سياسة

هل انتهت الحروب التقليدية؟/ غازي دحمان

يطرح تراجع إدارة الرئيس الأميركي ترامب عن قرار الحرب على إيران، السؤال عما إذا كان زمن الحروب بين الدول، بشكلها التقليدي، انتهى، وأن العالم شهد أخيرا، وسيشهد في المستقبل، ولادة أنماط جديدة من الصراعات، ليس بينها الحرب كما عرفها العالم في التاريخ. بداية، ثمّة عبارة لافتة في حديث ترامب عن مبرّرات تأجيله ضرب إيران، قال “جيشنا أعيد بناؤه حديثاً، إنه جديد”، ولم يوضح المقصود، فهل هو جديد بمعنى أنه جرت إعادة هيكلته وتنظيمه ليتوافق مع معطيات الحروب الجديدة؟ لأن الجيش الأميركي أقدم جيوش العالم، ويعود إلى سنة 1776، ولم يحصل أي قطوع في تاريخ المؤسسة العسكرية الأميركية، ثم إنه لم يغب عن ميادين القتال منذ الحرب العالمية الثانية. بعيداً عن أي تأويل لخطاب ترامب، فقد بدا من التحضيرات العسكرية السابقة التي شهدتها منطقة الخليج أن ثمّة مشكلة عجزت التحليلات عن قراءتها، أو وضعها في سياقها الحقيقي، وهي أن أميركا كانت تسعى إلى تقديم استعراض عسكري، أكثر منها تحضيرات حرب فعلية على إيران، وهو ما أربك كل القراءات التي حاولت تفسير الحركة المرتبكة لأميركا، وردّها إلى أسباب إدارية حيناً، من نوع الخلافات داخل إدارة ترامب بخصوص قرار الحرب، أو لأسباب تقنية من نوع أن مياه الخليج لا تحتمل تحشيد حشودٍ عسكرية كبيرة، أو حتى أسباب سياسية تتعلق بالخوف من أن تؤدي ضربة إيران، وتضعضع نظام الملالي، إلى فوضى في إيران والمنطقة، قد يكون صعبا احتواؤها والسيطرة عليها.

يحيلنا هذا الواقع إلى أن العالم شهد، في العقدين الأخيرين، تغيرات بنيوية هائلة، خصوصا على المستوى الاجتماعي والثقافة السياسية للمجتمعات، ويبدو أنها إحدى نتائج العولمة غير المقصودة، إذ لم تعد الحرب محفزاً للوحدة الوطنية، وحدثاً يُراد منه صيانة الهوية الوطنية كلما أصابها ترهل أو خمول، وقد أدركت الحكومات هذا الأمر، في فشلها بتجييش الأعداد اللازمة لخوض الحروب من أبناء مجتمعاتها، كما أن هذه المجتمعات بدأت تتحسّس من أي خسارة تحصل في هذه الحروب، خصوصا على المستوى البشري، وهو ما كبّل يد الحكومات، لا سيما في العالم المتطوّر. إضافة إلى الخسائر الاقتصادية المحتملة من أي حرب، في أوضاع مأزومة على مستوى العالم، وفي ظل ضغط شعبي كبير على غالبية الحكومات لتحسين الأوضاع الاقتصادية، وبالتالي فإن الشعوب التي تتدبّر أمور معيشتها بصعوبة بالغة لن تقبل ببساطة جرّها إلى حروب تكون لنتائجها آثار مدمّرة على اقتصاداتها وفرص عملها ومدّخرات مستقبلها.

دفع هذا التغيير الحكومات الطامحة إلى مكاسب جيوسياسية، إلى تغيير أساليب وسياسات إدارة صراعاتها، لذا وجدت، في السنوات الأخيرة، أنماط حروب مختلفة، بعيدة عن الشكل التقليدي، مثل الحروب السيبرانية، والهجينة، واللامتماثلة، لترشيد الإنفاق ما أمكن، وتخفيض نسبة الخسائر البشرية في صفوفها، وحتى الحروب بالوكالة، مع أنها نمط صراعي قديم، إلا أنه تم إدراجه على قائمة هذه الحروب، ويتم تمويله في الغالب من الميزانيات المخصصة للجيوش في حالة السلم، أو يتم البحث عن أطراف إقليمية ذات مصلحة لتمويلها، كما يحصل في الشرق الأوسط، وفي سورية تحديدا.

ويلاحظ أنه في العقدين الأخيرين، لم تقع حرب تقودها دولة ضد دولة أخرى، وعلى الرغم من أن روسيا تعتبر أكثر دولة شنت حروبا خارجية، في العقدين الأخيرين، في الشيشان وجورجيا وأوكرانيا وسورية، إلا أن هذه الحروب خيضت على أساس أنها ضد جماعات محدّدة، كما في الشيشان وسورية، أو خاضتها أطرافٌ محليةٌ قدمت لها روسيا مساعداتٍ محدّدة، كما في جورجيا وأوكرانيا، وفي كل هذه الحروب لجأ الرئيس الروسي، بوتين، إلى شكل من الحروب الهجينة التي استخدم فيها المرتزقة وأطرافا محلية والضربات الجوية والحروب السيبرانية. وينطبق الأمر على أميركا التي تعلن أنها تدعم أطرافا محلية، خصوصا في الصراعات العراقية والسورية، وأنها لا تحتفظ بأعداد كبيرة من الجنود في هذه المناطق، ويقتصر دور قواتها على التدريب والاستشارة الميدانية.

لا يعني ذلك أن خطر اندلاع صراع في الخليج لم يعد وارداً، ولكن علينا ألا نتوقع أن نشهد حربا تقليدية، وإنما قد تقتصر على ضرباتٍ محدّدة تقوم بها فرق خاصة وبأدوات معينة، بمعنى لن تصل الحرب إلى مواجهة شاملة، ولن يتم زج الجيوش بها. حتى إيران نفسها ستخوض هذا الصراع بفرق خاصة من الحرس الثوري أو وكلائها في المنطقة، وليس بتجييش كامل لقواتها، ودليل ذلك أتها لم تستنفر كامل جيشها، ولم تدع إلى نفير، على الرغم من أن خطر الحرب بات قريباً جداً منها.

ربما تكون حرب العراق آخر الحروب المباشرة بين الدول، ربما بسبب التكاليف العالية للحروب، ولأن المجتمعات بدأت ترفض حروبا لا تستفيد منها سوى قطاعات ونخب معينة. كما أن تداعيات الحروب باتت أوسع من أن يتم حصرها ضمن نطاقات محدّدة، لذا تبحث الأطراف عن بدائل صراعية أقل تكلفة. ولكن متى تنتهي الحروب على الشعوب؟

العربي الجديد

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى