ثقافة وفكر

لماذا يبعث كتاب “تفاهة الشر” الغضب في نفوس الإسرائيليين حتى الآن؟

عام 1963 كتب الفيلسوف الألماني كارل ياسبر لصديقته المقربة حنة أرندت قائلاً، “سيأتي زمان، لن تكوني حية لتشهديه، سينصب اليهود نصباً تذكارياً لك في إسرائيل وسينسبونك بفخر إليهم”. لكن هذا النصب ما زال غير مشيد في إسرائيل حتى الآن ونحن في عام 2019. مضى نحو 60 عاماً منذ محاكمة أدولف أيخمان، وما زال اسم أرندت يولد النقد الحاد بين المثقفين الإسرائيليين. وعلى رغم أن البعض يعدها واحدة من أعظم مفكري القرن العشرين، وعلى رغم أنها ناجية من الهولوكوست وصهيونية (على الأقل في فترة محددة)، إلا أنها قوطعت في إسرائيل لسنوات عدة ولم تترجم معظم كتاباتها إلى العبرية إلا حديثاً.

إن الشعور الأولي الذي يبعث به اسم أرندت -التي وافتها المنية عام 1975- في نفوس الباحثين وخصوصاً الإسرائيليين منهم، ينبع عادة من كتابها الذي نشر عام 1963 بعنوان “أيخمان في القدس: تقرير عن تفاهة الشر”، وهو عبارة عن سلسلة من المقالات كتبتها أرندت لمجلة The New Yorker، تنتقد فيها الطريقة التي حاكمت بها إسرائيل أيخمان والطريقة التي صور بها المتهم. وعلى خلاف صورة الوحش القاتل المعادي للسامية التي أراد الإدعاء رسمها لأيخمان، رأت أرندت شيئاً مختلفاً، رأت نوعاً جديداً من مرتكبي المذابح الجماعية، لا تحركه دوافع خبيثة أو قاتلة، ولا يدرك خطورة أفعاله ولا يقبل تحمل مسؤوليتها.

أثار كتابها فور صدوره جدلاً حاداً استمر طوال عقد الستينات. وهوجمت حنة، حتى من قبل بعض أقرب أصدقائها، باعتبارها معادية للصهيونية، وصنفت ضمن فكرة “الكراهية اليهودية للذات”. واتهمت بأنها منحازة لأيخمان وتحرره من الذنب والمسؤولية تجاه جرائمه. كتب لها صديقها المقرب الباحث في الكابالا جريشون شولم قائلاً، “إنها تفتقد الحب تجاه الشعب اليهودي” وتضررت العلاقة بينهما كثيراً بعد ردها على رسالته.

ولعقود طويلة، ظلت أرندت منبوذة بشكل غير رسمي في إسرائيل. لم تترجم كتبها إلى العبرية ولم تناقش أعمالها لا في المجال الأكاديمي ولا المجال العام. أي أنها تعرضت للنبذ السياسي والفكري بالكامل. لم ينشر كتاب أيخمان في القدس إلا بحلول عام 2000 وأتيح حينها لقراء العبرية فرصة الحكم على النص لذاته.  

في الفترة الأخيرة بدأت مكانة أرندت في إسرائيل تتغير. وعلى رغم النقد الحاد الذي ما زالت تواجهه، بدأت في العقدين الماضيين عملية تمحيص فكرها بمقاربات ومناظير جديدة. فلم تعد موضوعاً محرماً، وأصبحت كتاباتها أكثر عرضة للتفكير النقدي والتحليلي من قبل الباحثين الإسرائيليين، ومن بينهم آدي أوفير وميشال بن نفتالي وليورا بيلسكي.

أحد أسباب تضمينها التدريجي في النقاش العام هو هيمنة الخطاب الما بعد صهيوني والما بعد حداثي في الدوائر الأكاديمية، ابتداء من حقبة التسعينات. عقد أول مؤتمر دولي عن أرندت في إسرائيل في القدس عام 1997. ونشرت محاضراته لاحقاً على شكل مجموعة مقالات (بالإنكليزية) كتب معظمها باحثون أجانب، وحررها المؤرخ الدكتور ستيفين أشهايم.

واتخذت المؤرخة إديث زيرتال خطوة مهمة لتقديم أرندت في النقاشات الإسرائيلية. فقد بحثت في فكرها والجدل المحيط بها، ومن مطلع التسعينات، نُشرت سلسلة من المقالات عن هذه المواضيع في الصحف والجرائد الإسرائيلية. وناقشت زيرتال أفكار حنة أرندت في كتابها “الهولوكوست الإسرائيلي وسياسات الانتماء القومي” (نشر بالانكليزية عام 2005)، وطرح السياسات المرتبطة بذاكرة الهولوكوست. عام 2004، وعلى وقع انعقاد أول مؤتمر باللغة العبرية عن أرندت في جامعة تل أبيب، نشرت أيضاً أول مجموعة مقالات بالعبرية عنها. وفي 2010، صدرت الترجمة العِبرية لكتاب أرندت الرائد “أصول التوتاليتارية”، والتي تولتها زيرتال.

واستمرت النهضة الأكاديمية في ما يخص أرندت في العقد الماضي بصدور ترجمات عبرية لِكتبها الأخرى، ومن بينها “الوضع البشري” و”الكتابات اليهودية”، وقدمت الجامعات المحلية دورات دراسية عن أرندت، وعرضت مسرحية تحكي قصة حياتها وكانت موضوع فيلم وثائقي إسرائيلي.

تحدّت أرندت وتستمر في تحدّي الإجماع اليهودي والصهيوني. والثورة المفاهيمية التي أحدثتها عبر مصطلح “تفاهة الشر” وبقاء هذا المصطلح صالحاً حتى بعد مرور 56 عاماً من ولادته، تظل صعبةً على التقبل حتى في عالمنا اليوم. ما الذي يبعث عدم الارتياح العميق هذا تجاه المصطلح في نفوس المثقفين الإسرائيليين حتى اليوم؟

معتقلة لدى الجستابو

كانت أرندت ناجية من الهولوكوست بكل معاني الكلمة، حتى لو لم تعرف نفسها على هذا النحو. ولدت عام 1906 لعائلة يهودية في ألمانيا، ودرست الفلسفة في سن مبكرة. كانت تلميذة مارتن هايدغر وناقشت رسالة الدكتوراه في جامعة هايدلبيرغ تحت إشراف كارل ياسبرز. عام 1933 اعتقلها الجستابو لانخراطها في نشاطات صهيونية، وأطلق سراحها بعد أسبوع ضابط شاب تمكنت من مصادقته. تمكنت من الهروب مع أمها ووصلت باريس اوأمضت فيها 8 أعوام لاجئة. وعملت مع منظمة “شباب عليا”، حيث ساعدت في تنظيم الأطفال والناشئين وتدريبهم للهجرة إلى فلسطين. وبعد احتلال فرنسا، اعتقلت أرنذت واحتجزت في معسكر غورس في جنوب غربي البلاد، لكنها تمكنت من الهرب في غضون أسابيع.

في 1941، فرت أرندت وزوجها هاينرش بلوشر إلى الولايات المتحدة بتأشيرتي لجوء حصلا عليهما من لشبونة. ثم أصبحت مواطنة أميركية عام 1951 وعاشت هناك محققة مسيرة أكاديمية مميزة حتى وفاتها عام 1975.

ساهمت تجربة اللجوء التي عاشتها أرندت كثيراً في نحت فكرها السياسي. ولعبت هويتها اليهودية ومقاربتها المسألة اليهودية دوراً مهماً في هذا السياق. وارتبطت أرندت بمشاعر حب قوية تجاه الصهيونية، على رغم نقدها لأيديولوجيتها وحدة هجومها على إسرائيل.

لماذا إذاً، على رغم سيرتها، ولدت كتاباتها هذا الجدل كله؟ تكمن الإجابة جزئياً في نقدها الطبيعة السياسية لمحاكمة أيخمان. رأت فيها محاكمة استعراضية وحدثاً سياسياً ذا أجندة محددة. وأزعجتها حقيقة أن معظم الشهادات لم تكن ذات صلة بإثبات إدانة المتهم. كما أنها اعترضت أيضاً على تركيز الادعاء على التوصيف القانوني لجرائمه باعتبارها “جرائم ضد الشعب اليهودي”، وهو ما قصد به تعزيز السردية التاريخية للصهيونية، التي ترى الهولوكوست باعتباره حلقة في سلسلة طويلة من اضطهاد اليهود. ورأت أن هذه المقاربة تثبت عدم إدراك المحكمة الكامل لفرادة أوشفيتز. من منظورها، جرائم النازية كانت غير مسبوقة وترقى لمستوى “الجرائم ضد الإنسانية”.

مع ذلك فإن مصدر مشاعر الغضب الموجهة نحوها يكمن في موضع آخر. ما جلب عليها المقاطعة في إسرائيل كان تأويلها لأيخمان وتوصيفها لضحايا المحرقة.

النازي ادولف ايخمان خلال محاكمته

واعترضت أرندت على تصوير أيخمان من قبل الادعاء على أنه مسير من قبل أيديولوجيا عنصرية قاتلة. وقدمت تأويلاً بديلاً، أيخمان كان موظفاً مهتماً بالتقدم في مساره الوظيفي، وتجنب التفكير في عواقب أفعاله الخاصة. فكرت أرندت في الصعود المحتمل لـ”قاتل المكتب” الذي يرتكب جرائمه المروعة من بعيد، ولا يرتكب أعمال القتل بيديه ويرى نفسه مواطناً صالحاً يتبع أوامر الأعلى منه. كان هذا هو السياق الذي طرحت من خلاله مفهومها “تفاهة الشر” الذي أسيء فهمه على نطاق واسع. 

وعلى رغم أن كتاب أرندت يحمل العنوان الفرعي “تقرير حول تفاهة الشر”، إلا أن المصطلح نفسه لم يظهر في الكتاب غير مرة واحدة في نهايته. وخضع لعدد لا يحصى من التأويلات. أحد أسباب الضجة الأولية المثارة حوله هو أن أرندت لم تشرح المصطلح في الطبعة الأولى للكتاب. فعلت ذلك فقط في التعقيب الذي ظهر في النسخة المنقحة التي نشرت عام 1965. إشارتها اللاحقة إلى المصطلح ومراسلاتها مع أصدقائها سلطت مزيداً من الضوء على ما عنته به حقاً.

شرحت أرندت قائلة إنها لم تحاول في الكتاب صوغ نظرية شاملة عن جوهر الشر، بل حاولت الإشارة إلى ظاهرة لاحظتها في المحاكمة. وعبر مصطلح “تفاهة الشر” فكرت أرندت في فكرتين متقاطعتين. الأولى أن أيخمان لم يكن شخصاً شيطانياً ولم يكن معادياً متطرفاً للسامية. كان شخصاً عادياً. لم تكن لديه دوافع لأفعاله سوى محاولته الذاتية للترقي. أفعاله كانت وحشية، لكن الرجل نفسه كان تافهاً.

يشير مفهوم “تفاهة الشر” إلى المعضلة التي يخلقها المجتمع الشمولي، الذي ترتكب فيه الجرائم غير المسبوقة على أفضل نحو من قبل موظفي الأجهزة البيروقراطية. ويشير إلى البون الواسع بين الحجم الهائل للجريمة وعادية المجرم. يتحدى هذا المفهوم تقليداً أخلاقيا وفلسفياً ممتداً من أوغسطين حتى كانط، والذي يؤصل لأن أفعال الشر تنبع بالضرورة من نيات شريرة، وأن مقدار الشر المتمثل في الجريمة يجب أن يكون متسقاً مع مدى خبث الدوافع والنيات.

الأمر الثاني الذي رأته في أيخمان هو “ضحالته الفكرية” وهي صفة عرّفتها بأنها، “انعدام مقدرته على النظر إلى أي شيء من منظور الشخص الآخر”. لكن هذا لا يعفيه من مسؤوليته عن الجرائم. الدرس المستفاد من محاكمة أيخمان من وجهة نظرها هو أن هذا النوع من الضحالة الفكرية “الذي لا يعني بأي شكل الغباء المجرد”، بإمكانه “إحداث قدر من الدمار أكبر من كل غرائز الشر المتوارثة في البشر مجتمعة”. تكمن حجتها الأساسية في أن أيخمان لم يكن قادراً على التمييز بين الخير والشر، بسبب المناخ الذي ساد ألمانيا النازية. وصفته أرندت بأنه “نوع جديد من المجرمين” يرتكب جرائمه “في ظروف تجعل من شبه المستحيل بالنسبة إليه معرفة أنه يفعل شيئاً خاطئاً أو الإحساس بذلك”.

ما يصعب قبوله بشأن نظرية أرندت عن “تفاهة الشر” وما ولد المعارضة للكتاب في إسرائيل، هو فرضها نوعاً جديداً من الضمير الإنساني. فبخلاف الحكم الذي صدر في المحكمة، لم تعتقد أرندت أن أيخمان كان بحاجة “لقتل ضميره”، أو أنه كان بلا ضمير، بل إن صوت ضمير المجتمع الألماني “المحترم” أخبره بأن عليه ألا يشعر بالذنب حيال أفعاله. 

في حين يفترض القانون في الدول المستنيرة فرضاً مسبقاً بأن الضمير يخبر الجميع بأن “لا تقتل”، فإن القانون في دولة هتلر يطلب من صوت الضمير أن يخبر الجميع بأن “اقتل”. بالفعل كانت أحد ادعاءات أيخمان في المحكمة بحسب ما كتبته أرندت بأنه “لم تكن هناك أصوات من الخارج لتوقظ ضميره”.

والسبب الآخر للغضب الموجه نحو أرندت كان نقدها صورة ضحايا الهولوكوست. اعترضت على تملص الادعاء الدائم من طرق مسألة تعاون قادة المجالس اليهودية مع النازيين. أحد أكثر المزاعم التي يصعب تقبلها في الكتاب هو أن اليهود لو كانوا أقل تنظيماً ولو لم تكن لهم قيادة، لما بلغ العدد الكلي للضحايا هذا الرقم المخيف الذي بلغه.

تقول أرندت إنه “بالنسبة إلى يهودي، فإن دور قادة اليهود في دمار شعبهم هو بلا شك أكثر فصول القصة سواداً”. هذه الفرضية المدعاة بالطبع هي تخمين غير قابل للإثبات من قبل أرندت. 

الغضب الأخلاقي

فهم بعض منتقدي أرندت مصطلح “تفاهة الشر” على أنه وصف للجرائم نفسها. واتّساقاً مع هذا النهج في التفكير، إذا كانت جرائم النازيين تافهة، إذاً يُمكن الصفح عنهم ومسامحتهم. وفسَّر آخرون تعليقاتها حول المسؤولية التي تقع على عاتق الزعماء اليهود، على أنها مثال تقليدي لإلقاء اللوم على الضحية. رأى كلا الفريقين في كتابها طمساً خطيراً للحدود يُمكن أن يؤدّي إلى العدمية الأخلاقية. ولا يزال التعبير عن مثل هذا النوع من الانتقادات، التي أثيرت فورَ نشرِ الكتاب، مُستمراً.

ترى المؤرّخة الإسرائيليّة أنيتا شابيرا، على سبيل المثال، أنَّ النهجَ النقديَّ الذي اتبعته أرندت يعكس نوعاً من الغموض الأخلاقي والالتباس، وهذا ما جعلها تحظى بقبول لدى تيار ما بعد الحداثة. فقد كتبت شابيرا، في مقالة نشرت عام 2004، تحمل عنوان “محاكمة أيخمان: منظورات متغيرة”، قائلةً “لا يوجد شيء على ما يبدو. ليس هناك حقيقة، ولا أكاذيب، ولا ضحية، ولا قاتل، ولا أحد مذنب، ولا أحد منهم بريء، وليس هناك تسلسل هرمي للقيم، وليس هناك قيمة مُطلقة”.

أكد إلحنان ياكيرا، الرئيس السابق لقسم الفلسفة في الجامعة العبرية، في كتابه “ما بعد الصهيونية، ما بعد الهولوكوست” (الصادر باللغة الإنكليزية عام 2009) أنّ كتاب أرندت “أيخمان في القدس” ليس أسوأ كُتبها فحسب، بل أيضاً “فضيحة أخلاقية” وفشل فلسفي أخلاقي. وأوضَح في مقال لاحِق أنّ محاولته لفضح الفشل الفكري للكتاب، هي جزء من الجهود المبذولة على نطاق واسع لفضح الفشل الأخلاقي الذي تفشّى بين منتقدي الصهيونية المعاصرين، الذين سعوا إلى تشويه صورة إسرائيل والتشكيك فيها عبر “الاستخدام المنهجي للمحرقة باعتبارها سلاحاً أيديولوجيّاً”.

إحدى الأخطاء الفادحة الواردة في كتاب ياكيرا هو ادِّعاؤه أن أرندت شاركت في بعض “أعمال القمع” في مواجهة جرائم النازيين. ويؤكد أن أرندت نادراً ما تُشير إلى عملية الإبادة نفسها. صحيح أن نظرية أرندت عن الشمولية ركزت على معسكرات الاعتقال أكثر مما ركزت على معسكرات الموت، ولكن هذا لا ينبع بأي شكل من الأشكال من رغبة في “طمس” الجرائم. فقد هزت الفظائع والأعمال الوحشية التي وقعت في معسكر أوشفيتز كلَّ ذرة في كيانها. كما أنها أتَت على ذِكر عملية الإبادة في الكثير من المواضع في كتابها عن أيخمان، واسترشدَت بها.

ذهبَت الكاتبة الإسرائيلية تسفيا غرينفيلد، وهي صحفية تنتمي لطائفة الحريديم (وكانت عضواً في الكنيست عن حزب ميرتس لفترة وجيزة)، إلى ما هو أبعد من ذلك. فقد كرَّرَت في كتابها الذي صدر عام 2017 باللغة العبرية تحت عنوان “الانهيار: تفكّك اليسار السياسي في إسرائيل”، الاتهامات الباطلة ذاتها، ضد أرندت التي أثيرت منذ 50 عاماً. وأكدت مراراً وتكراراً أنه استناداً إلى وجهة نظر أرندت، “فاليهود أنفسهم هم مَن تسببوا فعليّاً في كارثة الإبادة”، من خلال تعاون زعماء “المجالس اليهوديّة” Judenräte، مع النازيين. بل ترى غرينفيلد أن أرندت أكَّدَت أن “أيخمان هو الضحية الحقيقية للأحداث التاريخية”.

من غير المؤكد ما إذا كانت غرينفيلد – التي تتهم أرندت بالتعبير عن آراء “كادت تصل إلى حدِّ إنكار المحرقة”- قرأت كتاب “أيخمان في القدس” بعناية. وإلا فإنّ من الصعب أن نفهم كيف يُمكنها أن تعيبَ على أرندت التقليلَ من “تداعيات المحرقة” لتبرير التعامل الإسرائيليّ العنيف تجاه الفلسطينيين، في كتابٍ نُشِر قبل 4 سنوات من حرب الأيام الستة (1967). أظهرت غرينفيلد أن ثمة اختلافاً شاسعاً بين انتقاد أرندت رئيس وزراء إسرائيل الأسبق، ديفيد بن غوريون والأيديولوجية الصهيونية من جهة، وبين “حركة مقاطعة إسرائيل وسحب الاستثمارات منها وفرض العقوبات عليها” BDS، من جهة أخرى، وهي الحركة التي ترى أنّها تقوض شرعية إسرائيل.

ولنضع الأمور في نصابها الصحيح، لا بد من القول، إنه لا يوجد موضع في الكتاب، برَّأت فيه أرندت النازيين عموماً وأيخمان خصوصاً من المسؤولية. عارضت أرندت بشدة نظرية “الترس الصغير في الآلة”، التي بمقتضاها يُفترض أن أيخمان كان عضواً صغيراً في منظومة كبيرة، وبذلك فهو لم يكن مسؤولاً عن أفعاله. إذ إن العاملين ضمن تلك المنظومة، هم بشر وليسوا آلاتٍ جامدة، وعلى هذا النحو فإنهم يستحقون اللوم وتقع على عاتقهم مسؤولية. بيد أنها ترى أن أيخمان واجه تلك التُهم بوصفه إنساناً؛ وخضع هذا الإنسان بمفرده للمحاكمة، وليس النظام النازي بأسره. وخلافاً للكثير من أصدقائها، لم تعترض على عقوبة الإعدام التي وقعت عليه.

علاوةً على ذلك، لم تزعم أرندت أبداً أن اليهود هم المسؤولون عن إبادة أنفسهم. في الواقع، مثّلت دراستها لدور “المجالس اليهوديّة” جزءاً مثيراً للغضب ومؤلماً من كتابها، اتسم بنهجٍ صارم في إصدار الأحكام والبلادة. وعلى رغم أنّ مناقشتها الموضوع لم تتجاوز سوى 12 صفحة من صفحات الكتاب، فقد كانت تلك المسألة هي ما أثار أعنفَ ردود الفعل وأحدَّ الغضب تجاهها. كانت آراؤها حول سلوك القيادة اليهودية خلال المحرقة مماثلة جداً للنهج السائد في إسرائيل خلال العقدين الأولين من إنشائها. ساد في البلاد آنذاك النهج الانتقادي تجاه الشرطة اليهودية وزعماء المجالس اليهودية، وضد كل من يُشتبه في “تعاونه” مع النازيين. وانعكس ذلك في التشريعات – ولا سيما في قانون معاقبة النازيين والمتعاونين معهم (الصادر عام 1950)، وفي محاكمات السجناء اليهود المتعاونين مع النازيين (العملاء اليهود الذين عملوا في معسكرات الإبادة، وقاموا بدور جواسيس لإحباط أي محاولة يائسة للرفض أو المقاومة، إذ كان يُعدم مَن يتم الإخبار عنهم مع عائلاتهم بشكل فوري) في الخمسينات، وفي محاكمة رودولف كاستنر عام 1955.

في الوقت نفسه، لم تُلقِ أرندت باللوم على الضحايا أنفسهم، الذين يُفترَض أنهم اقتيدوا إلى الموت “كقطيعٍ من الأغنام نحو المسلخ”. بل على النقيض من ذلك، انتقدت أرندت المدّعي العام جدعون هاوزنر، بسبب سؤاله المتكرر للشهود الناجين، “لماذا لم تحتج؟ لماذا ركبتَ القطار؟ لماذا لم تتمرَّد وتعترض وتهاجِم؟”، وقالت إن هذه الأسئلة سخيفة وقاسية، وتدل على سوء فهم تام للحياة في ظل إرهاب الدكتاتورية النازية القاتل.

فضلاً عن ذلك، أشارت أيضاً إلى أنه لم يجرؤ أحد من السكان غير اليهود الآخرين الذين عاشوا في ظل الاحتلال الألماني على التصرف بشكل مختلف. وتشير المؤرخة الإسرائيلية إديث زيرتال في كتابها إلى أنَّ النهج الذي اتّبعه المدعي العام، لم يهدف إلى فَهْم وضع اليهود ومعاناتهم في ظل الحكم النازي، بل إلى خدمة أغراض السرديّة الصهيونية وتعزيز صورتها الذاتيّة.

أخذَ الموقف الذي اختارته أرندت إلى جانب الناجين تعبيراً رمزياً حين فضَّلت الجلوس بينهم في قاعة المحكمة، بدلاً من الجلوس في القسم المخصص لكبار الشخصيات والصحافيين. عبرت أرندت عن ذلك المشهد، قائلةً “امتلأت قاعة المحكمة بـ(الناجين)، وأشخاص في منتصف العمر ومسنّين، إضافة إلى مهاجرين من أوروبا، من أمثالي، ممن يعرفون تماماً ما تجب معرفته، وليسوا في مزاجٍ ملائم لتلقّي أيِّ دروس، وبالتأكيد لا يحتاجون إلى هذه المحاكمة للتوصل إلى استنتاجاتهم”. مثل كثر من الناجين من المحرقة، اعتقدت أرندت أيضاً أنَّ الجرائمَ الضخمة التي ارتكبها النازيون لا يُمكن تمثيلها بشكلٍ كافٍ من خلال المُحاكمة، ولكنها مع ذلك أقرَّت بعدم وجود آليّات أخرى يُمكن من خلالها محاكمتهم.

لم تتحلَّ أرندت بالصبر الكافي لتحمل الأسلوب المسرحي الذي استخدمه هاوزنر، أو لتحمّل سماع عشرات الشهود الذين أدلوا بشهادتهم أثناء المحاكمة. اتسمت ألفاظها في بعض الأحيان بالحدَّة، بشكل مفرط ربما؛ وكانت لهجتها مفعمة بالسخرية، وأظهرَت في بعض الأحيان عدمَ التعاطف تجاه بعض الشهادات، ما أثار غضب المجتمع اليهودي في إسرائيل وخارجها. وكما أشارت الفيلسوفة اليهودية الأميركيّة، من أصول تركية، شيلا بن حبيب، فقد أظهر كثيرٌ من المصطلحات التي استخدمتها أرندت في كتابها ضيقاً مذهلاً في الأفق وغياب الحكمة؛ والأهم من ذلك، أوضَحَ قدراً كبيراً من المشاركة العاطفية القوية وعدم القدرة على النظر بحيادية إلى الموضوع الذي تناولته بالبحث والدراسة. فقد عجزت عن إيجاد “اللغة المناسبة للجمهور، والخطاب الصحيح الذي يُمكن أن تروي من خلاله الحزنَ والمعاناةَ والخسارةَ التي شهدتها في الماضي”.

تعتقد زيرتال أيضاً أن اللغة التي استخدمتها أرندت لعبَت دوراً رئيسياً في جعل الكتاب مثيراً للجدل. وكما قالت في المقابلة التي أجريتها معها، “كثيراً ما كانت الأشياء ذاتها، والكلمات التي تلفظت بها بطريقةٍ لاذعةٍ فارغةٍ من أيِّ شعور بالتعاطف تجاه الآخرين، أقوى من قدرة الأشخاص في ذلك الوقت وذلك المكان على التحمُّل”.

ولكن الأهم من ذلك كله، كما تقول زيرتال، “فإنَّ ما كان مقبولاً في مجتمع يِشُوف Yishuv الصهيونيّ -وهي جماعات يهودية دينية كانت تسكن الأراضي الفلسطينية، ومثّلت نواةَ الكيان الصهيونيّ- كان غيرَ مقبولٍ تماماً بالنسبة إلى امرأة أجنبية من يهود المهجر معادية للصهيونية مثل أرندت، كما يصفها منتقدوها. فقد انفعلت في خضَمِّ المحاكَمة المنظَّمة وأعاقتها عن تقديم رسائلها الأيديولوجية، التي كانت على شفا اللاهوت، حول الخلاص الصهيوني المنبثق عن الإبادة اليهودية. حقيقة أنها كانت امرأة ومفكِّرة رائدة، تتمتع بذكاءٍ متّقِد -في عالَم المعرفة الذي يسيطر عليه الرجال بالكامل- لم تجعَل قبولَ آرائها مهمَّةً سهلة”.

إضافةً إلى ذلك، يجدر التفكير -كمراقب محايد للمشهد- في الموقف المتناقض الذي تمثّله أرندت باعتبارها لاجئة يهودية تشكّلت حياتها بفضل كونها يهودية وبفضل علاقتها بالصهيونيّة من ناحية، ونقدها المشروع الصهيونيّ من ناحية أخرى. فبحسب ما ذكرته الكاتبة والمترجمة ميشال بن نفتالي، التي تأثّرت تأثراً عميقاً بفكر أرندت، وخصَّصت كتاباً لها، “من المستحيل حتى ولو للحظة اتّهام أرندت بأنها نبذت وابتعدت من يهوديّتها. ليس فقط لأنها تقيدت بالالتزام والمسؤولية النابعتَين من تلك الهُويّة، بل لأنّها تناولت في كتاباتها -منذ الأربعينات وما بعدها- القضايا اليهوديّةَ والصهيونيّة من منطلق إحساسِها بضرورة المشاركة وبدافِعِ القلق، على رغم أن ذلك لم يؤدِّ أبداً إلى اِندماجها أو لم يُوحِ بشعورٍ واضحٍ بالتضامن”.

وأردَفَت بن نافتالي قائلةً: “يبدو لي أن هذا الاندماجَ غيرَ المألوف، على وجه التحديد، بين الاهتمام والبُعد الانتقادي قد خلَقَ نوعاً من الرِّيبةِ تجاهَها على أفضل تقدير، ودفَعَ إلى النفور منها بشكلٍ هائل، على أقل تقدير”.

إنقاذ الدولة اليهودية

على رغم أن أرندت لم تصنف نفسها ضمن أيّ مجموعة سياسية، وحتى إن كان من الصعب وصفها على أنها يسارية أو يمينية، فإن كتابتها النقدية توقعت بعض القضايا المحورية التي ظهرت بعد سنوات في دراسات أجرتها مجموعة “المؤرخين الجدد” وحركة “ما بعد الصهيونية”. في مقالات سابقة لها من الأربعينات، انتقدت أرندت بالفعل الدولة القومية اليهودية، داعمةً الأطر السياسية ثنائية القومية متعددة الجنسيات، وحذرت من التهديد الذي يتعرض له السكان العرب الفلسطينيون. وفي كتابها حول أيخمان، رفضت صراحةً ما اعتبرته استغلالاً من قبل المشروع الصهيوني لذكرى المحرقة. وتطرقت أرندت إلى الكثير من القضايا الحساسة، التي ما زالت تولد نزاعات مستعرة.

حرب الاستقلال

عام 1948، في أوج حرب الاستقلال الإسرائيلية (حرب 1948)، وقبل وقت طويل من إصدار قانون الدولة القومية وقبل أن يعرض رئيس الوزراء بنيامين نتانياهو الخطط المتعلقة بمعسكر أوشفيتز بيركينو في الجمعية العامة للأمم المتحدة، كتبت أرندت ما يلي في مقالٍ بعنوان “إنقاذ الوطن اليهودي”: “حتى ولو انتصر اليهود في الحرب، ستجد في نهايتها أن الفرص والمنجزات الفريدة للصهيونية في فلسطين أصبحت مُدمرةً. سيكون الوطن الناشئ مختلفاً تماماً عمّا حلم به يهود العالم سواء كانوا صهاينة أو غير صهاينة. سيعيش اليهود “المنتصرون” محاطين بالسكان العرب المعادين لهم بالكامل ومعزُولين داخل حدودٍ مُهدَدة على الدوام ومُنهمكين في دفاع جسدي عن النفس لدرجة سيَطغى بها على جميع الاهتمامات والأنشطة الأخرى.

“لن يكون ازدهار الثقافة اليهودية محل اهتمام الشعب بأكمله، وستُهمل التجارب الاجتماعية باعتبارها رفاهيات غير قابلة التطبيق، وسوف يتمركز الفكر السياسي حول الاستراتيجيات العسكرية، وسوف تُحدد التنمية الاقتصادية بناءً على احتياجات الحرب فحسب”.

يتناول كتاب إديث زرتال “الامتناع: الاستنكاف الضميري في إسرائيل” (بالعبرية) الصادر عام 2018، قضية الشرور السياسية واحتمالات الثورة عليها، ويبحث في الخلفية التاريخية والسياسية والفكرية لِلاستنكاف الضميري من الخدمة العسكرية في إسرائيل «رفض أداء الخدمة العسكرية الميدانية تحت ذريعة حرية الفكر أو حرية الضمير أو الدين»، بخاصة في ظل الاحتلال. ويُعد كتاب “أيخمان في القدس” نقطة الانطلاق لكتاب إديث. تُظهر زرتال كيف أن أفكار أرندت، بما فيها “تفاهة الشر”، “التي رُفضت وقُمعت طيلة سنوات، أصبحت حاضرة في فكر الشباب الإسرائيلي ومؤثرة في خياراتهم وقراراتهم” خلال فترة خدمتهم العسكرية وما بعدها. يشتمل الكتاب على مقابلات مع جنود من مختلف الرتب العسكرية، ابتداءً من بعض ضباط الاحتياط وصولاً إلى عامي أيالون، الرئيس السابق لجهاز الأمن الداخلي الإسرائيلي “شاباك”، الذي تحدث عن كيف أنهم أصبحوا موظفين يؤدون واجبهم في العمليات التنفيذية فحسب، في نطاق ضيق لا يفسح لهم مجالاً كبيراً للتفكير.

أخبرتني زرتال قائلةً، “إنها بلا شك واحدة من أعظم المفكرين في القرن العشرين وأكثرهم تأثيراً. واختارت بوعيٍ ألا تكون فيلسوفة بذاك المفهوم المقتصر على التفكير والتأمّل بمعزلٍ عن العالم، لكن رأت نفسها باعتبارها مفكرة سياسية تقتات فلسفتها على تجارب الحياة. وقد عايشت ذلك بنفسها، خلال الحربين العالميتين والحقبة النازية والمحرقة والشمولية الدكتاتورية والثورات وما بعد الاستعمارية وحالة اللجوء والهجرة. نادراً ما تجد مفكرين طرحوا في أعمالهم الكثير من القضايا الحرجة من أجل ترجمة وفك رموز العالم، وفعلوا ذلك بشغف فكري وعبقرية وبمثل هذه الشجاعة التي لا تنثني كما فعلت أرندت”.

سألتُ بن نفتالي ما الذي برأيها جعل أرندت فريدة. ردت بأنها كانت مأخوذة بفكر أرندت، “بسبب شجاعتها غير التقليدية وبسبب جهدها في تحليل الأفكار النمطية المبتذلة ونماذج الفكر بنزاهة ودون تحيز”. وبحسب ما تقول بن نفتالي فإن، “كتابات أرندت تزخر بالتعقيد الهائل. يبدو لي أن الكثير من الناس لا يستطيعون تحمل التعقيد في السياقات والظروف التي يعتبرونها “متقلبة”. لكن، يجعل هذا الاتجاه الكثير من المناقشات حول القضايا العامة سطحيةً ولا طائل من ورائها فعلياً.

“إلى حد ما، عرفت أرندت ذلك. وأدركت أنها تسعى إلى تحقيق ما لا يمكن تقبله، وكانت تتصرف ببساطة وعفوية فحسب، مُتطرقة إلى أمور لم يحن أوان مناقشتها بعد. لا يوجد الكثير من الأشخاص القادرين على فعل ذلك، ودفع ذاك الثمن الذي دفعته. في أي حال، كان الكتاب يهدف، في الوقت الذي نُشر فيه، إلى ملامسة مشاعر جيل أصغر من الجيل الذي كانت تنتمي إليه أرندت نفسها. ومن هذا المنطلق، لا تزال كتابات أرندت تنتظرنا لنقرأها في السنوات المقبلة”.

هذا المقال مترجَم عن haaretz.com ولقراءة المادة الاصلية زوروا الرابط التالي

https://www.haaretz.com/israel-news/.premium.MAGAZINE-why-does-hannah-arendt-s-banality-of-evil-still-anger-israelis-1.7213979

درج

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى