مقالات

تأثير الأدب في السياسة/ محمود الوهب

رافقت الفنون الإنسان منذ أخذ وعيه في التشكل إحساساً منه بعظمة الكون من حوله، وبما ينطوي عليه من أسرار عميقة لا متناهية، يتناسل بعضها من بعض، وتمعناً في علاقاته بكائنات حية تماثله في كثير من الصفات.. كائنات لا حصر لاختلافها وتنوعها.. وقد لعبت الفنون دوراً عميقاً لا في التعبير عمَّا تتركه مفردات ذلك العالم في نفس الإنسان.. بل في تحريض ذهنه وحضِّه على توسيع دائرة تفكيره وتعميقها لتشمل مختلف أوجه حياة الناس، وحركة الكون، ولتساهم بتفسير الغامض وتحدّي المجهول.. فهمّ الإنسان، وهاجسه الدائم، هو استمراره في جعل حياته أجمل وأرقى.

وإذا كان الفن عموماً له ذلك الدور، فإن للأدب- والأدب فن – الدور الأبرز في حياة الناس شعراً وقصة ومقالة ومسرحية ورواية. ولكن هل يلعب الأدب والفن عموماً دوراً في تغيير وجه الحياة؟ وإلى أي حد؟! الحقيقة لا يمكن للفن والأدب أن يكونا أداة تغيير مباشرة، لكنهما، ودونما أدنى شك، وسيلة حثٍّ ودفع غير مباشرتين للتغيير نحو الأفضل والأجمل. ولعلَّ أكثر من يخشى تأثير الآداب والفنون هم الحكام المستبدون، وعموم المحافظين، ولذلك تراهم دائمي التضييق على المبدعين، وعموم المثقفين. لكن قوة الأدب أو الفن أحياناً قد تدفع هذا أو ذاك من الحكام الموضوعيين والمرهفين في نظرتهم إلى الحياة والإنسان، لاتخاذ قرار تغييري تأثراً بعمل أدبي ما.. وسأعرض لعدد من الأعمال الأدبية التي كان لها تأثير في رؤية عدد من السياسيين الكبار، وفي دفعهم، على نحو أو آخر، إلى أن يلعبوا أدواراً مهمة في حياة شعوبهم..

ومن أهم ما حدث، في هذا المجال، أنَّ قيصر روسيا ألكسندر الثاني (ألكسندر نيقولايفيتش رومانوف) الذي ورث حكم روسيا من أبيه قد قرأ مجموعة إيفان تورجنيف القصصية المعنونة بـ”مذكرات صياد”، وهي قصص اجتماعية تدين نظام القنانة العبودي، وتفضح جوهره، وتجلياته في الواقع، بأسلوب ساخر يجسد مثالبه، ما جعل القيصر، وبتأثير من فظاعة ما قرأ، ومهزلة ما يجري على الأرض، أن يعمل على إلغاء ذلك النظام عام1186. وفي هذا السياق لابد من الإشارة إلى أن الأدب الروسي في القرن التاسع عشر انصب على التغيير متأثراً برياح التنوير الأوربية..!

وإذا كانت تلك المجموعة القصصية سبباً مباشراً في قلب تشكيلة اقتصادية كاملة بأخرى أرقى منها بحسب ماركس فإن رواية أخرى قد لعبت دوراً في التخفيف من حدة توحش الرأسمالية في بدء صعودها.. حدث ذلك في الطرف الآخر من الكرة الأرضية، حين كان الرئيس الأمريكي تيودور روزفلت يقرأ رواية “الغاب” لـ”أبتون بيل سنكلير” وعلى طاولته طبق نقانق، ما جعله ينهض دافعاً الطبق بعيداً، ويصرخ: لقد تسممت، وأخذ يلقي قطع النقانق من النافذة (بحسب ملف نشر في نهاية الرواية التي نقلها إلى العربية عبد الكريم ناصيف، وصدرت عن وزارة الثقافة السورية في سبعينيات القرن الماضي..) بينما صدورها في أمريكا عام 1906 خلال رئاسة روزفلت الأب التي امتدت فترة حكمه من عام 1901 حتى 1909 وتتحدث الرواية عن معامل اللحوم في شيكاغو، وتدين قذارتها وعدم موافقتها للشروط الصحية.. ما دفع الرئيس لتشكيل لجنة تحقيق بما أورده الكاتب.

وقد أشار تقرير اللجنة إلى أن ما أتى عليه “سنكلير” في روايته أقلّ بما لا يقاس والواقع المزري لتلك المعامل.. الأمر الذي جعل الرئيس يتخذ إجراءات عملت فيما بعد على تحسُّن إنتاج تلك المعامل، وأن يسنَّ الكونجرس قانون: “حماية الأطعمة والعقاقير الضارة”.

وعودة إلى روسيا خلال فترة مجموعة تورجنيف ذاتها.. استطاع الأديب والمفكر نيقولاي تشيرنيشيفسكي أن يهرِّب روايته الشهيرة “ما العمل” من السجن بعد أخذ موافقة رقيب السجن الذي لم يستطع اكتشاف رموزها وإسقاطاتها، ما سمح لإحدى المجلات أن تطبع أجزاء منها عام 1867 لكنَّ الأجزاء المطبوعة لفتت الانتباه وأغلقت المجلة، وحوسب الرقيب الذي أعطى الموافقة وحوكم.. وبعد ذلك بزمن

غير بعيد جاء “لينين” الثائر آنذاك ليقرأ الرواية ويأخذ عنوانها لكتابه الشهير: “ما العمل” الذي صدر عام 1902 مفرداً مادته إلى قضايا التنظيم الحزبي الثوري وتحديداً إلى “حزب العمال الاشتراكي الديمقراطي الروسي” الذي كان قد عقد مؤتمره عام 1898 ولم يتمكن لينين من حضوره بسبب ملاحقته.

تقودني حكاية هذه الرواية إلى واقعنا العربي والشاعر فرج بيراقدار الذي استطاع أن يهرِّب كتابه “خيانة اللغة والصمت” الذي يفضح ما يجري في سجون “الأسد” وفي الكتاب مرافعته الشهيرة أمام محاكم أمن الدولة العسكرية التي أدانت شرعية المحكمة والنظام نفسه ثمَّ ليترجم الكتاب، ويصدر في فرنسا، ويكون سبباً في إخراج مؤلفه من السجن بوساطة من الرئيس الفرنسي أواخر العام 2000.

وما دمنا في المجال العربي يمكننا الإشارة إلى تأثر الرئيس الراحل جمال عبد الناصر بمسرحية الكاتب الإيطالي “لويجي بيراندللو” “ست شخصيات تبحث عن مؤلف” وقد قال عنها في الميثاق:

“إن ظروف التاريخ مليئة بالأبطال الذين صنعوا لأنفسهم أدوار بطولة مجيدة قاموا بها في ظروف حاسمة على مسرحه، وظروف التاريخ أيضاً مليئة بأدوار البطولة المجيدة التي لم تجد بعد الأبطال الذين يقومون بها على مسرحه، ولست أدري لماذا يخيل لي دائماً أنَّ في هذه المنطقة التي نعيش فيها دوراً هائماً على وجهه يبحث عن البطل الذي يقوم به، ثم لست أدري لماذا يخيل لي إن هذا الدور الذي أرهقه التجوال في المنطقة الواسعة الممتدة في كل مكان حولنا، قد استقر به المطاف متعباً منهوك القوى على حدود بلادنا”.

وإذا كان هذا المثال الأدبي عن جمال عبد الناصر والاستفادة منه في التطلع إلى الحكم فإن

الكثير من الحكام العرب لا يقرؤون إلا ما يعمل على توطيد سلطتهم، وتسلطهم، ولعلي أشير هنا إلى منع معظم مسرحيات سعد الله ونوس من العرض في سوريا إذ هي عملت لا على تشريح أنظمة الاستبداد فحسب، بل أشارت إلى أنها السبب في هزائمنا كلها..!

وفي هذا المجال لابد من الإشارة إلى أنَّ أحد أهم أسباب اغتيال الأديب غسان كنفاني في تموز من عام 1972 لا يكمن في آرائه السياسية فحسب، بل فيما يمكن أن يفعله أدبه في أذهان الناس من تحوِّل.. وذلك ما يدركه المحتلون الإسرائيليون قبل غيرهم.

ويبقى للأدب الذي يتعاطى مع الواقع بصدق دوره المؤثر وخصوصاً إذا كان الأديب يتعاطى فنياً مع ما يكتب بسوية عالية، ووفق شروط العمل الفني ذاته. ويبقى “الأدب سياسة لكن بثوب آخر” على حد تعبير الأديب نجيب محفوظ..

تلفزيون سوريا

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى