الناس

رهائن الأسد المنسيّين/ عمر قدور

قبل نحو عشرة أيام مرت الذكرى التاسعة والأربعون لمجزرة سجن تدمر الشهيرة والفظيعة؛ استكمالاً للبشاعة والوحشية ثمة تفصيل صغير في قصة المجزرة رواه اثنان من المشاركين فيها، وهو أن كلاً من عناصر سرايا الدفاع الذين نفّذوها نال مكافأة قدرها 200 ليرة سورية. وفق أفضل أسعار الصرف القديمة، ذلك المبلغ لا يعادل 50 دولاراً، والرواتب التي كان يحصل عليها هؤلاء ليست بذات قيمة، بحيث تبدو كلفة تصنيع الوحوش زهيدة جداً بالنسبة لعصابة الأسد، ويسهل لدى الكثير من أصحاب التحليلات ردّ التوحش إلى استعدادات شخصية أو طائفية أو إلى العنف الكامن في المجتمع السوري ككل.

في السنوات الأخيرة أيضاً توالت فضائح تكريم الأسد لمن قُتلوا دفاعاً عنه، من نوع تقديم ساعة حائط أو تقديم عنزة لأهالي القتيل كمكافأة على تضحية ابنهم. بكلام مجرد عن العواطف، ثمن السوري الخارج ضد سلطة الأسد هو رصاصة أو برميل متفجر أو قتل تحت التعذيب، وثمن القتلة المشتغلين عند الأسد لا يعادل سوى دولارات قليلة، إما كمكافأة ينالها وهو حي، أو كتعويض لأهله بعد موته. هذا التبسيط النظري لا يفسّر قدرة الماكينة الأسدية ووحشيتها غير المحدودة، ولا يشرح تالياً حال السوريين الباقين تحت سيطرة الأسد، أو بالأحرى تحت رحمة تلك الماكينة التي تزداد شراسة وتغولاً على تفاصيل حيواتهم.

منذ بدء الحرب على الثورة بات معروفاً أن الأسد أطلق يد قواته ومخابراته وشبيحته للاستيلاء على أملاك الثائرين عليها. سرقة محتويات البيوت بكل ما فيها، ومن ضمنها تمديدات الماء والكهرباء وبلاط الأرضيات، عُرفت باسم التعفيش، وعُرفت الأسواق التي تُباع فيها المسروقات باسم “أسواق السُنّة” نسبة لأصحابها الأصليين. هذا السلوك الممنهج كان مزدوجاً، إذ يستبيح الثائرين على السلطة بحيواتهم وأملاكهم، ويكافئ القتلة على وحشيتهم المفرطة لأن رواتبهم التي يتقاضونها من السلطة غير متناسبة مع مهمتهم.

منذ اقتحام الغوطة ودخول قوات الأسد الجبهة الجنوبية، أُقفل الباب عملياً أمام حقبة التعفيش السابقة، والجبهات المتبقية لا تحمل إغراء على هذا الصعيد حتى إذا نجحت قوات الأسد في اقتحامها. ذلك ينبغي أن يقوّض نظرياً أحد أركان الحرب، لأن أحد الحوافز للقتال لم يعد موجوداً، وهناك في الواقع أخبار عن محاولات التملص من القتال في الحملة الحالية على ريف حماة وإدلب، مع أخبار عن خلافات ضمن معسكر الأسد وحلفائه حول تكتيكات المعركة وأسباب فشلها حتى الآن.

نظرياً أيضاً، كان يُفترض مع انتهاء المخاطر على الأسد أن يُحلّ العديد من الميليشيات التي أصبحت بمثابة عصابات شبه مستقلة ضمن تنظيم العصابات الأكبر. هذا لن يحدث في المدى المنظور، فحرب بشار على الثورة استنزفت الموارد البشرية المتاحة، والعصابة لا يمكنها الاستمرار في السلطة من دون كمٍّ هائلٍ من أجهزة القمع، لتوالي تطويع وترويع المجتمع السوري بعد تحطيمه إبادةً وتهجيراً وتدميراً.

موالو الأسد الذين هللوا للمجازر والتعفيش كانوا على الأرجح يعتقدون أن القضاء على الثورة يعني العودة إلى ما قبلها مع مكافأتهم ببعض امتيازات النصر، الفئات الصامتة ربما كان قسم منها يطمح إلى استعادة الأمان فحسب مع القبول بالوضع السيء الذي كان متعايشاً معه من قبل. في الاحتمالين هناك تغاضٍ عن آليات تنظيم الدولة الأسدية، الآليات التي لا يمكن للسلطة البقاء من دونها، وهي تقريباً ذاتها سلماً أو حرباً.

اليوم مثلاً يستطيع أي مشتغل في المخابرات استدعاء شخص لا علاقة له بالسياسة، فقط من أجل إبتزازه وإجباره على دفع مبلغ من المال. الأمر قد يحدث بشيء من التنظيم، إذ من المستحسن أن يكون لهذا الشخص قريب غادر البلد لاجئاً، أو قريب تهرب من أداء الخدمة العسكرية الإلزامية، وإذا كانت له صلة قرابة بمن تثبت معارضته أو المشاركة في القتال ضد قوات الأسد فهذه فرصة ثمينة لابتزازه بمبالغ ضخمة جداً. هذا واحد من الأوجه التي تحصل فيها أجهزة المخابرات على أجورها الفعلية، إلا أن الأمر لا يتوقف عند ابتزاز أقارب الثائرين أو المعارضين، فأغلب التعاملات أو التحركات صارت بحاجة إلى موافقة المخابرات، والموافقة تستلزم دفع رشى للحصول عليها.

الحصول على موافقة المخابرات من أجل إبرام عقد إيجار بين شخصين صار أمراً معهوداً، ولم يعد جديداً أن أي محتاج لأعمال صيانة أو ترميم في بيته عليه الحصول على موافقة المخابرات التي لا تأتي بالمجان، ومن دون ورقة المخابرات سيتعذر عبور المواد اللازمة للترميم عبر الحواجز. أما عن مزاولة النشاط الاقتصادي المعتاد فهي واقعة ضمن براثن الشبكة ذاتها من قوات النظام ومخابراته وشبيحته، فشحن أي بضاعة “بما فيها المنتوجات الزراعية سريعة التلف” ووصولها إلى المتاجر الصغيرة يمر عبر رشوة الحواجز، بل هناك شركات من المخابرات والشبيحة تتولى تلك العمليات وتقبض أجورها علانية تحت مسمى “الترفيق”.

في أقصى حالات ارتياح سلطة الأسد، عندما لم تكن هناك بشائر ثورة أو تمرد، كان نظام الامتيازات “الذي تحصل عليه القطعات العسكرية الأهم والمخابرات” جزءاً أساسياً من تمويل الآلة المعدّة للقتل والترهيب. قلائل ضمن هذه الآلة ممن يكتفون بوهم السلطة من دون مغانمها المالية، وقلائل جداً جداً أُجبروا على الخدمة فيها. نظام الامتيازات هذا يتحكم ويشارك فعلياً في أرباح النشاط الاقتصادي، بدءاً بالأكشاك والبسطات المتواضعة وانتهاء بالصفقات الكبرى. بعبارة أخرى، لم تكن سلطة الأسد في أي يوم تتكفل بإطعام الوحش الذي تربيه، بل كانت طوال الوقت تربي الوحش على استباحة المجتمع وتحصيل أجره من الضحية.

الحديث عن نظام فساد معمم كان يغطي على الفساد الخاص المتميز لسلطة العسكر والمخابرات، وهو الفساد الأبلغ تأثيراً بعد فساد الأسرة الحاكمة. والحديث عن وحشية تلك الأجهزة طغى دائماً على جانب الفساد الذي تقتات منه، رغم أهميته ورغم ترابطه العضوي مع تلك الوحشية وجعلها متراساً للدفاع عن مكاسب ملموسة وواضحة ولا يمكن استمرار عمل تلك الآلة من دونها. بالحساب الاقتصادي، كان فساد تلك الآلة يقتات على حساب السوريين الذين قُتل وهُجّر أكثر من ثلثهم، ويحصّل مكاسبه الأكبر من مشاركة “أو فرض الأتاوات على” بنية صناعية وتجارية هرب رأسمالها الأضخم إلى الخارج ولن يعود.

ولأن تلك الآلة لم تتقلص مع تقلص عدد السكان والنشاط الاقتصادي، بل توسعت وضمت ميليشيات كان فجور السطو والاستباحة من ركائزها المعلنة، فإن استمرار عمل الماكينة في جانبها “الاقتصادي” سيعني مزيداً من ابتزاز الشرائح التي جرى إفقارها أصلاً خلال السنوات الأخيرة. وسيعني التمدد إلى قطاعات كانت نسبياً في منأى عن الاهتمام، ولقد بدأت فعلياً الأخبار تتوالى عن متاجرة تلك الأجهزة في ما يخص تثبيت وقائع الزواج والطلاق والولادات والتوكيلات العائلية والعقارية وابتزاز أصحابها، وعن ابتداع أساليب وذرائع للابتزاز والسطو لا تقل تفنناً عن الأساليب التي ابتدعتها تلك العصابات في القتل.

باستثناء من هم ضمن الماكينة وقلة من القادرين على تجنبها، نستطيع القول أن الباقين تحت سلطة الأسد بمثابة رهائن لها، تبتزهم وتستبيح كافة تفاصيل حياتهم بشكل مباشر أو غير مباشر، سواء كانوا في الأصل من المعارضين أو الموالين. المصيبة أن الخارج يتعاطى مع أولئك الرهائن بوصفهم القاعدة الشعبية للأسد، وهو الذي يتولى تمثيلهم بعد التمثيل بهم. هذا بالطبع ليس مدعاة للشماتة، إلا لمن يرى من تبقوا تحت سلطة بشار مجتمعاً متجانساً على نحو ما يزعم هو.

المدن

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى