مقالات

سوق الأدب العربيّ بالغرب/ عماد فؤاد

(1) أهلاً في “جنّة البرفورمانس”

يُعرّف كثير من الدّارسين “فنّ الأداء” أو performance art بأنّه “الوجود التّزامني بين فنّاني الأداء والجمهور”. أو بحسب تعريف التشكيلي المصري محسن عطية فإنّ “جوهر الأداء الحي هو الاتصال المباشر ودون وسيط بين المؤدّين والجمهور، الأمر الذي يتطلّب التواجد الجسدي المشترك. ووفقاً لهذا الرأي، يتم تنفيذ العروض دائماً من قبل شخص/شخوص ما أمام جمهور معيّن، يعترف بمشروعيته ضمن الأداء، وغالباً ما يمنح الجمهور بحضوره المعنى لهذا الأداء”.

وتُعرّف ويكيبيديا “شِعر الأداء” Performance poetry بأنّه الشِّعر الذي كُتب خصيصاً من أجل أدائه أمام جمهور بدلاً من توزيعه مطبوعاً. وقد ظهر مصطلح “شِعر الأداء” في وقت مبكّر من ثمانينيات القرن الماضي، حين وصفت الصحف الأميركية في عام 1982 عرضاً قدمته الشاعرة الأميركية ذات الأصول البولندية هدويج غورسكي Hedwig Gorski (مواليد 1949) مصحوباً بالموسيقى أمام الجمهور بأنه Performance poetry، ليجد المصطلح صدى واسعاً فيما بعد بين أجيال الشعراء والموسيقيين والتشكيليين والمسرحيين في أوروبا وأميركا واليابان، لكن المصطلح – لسبب ما – لم يجد صدى في عالمنا العربي.

اليوم، وبعد ما يزيد عن 35 عاماً على وجود هذا الفن في الغرب، وتجاهل الشّعراء العرب له طوال ثلاثة عقود، وصل فنّ “الأداء الشِّعري” إلى عالمنا العربي مؤخراً على أيدي مجموعة من شعراء العراق الشباب، الذين يقدّمون أنفسهم تحت اسم “ميليشيا الثقافة”، ويشاركون عروضهم الأدائية في عديد من المهرجانات في فرنسا، هذا البلد الأوروبي الذي تنتشر فيه ظاهرة شعر الأداء منذ ثلاثين عاماً أو يزيد. ويبدو أن شعراءنا العراقيين الجدد وجدوا ضالتهم في شعراء فرنسيين شباب، ممن يقدّمون هذه العروض بنجاح في المهرجانات الفرنسية، مثل جوليان دبريجون

جوليان دبريجون وسيدريك ليريبل وسيرجي بيه وجان ريميه، فوطّدوا علاقاتهم بهم، وبدأوا في

تصوير قصائدهم بالفيديو عبر طرق بدائية وغير احترافية في حقول الألغام وفوق السيارات المتفحّمة، ونشرها عبر وسائل التواصل الاجتماعي باعتبارها الإنجاز الأحدث لشعراء العراق الجدد، لتتلقّفها مدونات الشعراء الفرنسيين وينشرونها باعتبارها امتداداً لمشروعهم في فن “الأداء الشِّعري”.

عالم الحرب

والملاحظ أن جميع قصائد هؤلاء الشعراء

لا تخرج عن عالم الحرب بكلّ ما تحويه من مفردات واشتقاقات لُغوية، فكلّهم بلا استثناء يكتبون عن الجثث المتفحّمة والأعضاء المبتورة والرّؤوس المهشّمة والرّصاصات التي تخترق الصّدور، الدّماء والأشلاء والأطراف المحترقة والعمليات التفجيرية والقتل على الهوية والنزاعات العرقية بين سنّة وشيعة وغيرهما. وسيجد القارئ صعوبة فعلية في تمييز نصوص هؤلاء الشعراء وتفريقها عن بعضها البعض، حتى ليتساءل عن سر هذا المعجم المشترك الذي يهيلون منه ويكتبونه جميعاً بذات الطريقة، وهو ما يتجلّى في عناوين أعمالهم الصّادرة حتى الآن: “رؤوس بلا جثث.. جثث بلا رؤوس” لمحمد كريم (2019)، “جثّة في بيت داكن” لمازن المعموري (2017)،

“نزهة بحزام ناسف” (2016) و”نتقاتل للتّسلية” (2019) لكاظم خنجر،

“سأتذكّرُ أنّني كلب وأعضّك أيّها العالم” لعلي ذرب (2016).

استقبلت السّاحة الثّقافية العربية شعراء “ميليشيا الثقافة

منذ العام 2015 بالكثير من الاحتفاء والتّرحيب والتّشجيع، على الرغم من تزامن ظهورهم مع الكثير من الحروب والتّلاسن ووصلات الرّدح التي سجلتها الصحف بين أعضائها (وأحيل القارئ هنا إلى مقالة بعنوان “أكلان النّعل في الشّعر العراقي: علي ذرب أنموذجاً” للعراقي مبين الخشاني، موقع الإمبراطور 10 أكتوبر 2017). وسرعان ما نشبت الخلافات بين شعراء “ميليشيا الثقافة” العراقية، وتفرّعوا إلى ثلاث مجموعات، كلّ منها تتمسّك بتسمية نفسها بذات الاسم، “ميليشيا الثقافة“،

وكأنّ العراق ينقصه المزيد من الميليشيات!

ولكن ها هي هذه الأصوات تُختصر اليوم إلى أصوات معدودة، أصبح لها الحضور القوي في مهرجانات فرنسا الشِّعرية، ومن هؤلاء محمد كريم وعلي ذرب ومازن المعموري وكاظم خنجر. وهناك آخرون تم إبعادهم عن الميليشيا رغم قولهم إنّهم المؤسسون الحقيقيّون للتجربة، وعلى رأسهم الشّاعران أحمد ضياء وعلي تاج الدين.

وهذا الأخير قال في حوار نشرته صحيفة “الرأي اليوم” العراقية في مارس 2016: “تعدّ ميليشيا الثقافة واحدة من أهمّ الحركات الشّعريّة في الوطن العربي إن لم تكن أهمّها على الإطلاق، وأنا أحد مؤسّسيها، أقمتُها على

كتفيّ، رغم كلّ الآلام والمصاعب في العراق وفقدان الأحبّة والأقارب ودراستي للماجستير، فقد جعلتُها الهمّ الأوّل في حياتي”. وفي الحوار ذاته يستطرد تاج الدين فيقول: “ليس كلّ ما في الإعلام صحيحاً وصادقاً، الميليشيا ما زالت واحدة، ولا قائد لها منذ بدء تكوينها وإلى الآن، كلّ ما في الأمر أن كاظم خنجر قد تجاوز لأكثر من مرّة على أعضاء الميليشيا بالسبّ والضّرب فطردناه – حسب قوانيننا الدّاخلية – لئلّا تتعرّض سمعة الميليشيا للقذف، ولأنّنا ميليشيا ثقافة لا عنف، ولأنّ الثّقافة هي تغيير في سلوك الفرد وترويض الوحش الذي بداخله، وجدنا جرّاء أعماله الشّنيعة بالإضافة إلى تجاوزاته على باقي النّصوص الشّعرية والسّردية وانتهاكه لها، أنه لا ينتمي للميليشيا فطردناه، فخرج لكنّه خرج ومعه مَن معه، وعند أوّل مشروع لهم ظهروا دون ذكرهم لـ”ميليشيا الثّقافة”، معنونين مشروعهم تحت عنوان “شعراء في طائرات حربيَّة” دلالة عدم الانتماء للميليشيا، بل عدم الاكتراث لها، وما تركيزهم على لفظة “ميليشيا الثّقافة” حالياً إلا عناداً، ومحاولةً لتهميش وإقصاء باقي الأعضاء (المؤسِّسين) لا غير، وإذا ما قَبِلَ الآخرون بقيادة كاظم، فنحنُ لا نقبل بقيادة الصديق الشاعر أحمد ضياء ولا أحمد يَقبلُ أيضاً، فميليشيا الثقافة هي إحدى تمظهرات بعد ما بعد الحداثة التي تبتعد – كثيراً – عن مقولات ما قبل الحداثة”.

توهّم الأهمية

دعك عزيزي القارئ من عبارة “تعدّ ميليشيا الثّقافة واحدة من أهمّ الحركات الشّعرية في الوطن العربي إن لم تكن أهمّها على الإطلاق”، والتي يطلقها تاج الدين – هكذا مطمئناً وواثقاً – بعد عام واحد فقط من ظهور جماعة “ميليشيا الثقافة” على السّاحة العراقية! فتوهّم الأهمية حقّ مشروع للجميع. ودعك كذلك من إشارته إلى طرد زميل آخر لهم بسبب “قلّة أدبه”، فمثل هذه الأمور تحدث في أكثر الحركات طليعيّة، ولا ضير من بعض التّشويق والإثارة والضجّة الإعلامية التي تصاحب ظهور مثل هذه الحركات المستقبلية في الفن، ولكني سأتوقف أمام عدد من فيديوهات شعراء هذه “الميليشيا”، لنرى إلى أي مدى استطاعوا أن يصوّروا قصائدهم التي تتناول واقع الحرب في عراق ما بعد 2003.

ولنبدأ مع كاظم خنجر في هذا الفيديو:

“لن يقتلك الجوع أيها السُنِّي

يمكنك أن تأكل من تلال الجثث الشِّيعية

لن يقتلك العطش أيها الشِّيعي

يمكنك أن تشرب من برك الدم السنِّية

لن يقتلك البرد أيها السُنِّي

يمكنك أن تلتحف جلود أطفال الشِّيعة

لن يقتلك الأرق أيها الشِّيعي

يمكنك أن تنام على رؤوس أطفال السنِّة

لن يقتلكما الضّجر أيها السنِّي والشِّيعي

يمكنكما أن تتسلّيا بذبحنا كلّ يوم

كلّ يوم”.

هذه الكلمات نسمعها فيما نرى الشّاعر يمسك بمقصّ يمزّق به ورقتين كتب عليهما “سنّي”.. “شيعي”، المقصّ الذي ستحلّ محلّه السّكاكين في فيديوهات أخرى للشّاعر. وفي فيديو آخر لكاظم خنجر، نشاهده وهو ينطلق من خلف الكاميرا قائلاً: “القتلة يخافون الموت.. لذا لا يمكنهم تصوره.. لا يمكنهم تصوره”، متظاهراً أمام المشاهد الفرنسي

أنه يعدو في حقل ألغام!

وفي أحد الحوارات الصحافية معه، يتساءل كاظم خنجر مستنكراً: “من هو الجمهور؟”، ويردّ سريعاً: “في هذه البيئة الخراب، الجمهور لم يعد معادلاً ذوقياً للعمل الفني، الجمهور هنا ميت أيضاً وبالتالي ما فائدة حضوره، وفي الغالب أعمالنا تقوم على التحدّي والخطر، وهذا يمثل خطراً علينا بالدّرجة الأولى وعلى الجمهور بالدّرجة الثّانية لو كان حاضراً، ونحن لا نودّ مقاسمة هذه الخطورة مع أحدهم”. لن أعلّق هنا على عبارة صديقنا خنجر التي يقول فيها بتعالٍ عجيب إنّ “الجمهور لم يعد معادلاً ذوقياً للعمل الفنّي”، بل سأشير إلى ما يوحي به إلينا شاعرنا من خلال كلماته هذه بأنّ ما شاهدناه في هذه الفيديوهات هي أمور صعبة ومخاطر حقيقيّة خاضها مع رفاقه معرّضين أرواحهم للخطر، ناسياً أنّنا لم نتوقّف لحظة عن الضّحك من هول هذه المخاطر أثناء مشاهدتنا له ولرفاقه من شعراء الحداثة العراقية الجدد على الشاشات. ولو كان الفيديو الأخير لم يقنعك عزيزي القارئ بالمخاطر التي يتحدّث عنها شاعرنا، فماذا لو استمتعت بهذه القصيدة لمازن المعموري أو هذه لأحمد ضياء أو تلك لوسام علي؟

ويكتب مازن المعموري في 2016 تحت عنوان “النزعة الشِّعرية لهويّاتنا المتقاطعة”، متقمّصاً روح المنظِّر الرّسمي والأكاديمي لحركة “ميليشيا الثّقافة” قائلاً: “إن هذا التّوصيف للسلوك يحوّل الظّاهرة الشّعرية من مرحلة التأمّلات الرّومانسية للكتابة القديمة إلى مرحلة أكثر خصوصية هي: العمل، حيث تكون الكتابة لدى الشّعراء (مازن المعموري، كاظم خنجر، علي ذرب، محمد كريم) جهداً وعملاً للبحث والتّقصّي عن حقائق ومشاهدات، دون تأويل أو انتماء فكري أو حزبي وحتى ذاتي”؛ وعلى الرّغم عزيزي القارئ من أنّني مثلك أجد صعوبة في العثور على هذا النّوع من الشّعراء الذين يعملون ويبحثون دون أن تكون لديهم القدرة على التّأويل أو ليس لديهم انتماء فكري أو حزبي أو حتى ذاتي! بتعبير صديقنا مازن المعموري، والذي يضيف قائلاً: “وعند ذلك وجدنا أنفسنا في تجربة “ميليشيا الثقافة” نعمل على تبيان الحدث من أجل الكشف عن هوياتنا المبطّنة بالأقنعة، وكأنّنا نمارس فعل التّماهي والتّواصل مع موجوداتنا اليوميّة دون ماكياج أو تلوين قبحنا، فنحن لا نستعير مفاهيم غربية مثل (الإنسانية) لنغطّي وحشيتنا الحقيقيّة، لأنّنا ببساطة نشبه ما نراه إلى حدّ اللعنة، هكذا هو وجهنا الحقيقي وهكذا هي نصوصنا الشّعرية.

يعتبر مازن المعموري مفهوم الإنسانية مفهوماً غربياً! ومن ثم فهم في “ميليشيا الثّقافة” لا يستعيرون هذا المفهوم لتغطية وحشيّتهم الحقيقيّة، لكنّه لم يخبرنا شيئاً عن استعارتهم نهجاً فنياً كاملاً (شعر البرفورمانس) لتقديم قصائدهم من خلاله، وتقليدهم الأعمى لشعراء فرنسا المشهورين في هذا المجال، ويبدو أن مشكلة التّمييز بين مثل هذه الأشياء البسيطة أصيلة لدى مازن المعموري، والذي يقول في إحدى قصائده:

“لا أميّز بين طائرة ورقيّة وملعقة

لا أميّز بين صباح مشمس ويد مقطوعة

لا أميّز بين صفرة الخريف وخرطوم فيل

لا أميّز بين عصفور يحلّق ودبابة تعطس”.

في مارس 2018 يكتب مازن المعموري، منظِّراً من جديد، مقالاً تحت عنوان “كيف يكون الشّعر العربي مُعاصراً؟”، يقول فيه بعد تقديمه نبذة عن تاريخ ظهور مصطلح الشّعر الأدائي: “هنا بدأ الانتقال من النّص المكتوب إلى النّص المرئي، وأصبح هناك تحوّل جذري في نمط العلاقة بين الشّاعر والجمهور، بما أن التّجريب قائم هنا على أساس إنتاج تفاعل مع المحيط الاجتماعي وخلخلة النّمطية. ففي فرنسا كان سيرجي بيه و(بيبيو) والجيل الجديد من شعراء النّص المرئي والقصيدة الصوتية مثل جوليان دبريجون، وسدريك وآخرين، وفي العراق قدّم مازن المعموري وكاظم خنجر وعلي ذرب ومحمد كريم مفازات جديدة للعمل تحت فضاء الشّعر الأدائي والقصيدة المرئية منذ عام 2015”.

لا أعرف كيف طاوع القلم صاحبه وهو يضع نفسه وأصدقائه في مثل هذه المقارنة (وهي – ويا للمصادفة ويا للتّواضع – المرّة الثّانية التي يصطفي فيها مازن المعموري الأسماء ذاتها، واضعاً اسمه في المقدّمة). بودّي هنا لو أسأل شاعرنا: هل المفازات الجديدة التي حقّقتها هذه الأسماء في الشّعر العراقي الحديث تختصر نفسها في تصويرهم قصائدهم بالفيديو وهم يصرخون أو يتظاهرون بأنّهم يركضون في حقول الألغام؟ هل الحداثة لدى شعراء العراق الجدد اختصرت في الوقوف أمام كاميرا الفيديو وقد رتّب كلّ شيء قبل انطلاق كلمة “أكشن” ليصرخوا جميعاً أمام الكاميرا تعبيراً عن جنون الحرب؟ هل التّجديد أن أكتب شعراً سياسيّاً زاعقاً بحجّة أنّني من ضحايا الحرب؟ وهل تتحقّق الثّورة في الشّعر بأن تلتقط الصوّر لعدد من الشّعراء يرتدون سترات داعش البرتقالية داخل قفص حديدي في الصحراء؟!

كثير من الأسى

عزيزي الشّاعر الموجود حالياً في بغداد أو بابل أو النّجف، في كركوك أو الحلة أو الموصل،

في أربيل أو العمارة أو البصرة، الحالم بالوصول بشعرك الحديث إلى مهرجانات الشّعر العالمية، المسألة في غاية البساطة، لن يكلّفك الأمر في الحقيقة سوى لفّة من الأسلاك الشّائكة، وزياً برتقاليّاً كالّذي تلبسه داعش لضحاياها قبل ذبحهم، وبعض الأوراق التي تمسكها بيدك وتقطّعها بسكين وأنت تقرأها صارخاً معنفاً أمام الكاميرا. ولا تقلق فيما يخصّ الكتابة، يمكنك أن تكتب أيّ شيء، وحين يسألك أحدهم عمّا تقوله قل له هذه “سوريالية” أو “تفكيكيّة” أو قصيدة “ما بعد بعد حداثية”. اكتب “أيّ كلام”، المهم أن تصرخ وتعنّف أمام الكاميرات كي تعجب الجمهور، عبّئ قصيدتك “الحداثيّة” بكلمات: جثث، أشلاء، دماء، قتلى، انتحاريّون، إرهابيّون، أميركان، دبّابات، طائرات، قنابل. ولا تنسى الرؤوس المقطوعة والأجسام المتفحّمة والبيوت المهدّمة والدّيكتاتور. اخلع نعليك وعضّ عليهما وأنتَ منحن على الأرض، فالفرنسيّون لُطفاء يحبّون هذه الأمور. غطّ جسمك العاري ووجهك بالوحل والطّين، أو اسرق علبة مشابك الغسيل من شرفة زوجتك وعلّقها في أذنيك وحاجبيك وشفتيك واقرأ قصيدتك بصوت مكتوم وبطريقة مضحكة أمام الأجانب كي يصفّقوا. اذهب إلى الجزّار واملأ كيساً كبيراً بالعظام المتبقّية من الذّبائح وارفعها أمام الجمهور وأنت تصرخ فيهم: “هل تعرفون ما هذا؟ هذا هو كلّ ما تبقّى من الشّرق، هذا هو ما تبقّى من الشّرق”.

وصدّقني تماماً حين أقول لك عزيزي الشّاعر الحالم بالوصول إلى العالميّة، أنّ ما سيحدث حينها هو أحد أمرين؛ فإمّا أن ترى الجمهور الأجنبيّ ينظر إليك مندهشاً وأنت تهرول وسط النّاس في الشّارع رافعاً عظمة بيدك، وإمّا سيظنّك أحد العابرين معتوهاً فيصفعك أمام الكاميرات. كلّ هذا جائز يا صديقي، لكن المؤكّد أنّنا نحن الجالسين نشاهدك من خلف شاشات السوشيال ميديا، ونعرف جيداً كيف نفرّق بين ما هو شِعر وما ليس بشِعر، لن نصفّق لك.. ولن نصفعك. فقط سنضحك. سنضحك.. ونحن نشعر تجاهك بكثير من الأسى.

 (2) كيف تستثمر دور الضحيّة؟

في عام 2013 احتفت الصّحف الأوروبية فجأةً بظهور موهبة شعرية جديدة في الدّنمارك، شاب صغير لا يزيد عمره عن تسعة عشر عاماً، لكنّه عاش “حياة مديدة” كما وصفته الصّحف آنذاك، فكان لصّاً ومقتحماً للبيوت، تاجراً وموزّعاً للمخدّرات. واليوم هو شاعر يعيش تحت حماية السّلطات الدّنماركية خوفاً ممّن يهدّدونه بالقتل!

اسمه يحيى حسن، ولد عام 1995 في مدينة “آرهوس” الدّنماركية لأسرة لاجئة من فلسطين. أصدر ديوانه الأوّل تحت عنوان “قصائد” في 800 نسخة فقط، وسرعان ما اشتعل الدّيوان مثل النّار في الحطب، فوزِّع منه في الدّنمارك وحدها أكثر من 100 ألف نسخة، في الوقت الذي لا يوزِّع فيه أشهر شعراء الدّنمارك أكثر من 5 آلاف نسخة فقط؛ لينتقل الشّاعر بسرعة من لغة إلى أخرى: السّويدية والألمانية والإنكليزية والفرنسية والهولندية وغيرها، ولتستمرّ ظاهرة يحيى حسن عامين أو ثلاثة، قبل أن يختفي عن الأنظار كشاعر، وتملأ أخباره صفحات الجريمة، في صراعه ممّن يتوعّدونه القتل.

الحكاية أعلاه لطيفة ومُسليّة، من النّوع الذي يُعجب الآذان ويُسيل لُعاب مستثمري الظّواهر والفلتات الإعلاميّة في عالم الأدب، وما أكثرهم وأكثرهنّ اليوم. فأنّ تقدّم ديواناً جديداً لـ”شاعر مهاجر” ينتقد أصوله وثقافته ويقف منها موقف المحارب لهو شيء جديد ومختلف، بل ومطلوب إعلامياً في بلد ترتفع فيه أصوات اليمين المتطرّف بقوّة ضدّ المهاجرين.

ولدى قراءتنا قصائد الشّاعر الصّغير سنلحظ أنّه لم يكتب إلّا معاناته الشّخصية كطفل تربّى في أحد غيتوهات اللاجئين العرب في الدّنمارك، فيحكي عن أب يسوط أطفاله الصّغار بالحزام حتى يبولوا أمامه؛ عن مراكز التّأهيل التي أُجبر على دخولها هرباً من عتمة الشّوارع التي ألقي فيها؛ عن العالم السّفلي والتفكّك الأُسرّي؛ عن فلسطين المحتلّة وقنوات الأخبار العربية التي لا تكفّ عن الصّياح في بيتهم ليلاً نهاراً. ويهاجم المجتمع الإسلامي في الدّنمارك بشدّة ويمدح صوت فيروز. يدافع عن اختياره طريق الجريمة في صباه باعتبارها ثأره من “عدم قدرته على تحديد هويّته”، ويسخر من جيل والديه اللاجئين إلى الغرب ليعيشوا “عالة” على المنح المالية المخصّصة للعاطلين عن العمل بحسب تعبيره. وكما هو متوقّع، اختلفت الآراء النّقدية حول قيمة ما يقدّمه الشّاعر. فبينما رأى بعضهم فيه موهبة شعرية شابّة تمتلك شجاعة التّمرّد، رأى بعضٌ آخر أنّ نشأته وتربيته المشوّهتين هما سبب تمرّده وانتقاده الدّائم لسلوكيّات اللاجئين العرب في الغرب.

التمسّك بالظّاهرة

أياً تكن الآراء النّقدية حول ما يكتبه يحيى حسن، يمكننا أن نقول إنّ الشّاب الذي يحيا الآن تحت حماية المخابرات الدّنماركية بعد عشرات التّهديدات التي وصلته بالقتل من الجالية العربية في الدّنمارك، قدّم للجميع شيئاً للتّمسّك به بوصفه “ظاهرة”، فالأحزاب اليمينيّة المتطرّفة، ليس في الدّنمارك وحدها، بل في عموم أوروبا، اعتبرته مثالاً يجب أن يُحتذى بين الشّباب المسلم من اللاجئين العرب، بينما اعتبرته الأحزاب اليساريّة دليلاً على فشل سياسة الاندماج التي تنتهجها العديد من الدول الغربية تجاه اللاجئين.

ـ هل ما سردته الآن له علاقة بالأدب في شيء؟

ـ نعم.

ـ كيف؟

في محاضرة ألقتها الشَّاعرة المصريّة إيمان مرسال في الجامعة الأميركيّة بالقاهرة في فبراير 2019، وتحت عنوان “ترجمة الشِّعر العربيّ الحديث إلى الإنكليزية، أسئلة عن السّياق السّياسيّ والجماليّ”، خلُصت إلى “هيمنة الكيتش السّياسي والثّقافي والنّسوي على معظم التّرجمات التي تتمّ منذ عقود للشِّعر العربيّ الحديث إلى اللغة الإنكليزيّة”. وكمثال على هيمنة الكيتش في هذه التّرجمات ما وجدته مرسال من سرعة ترجمة الفلسطيني أشرف فيّاض بعد سجنه في المملكة العربية السّعودية. وهي التّرجمة التي أثمرت عنها حملات الدّعم الإعلامية التي قامت بها مراكز حقوق الإنسان الغربية والعربية للدّفاع عن الشّاعر وتحريره من سجنه.

وفي الإطار نفسه الذي ترصده مرسال في محاضرتها، يمكننا أن نشير هنا أيضاً إلى ظروف ترجمة العديد من الأعمال الأدبيّة العربيّة الجديدة إلى لغات أخرى على خلفية محاكمات مماثلة، وربما كان آخرها ترجمة رواية “استخدام الحياة” للمصري أحمد ناجي لأكثر من لغة، على خلفيّة المحاكمة التي تعرّض لها في القاهرة، بعد نشره فصلاً من الرّواية في صحيفة “أخبار الأدب” في أغسطس 2014. والفارق بين حالة يحيى حسن في الدّنمارك وحالتي أشرف فيّاض في السّعودية وأحمد ناجي في مصر، أنّ الأوّل يكتب مباشرة في لغة أوروبيّة ويهاجم مجتمعه وثقافته فيما يكتب. أمّا الثّاني والثّالث فيكتبان باللغة العربية وسجنا على خلفيّة قضايا تخصّ “حريّة التّعبير”، وبالتّالي فلا بدّ من الدّفاع عنهما لتحريرهما من السّجن ودعمهما بترجمة ما سُجنا لأجله. وهنا نعود إلى محاضرة إيمان مرسال من جديد، والتي توضّح في بدايتها رؤيتها لمفهوم “الكيتش” فتقول: “هل أستخدم كلمة “كيتش” هنا كحكم قيمة؟ لا، إطلاقاً. الكيتش ليس توصيفاً سلبيّاً ولا إيجابيّاً للتّرجمة، إنّه وصف لنقطة انطلاق النّص في ترجمته وتقديمه واستهلاكه. بل أذهب بعيداً فأقول إنّ الكيتش قد يكون ضروريّاً. إنّه أحياناً الطّريقة الوحيدة لسماع صوت من لا يسمعهم أحد”.

لن تختلف الحال كثيراً ونحن ننظر اليوم إلى التّرجمات التي تتمّ للأدب العربيِّ الجديد إلى لغات أوروبيّة أخرى غير الإنكليزية، وعلى رأسها الفرنسيّة والألمانيّة والهولنديّة والإسبانيّة وغيرها، عمّا رصدته مرسال في محاضرتها القيّمة. فما زالت حركة ترجمة الأدب العربي عموماً، والشِّعر خصوصاً، تتمّ، في غالبها، وفق النّظرة التي تنظرها البلدان الأوروبية، على اختلافاتها، إلى بلدان العالم العربي. وساهمت المؤسّسات الثّقافية الأوروبية بدورها في تأكيد هذه النّظرة، خاصة بعد مرحلة الثّورات العربية، فعملت على دعم الكثير من الكُتَّاب العرب الشَّباب الذين فرّوا من بلدانهم بعد نشوب الحروب فيها، وتُرجمت أعمالهم بسرعة مشابهة لترجمة ديوان فيّاض ورواية ناجي. وحرصت دور النّشر الأوروبيّة على تقديم هذه الأسماء العربية الجديدة إلى قرَّائها باعتبارهم “كُتَّاباً مضطّهدين”، أو “خرجوا من حروب طاحنة”، أو “يتمتّعون بحماية إنسانية من قبل مؤسّسات أوروبية ما”. وعن هذه النّقطة تحديداً تقول مرسال في محاضرتها، تعليقاً على الطّريقة التي قُدِّم بها ديوان فيّاض إلى قرّائه بالإنكليزية: “إن طريقة تقديم فيّاض كانت كفيلة بوضعه في صورة الشّاعر السّجين المضطّهد، وإنّ هذه التّرجمة جاءت ليست لجماليات النّص الشّعري الذي يكتبه، بقدر ما جاءت ضمن إطار ’حالات طوارئ التّرجمة’”. وتعتبر مرسال أن التّرجمة ما دامت جاءت لهدف نبيل هو إنقاذ حياة الكاتب، فهي قد أدَّت مهمّة أنبل من مجرّد أن تكون ترجمة عادية.

اللهاث خلف الاعتراف الأشقر

هذه الحالة من تبنّي المؤسّسات الثّقافية الأوروبية للعديد من الأسماء الجديدة في عالم الأدب المكتوب باللغة العربية في أوروبا، دفعت الكثيرين من شعراء العالم العربي إلى التّعبير عن استيائهم من سياسة الكيل بمكيالين التي تنتهجها هذه المؤسّسات تجاه الشّعراء اللاجئين في أوروبا من ناحية، وبين الشّعراء الذين لا يزالون يعيشون في العالم العربي من ناحية أخرى. وهو ربما ما دفع الشّاعرة الفلسطينية الأردنيّة جمانة مصطفى إلى أن تكتب مقالاً لاذعاً تحت عنوان “أوروبا وصناعة الشّعراء: لا أعمال خيريّة في الأدب”، نشر في فبراير 2019 في موقع “رصيف 22″، وتقول فيه: “أن تكون شاعراً عربياً له جمهور أوروبي يعني أن تُرضي رغبة المثقف الأبيض بالشّفقة عليك وعلى حضارتك، وأن تستبكيه على بلادك ونسائك وأطفالك، وتروي له قصصاً يفتقدها ويرفضها عن الاغتصاب والتّعذيب الجنسيّ، قصصاً تثير فيه الغريزة والغثيان. فرق كبير بين أن يكون إعجابك بما قّدمته أوروبا من معارف وفنون للحضارة هو إعجاب الندّ اللغوي للندّ اللغوي، وبين أن يكون لهاثاً زاحفاً خلف الاعتراف الأشقر، خلف اللجوء أو الهجرة باسم الأدب. هنالك أيضاً فرق لا يجدر تجاهله بين أن تؤمن بالقيم الإنسانية التي تبنّتها أوروبا وطبقتها وبين افتعال التّوافق القيمي لغايات براغماتيّة مرحليّة”.

وتضيف جمانة مصطفى فتقول: “الذّنب ليس فقط ذنب مُدِّعي الكتابة ممّن انتقلوا من الأمِّية إلى كتابة الشِّعر في غمضة عين، الذّنب الأكبر يقع على عاتق الأوروبي العامل في الثّقافة، الذي هيّأ له غروره أنّه قادر على تقييم شعر اللغات الأخرى باستخدام أدوات غير لغويّة وغير نقديّة، مثل موضوع القصيدة وخلفية الكاتب السّياسية وتعرّضه للاضطهاد، بهذا يكون المثقف الأبيض قد صنع سوقاً للرّداءة الأدبية. هذه السّوق كحال كل الأسواق يحكمها قانون العرض والطلب، والطلب مرتفع على قصص الحروب وبالتالي زاد العرض”.

ثقافة الاستسهال

إلى هنا وكلّ شيء جيّد؛ يتكوّن المشهد أعلاه من أضلاع رئيسيّة ثلاثة، هي: الكاتب، النّاشر، والجمهور. أو بقول آخر: الصّانع، التّاجر، والمستهلك. وكلَّما كان المُنْتَج جديداً ومختلفاً ومثيراً، كلَّما احتاجته السّوق وأقبل عليه المستهلك وربحت الأضلاع الثّلاثة. إضافة إلى ما يمكن لنا أن نسمّيه هنا “ما يخالف المتوقَّع” في هذا المُنْتَج، كما في حالة يحيى حسن الذي يهاجم مجتمع المهاجرين الذي خرج منه، أو كأن تدعم مؤسّسة ثقافية أوروبية كاتبة عربية محجّبة لا لشيء إلا لأنها تكتب قصائد إيروتيكية مثلاً، أو أن تروّج لكاتب مسلم لمجرّد أنه مثلي الجنس، أو أن تتبنّى صوتاً أدبياً وتروّج له على اعتبار أنه ناجٍ من حرب طاحنة في بلده، أو غيرها من مثل هذه الأمور. هذه الأضلاع الرئيسية تتدخّل جميعها في تحديد رواج أو كساد المُنْتَج الثّقافي والأدبي المراد ترويجه، ولكن.. ودعونا نقف قليلاً مع “لكن” هذه..

حينما يبرع صانع في صنع شيء ما، ويجد أنّ التّاجر ليس متحمّساً كفاية له، بل يريد “بضاعة بمواصفات معيّنة” لينجح في بيعها، فعلى الصّانع أن يتحلّى بالمرونة ليكسب المزيد من تجارته، وهذا بالضّبط ما يحدث اليوم في المشهد الأدبي العربي الراهن، خاصّة في أوروبا، والتي فتحت مؤسّساتها الثّقافية أذرعها لاحتضان المواهب الجديدة وسط اللاجئين، فأمدّتهم بالدّعم المادي لمساندة مشاريعهم الثّقافية والأدبية، وأصبحنا نرى كُتَّاباً عرباً يُصدرون أعمالهم الأولى في اللغات الأوروبية التي لجؤوا إليها قبل حتى نشرها في لغتهم الأصليّة، أدرك الكثيرون من هؤلاء الكُتّاب الشّباب أن أوروبا لا زالت تتعامل معهم من خلال نظرتها المعتادة إلى ما هو “كيتش” لدى الكُتّاب اللاجئين، وأيقنوا أنّ عليهم استثمار هذا “الكيتش” لأطول فترة ممكنة ليبقوا تحت الأضواء الأوروبيّة، ومن ثمّ اندلعت الحروب في الكواليس الخلفيّة للمشهد بين الطّامعين في المنح والاستضافات والتّرجمات والمهرجانات والجوائز والإقامات الأدبيّة وغيرها.

وربما تشير جمانة مصطفى في مقالتها صراحة إلى الجانب المعتم وغير المرئي للدّعم المؤسّساتي الأوروبي الموجّه لكُتَّاب العالم العربي اللاجئين حديثاً إلى أوروبا فتقول: “تحت مسمّيات خيّرية مضيئة وملهمة مثل “مساعدة الأقليّات” و”التّشجيع على الاندماج” و”مساعدة اللاجئين” و”دعم المرأة والشّباب” تتجاوز المؤسّسات الأوروبية عمليّة البحث الحقيقي عن الأدب بأخذها وتبنّيها لما هو قريب منها من الجاليات العربية المقيمة في أوروبا، ثقافة الاستسهال هذه هي الامتداد المخزي لما مارسته المؤسّسات الأوروبية المموّلة للثّقافة والفنون في بلادنا حين فضّلت من يجيدون الكتابة بالإنكليزية والفرنسية، واستنطاق طلبات الدّعم بحشو كلمات مثل “تمكين المرأة” و”حقوق الإنسان” فيها، متجاوزة المبادرات المحليّة الأصيلة والمشاريع الحقيقيّة التي تشبه مجتمعاتها الأم”.

الاستكتاب

ما ذكرته جمانة مصطفى أعلاه ليس تكهّنات، أو افتراضات وهمية، فالمؤكّد لدينا أنّ المؤسّسات الثّقافية الأوروبية لم تبخل على هؤلاء الصُّناع والكُتّاب اللاجئين الجدد بتوجيههم صراحة إلى تحديد نوعية النّصوص المطلوب منهم التّركيز عليها وكتابتها. ففي رسالة إلكترونية وجّهتها إحدى هذه المؤسّسات الثّقافية الأوروبية الدّاعمة إلى عدد من الشّعراء العرب اللاجئين في مارس الماضي، تقول فيها صراحة إنهم يفضّلون النّصوص المكتوبة من قبل الفئات التّالية: ناشطون مستقلّون ذوو خلفيّة يساريّة، أو نسويّة، أو أناركيّة، أصحاب البشرة الملوّنة، المهاجرون، المرضى النفسيّون، السّجناء السّابقون، ذوو الميول الجنسيّة المثليّة و”مجتمع الميم”، الأشخاص الذين تزيد أعمارهم عن 30 عاماً وبدأوا للتوّ الكتابة بطريقة احترافيّة، الكُتّاب الذين ربّما تعرّضوا للتّمييز بسبب كبر سنّهم، الأشخاص الذين يعيشون في بيوت المسنّين ويشاركون وجهة النظر السّياسية للمؤسّسة، الذين يعانون من حرمان بسبب الخلفيّة الطّبقيّة، الذين يعانون من حياة غير مستقرّة، الأقليّات والإثنيّات العرقية كالغجر، اليهود والمسلمون أو الذين ينتمون إلى هذه الثّقافات، الأشخاص الذين لا تلتزم أجسادهم بالمعايير (معاقون)، مرضى العصاب.. إلى آخره..

في الحقيقة، لم تدهشني هذه القائمة الطّويلة من الشّروط والتّفضيلات التي تُمليها المؤسّسة الثّقافية الأوروبيّة على الكُتّاب العرب اللاجئين والطّامعين في الحصول على دعمها المالي، ولا أعتقد أنها الأولى من نوعها ولن تكون الأخيرة كذلك. لكنّها لسبب ما جعلتني أنفر من فكرة “الاستكتاب”، من فكرة أن يُملي عليك أحد ما شروطاً ليقبل كتابتك.

لكن، وفي الآن نفسه، جعلتني هذه القائمة أفهم لماذا تفتح أحياناً ديواناً لشاعر عربي لاجئ في أوروبا، لتجد أنّ جميع قصائده كتبت “تحت الطلب” من قبل هذه المؤسّسة الأوروبية أو تلك، أو لإحياء هذه الذّكرى العالميّة أو تخليداً لذكرى فلان أو علّان. وجعلتني أفهم أكثر لماذا تتشبّث بعض الشّاعرات العربيّات بارتداء أزياء بلادهنّ التقليدية في كلّ مرّة يلقين نصوصهنّ فيها أمام الجمهور الأوروبي. كما فهمت أخيراً لماذا يظلّ كاتب عراقي ما في الغرب لأكثر من 25 عاماً، وكلّما تحدّث أمام جمهوره الأبيض يحكي تفاصيل تعذيبه من قبل “زبانية صدّام حسين”… أدركت حينها أن الكيتش في الأدب صار تجارة من لا علاقة لهم بالأدب، وكأنّ لسان حال هؤلاء جميعاً يقول: هاي أوروبا.. هل تريدون الكيتش؟.. ها هو الكيتش!

ضفة ثالثة

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى