الناس

هل تذكرون النساء في سورية؟/ شيرين أبو النجا

في تناول وضع النساء السوريات يتبدى التحدي في ضرورة إيجاد منطق يمنح الوضع خصوصية منطلقة من رؤية سياسة جندرية. كما لا بد أن تؤدي هذه الخصوصية إلى الخروج من دائرة الخاص والضيق والفردي إلى دائرة أشمل تلقي بالضوء على السياسي والعام.

بمجرد ذكر النساء السوريات، تتبادر إلى الذهن الفوضى العارمة التي أدخلت هذا البلد في سلسلة من الكوارث التي لم تنته حتى الآن. لن أتوقف كثيراً عند المسميات التي يُشار بها إلى الوضع السوري: ثورة، انتفاضة، حرب أهلية، مؤامرة، مخطط، إرهاب، لكن الأكيد أن الأمر بدأ كثورة حقيقية، والأكيد أن هناك الآلاف من البشر التي تدفع أثماناً غير مسبوقة. وكالمعتاد، لا بد أن تدفع النساء الثمن مضاعفاً. تسقط أهمية المسميات لأن علاقات القوى لا تأخذ في حسبانها إلا الأطراف التي تحرك الحدث الكبير، بالرغم من أن أي حراك لعلاقات القوى لا يمكن أن يحدث بدون وجود بشر بعضهم يقود الحدث ومعظمهم يذهب ضحية لهذا الحراك.

ولكن إذا كانت المجازر والقصف والقتل والخطف هي انتهاكات لا تفرق بين الرجال والنساء والأطفال، كما هو الأمر في النزوح واللجوء، فما الداعي لمنح النساء خصوصية في هذا السياق؟ من أجل فهم الخصوصية لا بد أن نتذكر أن النساء دائماً ما يتعرضن إلى قهر مضاعف لمجرد كونهن نساء. وعلى أساس هذه القاعدة بُنيت النظريات النسوية التي تؤكد أن النساء- وأيّ نضال نسوي- يدفعن ثمن النزاعات المسلحة والحروب بشكل مضاعف، ويتحملن تبعات فقد أزواجهن أو المُعيل الأساسي للعائلة، كما تضطرب الأدوار الاجتماعية بشكل كبير وغالبا ما يكون المجتمع غير مستعد لذلك. وقد ناقشت إيفلين عقاد هذا الأمر في كتابها “الجنوسة والحرب” (1992) من داخل سياق الحرب الأهلية اللبنانية حيث أوضحت كيف تُجبر الحركة النسوية على الصمت والتراجع في وجه صعود الخطاب الوطني. وهذا الأخير لا يأخذ في اعتباره خصوصية قضية النساء، بل يراها ترفاً زائداً يمكن توظيفه عند الاحتياج له في لحظات التعبئة الشعبوية. إلا أن وضع النساء السوريات في اللحظة الراهنة لا يشتبك مع الحقوق المتعلقة بالمواطنة بقدر ما يشتبك مع الإشكاليات التي تفرزها وتؤججها النزاعات المسلحة والحروب. ويُعد هذا السياق إذاً هو المؤشر الأول إلى خصوصية الوضع.

من أجل فهم وضع النساء السوريات في الوقت الحالي لا بد أن نتعرف على كافة أشكال العنف التي تقع عليهن في داخل سورية أولاً، سواء أكان هذا العنف مُوجهاً من النظام، أو من الفصائل المسلحة، والكيفية التي يتم بها إذلال الجسد الأنثوي وتوظيفه وابتزازه لصالح علاقات القوى. في الوقت ذاته لا يمكن إغفال دور العائلة في احكام الحصار حول هذا الجسد. وكأن كل الأطراف المتنازعة في سورية لم تتفق إلا على جسد المرأة. وتبدو محورية/ خصوصية هذا الجسد واضحة عندما ندقق النظر في ما يحدث من أشكال تداعي النسيج الاجتماعي كنتيجة طبيعية لفوضى السلاح وغياب القانون. وهو وضع يعيد إلى الأذهان ما وقع في روسيا أثناء تفكك الاتحاد السوفييتي، مع الفارق بالطبع المتعلق بأن البيريسترويكا لم تكن حرباً بقدر ما كانت تفكيكاً لعالم قديم تداعت أركانه، أما وجه الشبه فيكمن في تحلل البنية الاجتماعية وغياب الغطاء القانوني.

في مقابل صمود الكثير من المناضلات السوريات، اضطرت أخريات إلى الخضوع لشبكات الاتجار بالبشر، حيث لا خيار متاحاً سوى ذلك. وفي مقابل الكثيرات اللاتي صممن على البقاء في سورية، هنالك الآلاف ممن اضطررن إلى الرحيل. من المتفق عليه أن الرحيل ليس الحل الطوباوي مطلقاً، فالنساء يرحلن في اللحظة التي يكن معرضات فيها لفقدان الذات بعد أن فقدن كل شيء. في هذا الرحيل تظهر أطراف أخرى تساهم في ترسيخ جسد المرأة بوصفه مؤونة حرب، سلعة للإتجار، موقعاً للتربح. ما أقصده بمصطلح الرحيل هو الرحلة الخطرة التي تخوضها النساء من أجل عبور الحدود لينتهي المطاف في مخيم. وبتوظيف قراءة تحليلية من منظور جندري يُمكن فهم أبعاد العلاقة بين الحدود والعلاقات الجندرية، ومدى تحول الحدود إلى فضاء يعمل على إحداث تغيير جذري بعيد الأمد في الهوية الجندرية قد يكون عابراً للحدود، أي أن ما يحدث عند الحدود من صراع غالباً ما يؤطر حياة النساء ويُعيد تشكيل مفهوم الجسد سلباً خلف الحدود.

مع تزايد رقعة النزاعات المسلحة بين النظام والفصائل المختلفة في سورية، ومع طول المدة الزمنية، يطرح الجندر نفسه كعامل رئيسي ومهم في النظر إلى أثر هذه الحرب. فقد قدم المفكرون منذ زمن رؤيتهم للحرب بوصفها بالفعل مجندرة. فأكد هوبز وروسو وميكيافيلي مثلاً أن الرجال يقومون بالحرب في حين تضطر النساء إلى تحمل المعاناة. ومن هنا ظهرت الثنائية الراسخة التي تمنح الرجال الإرادة في شن الحروب بكل الأوصاف المرادفة لذلك مثل رجولة، صمود، قوة، شرف، عزيمة، في حين كان نصيب النساء في هذه الثنائية هو وقوعهن في خانة الضحية بكل المرادفات لذلك مثل: المعاناة والسلام والضعف وقلة الحيلة. وبالرغم من عدم دقة هذه الثنائية حيث ظهرت النساء المناضلات المشاركات في الدفاع عن الأرض والحق (فلسطين والجزائر على سبيل المثال وليس الحصر)، إلا أن البطش والسلاح لهما الصوت الأعلى إن لم يكن الأوحد. وباختفاء أصوات المعاناة من التقارير الإعلامية وطاولات المفاوضات، بتراجع أصوات البشر، أصوات الأجساد المنتهكة والمُنهكة، أصوات الإنسان الذي يقضي تحت القصف أو يختنق من الغاز الكيماوي، تتوجه أنظار المحللين والدارسين نحو تحليل أفعال القوة الرئيسية المسيطرة: قوة البطش/ البطولة/ الذكورة التي أشعلت الحرب. تسقط حكايات النساء ومعاناتهن، تتضاءل الانتهاكات الواقعة عليهن في مقابل الإعلاء من شأن البطولة والإرادة وقيادة المباحثات وعقد الاتفاقيات، تصبح النساء قطرة في بحر من علاقات القوى يتم توظيفها عند الحاجة. لكل هذه الأسباب لا بد من إعادة منح الأولوية إلى عنصر الجندر في قراءة أثر الحرب على أي مجتمع.

ضفة ثالثة

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى