مقالات

كتّابٌ وأسماءٌ مستعارة/ نجوى بركات

يعمد عددٌ كبير من الأدباء والكتّاب إلى التوقيع بأسماء مستعارة. بل إن أسماءهم المختلَقة تلك تسحق أسماءهم الحقيقية، منتصرةً لذواتهم الأدبيّة، كأنّما هم يرمون، من خلالها، إلى ولادة جديدة، لا يكون لأحد سواهم فضل فيها عليهم. فولادتهم كتّاباً أحراراً تتطلّب أحيانا ابتداع هويّةٍ ثانيةٍ متفلّتةٍ من كل القيود التي تمثّلها المناصب والوظائف الرسمية والصلات العائلية والاجتماعية والسياسية، إلخ. هكذا يختار الكاتب لنفسه اسما جديدا، لأنه يرى أن الكتابة فعل حريةٍ مطلق، اكتسابا للمعنى، ومحوا للماضي، بهدف صناعة مستقبل حرّ ومستقلّ.

“إن الاسم المستعار يسمح بازدواج الشخصية.. وهو أمر ضروري بالنسبة لشاعرٍ ملتزمٍ في الآن نفسه بوظيفة حكومية”، كان يقول سان- جون بيرس. وبالفعل، هي وسيلةٌ لخرق النظام الاجتماعي، من دون استفزاز أي طرفٍ معنيّ. الاسم المستعار يتيح ألا تطيع، إنما دونما قطيعة، وأن تختبئ من دون أن تضطر إلى الفرار. فكما يشرح لنا الطبيب والمحلّل النفسي ميشال نايرو، “تحدّد الأسماء المستعارة حدود الحرية القصوى، أي حرية أن تكون شخصا آخر مع بقائك أنت نفسك. إنها تغيّر الشخصية من دون أن تنتزع هذه منك، وهي بهذا المعنى عكس الاستلاب”.

هناك كتّاب بدّلوا أسماءهم بفعل الخوف، بعضُهم فعل لقطع حبل السرّة واغتيال الأب، وآخرون للاختفاء كأشخاص، والنفاذ من كل ما تمليه عليهم الشهرة من ضريبة. هنري بايْل، كاتب “الأحمر والأسود”، أصبح يوقّع باسم ستاندال، وبعشرات الأسماء المستعارة الأخرى، بسبب كرهه أباه. مارغريت دوناديو صارت مرغريت دوراس “هرباً من ذلك الإله الذي ما كانت تؤمن به”، ومن ذلك الوالد الغائب الذي ما عرفته أبدا، وكانت تكره التلفّظ حتى باسمه. والأميركي ويليام فاكنر أصبح فوكنر. لويس كارول كاتب “أليس في بلاد العجائب” اسم مستعارٌ أيضا، وكذلك فولتير الذي أراد أن يهرب من ماضيه ومن عائلته، خصوصا من الحكومة التي كان يوجّه إليها انتقاداتٍ أدّت إلى سجنه أحد عشر شهرا. جورج صاند كانت توقّع باسم ذكوريّ، اعتراضا منها على ما كانت تتعرّض له الكاتبات من تمييز جنساني، وهو ما دفع كاتبات أخريات إلى اتباع الاستراتيجية نفسها، من أمثال الأخوات برونتي، شارلوت إميلي وآن، اللواتي نشرن تحت أسماء مستعارة لرجال. اسم بابلو نيرودا الذي حمله مَن كان شاعرا وسياسيا ومفكّرا تشيليا، ومن أراد أن يخفي عن والده أنه يكتب أشعارا، لم يكن اسما حقيقيا أيضا. جورج أورويل كان يُدعى في الحقيقة إريك أرثور بلير، وهو قد بدّل اسمه حفاظا على مشاعر عائلته.. اللائحة تطول ولا تنتهي، قديمة ومعاصرة، محلية وعالمية. والأسماء المستعارة تبدو أحيانا أكثر واقعيةً، أشدّ سحرا ورومانسية، إذ تحيط بها هالةٌ من الغموض والسحر، خصوصاً عندما يبقى الاسم الحقيقيّ محتجباً، سرّياً، رافضاً الخروج إلى العلن، كما هي حال الإيطالية إيلينا فيرانتي.

“وداعا وشكرا، لقد استمتعتُ فعلا”، هذا ما كتبه عام 1985 الكاتب رومان غاري، الذي مات منتحرا، كاشفا أسوأ “خدعةٍ” ارتكبها كاتبٌ بحق جائزة أدبية مرموقة، مثل جائزة غونكور الفرنسية. لقد اختار رومان، الروسي الأصل، مجهول الأب، عام 1951، شهرة مستعارة، هي غاري، لتوقيع أعمالٍ جعلته ينال، بعد خمسة أعوام، جائزة غونكور، عن روايته “جذور السماء”. مع مرور الوقت، خفتت شهرته روائيّا، وهاجمه النقّاد، فما كان منه إلا أن نشر أعمالا جديدة، وقّعها باسم مستعار آخر، هو إميل أجار الذي نال جائزة غونكور من جديد عام 1975. وبما أن الجمهور والصحافة والإعلام راحت تطالب بالفائز، ألبس رومان غاري قريبه بول بافلوفيتش، شخصية أجار المختلقة، إلى أن غادر الحياة محتفظا بسرّه الذي لم ينكشف إلا بعد موته.

“بلوغ الصدق انطلاقا من أكذوبة، لكان أمرا جميلا بالفعل”، هذا ما كتبه غاري في “الرأس المذنب”.

العربي الجديد

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى