مقالات

أحب أيامي الهادئة/ أسماء حسين

أحب أيامي الهادئة.. ليس بالضرورة أن تكون سعيدة أو مليئة بالتفاصيل. أحبها هكذا، يكفي الهدوء والسلام وراحة البال.

أحب حين تفلت أيامي الحافلة والهادئة مني، هكذا.. برفق.

يحصل فيها الكثير ولا أدري أين تذهب. أزور المقاهي والمحلات، أعبر الشوارع سيراً بشغف، أشتري أشياءً أحبها، أذهب لكل الدوائر الحكومية، وأقطع الإشارات الحمراء دون قيادة، وأحسب أثناء شرودي في المواصلات خسائري المادية والمرورية والعاطفية، وأبتسم كطفلة لا تبالي بالأمر رغم اطلاعها عليه. أحب أني أطبخ، وآكل من “طبيخي”، وأترجم قصائد أحبها في كراس لتقرأها ابنتي الخيالية، وأصمم قطعاً صغيرة من الفن المنسوج على الجسد أكسب منها مالاً يعولني، كي لا يعولني سواي. أسقي نباتاتي بحبّ وأتعلم صناعة أكلات جديدة، أقرأ الشعر أو أشربه، وأطالع صفحات الأزياء وأستمتع بشغفي بمنتجات العناية بالشعر والبشرة ببهجة هادئة خالصة، وبحمامي الدافئ، بملمس الماء وأثره عليّ الذي أحبه، وبعنايتي بنفسي برفق، أستمع إلى حليم وإديث وأم كلثوم وأتمايل مع موسيقى الصالصا حين لا يكون أحدٌ على مقربة، وأصمم لوحات تافهة أو جميلة لجدران حجرتي، ولا أملّ ترتيب الأرفف التي رتبتها ألف مرة. أستمتع بمطالعة فنون العالم حتى أغرق لساعات وأيام ناسية نفسي بداخلها، وأشاهد أفلاماً كثيرة، كثيرة، تنقلني من عالم لآخر. وأكلم كثيراً من الأصحاب بحبّ، وأكتب كلاماً لا ينتهي أبداً. أختار لون جدران بيتي القادم وأنسقه بخيالي، وأحتار في تفاصيله.. قبل أن أعرف مكانه.

أحب أني أكبر وأتعلم وأخطئ وأتعثر وأنضج وأتصالح مع كل ما ينتمي لي ولا أخجل من شيء، ولم أؤذ أحداً برغم أنني أحياناً تأذيت. أحب أن حضني يسع أحبتي ولا يفقد الوزن سريعاً مثلي أمامهم.. وقلبي لم يفعلها يوماً أن ضاق على حبيب أو ضاق على أحد. برغم مقاساتي الضئيلة.

أحب أني لن أقف لثانية. ولا لأجل شيء. ولا أنتظر شيئاً. أحب أني أكره الانتظار الذي لا يدخل في ذاكرتي، ولا يُحسب في أيامي. لكنني دائماً بانتظار شخصٍ لا يأتي. وأنشغل بالحياة عن انتظاره.

أحب هذا الغضب الذي أعرف جيداً كيف أخبئه، لكنه يستقر في هدوء في قلبي ويتحول مع عاطفتي إلى هشاشة.. فيهدأ حزنه الغاضب ويعود طفلاً ثانية. أحب أني لست بحاجة لأحد، أي أحد، وأني سيدة نفسي وقلبي وعالمي، أحب خفّتي حين لا أثير ضجيج الأشياء خلفي، ولا أمثل عبئاً للكون حين أعبره، لكني أحب وأمضي، أو أقتطف تجربتي من الأشياء وأمضي. أحب أن الغرباء قد يطرقون بابي ويمضون نحوي ولا أطرق باب أحد أو أمضي لما لا أعرف، أو أحاول لأجل شيء أو أضع نفسي عرضة للاحتمالات. هكذا علمتني الحياة، وهكذا العابرون يقتاتون حاجاتهم من أيامي، وحين يرحلون متى انتهت حاجاتهم لا أفقد شيئاً، حتى شرف المحاولة. أحب أني لست بحاجة لأحد لكني أحب، وما يبقى مني ومعي في الناس والأشياء هو الحب. أحب أني لا أراهن، سوى على الخسارة. لأكسب حتى حين أخسر. وأني تعلمت من كل شيء “البقاء” بخفة المحترف، بعد قسوة مرانه.

أحب أنني وحدي، وأحب خفتي هكذا، لكنني أحيانا، آخذك في جولة بين أفضل أغنياتي كأني أدور العالم معك من خلال سماعتي، أو كأنك معي. أحب أن أخترعك في خيالي، لتعيش دائماً، لأراك في كل شيء تلمسه ولا تلمسه يدي. وأني أراك في الشعر حين أدخله، دائماً بانتظاري كما ينتظر المسافر عودته. أحب أنك حين تصير، عليك أن تصير بيتاً، بيتي، وأصير غرفتك الحميمة، غرفتك المغلقة. وإلا فنحن محض أوهام. أفكر، لو كنت إلهاً لجعلت من أحب جديراً بأن يكون جميلاً أمام نفسه. أحب اعتقاد طفولتي بأن العصفور يكبر ليصير حمامة. واعتقادي بأننا التقينا في حياة أخرى من قبل وضعنا معاً. وصوت أحبتي الذي يهيئ لي من كلامهم كتفاً أستند عليه، ولا أمله أبداً أبداً، بل أريد أكثر. أحب في أحبتي قلق الحب تجاهي كما لو كنت طفلته الوحيدة، ورقة خوفه عليّ. أحب الحب الطيب الذي يحط على بابي كطير كان تائهاً عن عشه. وكان العش مهجوراً ليسكنه. فآويه وأرعاه في الدفء. ولا أحب الحب الذي يتسلل كريح تخبئ غيمة ترابية أو عاصفة.

أحب أني أنافس بشرف، فمهما تعدد المنافسون لا أضع أمامي إلا نفسي. ولا أنظر حولي. ولا ألتفت للمعارك الوهمية التي لم أشارك بها من يخلقها ولا مرة. وأني أؤمن أن ندّك الأول أنت، وغريمك أنت، إن استطعت أن تهزم نسختك السابقة ستفوز. وتصبح النسخة الأفضل.

أحب نقصي. ولا أتنازل عنه. أحب نسياني، وحماقاتي، وأحب غيابي، كما يحب المسافر استراحته. وأحب أنني بعيدة كخرافة، أرى العالم ولا يطالني العالم. أعرف البشر ولا أدع نفسي للبشر.

وأحب خربشاتي، وعنادي، وبهجاتي الصغيرة والكبيرة، وهدوئي، وراحة بالي. أحب الخربشة الناعمة التي قد أتركها مستقبلاً بلا قصد في نومي، على صدر رجل أحبه في لحظاتنا الحميمة معاً، لأنها على الأقل ستلتصق به وإن رحلت. أحب أني بلا ديون لأي شيء، وبلا حزن مفضوح، وبلا فرح عظيم، لكنني أعرف ما أريد، وأعرف من أنا. وأعرف كيف أدخل لقلب الشوارع التي أحب، وكيف أغادر الطريق الذي لا أريده، وأني دائماً حرة، وبلا ندم.. بلا ندم.

ضفة ثالثة

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى