سياسة

المعارضة السورية تخسر الصراع على الصورة/ ماجد كيالي

 

في الآونة الأخيرة، روّج النظام صورةً تجمع الرئيس مع زوجته (في مستشفى)، التي قيل إنها تعاني من مرض خبيث، مع كل الإيحاءات التي تشيعها هكذا صورة في الرأي العام، لا سيما على الصعيد الدولي. أتبع هذا الإعلان بصور أخرى، تظهرهما بملابس مريحة، وهما يتحدّثان بودّ مع فنانين سوريين، يعكفون على الرسم أو النحت في أحد أنفاق جوبر (مدخل الغوطة)، لتخليد ما اعتبروه نصراً على الإرهاب، بالتزامن مع إصدار قرارات رئاسية بمنح السوريين في الخارج جوازات سفر، واللاجئين دعوات إلى العودة، وغير ذلك من إجراءات، ولو شكلية.

من الجهة المقابلة، ثمة صورة لأبي محمد الجولاني تظهره وهو يتجوّل كمنتصر في ريف إدلب، بملابس عسكرية، كأنه يتهيأ لحرب عالمية، أو لفتح “أندلس” جديدة، بعد أن قام فصيله، أي “هيئة تحرير الشام” (وهو الاسم الرديف لـ “جبهة النصرة”)، بتفكيك السكّة الحديد في ريف ادلب، في حين كان ثمة فصائل عسكرية أخرى تتقاتل في ما بينها، وثمة أدعياء يصدرون ما يسمّونه “الأحكام الشرعية”، تجعلهم وكلاء عن الله، وأولياء على البشر وعلى كيفية تدبّر حياتهم، في ما تبقى من مناطق “محرّرة”.

والحقيقة، فإن المعارضة، ومنذ زمن، لم تخسر صدقيّتها وصورتها أمام الرأي العام العالمي فحسب، إنما خسرته أمام شعبها أيضاً، مع هكذا فصائل عسكرية، ذات ادّعاءات أيديولوجية متطرّفة، لا سيما أنها لم تنبت في التربة السورية، ولم تظهر نتيجة حراكات في قوى المعارضة السياسية أو العسكرية أو المدنية، بقدر ما أنها نبتت بتشجيع وبدعم من قوى خارجية، ما يفسّر ارتهانها لأجندات الداعمين المضطربة والمختلفة، أكثر من ارتهانها لمصالح شعبها، وما يفسّر ميلها إلى إنشاء سجون (“التوبة” مثلاً)، و”الهيئات الشرعية”، وشيوع خطابات معاداة الديموقراطية، وفرضها تصوّرات قسرية ومتعصّبة على مجتمعات السوريين، لذا، وفي هكذا حال، كيف ستربح هذه الفصائل المعركة على الصورة؟

في الغضون، فإن قيادات المعارضة (السياسية والعسكرية والمدنية) ظلّت تعيش في عالم آخر، كأن ما يحدث لا يهمهّا أو لا يعنيها، إذ لا ترفع أي كلمة الشرعية عن “جبهة النصرة”، مثلاً، التي لم تحسب نفسها يوماً على الثورة السورية، بل واظبت على الدوام على إعلانها معاداتها مقاصدها، المتعلّقة بالحرية والكرامة والمواطنة والديموقراطية، بل إنها لعبت الدور الأهم في إزاحة “الجيش الحرّ” من المشهد، والدور الأهم في مشهد الاقتتال الجانبي حتى مع الفصائل العسكرية المحسوبة على الإسلام السياسي السلفي، ما ألحق ضرراً كبيراً بالثورة وبصورتها وبإجماعات السوريين. أيضاً فإن هذه القيادات لم تتحدّث بكلمة ضد الفصائل المرتهنة والخائبة، التي جعلت همّها تلبية أجندات هذا الطرف أو ذاك، باعتبارها تستمدّ منه الدعم والنفوذ، على حساب سلامة مسار الثورة وسلامة صورتها، بل إن بعض الفصائل بدت تركية، مثلاً، أكثر من تركيا ذاتها، في حديثها عن مراعاة متطلّبات الأمن القومي التركي، في معركة درع الفرات التي أدّت إلى انهيار مواقع المعارضة المسلّحة في حلب، أو في معركة السيطرة على عفرين.

على ذلك، فإن الثورة السورية لم تنهزم عسكرياً فقط، مع هكذا فصائل، وهكذا معارضة، بل هزمت على صعيد الصورة، أيضاً، من قبل، فهي هزمت حينما تم اختطاف رزان زيتونة وسميرة الخليل وناظم حمادي ووائل حمادة في الغوطة، المنطقة التي كانت تخضع تماماً لجيش الإسلام. وهزمت حينما تم استعراض حوالي 40 كتيبة ولواء في الغوطة، على مقربة من جيش النظام، وحين تم الادّعاء بتفجير ما يُسمّى “خليّة الأزمة”، وهزمت حين أُزيحت المقاصد الأساسية للثورة وحلّت محلها شعارات دينية، وهزمت حينما رفعت الأعلام السوداء بدل علم الثورة السورية، وهزمت حينما تم حصر الثورة بالعمل العسكري، وبالفصائل الإسلامية، وحين أُخرج الشعب من دائرة الصراع، وحين تم فرض الهيمنة على السوريين في “المناطق المحرّرة” بوسائل القوّة والإكراه وفرض تصوّرات متطرّفة وغريبة عليهم، وهزمت حينما تم الاعتماد على الخارج، والخضوع لأجندته.

طبعاً ليس القصد هنا أن مشروعية الثورة هزمت، وإنما القول بالتحديد إن من هزم هي القوى التي تحكّمت بتلك الثورة وحدّدت مساراتها، والنهج الذي سارت عليه، إذ لا يجوز، ولا لأي سبب، إخفاء الحقيقة، أو إنكار الواقع، لتزيين هزيمة، أو انهيار، الفصائل العسكرية، والقوى التي تتّبعها أو تغطّيها.

قصارى القول، إن الصراع على الصورة هو جزء من الصراع على سوريا، هو صراع على السياسة والقيم والأخلاق، وهو صراع على الرموز، صراع على السلطة وعلى الشعب، وعلى الماضي والحاضر والمستقبل، والمشكلة أن النظام، في هذا الصراع، يمتلك أدوات أقوى، مع نفاذ أكبر إلى وسائل الإعلام، ووسائط التواصل الاجتماعي، كما لديه معسكرات جاهزة للمنافحة عنه، على امتداد العالم، ضمنها “يساريون” و”قوميون” و”علمانيون”، ناهيك بأرباب الطوائف وأولياء المذاهب. في المقابل لم تنجح المعارضة، حتى الآن، في إيجاد منبر إعلامي لها يتمتّع بصدقيّة، تمكّنه من الانتشار، وخلق تفاعلات مع معاناة السوريين وعذاباتهم.

أيضاً، مشكلة المعارضة، في صراعها على الصورة، أنها لم ترتقِ في أدائها إلى مستوى تضحيات السوريين، وبدت خفيفة ومترهّلة، وهذا لا يقتصر على الفصائل العسكرية، كما قدّمنا، بل إنه يشمل الإطارات السياسية، فعدا عن الخضوع لخطابات الفصائل الإسلامية، ومجاملة “جبهة النصرة”، فقد شهدنا التنافس بين “الائتلاف” و”هيئة التفاوض”، وشهدنا التسابق بين شخصيات المعارضة على محاباة هذه الدولة أو تلك، وشهدنا أن الوفد التفاوضي للمعارضة في جنيف كان يصل إلى حوالى مئة شخص، في واقع لا توجد فيه مفاوضات فعلية، وفي حين كان النظام يكتفي بمجموعة من 15 شخصاً، لم يتم تغييرهم ولا مرّة.

خسرت الثورة السورية معركتها على الصورة، كما خسرت معركتها العسكرية، بسبب هكذا معارضة، وهكذا فصائل، والمشكلة الأكبر أن ذلك حصل على رغم مئات آلاف الضحايا، وخراب مدن، وتشريد ملايين، وعلى رغم أن هذه الثورة هي الأكثر استحقاقاً بين ثورات الربيع العربي.

درج

 

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى