعة للحرس الثوري بإزالة لغم لاصق لم ينفجر عن إحدى السفينتين المستهدفتين، وهو ما تم اعتباره محاولة لإخفاء الأدلة، الأمر الذي يؤكد حسب المصادر الأميركية تورط طهران في تلك العملية. وقد أصر الرئيس الأميركي دونالد ترامب في تصريحات لقناة فوكس نيوز على مسؤولية طهران عن تلك الحوادث، وهو ما أكده وزير الخارجية البريطاني أيضاً.

ولم تتضح حتى الآن طبيعة الرد الأميركي المحتمل على هذا الاستفزاز في الخليج، فيما يجري الحديث عن بدء الولايات المتحدة بإجراء عمليات حماية لناقلات النفط في الخليج العربي ومضيق هرمز، وهي الإجراءات التي لا يمكن اعتبارها بديلاً عن رد أميركي مُتوقّع في الوقت الحالي أو في المستقبل القريب.

وحتى اللحظة، فإن جميع الأطراف في الخليج والعالم تقول إنها لا تريد الحرب في المنطقة، إلا أن هذا الحادث يشير في الواقع إلى أن القيادة الإيرانية ترى أن خيار الحرب أقل ضرراً عليها من انهيار اقتصادي شامل قد يودي بحكمها المستمر منذ أربعين عاماً، إلى درجة أنها لم تكلف نفسها عناء تنفيذ حملة إعلامية ودبلوماسية كبيرة لنفي التهمة عن نفسها. ويبدو أن طهران تراهن على أن اندلاع حرب كهذه لن يؤدي إلى غزو أميركي واسع للأراضي الإيرانية، إذ في الوقت الذي ستهتم فيه واشنطن، في حالة الحرب، بتأمين مناطق محددة مطلة على الخليج، خاصة في مضيق هرمز، فإنها على الأرجح ستقوم بضربات جوية تؤدي إلى شل البنية التحتية في البلاد، وتستهدف النفوذ الإيراني خارجها، خاصة في المناطق التي تهدد أمن كل من إسرائيل والسعودية، وستكون نتيجة مثل هذه الحرب حصول القيادة الإيرانية على تأييد داخلي أوسع نتيجة التهديد الخارجي، وأيضاً قدرتها على تحميل مسؤولية الآثار الاقتصادية، التي كانت ستحصل بسبب العقوبات والفشل السياسي، للمعارك والعمليات العسكرية.

أما الإدارة الأميركية، فلا تبدو مستعجلةً على شن حرب على إيران، حتى أن النشاط الدبلوماسي والإعلامي الأميركي كان أيضاً أبرد من المتوقع إزاء هجمات خطيرة كهذه. ويبدو أن الإدارة الأميركية باتت تشعر أن العقوبات الحازمة المفروضة منذ تشرين الثاني/نوفمبر من العام الماضي بدأت تأتي بنتائج كبيرة، خاصة بالنظر إلى ردود الفعل الإيرانية المستفزة، التي تفصح، في غياب الأرقام الدقيقة، عن أزمة حادة تعصف بالاقتصاد الإيراني.

في الوقت الحالي، لا يبدو أن واشنطن ستقوم بالرد المباشر على هذه الحادثة، إلا أن رصيد طهران بدأ بالنفاذ، وستكون استفزازات مقبلة مماثلة أشبه بإعلان حرب في الحقيقة، وهو الأمر الذي بات الأكثر ترجيحاً، خاصةً في ظل عدم ظهور أي نتائج عن زيارة رئيس الوزراء الياباني إلى طهران، التي التقى خلالها بالرئيس الإيراني حسن روحاني والمرشد علي خامنئي.

وقد كان للهجمات على الناقلتين تأثيرٌ فوريٌ على أسعار النفط العالمية، إلا أن الزيادة الحاصلة حتى اللحظة لا تشير إلى تأثيرات خطيرة على الاقتصادات العالمية، ولكن يبقى أن دولاً كثيرة في العالم تتضرر من العقوبات الاقتصادية والتوتر العسكري المرافق لها، فيما سيحرم اندلاع حرب في المنطقة العالم مباشرةً من أكثر من ثلاثين بالمئة من صادرات النفط العالمية التي تمر من الخليج العربي، ما سيؤدي إلى صدمة في أسواق المال التي ستتأثر بتوقف إمدادات الطاقة. إلا أن لغة الاقتصاد لا تحكم دوماً اتجاهات السياسة، خاصةً أن الولايات المتحدة، وفي ظل نمو إنتاجها من النفط الصخري، باتت أكبر منتج للنفط في العالم العام الماضي، الأمر الذي سيساهم في زيادة قدرتها على الحركة في أوضاع الحرب.

ستكون آثار الحرب كارثية طبعاً على جميع دول الخليج، وستكون إيران الخاسر الأكبر فيها بالتأكيد، على مستوى الحضور الإقليمي والعتاد العسكري والبنية التحتية وأرواح المقاتلين وربما المدنيين، إلا أن القادة وصنّاع القرار الإيرانيين، الذين يتربع البقاء في سدة السلطة على رأس أولوياتهم، يمشون بخطوات ثابتة نحو المغامرة باحتمال الحرب، ولا يبدو أن أحداً في إيران قادر على الوقوف في وجههم.

موقع الجمهورية

من يأخذ بالسيف/ ميشيل كيلو

في نهاية عام 1979، وبمناسبة إعداد وثائق المؤتمر الخامس للحزب الشيوعي (في سورية)، المكتب السياسي، زرت، بمعية رياض الترك وفايز الفواز، الأستاذ إلياس مرقص في بلدة صلنفه، بعد أيام قليلة من انتصار الثورة الإيرانية الذي نشرت صحيفة الحزب افتتاحية احتفائية حوله بعنوان: رياح الحرية تهب من الشرق. ما أن جلسنا، حتى سأل الراحل الكبير: من منكم كتب هذه الافتتاحية؟ وأضاف من دون أن ينتظر الرد: الله يكسر ديّاته. عم تحكوا عن رياح الحرية، روحو يا حلّو الحزب يا تسلحو. سكت برهة، ثم رفع إصبعه، وقال بالفصحى: بدأ زمن الذبح.

ذهلنا مما قاله الرجل، لكننا صعقنا منذ عام 1980 بسبب حجم الذبح الذي لم يتوقف، أو يوفر شعوب المشرق والجزيرة العربية، بعد عام من انتصار ثورة ايران بقيادة الخميني، الذي بايع نفسه نائبا بصلاحيات كاملة للمهدي المنتظر، وكانت أولى قراراته، بعد إعدام عشرات آلاف الضباط والإداريين واليساريين والشيوعيين، تصدير الثورة إلى الجوار، بدءاً بالعراق، لاعتقاده أن وزن الشيعة فيه يجعل استيلاء طهران عليه مسألة وقت.

بالتزامن مع ذلك، شهد المشرق حدثين: اختراق سورية إيرانيا، انسجاما مع قيام نظامها على سلطة طائفية تحالفت مع طهران، وأسهمت في حربها ضد العراق، فكان ذلك أول تحالف مذهبي يشهده العصر الحديث بين دولة عربية وأخرى أجنبية، وكانت حربه ضد دولة عربية بداية تبدل مفصلي في بنية الوطن العربي وتوازناته، أدخله في حقبة جديدة بمفرداتٍ وممارساتٍ لم يسبق أن اعتمدت منذ استقلت الدول العربية، انخرطت فيها دولة تدّعي أنها عربية وقومية ووحدوية وبعثية!

باختراق سورية إيرانيا، قبل إسقاط العراق أميركيا وتقاسم مناطق النفوذ فيه مع طهران، كان من الطبيعي أن يشرف الأسد على تأسيس حزب الله: القوة التي قوّضت توازنات لبنان وهويته، وربطت مصيره بإيران التي نظمت الحزب، ودربته وسلحته كجهة طائفية مهمتها الاستيلاء على دولة لبنان الشرعية، أسوة باستيلاء طهران على الأسدية ودولة سورية، والقيام بدور فصيل من الحرس الثوري يرابط على الساحل الشرقي للمتوسط، لينفذ ما كان الحرس سيكلف بها، لو كان هو الذي احتل لبنان.

يشي انتقال سورية من التحالف مع إيران زمن الأسد الأب إلى التبعية لها زمن ابنه بهوية الجهات الإيرانية التي قررت إغراق الشعب السوري بدمائه، بعد شعب العراق، ورسمت خطط القتل، وبادرت إلى تنفيذها بأيدي مئات القناصة الذين أرسلتهم إلى مدن سورية، للتصدّي للمتظاهرين، تمهيدا لإشراك حرسها الثوري في حربٍ منظمةٍ على السوريين، في حمأة تصريحاتٍ رسميةٍ تؤكد أن سورية كالعراق، لم تعد عربية، بل غدت محافظةً إيرانية وموقعا أماميا يدافع الحرس فيه عن طهران، إن انهار، سقط الملالي بدورهم.

هل يعرف أحد كم سال من دماء في جوار إيران العربي منذ عام 1980، حيث صرف التحول من النزعتين الوطنية والقومية إلى النزعتين الطائفية والمذهبية عرب المشرق عن أهدافهم التاريخية التي ربطوا بها التحرّر من السيطرة الامبريالية، وزجّتهم في صراعاتٍ هشمت مجتمعاتهم ودولهم، وقوّضت حريتهم وقدرتهم على الخروج من تأخرهم المديد؟

كم إسرائيليا قتلت إيران الإسلامية مقابل كل مائة ألف عربي؟ وهل كان دعمها الحوثيين والأسديين في اليمن وسورية سلميا، أم انه أدخل شعبيهما إلى المسلخ الدموي الذي ذبح شعبي سورية والعراق بالسلاح، ويهدّد لبنان بذبحهم به؟

يقول المسيح: من يأخذ بالسيف، بالسيف يؤخذ. بعد أربعين عاما، أخذت إيران جوارها خلالها بالسيف وحده، ويؤكّد سلوكها أنها لن تخرج منه بقرار دولي، لأنه خاضعٌ في نظرها لسيادتها الدولتية، فلنعد أنفسنا إذن للغرق في بحار جديدة من الدماء، بقرار إيراني، ولنأمل أن يكون آخر قرارات القتل، لأن الملالي لن يكونوا في السلطة ليتخذوا غيره.

العربي الجديد

الطلاق الروسي الإيراني إن حصل؟/ ياسر أبو هلالة

نجح عبد الباسط الساروت في إعادة الألق للثورة السورية كما هي في صورتها الأولى، من لحظة استشهاده إلى دفنه، فقد تبيّن أن السوريين يجمعون على ثورتهم، على الرغم من الخسائر المروّعة التي لم ينج منها سوري، وأن إعادة تأهيل بشار الأسد غير واردة بعد ذلك كله. غير واردة إن كان القرار للشعب السوري. وفي الواقع هو الحلقة الأضعف في المعادلة، فما تبقى من شعب سوري هو واقعٌ تحت احتلال إيراني روسي، يتحكّم في الدولة السورية ومؤسساتها، وما تبقى من معارضة فشلت في بناء مؤسساتها المدنية والعسكرية. ولم تنجح حتى في الحفاظ على رموز سياسية قادرة على أن تكون بديلاً للنظام.

بالنتيجة، ظل القرار في سورية رهيناً بشكل أساسي بقوتي الاحتلال، روسيا وإيران. وفي زياراته موسكو وطهران، أظهر بشار الأسد قدرته الاستثنائية في الوفاء لسيدين، على ما بينهما من خلافات أيديولوجية ومصلحية. وهو لا شك مدينٌ لهما بالبقاء إلى اليوم في السلطة، ولو على حساب تدمير البلد وتشريد أهله.

لم يكن الوفاء للسيدين ليتم لولا المباركة الإسرائيلية الأميركية التي وجدت في بقاء بشار خياراً أفضل من سورية الديموقراطية، أو الفوضى والإمارات الجهادية و”داعش”. وأطلقت يد الإسرائيليين في استهداف ما تشاء في سورية، على عين الروس الذين لم تتحرّك صواريخهم لحماية الأجواء السورية المستباحة على مدار الساعة، عوملت طائرات الإسرائيليين في الأجواء السورية تماماً كأنها طائرات النظام، لا تعترضها منظومة الدفاع الروسية، وتم احتواء “الخطأ” الذي ارتكبه النظام، عندما سقطت طائرة إسرائيلية أو أسقطت.

قبلت إيران المعادلة، فهي تتحمّل قصف مخازن سلاح نوعي أو قوافل الإمداد، في مقابل بقاء قوات احتلالها، سواء كانت من عسكريين إيرانيين أو مليشيات لبنانية وعراقية وباكستانية وأفغانية، تابعة لها، تعمل براحتها على الأرض السورية. ولا ترد إلا بشكل رمزي، عندما تكون الخسائر مكشوفة، كما حصل عندما قتل نجل عماد مغنية والأسير المحرّر سمير القنطار وغيرهما.

وبالنسبة لإسرائيل، وجدت في المعادلة صيغةً لم تحلم بها في تاريخها، فقد تحولت سورية مثل مناطق سي في السلطة الفلسطينية التي تتيح لسلطة الاحتلال المطاردة الساخنة في المناطق الخاضعة لسيطرة السلطة. وبعد كل نهاية مطاردة ساخنة، يتحدث التلفزيون السوري عن تمكّن دفاعاته الأرضية من التصدّي لغارات الطيران الإسرائيلي، بعد أن تحقق أهدافها.

يبدو أن هذه المعادلة لم تعد قابلة للبقاء في ظل التصعيد مع إيران، فأسهل معركة معها في سورية، فهي قوة احتلال منبوذة، لا تحظى بأي قبولٍ لدى السوريين، حتى عند طائفة النظام، فهي تفضل الروس عليها. ويمكن ملاحظة ذلك من نفوذ المخابرات الجوية المرتبطة بها وقوات النمر وغيرها.

تدرك روسيا بوتين أن مصالحها مع إسرائيل أكبر من مصالحها مع إيران، ومن مصلحتها أن تبقى سورية لها وحدها من دون مشاركة إيران. ولكن على الأرض من الصعب خوض معركة مع إيران وإخراجها، فهذا ما لا تستطيعه روسيا ولا حلفاؤها، إلا إذا حصلت على دعم إسرائيلي مباشر. ولا مشكلة لبشار الأسد أن يخوض معركة الثلاثي الروسي الإسرائيلي الأميركي ضد إيران، تماماً كما لا مشكلة لديه أن يخوض معركة إيران معه، إن كان ذلك يضمن بقاءه على كرسي السلطة.

إن حصل الطلاق الروسي الإيراني في سورية، فالضحية الأولى هو الابن بشار الأسد. سيكون في موقف صعب للاختيار. ولن يكون الطلاق تسريحاً بإحسان. يبقى الوفاق بينهما الحل الأمثل بالنسبة له، لكن لحظة الفراق قد تكون قريبةً ومؤلمة له، فالمواجهة مع إيران صعبة، ومع الثلاثي الروسي الإسرائيلي الأميركي أصعب. وفي الحالين، سيكون هو الحلقة الأضعف. سواء خاض معركة إسرائيل أم معركة معها.

ربما يكون الشعب السوري محظوظاً في مواجهةٍ كهذه، تنتهي باستعادة سورية من مناطق الاحتلال والنفوذ. ولكن بدون بناء مؤسسات المعارضة المدنية والعسكرية، لن يرث أحدٌ النظام. المعادلة الدولية التي خدمت بشار الأسد ليست دائمة، الثابت أن السوريين ضد الاحتلالات، إسرائيلية كانت أم إيرانية وروسية، تماماً كما هم ضد الاستبداد.

العربي الجديد

المواجهة الإيرانية الأميركية بعد الهجمات على ناقلات النفط

المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات

تعرضت ناقلتا نفط، صباح 13 يونيو/ حزيران 2019، لهجمات في بحر عُمان بالقرب من السواحل الإيرانية، تحمل الأولى علم بنما والثانية علم جزر مارشال، أدت إلى اشتعال النار فيهما. وكانت الناقلتان تحملان شحنات من المشتقات النفطية السعودية والإماراتية في طريقهما إلى شرق آسيا. لم تؤدِّ الهجمات إلى خسائر بشرية. لكن، حمّلت الولايات المتحدة الأميركية وبريطانيا إيران المسؤولية عنها، ووصف وزير الخارجية الأميركي الهجمات بأنها “تمثّل تهديدًا واضحًا للأمن والسلم الدوليَين، وهجومًا فاضحًا على حرية الملاحة وتصعيدًا للتوترات من جانب إيران غير مقبول”. وهو اتهام رفضته إيران. وهذه المرة الثانية التي تتعرض فيها ناقلات نفط لهجمات في بحر عمان خلال شهر، ففي 12 مايو/ أيار 2019 تعرضت أربع ناقلات نفط تحمل أعلامًا سعودية وإماراتية ونرويجية لهجمات ألحقت بها أضرارًا طفيفة، قبالة ميناء الفجيرة الإماراتي. وقد أدت الهجمات الأخيرة إلى زيادة مستوى التوتر بين إيران والولايات المتحدة، الذي يتصاعد باضطراد منذ قرر الرئيس الأميركي دونالد ترامب الانسحاب من الاتفاق النووي مع إيران في مايو 2018.

الاستراتيجية الأميركية

تسعى الولايات المتحدة إلى تشديد ضغوطها على إيران، في إطار ما يسمى استراتيجية الضغوط القصوى Maximum Pressure لإجبارها على إعادة التفاوض على الاتفاق النووي، الذي تعده إدارة ترامب غير كافٍ للَجم طموحات إيران الإقليمية و”نزوعها نحو الهيمنة”. وبناء عليه، بعدما قرر الرئيس ترامب الانسحاب من الاتفاق النووي، شرعت واشنطن في فرض عقوبات متصاعدة على إيران بدأتها باستهداف قطاعها النفطي والمصرفي في أغسطس/ آب 2018، ثم قامت بفرض حظر على تصدير النفط الإيراني، في نوفمبر/ تشرين الثاني 2018، استثنت منه ثماني دول مدة ستة أشهر، انتهت مطلع مايو، على نحوٍ أدى إلى خفض صادرات إيران النفطية من 2.5 مليون برميل يوميًا إلى نحو 400 ألف برميل يوميًا في مايو 2019، علمًا أنّ إيرادات النفط تمثّل نحو 40 في المئة من إجمالي إيرادات الموازنة العامة الإيرانية. كما فرضت واشنطن عقوباتٍ إضافيةً على قطاع التعدين الإيراني (يمثل 10 في المئة من إجمالي صادرات إيران)، أعقبتها بعقوبات على قطاع البتروكيميائيات (تقدر قيمة صادراتها بنحو 14 مليار دولار سنويًا)، وذلك بعدما قامت في إبريل/ نيسان 2019 بتصنيف الحرس الثوري الإيراني بوصفه منظمة إرهابية أجنبية.

ولمنع أي رد فعل إيراني على هذه الإجراءات غير المسبوقة التي تستهدف اقتصاد إيران ونظامها، قامت الولايات المتحدة بتعزيز وجودها العسكري في المنطقة، في إطار استراتيجية ردع لدعم إجراءات الحصار. وبناء عليه، قامت وزارة الدفاع الأميركية بتعزيز قدراتها ووجودها العسكري في المنطقة تدريجيًا، فأرسلت في 9 مايو 2019 حاملة الطائرات “يو أس أس أبراهام لنكولن” مع مجموعتها القتالية البالغ عددها 27 قطعة بين بارجة ومدمرة وغواصة. كما أرسلت في اليوم نفسه أربع قاذفات من طراز B-52 قادرة على حمل أسلحة نووية إلى المنطقة.

وفي اليوم التالي، تم إرسال البارجة الحربية “يو أس أرلينغتون” المصممة لنقل قوات مشاة البحرية الأميركية (المارينز)، مع عربات برمائية ومعدات ومروحيات قتالية، وبطارية صواريخ باتريوت على متنها، وهي منظومة صواريخ دفاعية اعتراضية ضد الطائرات الحربية، والطائرات من دون طيار، فضلًا عن صواريخ كروز والصواريخ الباليستية التكتيكية. بالتوازي مع تعزيز القدرات العسكرية الأميركية في المنطقة، قام الرئيس ترامب وأركان إدارته بتوجيه رسائل إلى إيران تحمل المعنى نفسه. إذ هدد ترامب إيران “برد فعل مدمر” في حال استهدفت الوجود الأميركي أو المصالح الأميركية في المنطقة، بينما أصدر مستشار الأمن القومي، جون بولتون، بيانًا قال فيه إن إرسال الحاملة لنكولن مع مجموعتها القتالية لتكون تحت قيادة “القيادة المركزية الوسطى” يهدف إلى “إيصال رسالة واضحة لا لبس فيها للنظام الإيراني بأن أي هجوم على المصالح الأميركية أو مصالح حلفائنا سيتم التعامل معه بقوة”. أما وزير الدفاع بالوكالة باتريك شاناهان فقد شدد على أن أيّ هجوم إيراني على الولايات المتحدة أو مصالحها “سيقابل بردٍ مناسب”.

الاستراتيجية الإيرانية

ردّت إيران على استراتيجية الحصار الأميركية المدمرة، نظرًا إلى تأثيراتها على الاقتصاد الإيراني، على مستويين: ففي المستوى الأول، هددت بأنها إذا منعت من تصدير نفطها فإنها لن تسمح للآخرين بتصدير نفطهم، وجرى تفسيره بأنه تهديد بإغلاق مضيق هرمز أو باستهداف ناقلات النفط التي تمر عبره. أما المستوى الثاني فيتصل بالتزامات إيران وفق الاتفاق النووي؛ إذ أعلن الرئيس الإيراني حسن روحاني، في 8 مايو 2019، أنّ بلاده ستتراجع عن تنفيذ بعض التزاماتها في الاتفاق النووي، وهدد باستئناف تخصيب اليورانيوم بمستويات عالية بعد ستين يومًا وإعادة تشغيل مفاعل آراك النووي، إن لم تفِ الدول الأخرى الموقّعة على الاتفاق بتعهداتها لطهران بحماية قطاعَيها النفطي والمصرفي من العقوبات الأميركية. كما أعلن وقف إيران عمليات بيع اليورانيوم المخصب والماء الثقيل. وينص الاتفاق النووي على قيام إيران بخفضٍ مستمر لمخزونها من اليورانيوم المخصب (بنسبة 3.67 في المائة)، بحيث لا تزيد كميته في أي وقت عن 300 كيلوغرام، وألّا يزيد ما تمتلكه من الماء الثقيل عن 130 طنًّا.

يشير عديد من التقارير الدولية إلى أن العقوبات الأميركية كان لها تأثير أكبر بكثير مما كان متوقّعًا في الاقتصاد الإيراني، إذ تراجع سعر العملة الإيرانية على نحو بعيد مقابل الدولار، في حين قدّرت نسبة التضخم بـ40 في المائة هذا العام. وبحسب صندوق النقد الدولي، فإن الاقتصاد الإيراني انكمش بنسبة 3.9 في المائة عام 2018، ويتوقع أن ينكمش بنسبة 6 في المائة هذا العام، علمًا أنّ التقرير صدر قبل أن تدخل عقوبات النفط حيز التنفيذ، مطلع مايو 2019، وقبل العقوبات الأميركية اللاحقة على قطاعَي التعدين والبتروكيميائيات الإيرانيَين.

أمام هذا الواقع الصعب، من غير المتوقع أن تقف إيران مكتوفة الأيدي من دون رد فعل على محاولات خنقها اقتصاديًا، وهو جوهر الاستراتيجية الأميركية لدفعها إلى الاستسلام لمطالبها الجديدة المتعلقة بإعادة التفاوض على برنامجها النووي وبرنامجها الصاروخي ونفوذها الإقليمي. وبحسب تحليل قدّمته وكالات استخباراتية أميركية، قد يكون النظام الإيراني، أو على الأقل تيارٌ فيه، يسعى إلى استدراج الولايات المتحدة إلى عمل عسكري محدود، ليرفع شعبيته داخليًا، ويعزز موقفه الاستراتيجي خارجيًا. ويعدّ هذا التحليل مناقضًا لتحليل أميركي سابق مفاده أن طهران ستحاول تحمّل العقوبات الأميركية والمناورة حولها حتى يحين موعد الانتخابات الأميركية القادمة في نوفمبر/ تشرين الثاني 2020 على أمل أن يخسر ترامب ويفوز رئيس جديد تستطيع التعامل معه. لكن وفق هذا التحليل، فإن وطأة العقوبات التي فرضتها إدارة ترامب قد تكون دفعت الإيرانيين إلى تغيير استراتيجيتهم والتركيز على محاولة استفزاز عمل عسكري أميركي محدود، وذلك عبر تهديد مصالح أميركا، ومصالح حلفائها في المنطقة، بما يشمل الإغلاق الجزئي لمضيق هرمز الذي يمر منه نحو ثلث الخام المنقول بحرًا في العالم، أو عبر استهداف السفن التجارية، بما في ذلك ناقلات النفط، أو حتى السفن العسكرية الأميركية في البحر الأحمر أو مضيق باب المندب أو الخليج العربي. ولكن هذا التحليل يتجاهل استراتيجية إيرانية معلنة ألّا تكون الوحيدة المتضررة من الحصار، وسلوكًا إيرانيًا واضحًا يتجنب الصدام المباشر مع الولايات المتحدة؛ فإيران لا يمكنها التحكم في حجم رد الفعل الأميركي، وهو التحكم الذي تتطلبه استراتيجية استدراج رد الفعل.

“استهداف” الوساطة اليابانية

تزامنت الهجمات التي وقعت على ناقلتي النفط في بحر عمان مع زيارةٍ كان يقوم بها إلى طهران رئيس الحكومة اليابانية، شينزو آبي، نقل خلالها رسالة حمّله إياها الرئيس ترامب خلال زيارته إلى طوكيو منتصف مايو 2019، وعرض فيها تطمينات بأنّ واشنطن لا تسعى إلىالحرب، ولا إلى تغيير نظام الحكم في طهران، بل تريد التفاوض معه على اتفاق جديد بدلًا من الاتفاق الذي انسحبت منه. وقد أثار تزامن الهجمات مع الزيارة جدلًا وتكهناتٍ حول الجهة المسؤولة عن الحادثة، التي جرى تفسيرها على نطاق واسع بأنها محاولة لتخريب جهود الوساطة اليابانية، خاصة أن الناقلتين المستهدفتين كانتا في طريقهما إلى اليابان. وقد اتهمت إيران التي نفت التهمة عن نفسها، أطرافًا ثالثة قالت إنها تريد رفع مستوى التوتر بينها وبين واشنطن، ووجهت أصابع الاتهام إلى كل من الإمارات والسعودية وإسرائيل باعتبارها الأطراف الأكثر حماسة لوقوع مواجهة أميركية مع إيران. وزاد من ضبابية المشهد الجدل الذي دار حول كيفية استهداف الناقلتين، إذ يفيد الشريط المصور الذي بثّه البنتاغون وجود زورق إيراني يحاول إزالة لغم من جسم إحدى الناقلتين، في حين تفيد شهادات البحارة بأنّ جسمًا طائرًا (طوربيد على الأرجح) هو الذي أصاب الناقلة. وباستثناء بريطانيا، لم يتبنَّ أيّ من الدول الموقعة على الاتفاق النووي الرواية الأميركية، إذ رأت ألمانيا أن الشريط الأميركي المصور لا يعدّ دليلًا كافيًا على أنّ إيران هي المسؤولة، بينما دعت روسيا والصين إلى عدم التسرع في تحديد المسؤوليات، والتزمت فرنسا الصمت. أمّا الأمين العام لمنظمة الأمم المتحدة فقد دعا إلى تحقيقٍ مستقل لتحديد المسؤول عن الهجمات. وهو ما تطالب به إيران.

تجد الولايات المتحدة صعوبة كبيرة في حشد دعم دولي ضد إيران لسببين؛ الأول، لأنها الطرف الذي أخلّ بالتزاماته بموجب الاتفاق النووي بانسحابها منه، وهو الاتفاق الذي تؤكد الوكالة الدولية للطاقة الذرية التزام إيران به، ومن هنا، فإن الأطراف الأخرى الموقّعة على الاتفاق تعتبر إدارة ترامب مسؤولة عن الأزمة الحالية. ويتمثل السبب الثاني في أن الولايات المتحدة تعاني أصلًا مشكلة صدقية بسبب المزاعم الكاذبة التي استخدمتها لتبرر غزوها العراق عام 2003.

خاتمة

رفعت الهجمات على ناقلات النفط التوتر الأميركي – الإيراني إلى مستويات جديدة، خاصة بعدما أرسلت الولايات المتحدة المدمرة “يو أس أس ميسون” إلى مكان الحادث الذي يبعد بضعة كيلومترات عن السواحل الإيرانية، وكشفت عن محاولات إيرانية لإسقاط طائرة مسيّرة أميركية كانت موجودة في المنطقة قبل استهداف الناقلتين. لكن الواضح حتى الآن أنّ إدارة ترامب لا ترغب في الدخول في مواجهة عسكرية مع إيران. وقد أصدرت القيادة المركزية الأميركية بيانًا بهذا المعنى قالت فيه إنّ هذه المواجهة لا “تخدم مصالح الولايات المتحدة الاستراتيجية في المنطقة”، وتابعت “مع ذلك سندافع عن مصالحنا”. لا الولايات المتحدة راغبة في المواجهة العسكرية ولا إيران، بحسب تحليلنا. لكن عدم وجود رغبة في التصعيد لا يعدّ شرطًا كافيًا لعدم حصوله، وخصوصاً أن الهجمات على ناقلات النفط قد تستمر في المستقبل، وقد تصبح أعنف، فإيران لن تقبل بأن تُحرم من تصدير نفطها بينما يصدّر الآخرون نفطهم، كما أنّ احتمال انسحابها من الاتفاق النووي يزداد نتيجة عجز الدول الأوروبية، خاصة الموقّعة منها على الاتفاق (ألمانيا، وفرنسا، وبريطانيا)، عن تفعيل آلية حماية الشركات الأوروبية التي تتعامل مع إيران من العقوبات الأميركية، والتزام بقية الدول بحظر استيراد النفط الإيراني، بما فيها الصين، وإذا انسحبت إيران من الاتفاق فإن هذا سيكون سببًا آخر لزيادة التوتر.

هل تصفع واشنطن إيران بيد روسية؟/ مهند الحاج علي

أطلت المبادرة الروسية لإعادة اللاجئين السوريين، برأسها مجدداً. قبل شهور عديدة، أي بداية هذا العام، كان مسؤول لبناني رفيع المستوى نعاها في تصريح لصحيفة لبنانية. استفاقت من الغيبوبة بزيارة روسية رفيعة المستوى. المبعوث الرئاسي الخاص الى سوريا ألكسندر لافرنتييف وسيرغي فرشينين، نائب وزير الخارجية الروسي في بيروت للقاء رئيس الجمهورية العماد ميشال عون ورئيسي الحكومة سعد الحريري والمجلس النيابي نبيه بري ووزير الخارجية والمغتربين جبران باسيل، الصوت الأعلى ضد اللاجئين.

وكما عهدنا سابقاً في الحديث الروسي عن أزمة اللاجئين، عملية إعادة الإعمار في سوريا أيضاً على طاولة النقاش. تلازم هذين المسارين سياسة روسية ثابتة. ذاك أن موسكو تشترط ضخ المال لإعادة الإعمار قبل عودة اللاجئين، بحجة أن مناطقهم باتت مُدمرة بفعل الحرب. بكلام آخر، المال، وتحديداً بالعملات الصعبة من أوروبا والولايات المتحدة، يسبق العودة.

قبل أسبوع، أجرت مجلة “فورين بوليسي” الأميركية 3 مقابلات مع مسؤولين لبنانيين ينتمون إلى جانبي الانقسام السياسي حول سوريا والدور الروسي فيها، أجمعوا على أن المال بات مُحركاً أساسياً لسياسة موسكو في هذا الملف الحساس لبنانياً. وفقاً للمجلة ذاتها، تريد روسيا التهام شطر كبير من 350 مليار دولار، هي كلفة إعادة اعمار سوريا، من أجل تنويع مصادر اقتصادها، بعيداً عن الاعتماد الحالي على النفط والموارد الطبيعية. يحاول الروس الحصول على عقود لشركاتهم لاعادة تأهيل البنية التحتية السورية وبناء معامل الطاقة. وهذا كلام يؤكده أحد الخبراء الروس في مقالة له عن العلاقات الروسية-الأوروبية، قال فيها إن الكهرباء والطاقة مدخل مهم لاعادة إعمار سوريا، على أن تليها بقية الأعمال.

لكن الاتحاد الأوروبي لن يستثمر في اعادة الاعمار مجاناً، بل يطلب تنازلات سياسية جوهرها تنحي الرئيس السوري بشار الأسد في إطار عملية انتقالية. السؤال الأوروبي اليوم هو هل يتخلى الروس عن الأسد؟ وهذا غير وارد لأسباب متعددة، أولها أنه من غير المنطقي أن يتلاعب الروس باستقرار نظام بعد خوض حرب مُكلفة لتأمينه.

في مقابل الشرط الأوروبي “التعجيزي” للروس، هناك سؤال أميركي-اسرائيلي منفصل: هل تتخلى روسيا عن إيران؟

وراء تبدل الموقف الأميركي، تحليل إسرائيلي يتردد مؤخراً، مفاده أن استعادة الأسد نفوذه السابق، سيُعزز الاستقرار في الجولان. قد يُشاغب الرئيس السوري بعلاقة مع طهران وتصريحات نارية هنا وهناك، لكنه في نهاية المطاف لن يُغامر بأمن النظام بإدخاله في أتون صراع مع اسرائيل، بل الأرجح أن يُعاود استئناف مفاوضات السلام معها. هذه قناعة اسرائيلية نابعة من تجربة العائلة الحاكمة في سوريا منذ عقود. والأسد لن يُمانع تحجيم الدور الإيراني في سوريا، لو سنحت فرصة ذلك، من خلال روسيا وأدواتها.

هناك عقدة أميركية مخفية هنا. كان اللبنانيون أعلنوا وفاة سريرية للمبادرة الروسية مطلع هذه السنة. لماذا بدلوا لغتهم حيالها، وباتت تُمثل أملاً بعودة صعبة جداً؟ هل صُدفة تزامن هذه الزيارة الروسية مع لقاء “القمة الأمنية” بين مستشاري الأمن القومي في الولايات المتحدة جون بولتون واسرائيل مئير بن شابات، وأمين مجلس الأمن الروسي نيكولاي باتروشيف في القدس؟

هؤلاء الثلاثة سيبحثون في القمة (غير المسبوقة وفقاً للإسرائيليين)، في التنسيق بينهم حول مسائل أمن اقليمية، على رأسها الوجود الإيراني في سوريا. وبما أن المال أساسي في السياسة الروسية في سوريا اليوم، على الإيرانيين أن يتساءلوا عن ثمن بيعهم في المزاد الروسي؟ يبحث الأميركيون اليوم جدياً في سبل احتواء الإيرانيين وكف أياديهم عن الحلفاء، وفي مقدمهم إسرائيل.

وربما، لو دفعت واشنطن الثمن المطلوب، قد يأتي الرد الأميركي على إيران، بأيادٍ روسية.

المدن

إيران وسيناريو الخروج من الأزمة/ بيير لوي ريمون

من الذكريات الفارقة التي يعيشها طالب التاريخ في دراسته، وليس غريبا أن ترافقه على مرّ الأيام والسنين، أحداث اعتقدها البعض عابرة لحظة وقوعها -ليس لأنها هينة، ولكن لأن طاحونة الأحداث تجعلها كذلك – لكن ثمة فصولا جديدة يشرع التاريخ في كتابتها فور وقوع هذه الأحداث، فيتطاير هذا الانطباع بمجرد نشأته. هكذا مثلا فكّر البعض عند اغتيال دوق النمسا فرديناند في سراييفو من دون استنتاج أن الحدث ستنجر عنه حرب عالمية

ليس غرض هذا المقال الدخول في سلسلة تكهنات نطبقها على الهجمات المرتكبة على ناقلتي نفط نرويجية ويابانية في خليج عمان، وكذلك هجمات سابقة، لكن ترد في المقابل فرصة استشراف – فالاستشراف من أدوات التحليل – صورة جديدة لمناطق النفوذ في المنطقة. صورة جديدة يرسم ملامحها استقراء آني للتاريخ، خاصة تاريخ النفوذ الأمريكي الذي لم يعد يقدم للمحللين أدوات للقراءة بل أكثر: فقد تصدعت فرص للاستنتاج كان من السهل الممتنع أن تقام عليها نظريات تخلص إلى وحدة الصف الأمريكي في دعم المغالطات.

من بين هذه النظريات، الحرب الإعلامية أو حرب البروباغندا التي عرفناها في موضوع أسلحة الدمار الشامل، التي عجلت بالهجوم الأمريكي على العراق ورئيسه صدام حسين. فلننظر هنا مثلا إلى طبيعة تفاعل المجتمع الدولي، وإلى المسؤولين الأمريكيين أنفسهم مع السيناريو الذي عرضه الصقر جون بولتون عبر مجموعته Gatestone Institute مدعوما بصور أقمار صناعية يقال إنها لهجمات نفذتها إيران فعلا. أول ما يمكن ملاحظته، جو الحيطة والحذر الذي اكتنف تحميل ترامب إيران مسؤولية الهجمات، استنادا إلى معطيات صادرة عن أمانة الدولة (the state of secretary) مبنية أساسا على مزاعم بولتون. هنا، تتالت التحفظات بدءا بالجهاز الاستخباراتي الأمريكي، مرورا، في الوقت نفسه، بالتقاسم الأوروبي بين صوت بريطاني انضم إلى أصوات المتهمين، وإعراب ألماني واضح عن التشكيك في صدقية الفيديوهات الأمريكية، انتهاء بتصريح لافت لأمين عام الأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش، تصريح مؤثر شكلا أكثر منه محتوى، لعدم حدوث سعي دبلوماسي رفيع المستوى، إلى التذكير بأن التحقيق في الحادث ليس من صلاحياته هو، بل من صلاحيات مجلس أمن المنظمة الذي يشرف على أمانته.

خاب توقع أمريكا بـ»انهيار إيران في غضون ثلاثة أشهر جراء «الإرهاب الاقتصادي» الذي حاولت أن تمارسه عبر منع تصدير منتجاتها النفطية، وإلغاء حزمة امتيازات كانت تتمتع بها في هذا المجال. لكن في المقابل، لم يخب أمل المجتمع الدولي بالنشاط في الحقل الدبلوماسي لرسم ملامح خطة معاكسة لتلك الأمريكية الغارقة في ثوابتها، التي أظهرت التجربة أنها محكومة بالاهتزاز. ليست المساعي الدولية التي نجدها حالياً محصورة في منع الأزمة في المنطقة من التصعيد، فهي مساع عضوية تنبني على نقاط إستراتيجية لا يمكن تفاديها، مثل توقي تهديد بإغلاق مضيق هرمز، العصب الحيوي الذي يمر منه أكثر من ثلث صادرات النفط الدولي.

من هنا لا بد من جهود حثيثة لضبط ما يمكن تسميته بـ»طريق دبلوماسية ثالثة» جديرة بأن تؤتي أكلها إذا ما تبلورت. صحيح أن زيارة رئيس الوزراء الياباني شينزو أبي إلى طهران، وتلك التي قام بها وزير الخارجية الإيراني جواد ظريف إلى الصين، كانتا منخرطتين أساسا في استراتيجية قصيرة المدى لتفادي نزاع، خاصة أن إحدى الناقلتين المستهدفتين يابانية. لكن بالإمكان تنزيل «حدثية» التحرك الدبلوماسي هذا في مستوى أعلى في سلم الخطوات الدبلوماسية المركزة، بحيث يصبح التحرك الصيني مثلا عنصر دبلوماسية بديلة خليقة بالتأثير في إعادة رسم الخرائط في المنطقة.

ليس العصب الاقتصادى الحيوي الذي تشكله منطقة خليج عمان المحفز الوحيد لتحرك مجتمع دولي، بات واضحا تأثيره على صوت أمريكي آخذ في الخفوت. ثمة طريق ممكنة، وإن لم تكن معبدة، تستشعرها أطراف دبلوماسية بديلة تمكنها من تحقيق اختراق على المدى البعيد، بدءا بإعادة بث الثقة في علاقتها بالطرف الإيراني لينتقل الأخير من موقع الطرف إلى مرتبة الشريك.

والسؤال الذي يطرح بالتالي أيضا هو طبيعة الدور الذي يمكن أن تلعبه دول الاتحاد الأوروبي، وهي التي رتبت لتفعيل الاتفاق النووي بتفان. ذكرنا التحفظ الألماني من الفيديوهات التي سوقها بولتون، لكن ماذا عن فرنسا التي تنشط طائراتها وسفنها وراداراتها في قاعدة عسكرية متموقعة في أبوظبي؟ أليست تلك المعدات جديرة بمساعداتها في تقديم تشخيص لما حدث، فتعلن نتائجه أمام الملأ ليبلغ علمنا هل إيران ضليعة في تلك الهجمات أم لا؟

في مقابل قولة بولتون «ولا (نريد) حتى جهاز طرد مركزي واحد»، في وجه كلام ترامب عن «هجمات هي فعلا من توقيع إيران»، كلام يصطدم نفسه بتحذير شديد اللهحة من القيادة العسكرية الأمريكية من مغبة الوقوع في «فخ أفغاني جديد»، في مقابل هذه التصريحات التصعيدية، يستنكر المجتمع الدولي انخفاض عدد البراميل التي تمر عبر مضيق هرمز من المليون إلى سبعمئة برميل، كما يندد بالحصار المفروض على إيران الذي وصفه سفير فرنسا السابق فرانسوا نيكولو بـ»الأقسى حتى من حصار الحرب الإيرانية العراقية»، فضلا عن تقويض القيمة المضافة السخية التي يمكن أن يقدمها الانتاج البتروكيماوي في المنطقة. من هذا التشخيص، تشخيص المجتمع الدولي، نتلمس أبوابا مفتوحة في وجه مقاربة قابلة للتحقيق قصد خروج من الأزمة يذهب في اتجاه تثبيت التطور الحاصل في العلاقات بين إيران والمجتمع الدولي بعد ابرام الاتفاق النووي سنة 2015. لكن، ومرة أخرى، الأيام بيننا.

باحث أكاديمي وإعلامي فرنسي

القدس العربي

واشنطن بوست: إيران تحاول الخروج من الخناق الأمريكي قبل فوات الأوان

نشرت صحيفة “واشنطن بوست” مقالا للكاتب ديفيد إغناطيوس تحت عنوان “على إيران الهروب من الخناق الامريكي قبل أن يصبح قاتلا” قال فيه إن المتغير الأهم في المواجهة الحالية بالخليح الفارسي هو الوقت.

فإدارة دونالد ترامب تريد لعبة طويلة الأمد من أجل تشديد العقوبات، أما إيران فتريد لعبة قصيرة الأمد للخروج من الخناق الأمريكي قبل أن يقتلها.

ويرى الكاتب أن الدينامية الداخلية تساعد على فهم الأحداث في الخليج- التصعيد الإيراني المستمر في الهجمات التي تنكرها والتردد من الرئيس دونالد ترامب. وكل طرف لديه شروط لعبة تمليها المصالح والمصادر والقدرة على مواصلة العمليات. ووصل البلدان إلى الحافة يوم الخميس عندما أسقطت إيران طائرة بدون طيار “أر كيو- 4 غلوبال هوك” قرب مضيق هرمز. وفي تغريدة لترامب قال فيها إن “إيران ارتكبت خطأ جسيما”، لكن الولايات المتحدة لم تقرر القيام بعمل عسكري واضح. وحذر الكاتب من المخاطر: لن تستطيع إيران الخروج من الخناق المفروض عليها بدون أن تخلق أزمة كبيرة تؤدي لتدخل دولي- ربما هجوم إيراني يؤدي لقتل امريكيين يدفع واشنطن لعملية انتقامية. ولا تريد إدارة ترامب حربا كهذه، على الأقل في الوقت الحالي، لأن المسؤولين الأمريكيين يعرفون أن إيران ستضعف مع كل يوم يمر عليها تحت نظام العقوبات. والسؤال كيف سينتهي كل هذا إن لم يتم عبر الحرب؟ ويرد إغناطيوس أن هذا هو السؤال المقلق للإستراتيجيين في واشنطن والخارج. وعرضت الولايات المتحدة مفاوضات وليس تخفيفا للعقوبات من خلال الوساطة التي قام بها رئيس الوزراء الياباني شينزو آبي. لكن المرشد الأعلى للجمهورية الإسلامية رفض قبوله، فهو لا يريد على ما يبدو تجرع الكأس المسمومة كما فعل سلفه آية الله الخميني عندما قبل وساطة دولية لوقف الحرب مع العراق عام 1988. ولكننا عندما نفحص المنطق الداخلي للمواجهة تصبح الأحداث المحيطة بها أكثر شمولا. ويقوم كل طرف بالتصرف بطريقة عقلانية لتحقيق أهدافه بدون الدفع بمواجهة واسعة لا يريدها الطرفان. وهذا مدعاة للطمأنينة لكن لا ينفي حدوث إساءة في التقدير.

ولو بدأنا بإيران التي بدأت بالتصعيد في نهاية آيار (مايو) ردا على تصنيف ترامب للحرس الثوري كمنظمة إرهابية وإلغاء الإعفاءات التي منحت للدول كي تواصل استيراد النفط في محاولة لوقف تصديره تماما. وكانت طهران تخطط الإنتظار حتى خروج ترامب من السلطة لكن الإجراءات الأخيرة الخانقة جعلها تغير من استراتيجيتها. ولشعورهم بأنهم حشروا في الزاوية بدأ الإيرانيون بالبحث عن طرق لفك الخناق. ومثلما فعلت روسيا في أوكرانيا اختار الإيرانيون استراتيجية الإنكار والتي قامت من خلالها الجماعات الوكيلة لإيران بالتصعيد، وقام المتمردون الحوثيون، حلفاء إيران في اليمن بضرب أنابيب النفط السعودية. وقام الحرس الثوري على ما يبدو بزرع ألغام في طريق ناقلات النفط بالخليج. وأجبرت هذه التكتيكات الولايات المتحدة على التراجع مما دفع الإيرانيين للتصعيد وضرب الطائرة المسيرة. والخطوة القادمة لأمريكا هي إرفاق الطائرة المسيرة بمقاتلة أف-18. وعندما يتم النظر إلى استراتيجية ترامب وأنه يريد لعب لعبة طويلة الأمد، هناك سلسلة من التناقضات في استراتيجيته. ففي المرحلة التي قادت للوساطة اليابانية ظل يتحدث عن رغبة الإيرانيين بالتفاوض. وكان يحاول رمي الطعم للإيرانيين لكنهم تجنبوه. وبعد هجوم الأسبوع الماضي على الناقلتين قال إنه “ثانوي جدا” والجملة الوحيدة التي كتبها بعد إسقاط الطائرة هي أن “هناك فرق كبير جدا جدا” لو كانت الطائرة بطيار. وفي الوقت الحالي يبدو ترامب راغبا بحرب، فهو يخوض حربا اقتصادية ناجحة ومرفقة بحرب ألكترونية أخرى هادئة. وفي كل مرة يسأل فيها وزير الخارجية مايك بومبيو عن مخرج للأزمة يجيب أن على طهران تنفيذ الـ 12 نقطة المطلوبة منها، وتعني وقف تطوير الطاقة النووية والدعم عن الميليشيات والجماعات الوكيلة في سوريا والعراق واليمن ولبنان وأفغانستان، أي الإستسلام الكامل. وربما قبل بومبيو بجزء من الإهانة الإيرانية، ولكن لماذا عليه القبول والوقت يعمل لصالحه؟ ويقول ترامب إنه لا يريد تغيير النظام في إيران، مع أنه من الصعب تخيل نهاية المواجهة الحالية إلا إذا قرر آية الله خامنئي تجرع الكأس المسمومة التي تجرعها سلفه. ويقول إغناطيوس إن المواجهة الحالية غير ضرورية ولا تخدم مصالح الولايات المتحدة أو إيران وبتداعيات على المنطقة. ولكن المنطق الداخلي لكل من إيران وأمريكا يدفعا بها للحافة.

القدس العربي”

حافة الهاوية الإيرانية مع الأعداء والأصدقاء/ وليد شقير

إسقاط طائرة الاستطلاع الأميركية المسيرة من قبل الحرس الثوري الإيراني فجر أمس هو العمل العسكري الأول الذي يخرج عن قاعدة الحرب بالواسطة التي تخوضها طهران مع الولايات المتحدة في منطقة الخليج، في سلسلة الردود التي ينفذها الحرس على الحرب الاقتصادية الأميركية ضده.

سواء صح الإعلان الإيراني بأنها أُسقطت بعدما دخلت الأجواء الإيرانية في محافظة هرزمكان المحاذية لمضيق هرمز، ولأن اختراق الحدود “خط أحمر” كما صرح قائد “الحرس الثوري” اللواء حسين سلامي، أم صح التأكيد الأميركي بأنها أسقطت في الأجواء الدولية، فإن هذا التطور يخرج عن السياق الذي طبع الاستهدافات العسكرية الإيرانية في الأسابيع الأخيرة، بزرع ألغام في ناقلات نفط محملة من السعودية والإمارات، أو بإطلاق صواريخ باليستية ضد أهداف مدنية في السعودية مثل مطار أبها، وصولا إلى قصف محطة سعودية لتحلية المياه أمس.

إنه اللعب الخطر على حافة الهاوية، بالاستفادة من القرار الأميركي عدم الذهاب إلى الحرب، على رغم أن الجانب الإيراني لا يريدها هو الآخر. لكن بين توجيه الرسائل إلى الداخل الإيراني بقدرة الحكم على الصمود وبقوته في وجه المخاطر التي تتهدد “الأمة”، وبين اعتماد سياسة النفس الطويل قبل التفاوض، وبين إمساك “الحرس” بناصية التفاوض إذا لا بد منه، بدلا من تسليمها لثنائي حسن روحاني محمد جواد ظريف، شعرة قد تسقط مفاعيل المناورات التي تتوخاها المناوشات العسكرية الصغيرة.

الإقبال الإيراني على التفاوض تراجع في الأسابيع الماضية لمصلحة اللعب على حافة الهاوية نتيجة عوامل إقليمية ودولية عدة. فطهران هي التي سبق أن طلبت من رئيس الوزراء الياباني شينزو آبي أن يلعب دور الوسيط بينها وبين واشنطن حين زار ظريف طوكيو في 16 أيار (مايو) الماضي، والذي عاد دونالد ترامب ووافق عليه خلال زيارته هو الآخر. في أقل من شهر غيّرت طهران توجهها بطلب الوساطة ووجهت صفعة علنية لآبي حين رفض المرشد علي خامنئي استلام الرسالة التي بعث بها ترامب، على الهواء، في لقاء كان يفترض أن تكون مداولاته بعيدة من الأضواء.

ومع أنه قيل في تفسير ذلك إن الجانب الإيراني يعتمد الوساطة السويسرية أكثر من غيرها، فإنه سبق إسقاط الطائرة الأميركية هذا الأسبوع، منحى تصعيدي عبر اقتراب الحرب بالواسطة من العسكريين الأميركيين في العراق، حين تعرضت مواقع عسكرية ونفطية في العراق، يتواجد فيها أميركيون، إلى خمس هجمات صاروخية في مواقع متفرقة، على رغم التأكيدات التي تلقتها واشنطن من رئيس الوزراء العراقي عادل عبد المهدي بأن ساحته لن تستخدم في أي استهداف للوجود الأميركي، وبأن “الحشد الشعبي” الذي تأتمر فصائله بقائد قوة القدس قاسم سليماني سيلتزم بذلك. إلا أن مصادر إطلاق تلك الصواريخ شمال بغداد، تدل إلى أن فصيلا شيعيا مواليا لطهران هو من قام بإحدى تلك العمليات على الأقل.

في تفسير رفع “الحرس الثوري” درجة التوتر، يمكن القول إن طهران تراهن على سياق للأحداث يمكنها الإفادة منه، وتسابق بتصعيدها جملة استحقاقات تتخوف من لا تأتي في مصلحتها. فهي تدرك أن سعي إدارة ترامب، تحت سقف تجنب الحرب والاكتفاء بالعقوبات، إلى استصدار موقف أممي بحماية الملاحة الدولية وخطوط إمداد النفط عبر مضيق هرمز، بعد استهداف ناقلتي نفط إحداهما يابانية في بحر عمان قبل أسبوع، لن يلقى تجاوبا روسيا وصينيا في مجلس الأمن، وأن ردا أميركيا إحاديا على القوات الإيرانية في مياه الخليج سيكون موضوع نزاع دولي لأن موسكو وبكين ستعتبرانه غير قانوني. وبموقفها من إسقاط الطائرة الأميركية المسيرة أمس تتسلح بحقها في مواجهة احتمال العمل العسكري الإحادي.

أما الاستحقاقات التي تنتظرها، ومن الطبيعي أن تخشى من أن تكون في غير مصلحتها، وسط تشابك التطورات الإقليمية والدولية المعقدة، فإنها لا تقف عن حدود ترقب الاجتماع الثلاثي المنتظر الأحد المقبل بين مستشاري الأمن القومي الأميركي والروسي والإسرائيلي للبحث في التسوية في سورية والوجود الإيراني فيها، لتتبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود في موقف الحليف الروسي، من إلحاح واشنطن على انسحابها منها. فموسكو سبق لها أن تجاوبت مع طلب ترامب في هذا الصدد في قمة هلسنكي قبل سنة، لكنها فشلت عمليا في الوفاء بوعدها، في وقت لجأت طهران إلى دمج ميليشياتها في قوات النظام، وسحبت البعض الآخر (قوات “فاطميون” الأفغان).

الاستحقاق الثاني الذي يدفع طهران إلى التشدد هو اجتماع ترامب المنتظر مع كل من نظيره الصيني شي جينبينغ، والروسي فلاديمير بوتين، حيث يمكن لأي منهما أن يفضي إلى مساومات بين الملفات العديدة المتراكمة من كوريا الشمالية إلى الحرب التجارية، وإيران وسورية …

ليس بعيدا من الواقع تصنيف التصعيد الإيراني على أنه موجه أيضا إلى الأصدقاء إضافة إلى الأعداء، طالما أن الخلاف التركي الأميركي حول صفقة صواريخ “إس 400″، يسمح لها بالاعتماد على أنقرة كممر لتفادي العقوبات، ولو جزئيا…

الحياة

رهانات إيرانية على معركة الرئاسة الأميركية/ شادي علاء الدين

ارتفعت وتيرة التصعيد الإيراني ضد الأميركيين في منطقة الخليج بشكل بارز مع انطلاق معركة الرئاسة الأميركية وشهدت منطقة الخليج تصعيدا لافتا في وتيرة الهجمات الإيرانية. تم مؤخرا الإعلان عن إسقاط طائرة تجسس أميركية مسيرة من طراز “إم كيو 4سي ترايتون” في المجال الجوي الدولي فوق مضيق هرمز، وتواترت الهجمات في العراق ضد المصالح الأميركية والتي طال آخرها تجمعا لشركات نفطية عراقية وأجنبية يضم شركتين أميركيتين، كما حرصت إيران على التأكيد على أنها ستعمل على تفعيل  مشروعها النووي.

تطلق إيران مجموعة رسائل تهدف إلى التأثير على الانتخابات الأميركية، ودفع الأوروبيين إلى تشكيل جبهة تواجه الأميركيين وتخرق جدار العقوبات الذي يهز أركان الاقتصاد الإيراني بشكل جدي.

لا يمكن إغفال أن التوقيت الإيراني للتصعيد مدروس بعناية في فترة انهماك الرئيس الأميركي دونالد ترامب بحملته الانتخابية، وفي ظل مناخ أميركي عام يرفض فكرة الحرب، ويحرص على استبعادها، ولكن رد فعل ترامب على التوظيف الإيراني لما تعتقده فترة سماح انتخابية طويلة كان لافتا، فقد عمل على تحويل الأزمة مع إيران إلى جزء من السجال الداخلي، جاعلا منه شأنا أميركيا وليس ملحقا بالسياسية الخارجية وحسب، كما تريد إيران.

يصعّد ترامب منذ فترة تصريحاته ضد إيران، ولكنه في الآن عينه يكرر تأكيداته للناخب الأميركي أنه لايريد الحرب، ويضع في الوقت نفسه الخطوط الحمر التي في حال تم تجاوزها فإن الأمور يمكن أن تقلب المعادلة، وأهمها تعرض الجنود الأميركيين أو المصالح الأميركية للخطر بشكل مباشر.

هنا يبرز السؤال عن هوية الجهة التي نفذت الهجوم الصاروخي على المصالح الأميركية في العراق والتي سببت إحراجا كبيرا لكل القيادات العراقية، وخصوصا تلك المتحالفة مع إيران، وصدرت تصريحات تؤكد على أن لاجهة رسمية أو معروفة تتبنى تلك الهجمات في الوقت الذي تشير فيه أصابع الاتهام إلى الحشد الشعبي والميليشيات التابعة لإيران.

بدا الأمر وكأن إيران تريد أن تستجر حربا أو ردة فعل بتوقيتها الخاص، الذي يتلاءم معها وحسب، ويتناقض مع مصالح كل حلفائها في العراق وكذلك في لبنان الذي يشهد انفتاحا سعوديا لافتاً بمباركة أميركية، وإعلانا عن فك الحظر عن قدوم السواح السعوديين إلى لبنان.

تأتي كذلك الزيارة اللافتة لقائد الجيش جوزيف عون إلى السعودية في سياق لا يمكن فصله عن مسارات الاستراتيجية الأميركية السعودية، التي تحرص على تمكين الجيش اللبناني، وتفعيله، وتقوية دوره، كوسيلة لضرب منطق الاستراتيجية الدفاعية التي ينادي بها حزب الله كحجة للإبقاء على سلاحه.

من هنا يمكن النظر إلى هذه الزيارة بوصفها أحد الردود المتعددة التي تمارسها إدارة ترامب ضد إيران والتي تلعب معها بطريقتها الشبكية، فكما تجيد إيران إنهاك الخصوم بفتح سلسلة متصلة من الجبهات فإن أميركا ترامب ليست أقل منها باعا في هذا المجال، فهي تعمل على فتح مجموعة من الجبهات تستهدفها وتستهدف أذرعها في كل الميادين.

ما تحقق حتى الآن والذي فعله ترامب بالتزامن مع إطلاق حملته الرئاسية، هو تحويل أي حراك يستهدف أميركا في كل من العراق ولبنان إلى عنوان لأزمة سياسية وميدانية حادة، يمكن أن تنفجر في وجه حزب الله والحشد الشعبي.

تساهلت أميركا في السماح بتزويد العراق بالغاز الإيراني بعد أن عمدت القيادات العراقية إلى التنصل من مسؤولية الهجمات الصاروخية على المصالح الأميركية وإدانتها، كما أن المس بأميركا ومصالحها في لبنان بات يعني الهجوم على الجيش ودوره، وهو يتطلب فتح معركة لا يمكن لحزب الله أن يخوضها حاليا من دون كلفة عالية. يضاف إلى ذلك فتح الباب أمام معركة رئاسية مبكرة، لا يبدو أن لحليف حزب الله وزير الخارجية جبران باسيل حظوظا كبيرة فيها، في ظل تقاطع إشارات أميركية سعودية عربية وأوروبية كذلك لصالح دعم المشروع الرئاسي لقائد الجيش الحالي جوزيف عون.

يواجه ترامب الديمقراطيين بالعنوان الإيراني معتبرا أن هشاشتهم سمحت لإيران بدعم الإرهاب والتأثير على الاقتصاد، مفاخرا في الآن عينه بعناوين يربطها بما حققته سياسته المتشدده حيالها من انخفاض معدل البطالة، وارتفاع الناتج المحلي. ويخاطب الناخب الأميركي قائلا “اقتصادنا يثير حسد العالم”، بينما يعمل خصومه على نشر تحقيقات ودراسات اقتصادية تفيد بأن تحسن الاقتصاد الأميركي هو نتيجة لما كان قد أنجز في عهد الرئيس الديمقراطي السابق باراك أوباما.

لا يلقي ترامب بالاً للدرسات والإحصاءات، بل يحارب ترهل المرشحين الديمقراطيين المحتملين من قبيل جو بايدن أو بيرني ساندرز بالصخب والضجيج، وتلك القدرة الهائلة على احتلال المشهد على الدوام بغض النظر عن العنوان، وبذلك فإنه يبدو كأنه يمثل مواجهة بين فيسبوك وإنستاغرام مع الحمام الزاجل.

تحاول إيران في معركتها مع ترامب أن تواكبه وأن تكون مثله، ولكنها تكاد في منطقها وخطابها أشبه بالديمقراطيين، فهي لم تنجح حتى الآن في استجرار حلف مع أوروبا يمكنها من تشكيل وسيلة ضغط جدية، كما أن ترامب قد نجح في خلخلة مواقف روسيا والصين وإغرائهما بعناوين كبرى يصب إنفاذها في إطار ضرب التحالف مع إيران. يشغل الصين بالحرب الاقتصادية والتفاوض على تسويات في شأنها، ويغري روسيا بأن تكون العصا الغليظة ضد إيران في سوريا مقابل توكيلها بعمليات إعادة الإعمار.

تعمل إيران من جهتها على محاولة انتزاع مواقف من الأمم المتحدة تدين السعودية وتضغط كذلك من أجل لجم صفقات تسليحها، وهي قد نجحت حتى الآن في خلق جو دفع في اتجاه خروج موقف مباشر من الأمم المتحدة يتهم السعودية بشكل مباشر بالضلوع في اغتيال الصحافي جمال الخاشقجي، كما يصوت الكونغرس حاليا على رفض إتمام صفقات تسليح للسعودية.

تتعامل إيران مع هذه المعطيات بوصفها انتصارات لافتة ولكنها تغفل أو تتجاهل الدور السعودي البارز في إنتاج رئاسة ترامب الأولى وفي إنجاحها، كما تتجاهل الدور الذي تلعبه حاليا بوصفها الراعي الرسمي الأبرز لولاية رئاسية ثانية لترامب. عمليا يجب على إيران إذا شاءت انتزاع موقع لها أو تحقيق انتصارات داخل الإدارة الأميركية أن تقدم ما يوازي أو ما يفوق حجم الاستثمارات السعودية الضخمة في أميركا ترامب والذي فاق ال400مليار دولار.

اشترت السعودية حلفا وثيقاً مع عهد ترامب وهي تعمل حاليا على تمويل تجديد هذا العهد، وقد نجح الأمر حتى الآن في تحويل إيران ليس إلى عدو لها ولمنطقة الخليج بل إلى دولة تهدد الاستقرار الاقتصادي العالمي، أي أميركا نفسها، وهي النبرة التي يرددها ترامب دائما في خطاباته، في الوقت الذي يخاطب فيه الرأي الأميركي العام الرافض للحرب قائلا له لانريد الحرب، ولكننا لن نسمح بتهديد الاقتصاد والوظائف.

تشعل إيران حروبا عديدة ومحددة في الوقت الذي تجاهر فيه برفضها للحرب، وهذا ما يفعله ترامب تماما فهو يخوض انتخاباته رافعا شعار “اجعلوا أميركا عظيمة مجددا” ما يعني أنها فقدت عظمتها، أو أن هذه العظمة تحتاج إلى إعادة إنتاج، وهو ما لن يكون ممكنا إلا بالانتصار على عدو أميركا الذي يهدد العظمة والوظائف والاقتصاد ونموذج العيش الأميركي.

الحرب بين أميركا وإيران واقعة فعلا، والنقاش الآن هو حول نوعها ووتيرتها وشكلها، وأهدافها، وحدودها، وليس إذا ما كانت قائمة أو لا، ولكن ما يجدر التأكيد عليه أنها قائمة لأسباب أميركية، وليس لأسباب تخصنا، نحن الذين تلتهم إيران بلادنا في لبنان،وسوريا، العراق واليمن.

تلفزيون سوريا

حرب نقاط/ حسام كنفاني

لا بد أن حلفاء الولايات المتحدة في المنطقة، وخصوصاً السعودية والإمارات وإسرائيل، ينظرون بقلق بالغ إلى المستجد على ساحة مواجهة إيران، والتراجع الأميركي عن توجيه ضربة عسكرية إلى الجمهورية الإسلامية رداً على إسقاط الطائرة من دون طيار قبل أيام. المشكلة لم تعد فقط في إلغاء الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، الضربة قبل عشر دقائق من حدوثها، بل في ما أتبعه ترامب في مقابلته مع شبكة إن بي سي عن استعداده للحوار مع إيران “من دون أي شروط مسبقة”، والجلوس شخصياً مع المرشد الإيراني علي خامنئي أو الرئيس حسن روحاني. ويمثل هذا الموقف تحولاً كبيراً في الموقف الأميركي من طهران، والذي كان يضع مجموعة من الشروط قبل الموافقة على الجلوس إلى طاولة الحوار، وهو ما كانت ترفضه إيران بشكل دائم، وهو أيضاً ما جدّدت رفضه بعد تصريحات ترامب الأخيرة.

باتت إيران ترى نفسها الآن في موقفٍ قوي جداً، سياسياً وعسكرياً، إذ تمكنت من تسجيل نقطة في شباك الخصم، ولم تتلق أي رد فعل بعدها، بل على العكس، ها هي تستقبل المبعوثين الدوليين الذين يحاولون تنفيس الاحتقان القائم في منطقة الخليج، وتفادي تدحرج الأمور إلى مواجهةٍ عسكريةٍ شاملة، هذا إضافة إلى رسائل الانفتاح الأميركي الجديدة. ولا شك أن إيران ستسعى إلى استغلال المعطيات الجديدة لمحاولة المساومة على كسر طوق العقوبات الخانق، والذي بدأ يُنذر بانفجار شعبي في الداخل، كانت محاولة احتوائه واحداً من أهداف إسقاط الطائرة الأميركية. إذ كانت طهران تتوقع رداً أميركياً محدوداً في داخل البلاد، واستهداف مواقع للحرس الثوري، الأمر الذي من شأنه تجديد الالتفاف الشعبي حول النظام، غير أن هذا لم يحصل، ليس لأن ترامب قرأ الغاية الإيرانية، ولا لأنه خشي سقوط 150 قتيلاً، على حد قوله، بل لأنه ليس مستعدّاً لمغامرةٍ من شأنها إشعال المنطقة بأسرها، واستنزاف أميركا اقتصادياً، خصوصاً أنه على أبواب انتخابات رئاسية جديدة، سيكون الاقتصاد أهم ركائزها.

إضافة إلى ذلك، فإن حساب تداعيات أي ضربة مباشرة لإيران، وليس لمواقع لها في سورية على سبيل المثال، وهو ما يحدث بشكل دائم، من شأنه أن يوسع رقعة المواجهة بشكل كبير، وهو ما لا تستطيع الولايات المتحدة أن تتحمّله وحدها، عسكرياً وسياسياً، لذا فإن أي تحرك مثل هذا يستدعي تحالفاً واسعاً من الدول الغربية، وليس فقط إسرائيل وبعض الدول التي حضرت مؤتمر وارسو قبل أشهر. وهو أمرٌ غير متاح في الوقت الحالي، ولا يبدو أنه سيكون متاحاً أبداً، خصوصاً أن الدول الأوروبية لا تشارك ترامب النظرة نفسها إلى إيران، ولم تكن موافقة في الأساس على انسحاب الولايات المتحدة من الاتفاق النووي، والذي تراه الدول الأوروبية خير وسيلةٍ لمحاولة احتواء إيران، وإعادة إدماجها في المجتمع الدولي، على الرغم من أن الأشهر اللاحقة لإبرام الاتفاق لم تثبت ذلك.

خيار الولايات المتحدة البديل، وهو ما لجأ إليه ترامب مباشرة بعد إلغاء الضربة العسكرية، هو تشديد العقوبات الاقتصادية على إيران، وتضييق الخناق أكثر على الداخل الإيراني والدول المتعاملة مع طهران، ورفع الاستثناءات التي كانت تمنح لهذه الدولة أو تلك لاعتبارات خاصة. عقوبات يريد منها ترامب تسجيل نقطة لصالحه، وحفظ ماء الوجه الأميركي بعد خسارة طائرة التجسس، والذي مثّل ضربة للتفوق العسكري الأميركي، وتأكيداً لقدرة الردع الإيرانية.

يوماً بعد يوم، ستتراجع درجة التوتر في الخليج، وتعود إلى سقف التصعيد المضبوط غير المؤدي إلى حرب، غير أن معطياته ستكون متغيرة، سيما في ما يخص حلفاء الولايات المتحدة في المنطقة، والذين لا شك باتوا مقتنعين أن رهانهم على ترامب لمواجهة إيران كان خاسراً.

العربي الجديد،

الحرب..حلم ليلة صيف/ ساطع نور الدين

حتى الآن، ثبُت أن حلفاء أميركا وشركاء رئيسها دونالد ترامب، هم أشد المتضررين من سلوكه الأخرق وسياسته الحمقاء، ومن لغته المدمنة على الأكاذيب.

الأزمة الراهنة مع إيران لن تكون إستثناء لتلك القاعدة. وما قصة ال150 إيرانياً الذين حفظ ترامب أرواحهم عندما أحجم في اللحظة الاخيرة عن توجيه ضربة عسكرية الى إيران، سوى دليل على أن ذلك الرجل لا يمكن أن يؤخذ على محمل الجد أبداً… إلا إذا كان جزءاً من عملية خداع تنفذها المؤسسة الاميركية، وتستخدم فيها الرئيس ولسانه المتفلت وتغريداته المثيرة للسخرية.

خلف تلك القصة، التي تلقفها كثيرون وصدقوها بإعتبارها برهاناً جديداً على إنسانية ترامب وأخلاقه العالية، سُجلت وقائع ومواقف حاسمة في إلغاء أو تأجيل الضربة الاميركية الى إيران، أولها ان رئيس الوزراء الاسرائيلي بنيامين نتنياهو، وعندما علم بالنية الاميركية للانتقام من عملية إسقاط طائرة التجسس الاميركية، تدخل مباشرة مع الرئيس الاميركي طالباً منه بإلحاح شديد وقف تنفيذ تلك الخطوة الموضعية، طالما أنها ليست جزءاً من خطة حرب شاملة على إيران، ولأنها يمكن ان تجر الى سلسلة من ردات الفعل الخطرة أو المكلفة على إسرائيل وعلى بقية الحلفاء في الخليج العربي.

لكن الاهم من ذلك التدخل الاسرائيلي ان غالبية اعضاء مجلس الامن القومي الاميركي، لا سيما العسكريين منهم، وكذلك غالبية أعضاء الكونغرس بمن فيهم الجمهوريون، عارضوا أيضا توجيه تلك الضربة، لان الثأر ليس من شيم الدول، ولأن الإشتباك الاميركي الايراني المباشر هو غاية طهران وأمنيتها وربما مخرجها من الازمة الخانقة التي تهدد أمنها وإستقرارها الداخلي وربما مستقبل نظامها السياسي. وذكر القادة العسكريون الاميركيون، أن الضربة التي تلقتها أميركا باسقاط واحدة من أهم طائراتها الاستطلاعية، كانت موجعة، لكن تدمير مراكز الرادار ومرابض الصواريخ الايرانية التي أسقطتها ، ليس رادعاً كافياً، بل ثمة ردود عسكرية وأمنية وحتى إقتصادية قد تكون أشد إيلاماً لإيران.

عند هذا الحد توقف النقاش في واشنطن وألغيت الضربة، التي لا يزال بعض أعضاء الكونغرس يشككون في أنها كانت بالفعل خياراً مطروحاً على طاولة مجلس الامن القومي، ولم تكن مجرد تعبير مفرط عن الغضب الاميركي الشديد. وعندها أيضا، فُتحت مسألة الاجراءات الوقائية، والحاجة الى تفادي مثل هذا الخطأ الفادح الذي ارتكبته القيادة العسكرية عندما أرسلت طائرة التجسس المتطورة من دون حماية كافية  للتحليق في أجواء منطقة تغطيها الصواريخ الايرانية-الروسية، من طراز أس 300. كما بدأت الخطوات العملية لتعزيز القوات الاميركية في المنطقة كلها وتزويدها بوسائل إضافية للدفاع عن نفسها أولا، ولإمتلاك القدرة على خوض عمليات وشن غارات جوية وصاروخية، أوسع وأقسى من تلك المتاحة حالياً.

هكذا انتهى النقاش في واشنطن، ودارت على هوامشه أسئلة جوهرية، أهمها ان خواتيم الازمة أنهت أسطورة الحلف الاميركي السعودي الاماراتي الذي كان يعتقد أنه يوجه السياسة الاميركية نحو الحرب مع إيران، ويتمنى أوعلى الاقل يظن أن ذلك المشهد الذي تحفظه الذاكرة عن جحيم بغداد في العشرين من آذار مارس العام 2003 يمكن ان يتكرر مع طهران.. بل أن بعض رموز هذا الحلف حدد أكثر من مرة ساعة الصفر لبدء الغارات الجوية والصاروخية المدمرة على العاصمة الايرانية، قبل ان يكتشف أن الاميركيين لا يقيمون وزناً لحلفائهم العرب، إلا في شأن واحد فقط هو صفقة القرن التي يفترض أن تحقق حلم ترامب ونتنياهو بتصفية القضية الفلسطينية وتغيير جوهر التعاطي مع الشعب الفلسطيني.

لم تكن أميركا، تخادع أحداً من هؤلاء الحلفاء، لكنهم كانوا هم جاهزين للإنخداع. الازمة الراهنة لم تنته، لكنه ليس لها سوى نهاية واحدة، بسيطة، مرضية لأميركا وغير محرجة لإيران: وثيقة رسمية موقعة من المرشد الايراني علي خامنئي تؤكد عدم رغبة بلاده في إنتاج قنبلة نووية، يليها لقاء مباشر بين ترامب ونظيره الايراني حسن روحاني في بلد محايد، للاتفاق على فك الحصار، وفتح السفارات والاستثمارات وخطوط التجارة والتعاون. ولن يكون بامكان أي حليف عربي لواشنطن إلا أن يذعن، ويسلم بأن تدمير طهران لم يكن سوى حلم ليلة صيف رطبة.

وحتى ذلك الحين، لن يزول التوتر الاميركي الايراني، بل قد يتجسد في إشتباكات ومناوشات متكررة، في مياه الخليج وفي بقية الجبهات، تحبس الانفاس، وتمهد لتلك النهاية السعيدة.  

المدن

هل تهدر ايران فرصة الحوار؟/ حسن فحص

في ايار/ مايو العام 1982 حققت ايران انجازا عسكريا مفصليا في الحرب التي كانت قائمة بينها وبين النظام العراقي برئاسة صدام حسين، تمثل في استعادة مدينة المحمرة (خرمشهر). عندها سارع الرئيس العراقي لاعلان استعداده للتفاوض وصولا الى وقف الحرب والانسحاب، ولم تكن المملكة العربية السعودية بقيادة الراحل الملك فهد بن عبدالعزيز بعيدة عن هذا التطور ودفعت باتجاه وقف الحرب وإقامة السلام بين البلدين وانهاء هذه الحرب، حسب ما جاء في مذكرات الرئيس الايراني الراحل هاشمي رفسنجاني. الا ان موقف زعيم الثورة آية الله روح الله الخميني الرافض لوقف اطلاق النار والمتمسك باستمرارها حتى اسقاط النظام في بغداد لم يسمح للاصوات الايرانية الداعية لوقف الحرب بان تضغط باتجاه انهاء الحرب، ما ادى الى استمرارها حتى العام 1988 واجبرت القيادة الايرانية على تجرع كأس السم والموافقة على قرار مجلس الامن الدولي الرقم 598، حسب تعبير الخميني، وخسرت بذلك كل الامتيازات التي سبق ان عرضتها السعودية والمجتمع الدولي العام 82 ، وانتهت الحرب من دون شروط ولم تستطع ايران حتى الحصول على قرار واضح حول الجهة المسؤولة عن إشعال الحرب وما يعنيه من تعويضات قد تحصل عليها.

قبل نهاية الحرب العراقية الايرانية، شهدت منطقة مياه خليج عمان، وفي المنطقة نفسها التي شهدت قبل أيام اسقاط ايران لطائرة التجسس الاميركية من دون طيار،  تصعيدا غير مسبوق، فقد قامت القوات البحرية الاميركية حينها بإسقاط طائرة مدنية من نوع ايرباص تحمل على متنها 290 شخصا، فكانت الحادثة تحذيرا لطهران بانتهاء الفرصة الدولية امامها وعليها القبول بوقف الحرب، وهي الرسالة التي فهمتها القيادة الايرانية واتخذت قرارها بناء على التطورات والمستجدات العسكرية الجديدة.

ما من شك ان الاجراء الطبيعي الذي من المفترض على ايران اتخاذه بعد اتهامها بالوقوف وراء استهداف ناقلات النفط في مياه خليج عمان في الثالث عشر من شهر يونيو/ حزيران 2019، ان تعمد الى رفع مستوى جهوزية قواتها المسلحة الصاروخية والبحرية والبرية. خصوصا وان الاجراء الاميركي الذي تلى عملية استهداف الناقلات كان بتوجيه الاتهام المباشر لطهران، الى جانب تعزيز الوجود العسكري وارسال المزيد من القوات والمعدات الى هذه المنطقة بالتزامن مع دخول حاملة الطائرات “يو اس اس ميسن” الى مياه خليج عمان، ما يعني ان هذه القوات قد اتخذت تشكيلا حربيا استعدادا لبدء عملية عسكرية قد تكون واسعة او محدودة وتكتيكية ضد اهداف محددة داخل ايران.

المعلومات تشير الى ان القوات الصاروخية الايرانية وضعت في حالة استنفار قصوى بعد حادثة خليج عمان، استعدادا لمواجهة ضربة اميركية مفاجئة قد تتعرض لها، وان “غرفة عمليات صاروخية” خاصة قد تشكلت في طهران من اجل هذا الهدف، وهي التي وضعت القطاعات العسكرية الايرانية في حالة تأهب قصوى وتم توجيه الصواريخ الباليستية بمختلف مدياتها نحو اهداف اميركية وغير اميركية في الدول العربية الخليجية تتولى غرفة العمليات هذه تحديدها، الى جانب استنفار القوة الصاروخية البحرية لاستهداف القطع البحرية الاميركية. ووضعت وحدات الصواريخ الجوية في حالة استعداد للتصدي لاي اختراق جوي قد تقوم به الطائرات الاميركية. وهذا ما يفسر السرعة في استهداف الطائرة الاميركية المسيرة في النقطة صفر بين الاجواء الايرانية والاجواء الدولية، على اختلاف الرواية بين طهران وواشنطن. اي ان طهران كانت تدرك انها دخلت في مرحلة متقدمة من المواجهة مع واشنطن وان التصعيد وارتفاع منسوب التوتر قد يؤدي الى حدوث مواجهة محدودة او موسعة، وان عليها الاستعداد لتلقي الصدمة الاولى.

قد تختلف التقديرات حول موقف الرئيس الاميركي الذي قرر استيعاب العمل الايراني باسقاط احدى طائرات التجسس الاستراتيجية في ترسانته العسكرية، وان لا يذهب الى توجيه ضربة محدودة بذرائع مختلفة تثير ايضا الكثير من علامات الاستفهام. الا ان الواضح هو ان ترمب لا يريد الذهاب الى مواجهة تخرج من دائرة الضربة التكتيكية او الجراحية الى حرب مفتوحة، وذلك انسجاما مع عقيدته بعدم الرغبة في الدخول في حروب خارج الولايات المتحدة الاميركية. ولا يمكن انطلاقا من هذه الرؤية اعتبار ما حصل في عدم الرد العسكري بمثابة هزيمة لواشنطن في مقابل نصر حققته طهران، وهو أمر لا تدعيه الاخيرة، بل وضعته في اطار الدفاع المستميت عن حدودها وسيادتها حسب تعبير المتحدث باسم الخارجية عباس موسوي. الا انه يدفع الادارة الاميركية الى اعادة حسابات الحرب التي قد لا تكون سهلة وسريعة، وبالتالي فان اللجوء الى خطوة الى الوراء من اجل تلافيها في هذه المرحلة الدقيقة داخليا ودوليا افضل من الدخول في نفقها المظلم والطويل.

التحرك الدولي السريع لاستيعاب الحادثة والضغط من اجل استبعاد خيار الحرب، قد يشكل مدخلاً جدياً امام القيادة الايرانية من اجل النزول عن سلم الموقف المتصلب برفض التفاوض، والعمل من اجل ايجاد مخرج للمسار الذي رسمه المرشد الاعلى للنظام في اطار رؤيته الاستراتيجية لما يجري مع واشنطن بتأكيده على مبدأ “لا حرب ولا تفاوض”. من خلال تحويل ما حدث الى نقطة انطلاق نحو الدخول في مرحلة جديدة من التفاوض، لا الاستمرار في اعتماد الموقف الحالي قد لا يكون مثالياً لتأمين المصالح الايرانية، وان الرسالة التي أوصلتها طهران باسقاط هذه الطائرة والموقف الدقيق الذي وضعت فيه الادارة الاميركية، قد وفر لطهران اوراقاً تعزز امكانية الجلوس الى طاولة المفاوضات، وان هذه المرحلة تختلف عما سبقها، لان قبول ايران بالتفاوض قبل اسقاط الطائرة قد يفسر بانه جاء نتيجة للضغوط الاقتصادية وتأثير العقوبات الاميركية عليها، وبالتالي فان الفرصة تبدو سانحة للقيادة الايرانية للذهاب الى مفاوضات مع واشنطن، تساهم في تخفيف التوتر وتمنع الوصول الى طريق مسدود قد يجبر واشنطن على اللجوء الى الخيار الاسوأ، بل تسمح لها بالتخفيف من حدة العقوبات او التوصل الى تسوية تعمد فيها واشنطن الى تضييق دائرة العقوبات وحصرها بالمستوى الاميركي، وبالتالي تفتح الطريق امام الطرفين للتفاهم على تخفيف التوتر بينهما وبحث جميع الملفات المختلف حولها وصولا الى ملف الاستثمارات الاميركية في ايران ولاحقا العلاقات الثنائية بينهما.

المدن

هل ترفع احتمالات الحرب في الخليج أسعار النفط؟/ وليد خدوري

عادةً، نتوقع ارتفاع أسعار النفط عند اشتداد الأزمات السياسية، لا سيما في حال نشوب معارك عسكرية في منطقة الخليج. وبالتالي فإن الاعتداءات على أربع ناقلات في بحر العرب، أثارت تكهنات بأن أسعار النفط سترتفع، إلا أن أسعار النفط الخام تراجعت في حزيران/ يونيو عن أيار/ مايو، على رغم التهديدات العسكرية التي واجهتها الناقلات والمنشآت النفطية في شبه الجزيرة العربية.

كما أن الأوضاع السياسية المرتبكة في معظم دول الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، وفي بعض أقطار أوبك الأعضاء مثل فنزويلا وإيران، تفاقم المخاطر على أمن الإمدادات النفطية من الشرق الأوسط. فعلى سبيل المثال، أدى اشتداد الحرب الأهلية في ليبيا إلى انخفاض الإنتاج إلى أقل من مليون برميل يومياً، وتذكر في هذا السياق تأثيرات الحصار الأميركي على الصناعات النفطية في كل من إيران وفنزويلا، وهما عضوان مؤسسان لمنظمة اوبك.

لكن، على رغم المخاطر على أمن الصادرات النفطية من دول الخليج، في ظل الاشتباكات المحدودة حتى الآن، وعلى رغم تزايد الحصار الأميركي على بعض الدول المصدرة، نجد أن أسعار النفط الخام، انخفضت، من نحو 70 دولاراً للبرميل في منتصف نيسان/ أبريل، إلى نحو 60 دولاراً للبرميل في منتصف حزيران. ويشكل ذلك نهجاً يختلف تماماً عن تطور الأسعار في التجارب السابقة، أثناء اشتداد الصراعات العسكرية والأزمات السياسية.

تثير هذه الظاهرة أسئلة عدة حول مسيرة أسعار النفط. وبالفعل، تنعكس عوامل عدة على الأسعار وتؤثر فيها. فمن ناحية، نجد أنه على رغم الحصار الأميركي على نفط إيران وفنزويلا وانخفاض إنتاج الدولتين وصادراتهما في هذه الفترة الحرجة، تم تعويض هذا النقص في الامدادات بالزيادة المهمة في الإنتاج النفطي الأميركي، لا سيما النفط الصخري. فقد ارتفع إنتاج النفط الأميركي في السنوات الماضية، ليفوق مستواه إنتاج روسيا أو السعودية. وبالفعل، ارتفع الإنتاج الأميركي من نحو 9 ملايين برميل يومياً عام 2016، ليصل إلى نحو 12 مليون برميل يومياً في منتصف حزيران 2019. وقال رئيس وكالة الطاقة الدولية فاتح بيرول إن “توقعات وكالة الطاقة الدولية تشير إلى أن إنتاج الولايات المتحدة سيستمر في الازدياد، وأن الولايات المتحدة ستصبح خلال خمس سنوات أكبر دولة مصدرة للنفط في العالم”.

وإضافة إلى دور الإنتاج النفطي الأميركي المتزايد، نجد أن المخزون التجاري النفطي في ارتفاع مستمر، الأمر الذي يضع سقفاً على أسعار النفط. فكلما ازداد هذا المخزون، اطمأنت الأسواق إلى توفر نفط كاف، ولا حاجة للتخوف من شح الإمدادات. وارتفع المخزون منذ بداية عام 2019. فقد ضغط الرئيس دونالد ترمب، عند إعلانه الحصار على إيران، على الدول المصدرة لزيادة الإنتاج في حينه، للتأكد من عدم زيادة الأسعار عند بدء الحصار على إيران. كما أن دولاً كثيرة رفعت إنتاجها، لكنها فوجئت ليلة إعلان بدء الحصار، بإعفاء الدول المستوردة النفط الإيراني، من التزام الحصار. وارتفع المخزون إثر ذلك، وأخذ يضغط بدوره على الأسعار. المخزون في الولايات المتحدة، مثلاً، ارتفع من نحو470 مليون برميل في نيسان إلى 485 مليون برميل في منتصف حزيران.

برزت عوامل ضاغطة على الطلب في الوقت ذاته. فالحرب التجارية التي تشنها الولايات المتحدة على الصين، أدت إلى انخفاض الطلب على النفط. وأدى التغير الكبير في السياسة الاقتصادية الصينية، عبر إعطاء الأولوية للاقتصاد والاستهلاك الداخلي بدلاً من الصادرات، إلى تقليص الطلب في الصين نفسها (أكبر دولة مستهلكة للطاقة في العالم).

هناك اختلاف مهم بين الصراع الأميركي – الإيراني اليوم، وبين واشنطن وبغداد عام 2003. ففي الحرب على العراق، كان الهدف الأميركي واضحاً، وهو إزالة حكم البعث في العراق والرئيس صدام حسين. في الحالة الإيرانية، كررت واشنطن موقفها الرسمي مرات عدة، وهي أن لا نية لديها لإنهاء النظام الحالي. وربما الأهم من ذلك، هو أن ليس باستطاعة الولايات المتحدة إسقاط النظام في طهران.

هل سيستمر تراوح الأسعار ما بين 60 و70 دولاراً للبرميل، كما هو الأمر منذ بداية الحصار الأميركي والاعتداءات على الناقلات والمنشآت النفطية؟ يمكن القول من الناحية الاقتصادية، إنه بما أن هناك فائضاً في المخزون التجاري النفطي العالمي، في ظل طاقة إنتاجية ضخمة لدى الدول المصدرة، سيكون بالإمكان المحافظة على معدل الاسعار الحالي.

لكن في حال تصاعد المواجهة العسكرية الأميركية – الإيرانية (أو نشوب الحرب لحسابات دقيقة أو خاطئة)، في منطقة الخليج العربي وارتفاع خطورة تأمين الصادرات النفطية من دول الخليج، فسترتفع الأسعار إلى مستويات عالية. والسبب واضح، فعلى رغم توسع صناعة النفط العالمية بحيث يبلغ معدل الإنتاج النفطي العالمي الآن نحو 100 مليون برميل يومياً، فإن معدل الصادرات النفطية من دول الخليج يبلغ نحو 20-25 مليون برميل يومياً. ولا طاقة إنتاجية فائضة حالياً من خارج منطقة الخليج تستطيع أن تعوض هذه الإمدادات النفطية. ومن ثم فإن انقطاع كميات كبيرة من نفط الخليج، وازدياد مخاطر التصدير، ما يعني تأخر الصادرات أو عرقلتها، سيؤديان إلى ارتفاع الأسعار وانكماش الاقتصاد العالمي وازدياد البطالة.

درج

رقصة حربٍ في الخليج

ليس حادث التفجير الذي استهدف ناقلة النفط النروجية في خليج عمان مؤشر الانفجار الوحيد الذي يلوح اليوم. قبله بليلة واحدة استهدف الحوثيون مطار أبها المدني في المملكة العربية السعودية، وقبلها بأيام قصف الحوثيون منشآت نفط في شمال الرياض، وسبق هذا كله حادث تفجير مشابه لحاملات نفط بالقرب من سواحل امارة الفجيرة.

الحادث اليوم هو الأقوى والأكثر وضوحاً في سياق هذه الاستهدافات، وهو يعزز احتمالات الحرب في ظل الاحتقان الكبير الذي تشهده المنطقة. فطهران هددت بأنها لن تقف مكتوفة الأيدي إذا ما نجح الأميركيون في تصفير صادراتها من النفط. لكن الرد على هذا النحو يبدو سافراً للوهلة الأولى، ذاك أن إيران تستدرج رداً ستعقبه حربٌ، فهل هذا ما تريده الجمهورية الإسلامية؟

لا شك أن حرباً في الخليج ستكون هائلة إلى حدٍ يشعر معه المرء بأنها ستحرق كل الأطراف المشاركة فيها. إيران لن تنتصر فيها على واشنطن طبعاً، لكن الخليج أكثر هشاشة، ودوله غير معدة لهذه المصائر. أما الولايات المتحدة الأميركية، فما سينجم عن هذه الحرب سيرتد عليها أيضاً، ذاك أن الخليج هو رئة أساسية للاقتصاد العالمي، واشتعاله سيصيب هذا الاقتصاد بمقتلٍ لن تنجو منه واشنطن. وأينما التفت المرء فلن يجد إلا الخسائر في حال وقعت الحرب.

هذه الاعتبارات تدفع إلى استبعاد حرب في الخليج، لكن ما يجري على الأرض لا يدفع باتجاه هذه القناعة. فاستهداف ناقلات النفط من قبل جهات “مجهولة” اذا ما قرن بوقائع ليست مجهولة الفاعل من نوع استهداف مطار أبها وقبله استهداف مصفاة النفط في شمال الرياض، سيدفع إلى الاعتقاد بأن طهران أيضاً وراء تفجيرات السفن وناقلات النفط. وهذا بدوره يضع الجمهورية الإسلامية أمام احتمالات كبيرة للرد. اذاً الحرب على الأبواب في الخليج، أو أن ثمة من يرقص على حافة الهاوية بانتظار استدراج تسوية تناسبه. طهران تجيد هذا النوع من الرقص، إلا أن المغامرة على هذا النحو تبدو غير محسوبة، لا سيما وأن تحديد هوية الفاعل لا يبدو أنها مهمة صعبة في ظل ما تتيحه البحار من وضوح وانكشاف.

العالم كله أصابه ذعر مما حملته رسالة التفجير الأخير في بحر عمان. فسرعان ما بدأت ردود الفعل والتحذيرات تصدر من معظم عواصم العالم. اليابان التي تتوسط بين طهران وواشنطن سارعت إلى التعبير عن مدى خطورة الوضع، وكذلك بريطانيا والولايات المتحدة. فالمستهدف هذه المرة هو اقتصاد العالم، ومن المؤشرات على ذلك ارتفاع سريع بأسعار النفط أعقب التفجير، ورفع شركات التأمين قيمة بوليصاتها على البواخر المتجهة إلى الخليج.

النظام في إيران لن يذهب إلى مواجهة إلا في حال كان على قناعة بأن الحصار الذي باشرته واشنطن سيكون خطوة نحو اضطراب أوضاعه في الداخل، وهذا احتمال كبير، ذاك أن انهيار العملة الإيرانية بدأ يصدع نفوذه على أكثر من صعيد. هذا الاحتمال يدفع فعلاً إلى التشاؤم وتعزز منه مواظبة الفاعلين على استهداف ناقلات النفط، ناهيك عما يوازيها من استهدافات أقدم عليها الحوثيون في السعودية.

تدرك طهران أن واشنطن لن تغامر برد يُشعل الخليج، ويبدو أنها مستعدة لردود محدودة ربما تقدم عليها واشنطن، لكن هذه المعادلة لا يمكن السيطرة عليها بالكامل خصوصاً أنها ترتسم في منطقة شديدة الهشاشة، فاليمن وهو جزء من الخليج يشهد حرباً أهلية وإقليمية طاحنة، والعراق، وهو أيضاً جزء من الخليج خرج لتوه مدمى من حرب على “داعش” ما زالت ارتداداتها تؤرق كل دول المنطقة.

في الديبلوماسية، تجيد طهران الرقص على حافة الهاوية، ولكن للحرب قواعد أخرى. في السابق اتعظت إيران من نتائج الحروب. شرب الخميني “كأس السم” في تصريحه الشهير آنذاك وقبل بإنهاء الحرب مع العراق. اليوم يبدو أن لدى طهران قناعة بأن المستهدف هو مستقبل النظام، وأن عليها أن تُبلغ العالم بما يمكن أن ينجم عن استهدافها. هذا رقص من نوعٍ آخر، وفي حال تحقق ما يتوقعه المتشائمون فإن حرب الخليج القادمة لن تبقي الجبهات الأخرى خارج نارها. وطهران التي بنت نفوذها في المشرق عبر هلالها الموازي الذي يضم العراق وسوريا ولبنان لن تترفع عن توظيفه في حرب الوجود التي تخوضها.

العقلاء وسط هذا المشهد ليسوا كثراً. فمن جهة لدينا دونالد ترامب ومن جهة أخرى لدينا الحرس الثوري الإيراني، وبينهما الخليج بحكامه الجدد الغارقون بمغامراتهم غير المحسوبة. المشهد مقلق فعلاً.

بين سلاحَي الحرب والحصار/عبد الرحمن الراشد

أنا من أشد المناصرين لإجبار النظام الإيراني على تغيير سياساته، وفي حال الفشل أنا مع دعم تغيير النظام، لكن ليس بأي ثمن. وغنيٌّ عن القول إنّ تغييره سلمياً أفضل وأجدى لنا جميعاً.

والنتيجة المثالية التي نرجوها سلماً أو حرباً من إيران أن تتوقف عن مشاريعها العسكرية، من بناء قدرات نووية عسكرية، وصاروخية، وتمتنع نهائياً عن نشر الفوضى والحروب في المنطقة. إنما نحن نعرف أن طهران لن تفعله من تلقاء نفسها، ولا توجد هناك من وسيلة سوى إجبارها على ذلك. والسلاح الأمضى هو حصارها اقتصادياً.

أما مواجهتها عسكرياً فليبقَ الحل الأخير، لا نلجأ إليه إلا في حالة الدفاع عن النفس. ولهذا كل السياسيين يكررون القول ويشددون عليه، لا نريد الحرب. السؤال الشائع: لماذا لا نريد الحرب إن كانت هي الحل الأسرع، يمكن من خلالها إجبار النظام الإيراني على الانصياع، بدلاً من الانتظار عامين، أو خمسة أعوام مقبلة حتى تفلس حكومة المرشد خامنئي وتستسلم؟

ببساطة شديدة، الحرب، رغم أننا المتفوقون فيها، ليست مضمونة النتائج. نحن أمام نظام لا يبالي لو مات مليون أو مليونان من مواطنيه، نظام لم يبنِ شيئاً يخشى عليه من الدمار، نظام يعتقد أنه من خلال الحرب سيستنهض الوطنية لتسعين مليون إيراني، نظام سيراهن على نشر المزيد من الفوضى في العراق والخليج. هناك الكثير من المعطيات الأخرى التي تجعل الحرب الحل الأخير وعند الضرورة فقط، لا أحد عاقلاً يحب خوض الحروب.

مع هذا، سنسمع الكثير من الآراء المتحمسة، التي تهوّن من المخاطر، أو تبالغ في المكاسب، أو تبسّط الوضع المعقّد، جميعها تريد حلاً سريعاً لمشكلة مزمنة عمرها أربعون عاماً، اسمها نظام إيران. والذين يريدون من الولايات المتحدة، والغرب عموماً، أن يحارب عنهم بالنيابة، يَغفلون عن أن لهذه الدول حساباتها العليا، والقوى الكبرى ليست للإيجار كما يصر كثيرون على تفسير السياسات الأميركية والروسية والأوروبية بأنها ذات دوافع تجارية. هي دافع واحد في الحروب، إنما هناك مصالح استراتيجية.

وفي حال استمر الحصار الاقتصادي على نظام إيران، كما نراه يطبَّق اليوم، فإننا سنصل إلى الساعة التي يضطر فيها المرشد الأعلى خامنئي إلى تجرع السم والخضوع لشروط السلام. إنها أكثر الأسلحة تأثيراً وإيذاءً للنظام. وهي أقل مخاطرة لدول الخليج والولايات المتحدة رغم ما نراه ويفعله الإيرانيون من استفزاز بتلغيم ناقلات النفط والقصف باستخدام الدرونز.

لكن عندما تقرر طهران مواجهة الحصار بالقتال حينها تصبح دول الخليج وحلفاؤها معذورة في الدفاع عن نفسها ومصالحها مهما كانت النتائج اللاحقة. وهذا ما يريده الجميع على الضفة الغربية من الخليج، عدم الدخول في حرب إلا دفاعاً عن النفس، وبشكل واضح للعالم أنه الطرف المعتدَى عليه.

وفي حال وقع المكروه، سيكون نظام إيران المهزوم في الحرب المقبلة المحتملة، فهو الطرف الأضعف في معادلة القوة. لكن تبقى الحرب السلاح الأخير في المواجهة الحالية، تحاشياً للخسائر البشرية والمادية على الجانبين، ونعطي للسلام فرصته.

إسقاط “الصقر العالمي”: رسائل ترامب وردود إيران/ نجاح محمد علي

لم يكن استهداف طائرة التجسس الأمريكية الضخمة “غلوبال هاوك” واسمها يعني بالعربي “الصقر العالمي” خطأً أو ردة فعل طبيعية لعبور طائرة من دولة معادية الأجواء الإيرانية، بل كانت عملاً منظما نفذ عن قصد بعد جهد استخباراتي واسع شاركت فيه “خلايا إيران الصامتة” في الإقليم. وقد أشار قائد الحرس الثوري الإيراني إلى أن طائرة عسكرية أمريكية كانت تقل 35 أمريكياً كانت ترافق الطائرة المسيرة التي أسقطت قائلاً “عندما رصدنا طائرة التجسس كانت هناك طائرة تجسس أمريكية أخرى تحت اسم p-8  تحمل 35 شخصاً برفقتها لكننا امتنعنا عن ضربها” رغم أنها كانت فوق المياه الإيرانية، ما يعني أن إيران لا تريد التصعيد وقد أرسلت رسالة إلى واشنطن بأن تتجنب هي أيضاً التصعيد.

الطائرة استهدفت وأسقطت لتوجه من خلالها إيران عدة رسائل في آن أهمها أنها مستعدة للمواجهة والذهاب إلى أبعد مدى في حرب مفتوحة تحرق الأخضر واليابس.

وبينما كان المحللون الاستراتيجيون يبحثون في كيفية الرد الأمريكي على ما سمي من قبل أعضاء نافذين في الكونغرس بالإهانة الإيرانية، وقال البعض إنه “ابتزاز” تمارسه طهران بإسقاطها الطائرة الأمريكية بدون أن تحصل على عقاب، كان أنصار الله وحلفاؤهم في اليمن أعلنوا عن استهداف لأول مرة منذ اندلاع الحرب على بلادهم محطة كهرباء، وأتبعوه بتصريح لافت لمتحدث عسكري رسمي (يوم إسقاط الطائرة الأمريكية) أنهم سينفذون عمليات نوعية لم تخطر على بال وأن لديهم دفاعات جوية لم يستخدموها بعد ستغير المعادلة، قائلاً “لدينا تقنيات متطورة لا تستطيع المنظومات الاعتراضية الأمريكية وغيرها المنتشرة في السعودية التعامل معها” ووعد باستهداف المزيد من محطات الكهرباء وبعدها محطات تحلية المياه ومطارات دولية كبرى في المنطقة.

ويقول وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف إن “الصقر العالمي” تكسرت أجنحته في السواحل الإيرانية، وأن بلاده تملك بقايا حطام الطائرة للتأكيد على صحة روايتهم.

وسارعت طهران إلى تقديم شكوى لدى الأمم المتحدة ضمّنها إحداثيات الطائرة الأمريكية التي أسقطها الإيرانيون بمنظومة “الثالث من خرداد” المحلية الصنع وهذه أيضاً رسالة لها مغزى عن قدرة هذه المنظومة في استهداف طائرات  F22 وF35

وجاء في الرسالة الإيرانية إلى أمين عام الأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش “إسقاط الطائرة الأمريكية تم بعد عدة انذارات وفي إطار المادة 51 من ميثاق الأمم المتحدة، وأن الانتهاك الأمريكي للأجواء الإيرانية يتناقض مع البند الرابع من المادة الثانية من ميثاق الأمم المتحدة”.

تدرك طهران جيداً أن الرئيس الأمريكي ترامب في وضع لا يحسد عليه بعد يوم من تدشينه رسمياً حملته الانتخابية، وقد استهدفت الطائرة الأمريكية بشكل مدروس وبجهد استخباري عالي المستوى حدد خروج الطائرة من مربضها في دولة عربية وتحركها باتجاه مضيق هرمز وبحر عمان ثم توجهها نحو أجوائهم المحلية وهناك كان القرار جاهزاً بإطلاق صاروخ عليها وتصوير ذلك.

وبدا واضحاً تماماً أن الرئيس الأمريكي الذي قدم له خبراء البنتاغون خيارات مختلفة للرد على إيران وكلها عسكرية، اختار الاستمرار في سياسة اللاحرب رافضاً تحمس البعض لرد عسكري وإشعال المنطقة، ومرجحاً الاستماع لأصوات رافضي الحرب في واشنطن بينهم زعيمة الديمقراطيين رئيسة مجلس النواب نانسي بيلوسي.

وقالت بيلوسي: “هذا موقف خطير وشديد التوتر يتطلب نهجاً قوياً وذكياً واستراتيجياً وليس متهوراً. لا أعتقد أن الرئيس يريد خوض الحرب. ليست هناك شهية في بلادنا لخوض الحرب”.

وبالفعل سارع ترامب مرة أخرى إلى إرسال رسالة جديدة إلى إيران وعرض المفاوضات حول مسائل محددة عبر سلطنة عمان التي استضافت في اليوم التالي لاندلاع الأزمة وزير الخارجية العراقي محمد علي الحكيم وهو يحمل أفكاراً للتهدئة من مبدأ حسن الجوار.

تهدئة أم مفاوضات؟

رسالة ترامب الأخيرة غداة إسقاط “الصقر العالمي” تعاملت معها طهران بمرونة أكبر وأبلغت الناقل العماني بأنها متأهبة لأي طارئ وإصبعها على الزناد لكنها مستعدة أيضاً لفتح صفحة جديدة مع ترامب فور عودته إلى الاتفاق النووي المصادق عليه بقرار مجلس الأمن الدولي رقم 2231 ورفع العقوبات. وقال مسؤول إيراني للعمانيين: “العقوبات والحرب وجهان لعملة واحدة، واستمرار العقوبات يؤدي للحرب شئنا أم أبينا ونحن جاهزون لها لكننا مستعدون أن يخرج ترامب رابحاً إذا عاد للاتفاق النووي ورفع العقوبات” مشيرين إلى أن مجرد الدخول مع الرئيس الأمريكي في مفاوضات سيدعمه في الانتخابات الرئاسية المقبلة، فالمفاوضات التي يريدها ترامب مستخدماً الضغوط الاقتصادية وإيجاد أجواء الحرب لن تجدي نفعاً مع إيران.

كذلك استثمرت طهران زيارات موفدين لها بالإبقاء على كوة صغيرة مفتوحة مع الاتحاد الأوروبي بإعلانها عدم الانسحاب من الاتفاق النووي، لكنها لوحت بالانسحاب من معاهدة عدم الانتشار النووي حسب ما تسمح به المادة 17 من المعاهدة. وقد أبلغت طهران زائريها أنها قد تنسحب من معاهدة الحد من الانتشار بسبب ضغوط البرلمان والشارع ما لم ينفذ الأوروبيون آلية للالتفاف على العقوبات.

أخيراً، أرسلت طهران رسالة أخرى من خلال تبنيها بشكل رسمي عملية إسقاط “الصقر العالمي” وهي أنها تفصح عن عملياتها العسكرية وتتحمل المسؤولية فيها، لكن ماذا عن تفجيرات الفجيرة والهجوم على ناقلات النفط في بحر عمان وهي ربما ستستمر وسيستمر الفاعل فيها “مجهولاً” ألا يمكن أن تؤدي إلى اندلاع حرب لا يرغب بها ترامب الغارق في معركة الانتخابات مع منافسين شرسين يرفضون الذهاب إلى حرب مع إيران؟

فهل ستنجح الوساطات وهي كثيرة أم سيعض ترامب على يديه إذا لم يحسن استخدام الورقة الإيرانية في الانتخابات الأمريكية؟

القدس العربي

إيران تُسقط طائرة/ فاطمة ياسين

الآن، في الوقت الذي تتناقل فيه الأخبار عناوين عريضة لاستهداف ناقلات وإسقاط طائرات بلا طيار في منطقة الخليج، يعلن الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، عن مرشحه لوزارة الدفاع. يختار وزير الجيش الأميركي، ويدعى مارك إسبر، ويمتدحه بأنه ذو خبرة عريضة، وسيقوم بعمل رائع.

كان مارك إسبر ضابطاً في فرقة مشاة محمولة جواً، خاضت حربَ عاصفةِ الصحراء في الخليج، وكانت كتيبته جزءاً من القوات الأميركية التي هزمت الجيش العراقي، ونال نياشين متوسطة القيمة العسكرية، ووصل إلى رتبة مقدَّم وعمل مديراً تنفيذياً لبعض المؤسسات، قبل أن يرشّحه ترامب لمهمة امتصاص كل توتر الخليج الناشئ عن أسلوب العقوبات القصوى الذي يعتمده لدفع إيران إلى طاولة التفاوض من جديد، فترامب أصرّ، وما زال، على أنه لا يرغب في شن حربٍ، لكنه يزيد من ضغوطه الأخرى، بما فيها حشد مزيد من القوات في الخليج.. ويبدو أن إيران تفهم المقصود، وتعرف أنها مطلوبةٌ بشدة للتفاوض، ولكنها ما زالت تختبر الصبر الأميركي، فتنفذ ضرباتٍ بسيطة في الخليج، وصلت إلى حد إسقاط طائرة غير مأهولة.

ترغب إيران بمعرفة نوع ردود الأفعال الأميركية على ما تقوم به، للوصول إلى نهاية اللعبة التي قد تكون حرباً واسعة، أو طاولة مفاوضات، الأمر الذي يجعل وزير الدفاع الأميركي الجديد، المطلع على مناخات الحرب في الخليج في وضع قلق.

القوات الأميركية في الخليج غير كافية لتنفيذ هجوم واسع على إيران، ولكنها بدأت بتعزيز قدراتها منذ شهرين، وبإمكانها ضرب مجموعةٍ من الأهداف المتناثرة على طول الساحل الإيراني، الأمر الذي قد يجرّ رداً إيرانياً، وهذه ستكون نقطة مفصلية، فما يريده ترامب هو محادثات تفاوضية جديدة مع حسن روحاني، بعد أن يكون قد مزّقه اقتصادياً، لصياغة معاهدة جديدة يمكن أن يوضع فيها حدٌ لصناعات إيران البالستية، وكبحٌ لطموحاتها الكبيرة في المنطقة.. ولكن تماسّاً عسكرياً، وإن كان محدوداً يمكنه أن يجعل هذا اللقاء صعباً، أو قد يؤجل موعدَ عقده فترةً طويلةً، وهذا ما جعل ترامب يتراجع عن قراره بالرد، ويعيد الطائرات التي قيل إنها انطلقت لضرب أهدافٍ إيرانية منتقاة، عقب سقوط الطائرة غير المأهولة، ويعكس هذا مقدار التردّد الذي يصيب الإدارة الأميركية حيال اتخاذ قرارٍ ضد إيران.

غيَّر ترامب، خلال الفترة التي انقضت، وزير الخارجية ومستشار الأمن القومي ووزير الدفاع الذي رُشِّحَ بديلُه بتغريدة لترامب على “تويتر”، وهو في عملية بحثٍ مستمرة عمن ينفذ سياساته من دون جدال كبير، وفيما يبدو لم يفلح حتى الآن في الوصول إلى التشكيلة المتناسقة، خصوصاً في ما يتعلق بملف إيران، ومن الممكن أن يكون وزير الدفاع الجديد، بخبرته الخليجية السابقة، من مؤيدّي التدخل العسكري ضد إيران، ليشكل، إلى جانب صقرَي الإدارة الحاليين، مستشار الأمن القومي، جون بولتون، ووزير الخارجية، مايك بومبيو، جبهة جديدة وقوية وقادرة على جذب الدعم من قطاعات شعبية ونيابية.. وجبهةٌ كهذه تشكل غرفة عملياتٍ عليا قادرة على اتخاذ قراراتٍ في غاية الخطورة، تصل إلى حد السماح بتنفيذ هجمات عسكرية، ولكن التصريحات الأخيرة لترامب وإدارته تتجه إلى ابتلاع حادثة إسقاط الطائرة، في انتظار حركة إيران التالية، ما يُبقي الوضع في حالة ترقب ساخنة.

بلغ التوتر أوجه في هذه اللحظة، وتسريب خبر الطائرات الأميركية التي أقلعت وعادت، ثم إعلان ترشيح وزير الدفاع الجديد، هو حلقة الضغط الأخيرة على إيران، فقد استنفذ ترامب كل وسائل شد الخناق، ولم يبق إلا نوعية التحرك الإيراني لتحديد الخطوة التي ستلي وضعية الترقب والتراشق عبر نشرات الأخبار.

العربي الجديد،

مواجهة أميركا وايران: إسرائيل تتراجع/ أدهم مناصرة

ليس وحده ذلك التصريح الإعلامي الصادر على لسان الرئيس الأميركي دونالد ترامب، الذي يكتفي فيه بالتحذير من “محوِ إيران” في حال اندلعت حرب بين البلدين، يعطينا إنطباعاً بأن رد واشنطن العسكري على إسقاط طائرتها المسيّرة في مياه الخليج قد ذهب أدراج الرياح، ولم يتعدَ الحرب النفسية على إيران.

بل يُستشف أيضاً ذلك من مستوى وطريقة متابعة وتغطية وسائل الإعلام الإسرائيلي لمسألة تداعيات إسقاط الطائرة، حيث اتسمت هذه التغطية بأنها باتت أقل حماسة وأكثر واقعية في اليوم الثاني والثالث للواقعة، رغم أن ما بعد إسقاط الطائرة لا يزال خبراً رئيسياً فيها حتى الآن.

وإذا ما تم الخوض في مدلولات وسياقات المتابعة الإعلامية الإسرائيلية لواقعة إسقاط الطائرة الأميركية المُسيَّرة، فستبدو منفصمة. ذلك أن المواكبة، خلال الساعات الأولى لإسقاط الطائرة، مختلفة تماماً عما تبعها، وهو الأمر الذي اعتبره متخصصون في الشأن الإسرائيلي في حديثهم لـ”المدن” مؤشراً لسيطرة مجموعة “نخبوية” صغيرة في إسرائيل على هذا الإعلام.

فهذه المجموعة النخبوية تساوقت مع “فوبيا” الجهات الرسمية في إسرائيل من إدراك الرأي العام الأميركي بأن تل ابيب هي التي “تحرّض الولايات المتحدة” على التورط في حرب لا تُعرف نهايتها. وبالتالي قررت تخفيف حدة التغطية.

فمنذ اللحظة الأولى للإعلان عن واقعة الإسقاط، ظهر النقاش العام في إسرائيل في البداية على شكل فرحة لدى الأوساط اليمينية، وحتى يسار الوسط، وبشكل يوحي بحالة من الإجماع في الدولة العبرية، أملاً في أن يكون الإسقاط مبرراً لـ”تأديب إيران هذه المرة”.

وقد عكس هذا الفرح، خروج نتنياهو بإستعراض تلفزيوني يعلن فيه تضامنه مع الولايات المتحدة ضد ما أسماه “العدوان الإيراني الذي لم يعد يُطاق”، ليجد نتنياهو ضالّته في هذه الحادثة علّه يجند الرأي العام الدولي ضد طهران، من خلال مطالبته بالوقوف بوجه هذا “العدوان”، تحت عنوان “آن الأوان”.

لكن هذا التسخين لم يدم هذا التسخين طويلاً، بل لم يتعدّ ساعات قليلة.. فلما شَعر نتيناهو، ومعه القادة الأمنيون، بأن “الجدّ قد بدأ”، صمت نتنياهو، بل وعممّ على وزرائه بالصمت وعدم الحديث الإعلامي عن الموضوع، وذلك بموازاة انغماسه بمشاروات استراتيجية مع المستويات العسكرية والإستراتيجية طيلة ليل الخميس، حول سؤال مركزي مفاده: “هل من الصواب الذهاب لهذا التصعيد في المنطقة أم لا؟ ما هي الإيجابيات والسلبيات بالنسبة لإسرائيل التي ستجد نفسها في مقدمة الحرب الشاملة شاءت أم أبت؟!”.

ولمّا أفاق العالم، صبيحة الجمعة، وجد أن ترامب قد تراجع عن توجيه ضربة لأهداف إيرانية لإعادة الإعتبار الأميركي بعدما أُسقطت الطائرة بلا طيار، ثم بدأ الإعلام الإسرائيلي خفض وتيرة “التهويل” بشكل تدريجي.

فقد تصدر الإذاعة الإسرائيلية الرسمية “مكان”، على سبيل المثال لا الحصر، عنوان: “إسرائيل تتابع التصعيد الأخير في الخليج”. وقد ظهرت هذه الإذاعة أكثر واقعية في اليوم التالي عندما أقرّت بخشية إسرائيل من إحتمال محاولة طهران جرها الى هذه المواجهة بواسطة تصعيد على الحدود مع لبنان او قطاع غزة، مبيّنة أن “الأمن الإسرائيلي” يستعد لأي إحتمال.

ثم نرى توالياً للمعالجات “الواقعية” في وسائل الإعلام الإسرائيلية المختلفة، حتى اليمينية منها، يومي الجمعة والسبت. فتحدث المحلل العسكري لصحيفة “يديعوت احرونوت”، رون بن يشاي، عن أن إسقاط الطائرة الأميركية الفائقة، دليل على تطور “قدرات العدو”. وأن هذا يوحي بأن الحرب الشاملة لن تكون “برداً وسلاماً على إسرائيل”.

لم يغمض إعلام إسرائيل عينيه، ولو ضمناً، عن ذهول المستويات العسكرية في تل ابيب منذ اللحظة الأولى لإسقاط الطائرة الأميركية المسيّرة، انطلاقاً من ثلاث نقاط رئيسية وردت في بيان الحرس الثوري الإيراني. أولها، يتعلق بالمقدرة الإيرانية على المتابعة والرصد، ثم نجاح الإستهداف بصاروخ متطور.. وانتهاءً بالإستيلاء على أجزاء من الطائرة. وبالتالي تعاظمت المخاوف من محاكاة إيران لمجسات وأجهزة تكنولوجية موجودة في الطائرة المذكورة.. وهنا الخطر الأكبر.

ولعلّ ما حصل في مياه الخليج، أعطى مؤشراً للإعلام الإسرائيلي كي يعبر عن مخاوف تل أبيب إزاء إحتمالات حصول “حزب الله” اللبناني على صواريخ أرض-جو “مطورة إيرانياً”، كتلك التي استُخدمت في إسقاط الطائرة الأميركية التي تمتلك قدرة على الطيران على ارتفاع شاهق.

والحق، أن الواقعية في الإعلام الإسرائيلي بدأتها صحيفة “هآرتس” منذ اللحظة الأولى، على خلاف الصحف الأخرى. فهي التي نشرت، بالتزامن مع إجراء الجيش الإسرائيلي تمريناً عسكرياً، الخميس، بإعتباره الأضخم منذ عامين للتعامل مع التهديدات التي تشكلها الجبهة الشمالية، تقريراً حول مكامن ضعف الجاهزية الإسرائيلية لأي حرب تنطلق ضدها من جبهات متعددة.

وظهرت “هآرتس” ذات التوجه اليساري، ولو من دون قصد، وكأنها تدحض البروباغندا النابعة من هذا التدريب، والتي تزعم أن إسرائيل جاهزة للحرب الشاملة. فـ”هآرتس” عنونت صفحتها الأولى “المؤسسات العسكرية والصحية: لن نتمكن من معالجة عدد كبير من المصابين في آنٍ واحد”.

وتكشف الصحيفة عن عجز في حوالى 30% من سيارات الإسعاف العسكرية المطلوبة في الحرب، وأن حوالى 20% من المنشآت الطبية في الجيش الإسرائيلي غير مأهولة بالأطباء.

اللافت، أن التغطية الإعلامية الإسرائيلية بعدما تغير الموقف الأميركي بشأن الرد على إيران، كشفت أيضاً “حيرة” لدى كل من القيادتين الاميركية والإسرائيلية حيال الأسلوب الأمثل لردع إيران. فبينما يقود التصعيد إلى حرب من جهة، سيتسبب عدم الرد على إسقاط الطائرة الأميركية في ضرر آخر كبير يتمثل في شعور إيران بأنها انتصرت.

ومع ذلك، عمل الخطاب الرسمي اليميني لتل ابيب، والذي يتصّف بالغرور والمُكابرة، على إظهار تراجع ترامب وكأنه منح فرصة جديدة لإيران للتنازل في ملفات معينة، وأن واشنطن تنتظر نتيجة الوساطات قبل حسمها للرد، وذلك في محاولة منها للحيلولة دون شعور إيران “بنشوة الإنتصار المعنوي”.

المدن

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى