سياسة

أميركا في السودان بعد فشلها السوري؟/ وائل السواح

عيّنت وزارة الخارجية الأميركية السفير المخضرم، دونالد بوث، مبعوثاً خاصاً إلى السودان، ما يعني أن إدارة الرئيس ترامب تريد أن تضع إصبعها في المسألة السودانية. سيحاول المبعوث الذي يتمتع بخبرة جيدة في السودان وأفريقيا المساعدة في الوصول إلى حل سياسي للأزمة الحالية في السودان. ومع ذلك، مهمته غير مؤكدة، في وقتٍ يتحوّل فيه السودان إلى مسرح للمصالح المتضاربة الدولية والإقليمية. في حين أنه ليس من الصعب فهم ما يجري في هذا البلد، فإن الآثار الإقليمية والدولية قد تحيل هذا الوضع إلى أحجية. منذ استقلال جنوب السودان في عام 2011، كان الاقتصاد السوداني يسير من سيئ إلى أسوأ، لأن الانفصال حرم السودان من الجزء الأكبر من نفط السودان، وتلاشت عائدات الحكومة بين عشية وضحاها تقريباً. وقد تسبّب انخفاض قيمة العملة والتضخم المفرط وتراجع احتياطيات العملات الأجنبية في أزمات اقتصادية خانقة، جثمت على صدر السودانيين، وردّت عليها الحكومة بشدّ الحزام، وبمزيد من إجراءات التقشف.

وحين احتج الشارع على هذه الإجراءات في سبتمبر/ أيلول 2013، قمعتها حكومة عمر البشير بوحشية ساحقة، فقُتل ما لا يقل عن 185 متظاهراً في الأحداث، ولم تقدّم السلطات أياً من القتلة إلى العدالة. ويتّضح، بعد مرور خمس سنوات من دون توجيه إدانة واحدة، أن التحقيقات كانت غير جدّية على الإطلاق، وأنّ هناك عملية تستّرٍ لحماية الضباط الذين جرى استخدامهم لقمع الاحتجاجات. ومن جديد، نزل السودانيون إلى الشوارع، مدفوعين ببؤسهم ويأسهم. حدث هذا كله حين لم يكن أحد يهتم بهذه الدولة العملاقة في إفريقيا، والتي تتمتع بنفوذ قليل وثروة قليلة. واليوم، تأتي خطوة الإدارة الأميركية للتدخل في المسألة السودانية لتغيّر قليلاً أو كثيراً من مسار الأمور.

كان الشعب السوري الذي خرج إلى الشارع في احتجاجات سلمية، مطالباً بالحرية والكرامة 

 والحياة اللائقة، علّق آمالًا كبيرة على إدارة الولايات المتحدة لدعم هذه المطالب التي طالما ادّعت الإدارات الأميركية المتعاقبة أنها تدعمها وتؤيدها. وبعد مرور تسع سنوات، يجد الشعب السوري نفسه وحيدًا، مهجورًا وعاجزًا، ولذلك فهو لا يريد تكرار ذلك في الحالة السودانية، لأنه يعتبر انتصار أي ثورةٍ على نظامٍ مشابه لنظام الأسد انتصاراً له.

لتجنب وقوع الإدارة الأميركية في الأخطاء القاتلة التي ارتكبتها في سورية، يمكن الاستفادة من قضايا مهمة، كان يمكن أن تتجنبها في سورية. بداية، على الولايات المتحدة تذكير نفسها بضرورة اتخاذ مواقف سياسية واقعية، تأخذ في الاعتبار حقيقة الأمر الواقع، ويجب أن تتجنّب المبالغة وبناء أيّ آمالٍ وتوقعات كبيرة بين السكان السودانيين. كانت الولايات المتحدة ودول غربية ودول أخرى قد رفعت سقف التوقعات بين السكان السوريين في عامي 2011 و2012، لكنها لسوء الحظ عجزت عن المساعدة في تحقيق ولو جزء من تلك التوقعات والآمال، ما تسبب في أضرار جسيمة للشعب السوري. لا نريد أن يشعر الشعب السوداني بخيبة الأمل والإحباط نفسيهما.

ثانياً، على الإدارة الأميركية أن تقول ما يمكن تحقيقه، وأن تتحدّث فقط فيما تستطيع فرضه. في عام 2011، قال الرئيس الأميركي السابق، باراك أوباما، محقّاً، إن الديكتاتور السوري، بشار الأسد، فقد شرعيته، وقد أيّده في ذلك معظم السوريين. في وقت لاحق، دعا أوباما الأسد إلى التنحّي، ولكن على عكس ما حدث في مصر، فشلت الولايات المتحدة في جعل الأسد يتنحّى. بدلاً من ذلك، عزّز الرجل قوته بتعميق علاقاته مع الإيرانيين والروس، بينما كانت الولايات المتحدة تراقب بلذّة شبه مازوشية. في سورية نقول: الضربة التي لا تقتلك تقوّيك. وهذا ما حدث مع الأسد.

ومن المهم دائمًا تذكّر أن أي حلّ للأزمة السودانية يجب أن يكون حلاً بين السودانيين، فلا  

مكان لأي حل لا يراعي الإطار الاجتماعي والقانوني السوداني، يستعيد السودان الجديد من خلاله تقاليده القديمة في الديمقراطية، حيث يكون الجيش مؤسسةً محترمةً، ولكنه يبقى خارج اللعبة السياسية، ولا يتدخّل بعمل السلطة التنفيذية.

رابعاً، لا للحرب الأهلية. من الضروري الحفاظ على سلمية الاحتجاجات السودانية. حتى الآن، يدرك الشعب السوداني وممثلوه المدنيون، سيما تجمّع المهنيين السودانيين، أهمية الحفاظ على الطبيعة السلمية لحركتهم. يحاول المجلس العسكري استخلاص الدروس من نظام الأسد في سورية لدفع الناس إلى العنف، فالأنظمة الدكتاتورية أمهر في ميادين القتال من الشعوب. وبمجرد تحوّل الاحتجاجات إلى العنف، يفقد المحتجون زخمهم وهدفهم النهائي. وربما لعبت القوى الدولية والإقليمية دوراً في تشجيع عسكرة الثورة في السودان، كما فعلت مع الانتفاضة السورية، ولا بدّ من قطع دابر هذه القوى. في المقابل، لا يمكن السماح للحكومة العسكرية غير الشرعية في السودان جرّ المتظاهرين إلى العنف، وتتحمّل الولايات المتحدة مسؤولية هائلة في هذا المجال.

إلى ذلك، ثمّة دائماً ضرورة للعمل مع منظمات المجتمع المدني السودانية، لإيجاد الحلّ الصحيح للسودان المستقبلي. المجتمع السوداني مثقّف، وللمجتمع المدني السوداني تاريخ طويل في العمل المدني والتشاركي في السودان. تشجيع هذا المجتمع على لعب دور قيادي في رسم خريطة طريق لمستقبل البلد أمر لا مندوحة عنه. ومع ذلك، ينبغي الانتباه إلى أمر رئيسي: ألا يتمّ إفساد قطاع المجتمع المدني في السودان، كما حدث في سورية، حيث أخذت الشركات الهادفة للربح زمام المبادرة في جهود المجتمع المدني، وحوّلت عمل المجتمع المدني الذي ينبغي أن  يستند إلى المصلحة العامة بعيداً عن الربح، إلى آلاتٍ لإنتاج المال. لإنجاز ذلك، كان عليهم أن يُفسدوا هيكل المجتمع المدني من خلال الأجور المرتفعة، وتطبيق قواعد السوق في عمل المجتمع المدني. ومع الإدراك الكامل والقناعة التامة بأن الناس بحاجة إلى الحصول على المال في مقابل عملهم، فإن المبالغة في الرواتب والمنافسة بين الشركات الهادفة للربح يمكن أن يضرّ أكثر ما يفيد بالقضية النبيلة للمجتمع المدني. يتعين على الشعب السوداني ومجتمعه المدني أن يدركا أنهما يعملان من أجل مستقبل بلدهما، وليس من أجل الربح.

يمكن للسودان أن يكون قصة نجاح للولايات المتحدة التي فشلت في معظم الأماكن التي تدخلّت فيها في الشرق الأوسط، في حين أنها استثمرت الكثير هناك، وهي أكبر مانح منفرد للعمل الإنساني، إلا أنها نادراً ما تستفيد وتفيد من استثماراتها. في سورية، فقدت الإدارة الأميركية فرصة مهمة لإصلاح سوء الفهم التاريخي بين الولايات المتحدة وشعوب المنطقة، فهل نأمل أن يضع السودان هذه العملية على المسار الصحيح؟

العربي الجديد

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى