منوعات

الفيسبوكي المناوب/ بشير البكر

أضف جديداً

هناك فئة من سكان “فيسبوك” ينفقون وقتاً طويلاً في الإقامة على مراقبة صفحات الآخرين، وكأن لا عمل لهم غير هذا التمرين، البعيد كل البعد عن الروح الرياضية. وحين تلتقي بأحد هؤلاء، فإن أحاديثه تدور حول أخبار العالم الأزرق، وما يحفل به من قصص وروايات ونمائم وفضائح، وبعد لقاء أو اثنين نكتشف أن “فيسبوك” هو مصدر أخبار هذا الشخص، وهو يتعامل معها بثقةٍ كبيرة، ويقيس على منوالها، ويحكم على سلوك الآخرين من خلالها، وتصبح صفحة فيسبوك، أحيانا كثيرة، محددة لهوية الآخر ومواقفه، وبالتالي منطلقاً للحكم عليه، حتى لو كان مختلفاً عن ذلك في الحياة. ولا يصل هذا النمط من الفيسبوكيين إلى مبتغاه بصورة عشوائية، بل من خلال دراسة معمقة ومتابعة لا تعرف التعب، وغالبا ما يختار ضحاياه من أشخاصٍ يصرفون وقتهم في العمل والإنتاج، ولا يكترثون لهذه المنصة إلا من خلال وظيفتها وسيلة تواصل اجتماعي متاحة مجّانا على نطاق واسع، وتقدم خدماتٍ لا تحتاج إلى جهد كبير، حيث يمكن نشر “بوست” صغير أو وضع مقال منشور ودعوة إلى فعالية ونشاط، وما شابه ذلك. 

لست معنياً هنا بالاستعراض الذي يوفره “فيسبوك” لبعض الناس الذين يظنون أن العالم ينتظر صورهم وهم يتناولون وجباتهم في المطاعم، يحتفلون ببعضهم بعضاً، أو يتابع عن كثب أخبار تنقلاتهم بين البلدان، فهذه شؤونٌ تتعلق، في بعض معانيها، بصورة الشخص في مرآة نفسه وفي نظر الآخرين، وتذهب إلى صناعة الخبر الخاص بنشاطه وتنقلاته. وأكثر ما يلفت انتباهي هو الفيسبوكي الذي يمكن أن نصفه بالمناوب الذي يمضي زمنا طويلا وهو يتابع صفحات الآخرين. ولا أنكر أن “فيسبوك” كمنصة صار يسبق وكالات الأنباء في إيصال الأخبار، وتحوّل إلى مصدر أخبار ومعلومات للذين يعملون في الصحافة، وبالتالي يمكن للصحافي الذي يشتغل على مطاردة الأخبار أن يعتمد عليه، كما هو “تويتر”، وبقية المنصات التي تنقل الأخبار والصور في وقت مباشر، وتسمح بتوصيل الرأي والموقف من أي قضية في لحظة صدوره. 

النموذج الذي صار يلفت انتباهي هو الذي وصفته بالمناوب، وهو شخصٌ يمكن أن نراه يتكرر على مدار الوقت على صفحات الآخرين، من خلال إشارات الإعجاب أو عدمه، والتعليقات التي تصدر عنه. ومن مواصفات بورتريه هذا النموذج أنه حاضر دائما ليتعامل مع كل الصفحات، بغضّ النظر عن المحتوى، فنراه في الحب والحرب والسياسة والاقتصاد والجغرافيا والتاريخ والدين، وهذا السلوك يفرض عليه أن يقوم بأكثر من جردةٍ ليتابع اتجاهات الرأي العام والأخبار على “فيسبوك”، الأمر الذي يتغير عدة مرات في اليوم الواحد، وهو يقوم بذلك من أجل أمرين: الأول كي يكتب بين حين وآخر وجهة نظر. والثاني كي يفتي في القضايا الخلافية الكبيرة، وغالبا ما يحشُر نفسه في مسائل أبعد ما تكون عن مؤهلاته الثقافية والسياسية، وإذ يفعل ذلك، فإنه يريد أن يخدع من لا يعرفه، ويضع نفسه في حساب فئة النخبة. وغالبا يكون ما يكتبه تجميعا من آراء الآخرين التي لا يتورّع أن ينسب بعضها لنفسه، وهو يظهر هنا بمظهر المثقف المتابع، والحريص على أن يبقى في وسط الأحداث. 

ولكن لحسن الحظ، هناك ما يفضح هذا النموذج، أكثر من أي شيء آخر، هو ركاكة اللغة والافتقار إلى خفة الدم، والتذاكي وتصنّع المعرفة والثقافة والتقدير الفائق للنفس وإعطاء الدروس في الأخلاق والتواضع والنظافة السياسية.. إلخ. وهو بلا شك يدرك هذه النواقص المميتة، إلا أنه لا يمتلك الوقت الكافي، كي يشتغل على تطوير عدته بسبب المناوبة التي باتت تستهلك حياته.

العربي الجديد

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى