مقالات

جغرافيا الأدب وبيئة النفس/ صبحي حديدي

في آذار (مارس) 2015، خلال إحدى جلسات ملتقى القاهرة الدولي السادس للرواية العربية، اقترحت الاتكاء على تيار جديد في النقد الروائي المعاصر، يتخذ من معطيات البيئة والجغرافيا عناصر انطلاق لتحليل أعمال السرد؛ وبات اليوم مستقراً على نطاق واسع، تحت مسمى «النقد الجغرافي»، أو الـ Geocriticsm في المصطلح الغربي. إثنان من كبار روّاده المؤسسين كانا الفرنسي برتراند وستفال، في أعماله «النقد الجغرافي»، «عين المتوسط: أوديسة أدبية»، و«العالم المحتمل: الفضاء، المكان، والخريطة»؛ والأمريكي روبرت تالي، في «النقد البيئي والنقد الجغرافي: مناطق متقاطعة في الدراسات الأدبية البيئية والمكانية»، الذي أشرف على تحريره مع كريستين م. باتيستا.

ليس هنا المقام الملائم للدخول في تفاصيل هذا التيار، بالطبع، ولكني أشير سريعاً إلى أنّ ممثّليه يشددون على صيغة من دراسة الأدب ملتزمة سياسياً واجتماعياً، وتسعى إلى استكشاف «العالم الفعلي» في قلب العالم المتخيّل، وترصد ما أمكن من هواجسه الحقيقية، المكانية أساساً، والتي تفضي استطراداً إلى هواجسه الزمانية. وبهذا فإنّ مرجعيات التيار، كما يتفق وستفال وتالي على تعيينها، يمكن أن تبدأ من مفكر ماركسي مثل هنري لوفيفر، وتمرّ من جغرافي وعمراني مثل إدوارد سوجا، ولا تنتهي عند ميشيل فوكو وجيل دولوز وفرانز فانون وإدوارد سعيد. في القرن التاسع عشر، يقول وستفال، هيمن خطاب الزمن والتاريخ والوجود، بتأثيرات هيغل أساساً؛ أعقبته موجات علم الجمال، التي تكرّس البُعد الزماني وعلم النفس الفردي (على غرار نصوص جيمس جويس ومارسيل بروست)؛ وأتت الحرب العالمية الثانية لتفرض، تدريجياً ولكن بقوّة، مفاهيم الفضاء والمكان والجغرافيا والبيئة والطبوغرافيا…

وفي ورقتي إلى المؤتمر استأنست بهذا التيّار لمناقشة موضوع المرئيات والمرويات في مدينة الإسكندرية، من خلال أعمال «نساء الكرنتينا»، لنائل الطوخي؛ و«ترابها زعفران»، «إسكندريتي»، و«يا بنات إسكندرية»، لإدوار الخراط؛ و«لا أحد ينام في الإسكندرية»، «الإسكندرية في غيمة»، و«طيور العنبر»، لإبراهيم عبد المجيد. وقد انطلقت الورقة من واقع الجاذبية العالية التي تمتعت بها الإسكندرية لدى أجيال مختلفة من الروائيين المصريين، فتحوّلت جغرافيتها إلى ميدان سرد فسيح متشابك، ومتقاطع.

والطرائق التحليلية التي نهضت عليها دراسات النقد الجغرافي هي على درجة عالية من المرونة والفاعلية، والنأي في الآن ذاته عن الجمود النظري والمساطر المسبقة، بحيث أنها زوّدتني بعدّة خصبة في استقراء البواطن الاجتماعية العميقة خلف السطوح المتشابة لمدينة كوزموبوليتية ظلّت تستولد تمثيلات أبنائها على أصعدة حاشدة، اجتماعية ونفسية ورمزية، إلى جانب تلك التاريخية والأنثروبولوجية بالطبع. فلم تكن هذه كلها تتبادل التفاعل مع التخييل الروائي فقط، بل نجحت في منافسته أيضاً. وهذه، جدير بالتأكيد مجدداً، كفلت استدراج مشهد الإسكندرية الزاخر، البشري والمعيشي، الظاهر والباطن، المادي والمجازي، ضمن المستويات المتعددة والتعددية التي تتخذها مرئيات المدينة. أنماط السرد، في المقابل، التقطت المرويات الغزيرة التي ظلت تعتمل في تلك البواطن، فروت حكايات وشخوصاً ورموزاً وأساطير شتى؛ كما دوّنت الكثير من مظاهر اجتماعها السياسي، وبالتالي أفلحت في ترقيتها إلى مصافّ سرديات كبرى، عابرة للمحليّ.

و الجغرافيا فضاء منتشر ومتحوّل، طبيعيّ مادّي أو مجازي متخيَّل، أداة للهوية والتصارع حول الهوية، وميدان لتطوير الوجود وحفظ البقاء، وهي مفترق حاسم تتقاطع عنده دروب الروح والمادّة فتتصادم وتتبدّل وتنقلب. وأحدث الأمثلة على محاولات إعدام الجغرافيا حائط الفصل العنصري الذي أقامته دولة الاحتلال الإسرائيلي في فلسطين، أو الذي يعتزم إقامته الرئيس الأمريكي دونالد ترامب على حدود أمريكا مع المكسيك؛ وقبلهما كانت سلالة الشين قد أنشأت سور الصين للحفاظ على نقاء الإمبراطورية في وجه ساكني السهوب، وتكريس الفصل بين «المتمدن» و«البربري». ولقد توجّب على تلك الفلسفة أن تنتظر مئات السنين قبل مجيء ماو تسي تونغ لتثبيت جدل المفارقة: المدينة بحاجة إلى الفلاح لحمايتها من غزو الريف، والكوادر المدينية بحاجة للنزول إلى حقول الرزّ كي تأكل!

وأركان الجغرافيا عديدة ومركبة، أساسها تغاير البقعة، وعلاقات المناخ، والساحة والمساحة، والبيئة والتفاعلات الكبرى التي تنجم عن تماسّ هذه كلها مع عناصر أخرى في التوزّع السياسي والاقتصادي والاجتماعي والروحي والتاريخي. ستة قرون فصلت بين المؤرّخ العربي ابن خلدون والمؤرّخ الفرنسي فرناند بروديل، لكنهما يتفقان على نحو مدهش في دراسة الوشائج المتبادلة بين الجغرافيا والاقتصاد والسياسة، والتي تؤثر جوهرياً في تبديل طبيعة حقبة تاريخية منا، وآثارها. بروديل رأى أنّ الإسلام كان الصحراء باتساعها وشظفها وزهدها وصوفيتها الموروثة، وارتباطها الوثيق بشمس عبقرية توحّد المبدأ الذي نهضت عليه الأساطير العظمى التي صنعها ذلك الفضاء الإنساني الشاسع. بالوجهة ذاتها نمت حضارات المتوسط تحت التأثير الحاسم لاتساع الرقعة وامتداد البحر، فتلاقت المنطقتان: واحدة تعجّ بالسفن والقوارب، والأخرى بالقبائل والقوافل. ذلك ما جعل الإسلام، حسب بروديل، «حركة دائبة، مثل البحر ومثل الصحراء».

فكيف لا تغرف الدراسة الأدبية من هذه الينابيع الثرّة، فتسيّر سيولها الدافقة في أقنية لا يمكن إلا أن تنتهي في مصبّ قراءة أبعد وأشمل؟ وكيف لا تهتدي بما ينعكس عميقاً في النفس البشرية من مؤثرات المكان والفضاء والحركة والبيئة، وترميز البقعة وترقية التضاريس؛ ثمّ الحفر في أخاديدها، بحثاً عن مكنونات الذاكرة والهوية؟

القدس العربي

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى