الناس

بساتين الشام بين الأهرامات/ رشا عمران

منذ زمن، ومصر القبلة التي يتجه إليها المبدعون والكتاب والفنانون العرب، وغير العرب، ليس فقط لأنها كانت المركز العربي المشع الوحيد تلك الفترة، وإنما أيضا لأنها كانت حاضنة وقابلة للآخر، من أينما جاء، (الإسكندرية في الذاكرة الثقافية العالمية هي المدينة الكوزموبوليتانية التي عاشت فيها جاليات مختلفة، واتخذها كتاب ومبدعون عالميون مستقرا لهم، منهم لورنس داريل الذي كتب رباعيته الشهيرة، كفافيس الشاعر اليوناني الذي ما زال بيته في محطة الرمل، ريلكه الشاعر الألماني الذي قيل إنه مات بسبب شوكة دخلت يده في أثناء تنزهه في إحدى حدائق الإسكندرية). وشهدت القاهرة وجودا عربيا ثقافيا وفنيا كبيرا، وقد هرب كثيرون من المثقفين والفنانين، خصوصا من بلاد الشام، نتيجة عسف السلطنة العثمانية، إلى بلاد وادي النيل، إذ فتح الخديوي أسماعيل أبواب مصر للمثقفين والمبدعين العرب والأوروبيين، فجاءها رواد المسرح والفن والثقافة والصحافة من بلاد الشام التي كانت تعاني من السيطرة العثمانية على كل مفاصل الحياة، وعلى الحريات العامة والفردية، ما جعل “الشوام”، والمبدعين منهم خصوصا، يشعرون باختناق، فكان الهرب الحل الوحيد للبحث عن نوافذ مفتوحة على العالم والفن والجمال، ومصر كانت النافذة.

مع طرح جمال عبد الناصر مشروعه القومي العروبي، بقيت مصر قبلة العرب الراغبين في تغيير حياتهم، خصوصا أنها كانت ولا تزال هاضمة كل الجنسيات التي تعيش فيها. جغرافيتها وتعداد سكانها كانا يؤهلانها لتكون مجتمعا يستوعب كل من يأتيه. يمصّره، بشكل ما، ويُدخله في نسيجه، ليصبح بعد حين مصريا بالتقادم أو بالجنسية أو بالطباع أو بحكم الإقامة، (لا يمكن الحديث في مصر عن سلالاتٍ مصرية صافية، إذ أنتج هذا الجذب للآخرين سلالاتٍ جديدة مختلطة، اختلطت أيضا بغيرها، وهكذا)! ومع إعلان الوحدة بين مصر وسورية وإنشاء الدولة العربية المتحدة، انتقلت عائلات سورية كثيرة إلى مصر بحكم العمل، قسم من هذه العائلات بقي ولم يعد إلى سورية بعد الانفصال. وانتقلت عائلات سورية كثيرة كانت رافضة الانفصال للعيش في مصر، ومنحها عبد الناصر الجنسية المصرية!

نعرف جيدا، نحن السوريين، مقدار محبة أهل الشام المصريين، فما إن كانت تسمع اللهجة المصرية في شوارع دمشق أو أية مدينة سورية أخرى، حتى يلقى صاحبها من الترحيب ما يثير العجب فعلا، إذ ظل الوجدان السوري وقتا طويلا محتفظا بحلم الوحدة العربية التي تحققت يوما مع الشقيقة الكبرى، وظل ذلك التوقع الخفي أنه لو استمرت الوحدة بين مصر وسورية لما وصل حال سورية إلى ما وصلت إليه. أتحدث هنا عن الوجدان الشعبي البسيط، بعيدا عن أية أيديولوجيا قومية أو دينية.

ومن المدهش أن المصريين يسمون جيشهم، حتى الآن، الجيش الثاني، بينما الأول هو السوري الذي لا يعرف مصريون كثيرون، أو لا يصدّقون، أنه تحول إلى مليشيا تفتك بسكان الإقليم الشمالي، وتدك مدنهم، وتستعين بجيوش غريبة لتحقيق مزيدٍ من الفتك بأهل البلد، بينما العدو الإسرائيلي الذي يُفترض أن الجيش الأول تشكل لمواجهته، يسرح ويمرح في السماء السورية، ويقصف كل مدة موقعا من المواقع العسكرية، من دون أن يتجرأ الجيش الأول وقيادته على الرد، ولو لذر الرماد في أعين المراقبين.

كتب بيرم التونسي أغنية أيام الوحدة، باللهجتين المصرية والسورية، غنّاها محمد قنديل، تقول: “أراضينا من هذا الجيل يرويها بردى والنيل/ وفي قلبي من شوقي غليل ما يرويني غير النهرين/ أنا واقف فوق الأهرام وقدامي بساتين الشام..). قبل أيام، وإثر هجوم على “السوشيال ميديا” ضد السوريين، حرّكه إخواني مرتد على إحدى الصحف التابعة للنظام السوري في لبنان، وتلقفه محام مصري معروف بإثارته الزوابع في دعاوى يقدمها للنيابة العامة، وشاركت فيه مجموعة ليست قليلة من المصريين، لديهم حس شوفيني خلال العقود الماضية، وهو شأن عربي عام، بل وعالمي أيضا، إثر هذا الهجوم على السوريين في مصر، سارعت الغالبية المصرية لوضع هاشتاغ “السوريين منورين مصر”، وصل، في وقت قياسي، إلى أعلى ترند على الشبكة، غير المنشورات والمقالات والمقابلات التي كتبها وأجراها مصريون من مختلف الفئات والأعمار، ضد الهجوم على السوريين، ومرحبة بهم في مصر. لوهلة شعرت، أنا السورية المقيمة في مصر، مع هذا القدر المذهل من الترحاب، أن المصريين أحضروا بساتين الشام المحترقة إلى الأهرامات، وأعادوا إليها نضارتها وخضرتها.

العربي الجديد

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى