سياسة

عِبْرة الرئيس مرسي/ عمر قدور

الطريقة التي توفي بها الرئيس المصري محمد مرسي لا تخلو من درس يُراد إيصاله، فالرجل توفي خلف قضبان المحكمة في قضية ملفّقة هزلية، ومن شبه المؤكد أن وفاته تتويج لسنوات من الإهمال الطبي المتعمد. أو، إذا شئنا أخذ المسار كاملاً، نستطيع اعتبار الوفاة استكمالاً لنهج دُشن بمذبحة رابعة، ثم استؤنف بأحكام إعدام في محاكمات تفتقر إلى الحد الأدنى من الأصول والمصداقية، بل ترقى لتكون تمثيليات مكشوفة لتوضيح القدرة على البطش بلا رادع. من نافل القول أن طريقة الإعلام المصري في تغطية خبر الوفاة، ومن ثم دفنه بلا أدنى احترام لمكانته كرئيس سابق، هما استكمال لعملية الاغتيال.

العبرة التي يقدّمها عسكر مصر واضحة، ولا تختلف في الجوهر عن العبرة التي تقدّمها الأسدية في سوريا، أو التي بدأ عسكر السودان في تقديمها، وربما يتحفز عسكر الجزائر لتكرارها. الخصم المحبب في كل مرة يتمثل بالإسلاميين، سواء كان لهم وجود فعلي وازن أو جرى اصطناع وجودهم وتضخيمه ليطغى على المطلب العام بالحرية والديموقراطية. هكذا بتعميم، حافل بالتعسف، يُعاد المرة تلو الأخرى تصوير بلدان المنطقة جميعاً بين فكي خيارين لا ثالث لهما؛ إما استبداد العسكر أو استبداد الإسلاميين، مع التلويح بتساهل العسكر مع الحريات الشخصية التي لا تقترب من السياسة بما يضمر الانحياز لاستبدادهم.

كما نرى تخرج هذه المفاضلة من السياسة باعتبارها مطرحاً للاحتمالات لتختزلها بالحتميات، وفي حال وجود تجربة يمكن الاستدلال بها تصبح هذه التجربة بمثابة حتمية أخرى نهائية. مثلاً في تجربة مصر، وقبلها تجربة الجبهة الإسلامية للإنقاذ في الجزائر، يبدو من المحتم أن تأتي الديموقراطية إلى الحكم بالإسلاميين، مثلما هو محتم أن تكون هذه الديموقراطية لمرة واحدة لأن الإسلاميين سينقضون عليها ويقيمون نظامهم الثيوقراطي الذي لا يكترث بالإرادة الشعبية، ولا يحترم حقوق الأفراد.

إننا إزاء افتراض يلغي الاختلاف بين المجتمعات، فقد تبين أن تونس ما بعد الثورة ليست كالجزائر، مثلما لا نستطيع سحب تركيبة المجتمع المصري على التجربة العراقية أو السورية أو اللبنانية. مع ذلك، ثمة نقاش يُغيّب ضمن الافتراض السابق، هو التفكير الجاد المعمق في سبل حماية الديموقراطية بحيث لا تحدث لمرة واحدة، ولا تكون عرضة للانقضاض عليها من قبل العسكر أو الإسلاميين. بعبارة أخرى، ما نفتقده بسبب الافتراضات الدارجة هو التفكير في النظام السياسي الذي يضمن حصانة أكبر للديموقراطية المرجوة، بدل التفكير على أرضية النظام القائم.

إذا كانت ثمة وجه تشابه بين الغالبية الساحقة للأنظمة الحالية فهو كونها أنظمة أوتوقراطية، سلطات بمختلف تسمياتها تعتمد على حكم فرد أو مافيا متوحشة، وما يلحق بالحكم من قوانين أو مؤسسات لا تعدو كونها مظاهر وإكسسوارات. الاستبداد في حالتنا مطابق للنظام السياسي الموجود، إذا اعتدينا على مفهوم النظام الشائع عالمياً، فالمؤسسات هي لخدمة السلطة، والقوانين والدساتير مفصّلة على مقاسها، وصولاً إلى استخدامها لهندسة المجتمع على المقاس ذاته.

نسمع ونقرأ كثيراً لمعارضين أو مثقفين من هنا وهناك ما يفيد بأن العلة ليست في نصوص القوانين، بل في كونها شكلية، وفي أن السلطة التي وضعتها هي الجهة الوحيدة التي تتطاول عليها. هذا كلام يوصّف جزءاً من المشكلة، ومن محاذيره الظنُّ أن العلة هي في طغمة متوحشة وفاسدة يكفي استبدالها ديموقراطياً ببديل رشيد كي تُحل المعضلة. وما دامت السلطة قد فصلت الدساتير والقوانين الأساسية على مقاسها، ولو برغبة مسبقة في تجاوزها، فإن القوانين في جوهرها لا يمكن إلا أن تخدمها، أو تحمل قابلية عامة لخدمة أي استبداد.

مجمل الدساتير العربية، باستثناء لبنان والعراق بعد صدام، تعتمد النظام الرئاسي، وتضمن لشخص الرئيس الإمساك دستورياً برأس هرم السلطات الثلاث، إذ تمنحه صلاحيات تعيين السلطة التنفيذية وصلاحية إصدار تشريعات ورئاسة “أو الإشراف على” السلطة القضائية. في الواقع لدينا سلطة مطلقة أو شبه مطلقة في رأس الهرم، ومن يمتلكها يسيطر على الهرم من رأسه حتى قاعدته، ما يعني أن الصراع سيبقى دائماً على رأس الهرم لأنه منبع السلطة والتحكم. ولأن رأس الهرم هكذا، لن تكون هناك حماية لمبدأ الديموقراطية، إذ باستطاعة الشخص أو الفئة المسيطرة تعديل الدساتير والقوانين بما يكفل الاستمرار في السلطة.

في أحد جوانبها تعني الديموقراطية تبديد مركزية السلطة، فالشعب لا تنتهي مهمته عند صناديق الاقتراع، وإذا أخطأ الاختيار لا يفقد حقه في التراجع عن خطئه حتى خارج صناديق الاقتراع. المدخل المستدام لممارسة هذا الحق هو فصل السلطات ولامركزيتها معاً، وإذا أتت اللامركزية بعد سياق طويل من الممارسة الديموقراطية في الغرب فإنها في بلداننا تبدو ممراً إجبارياً لتحاشي الاستبداد، إذ وحده التوزيع المتوازن للسلطة في “اتجاه قاعدة الهرم” يطمئن “أو يردع” أولئك الساعين إلى الاستحواذ على رأسه وعليه كله. فضلاً عن ذلك، تنقل اللامركزية الصراعَ إلى قلب الجماعات الأهلية التي قد تظهر متماسكة ومتحاربة على المستوى الوطني، ومن المرجح أن تكون امتحاناً شاقاً للتنظيمات الأيديولوجية الكبيرة أمام الاستحقاقات اليومية لشؤون الإدارة العامة.

في نظام لامركزي، يصبح فيه مقام الرئاسة رمزياً، قد نستطيع الحصول على ضمانات أقوى لمنع الانقضاض على الديموقراطية، لعدم وجود فئة تحتكر مفاتيح القوة جميعاً. مقام الرئاسة نفسه قد يصبح واحداً من الضمانات، إذا كانت مهمته تيسير العملية الديموقراطية، وتم التواضع على أن يكون حكَماً لا حاكماً. ثمة شأن آخر ينبغي أن تُنزع عنه الحساسية هو الجيش، فالواقع أن الجيوش العربية لها أولوية واحدة تتمثل بقمع الشعوب، والبلدان العربية كلها ليست في حالة حرب “أو حالة استعداد لها” ضد عدو خارجي، بما في ذلك إسرائيل، وأي مشروع ديموقراطي وتنموي في آن واحد يمر عبر تقليص حاد في عدد الجيش ومنع العسكرة الإلزامية للمجتمع.

بالطبع ليس من شأن هذا النقاش تقديم برنامج عمل سياسي، بقدر ما يتوخى إمكانية التفكير خارج الصندوق الذي يحتكره صراع العسكر والإسلاميين. لقد قضى الرئيس محمد مرسي ضحية صراع تأكد خلال عقود أنه لن يمضي بنا سوى إلى الخلف، صراع اختزل تطلعات الكثيرين بالمفاضلة بين استبداد العسكر والاستبداد الذي يلوّح به الإسلاميون؛ الخلاص من تلك المفاضلة لن يأتي بالتأكيد عبر تكرار الحلم بمستبد عادل.

المدن

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى