سياسة

اللعبة الكبرى على “طريق الحرير” في الشرق الأوسط/ منير الربيع

في قمّة هلسنكي بين الرئيسين الأميركي دونالد ترمب والرئيس الروسي فلاديمير بوتين. جرى الاتفاق بين الولايات المتحدة الأميركية وروسيا، على كيفية تقاسم النفوذ العالمي في إطار التكون الجديد للمنظومة التي تنشأ بعد انهيار المنظومة التي تكونت بعد سقوط الاتحاد السوفييتي، وبروز نظرية نهاية التاريخ لفرانسيس فوكوياما. لم تعمّر نظرية فوكوياما، والتي ألزمت الولايات المتحدة الأميركية بدفع ما يسمّى “تكاليف الأمن العالمي” وتأمين الحماية للسلعة الأكثر استراتيجية في العالم وهي النفط. قبل أشهر، خرج دونالد ترمب، داعياً الصين والدول الأوروبية والهند إلى دفع تكاليف حماية ناقلات النفط في الخليج العربي ومضيق هرمز. وتحديداً بعد العمليات العسكرية الإيرانية التي استهدفت ميناء الفجيرة في الإمارات العربية المتحدة، وأنابيب شركة آرامكو.

لم يكن خروج ترمب بهذا الموقف تفصيلاً، هو أبرز التعبيرات عن سقوط النظام العالمي القديم، وانتظار تشكّل نظام جديد. وهذا ما حمله عنوان كتاب صدر في العام 2014 لثعلب السياسة الأميركية هنري كسينجر، طرح فيه نظرية “النظام العالمي الجديد”. والذي يدعو فيه إلى التعاون الاستراتيجي بين أميركا وروسيا والصين، وتقاسم النفوذ فيما بينهم. تشكل منطقة الشرق الأوسط، إحدى النقاط الاستراتيجية

لتكامل هذا المشروع. هذه المنطقة التي انهارت كياناتها، في العقود الأخيرة، وتحللت الدول لحسابات دويلات مذهبية وطائفية ترسّخ “تصغير الكيانات” وانقساماتها وإبقائها في حالة من التوتر.

الاستراتيجية الأميركية في التعاون مع روسيا، تجّلت في أبهى حللها في العام 2015، مع الدخول الروسي إلى سوريا، بغطاء أميركي. وانسحب التفاهم على مجالات متعددة من التنسيق والتعاون. تسعى واشنطن إلى تجميع نقاط قوتها بالتعاون مع عدد من الدول كروسيا، وإيران التي تضغط عليها بفرض عقوبات وإجراءات مالية وعسكرية لاستقطابها إلى تفاهم، للتمكن من تطويق الصين بدول أساسية في مشروع “حزام وطريق” الذي تسعى من خلاله الصين إلى وصل دول العالم ببعضها البعض، عبر جملة مشاريع مائية وبرية.

العلاقة الأميركية الصينية، ليست على طريق العداوة، إنما التنافس للوصول إلى تفاهمات مشتركة بين الطرفين، ضمن لعبة تعزيز النفوذ. وهذا ما يوصي به هنري كيسنجر وأيضاً زبيغنيو بريجنسكي في كتابه رؤية استراتيجية الذي تبنى طروحاته باراك أوباما، الذي قاد سياسة أميركية بعيدة عن الحلفاء التاريخيين للولايات المتحدة الأميركية، وذهب أكثر نحو إيران والتعاون معها، وهو الذي أفسح في المجال أمام تغيير ليس فقط في بنية الدول في منطقة الشرق الأوسط كما حصل في سوريا والعراق ولبنان مثلاً. بل أدى إلى تغيير ديمغرافي أيضاً. وهذا أحد أبرز مؤشرات تغيّر النظام العالمي، من خلال عمليات نقل ممنهجة لتكتلات بشرية هائلة بين حدود وأخرى، كالحال الذي وصلت إليه سوريا، وكذلك العراق. التغيير البشري لا يقتصر على مجتمعات الشرق الأوسط، إنما طاول أوروبا أيضاً التي دخلتها أعداد هائلة من اللاجئين في السنوات والعقود الماضية الذين من شأنهم أن يعكسوا تغييراً بشرياً واجتماعياً فيها على المدى البعيد.

تحت هذه الصراعات، تولّدت قواعد جديدة وشديدة التعقيد في بنية العلاقات الدول. حيث لم تعد الصراعات أيديولوجية، أو قومية. إنما صراعات مصلحية مالياً واقتصادياً، تلبس في بعض البقع الجغرافية اللبوس الإيديولوجي أو الديني كما هو الحال بالنسبة إلى الصراع السنّي الشيعي مثلاً، والذي يأخذ طابعاً آخر هو صراع عربي فارسي. كان أكثر المساهمين في إذابة الحدود وتغيير الوقائع الاجتماعية والسياسية. هذا النوع من التحول في أوجه الصراع، يرسي العلاقات المعقدة والشائكة في العلاقات الدولية، كحالة التحالف بين دولة وأخرى والتنافس أو الخصومة في آن واحد. كالعلاقة بين روسيا وتركيا، تركيا وإيران، أميركا وتركيا، أميركا وروسيا، وهكذا دواليك.

على الرغم من التنافس الأميركي الصيني المشهود، والذي تضعه بعض القوى والشخصيات في سياق “الحرب أو العداوة” بين الطرفين، وهو طبعاً ليس كذلك. تم توقيع اتفاق التجارة والتعاون بين الولايات المتحدة الأميركية والصين قبل أيام، وصحيح أنه اتفاق تجاري في علنيته، لكنه اتفاق أكثر استراتيجية لجهة “تقاسم النفوذ العالمي” بين الدولتين بالتعاون مع موسكو. وطبعاً تحتهما يكون هناك أدوار لبعض الدول خصوصاً في الشرق الأوسط، كإيران وتركيا وإسرائيل.

الأساس الصلب للمشروع الصيني في مبادرة حزام وطريق، يرتكز على التوجه نحو منطقة الشرق الأوسط والخليج العربي وصولاً إلى إفريقياً. تعبر الطريق من الصين إلى كازاخستان، واحدها يذهب إلى إيران والآخر إلى تركيا، ومنهما إلى قلب الشرق الأوسط وإفريقيا. يهدف المشروع الصيني للوصول إلى لبنان وسوريا والعراق أيضاً. وهذا مبرر كاف للصراعات وانعدام الاستقرار الذي تعيشه هذه الدول، لم ينحصر انعدام الاستقرار فيها، بل طاول أيضاً الخليج العربي.

تضغط واشنطن على طهران، لعقد اتفاق نووي يتضمن مجموعة اتفاقات سياسية واستراتيجية، تتمكن فيها أميركا الدخول على طريق الحرير الصيني. والعلاقة الأميركية الروسية تصب في هذه الخانة، لتصبح أميركا شريكة أساسية في هذا المشروع ومقررة أساسية على طرقات مروره. وعلى الرغم من الصراع الكبير بين واشنطن وطهران، فترتبطان بمجموعة من المصالح المتقاطعة، أهمها إرساء حالة عدم الاستقرار في هذه المنطقة، لقطع الطريق على المشروع الصيني الذي يحتاج إلى أقصى درجات الاستقرار، لأن بدونه لا يمكن نجاح أي استثمار في المال والاقتصاد والمشاريع.

لذلك يبرز تقاطع المصالح بين أميركا وإيران، على تغذية الصراعات المذهبية والدينية المسلحة في المنطقة، وأهمها العراق، الذي يفترض أن تمر به الطريق نحو الكويت والخليج العربي. ومنه نحو سوريا عبر تعميق مجرى نهر الفرات وتوسيعه، لتصل السفن إلى دير الزور، ومنه ينطلق خط لسكك الحديد نحو لبنان. إيران لا تريد للطريق أن يمر في الخليج العربي، بل تريد له أن يتوقف عندها ويصل إلى العراق بالحد الأقصى. في لبنان أيضاً لا تريد واشنطن ولا طهران أن يصل الخط البحري إلى الشواطئ اللبنانية، بموجب صفقة القرن تريده واشنطن أن يصل إلى إسرائيل وشواطئها، بينما إيران

تسيطر على الشاطئ اللبناني في الجنوب، وعلى حقول النفط والغاز والأنابيب المستقبلية. تركيا أيضاً ستكون صاحبة دور أساسي على خط طريق الحرير، لديها مصالح مع الصين، وأيضاً مع الولايات المتحدة، نشاطها في الشمال السوري وباتجاه الفرات لا ينفصل استراتيجياً عن مدى هذا الخط وتوجهه، وهي الحريصة على أن يكون الطريق الأساسي ينحصر بين باكو وإسطنبول.

وفق هذه القراءة، ستشهد منطقة الشرق الأوسط المزيد من الصدامات والصراعات في المرحلة المقبلة، على طريق تقاسم النفوذ الصيني الروسي الأميركي. لدى الصين اهتمام أساسي في الوصول إلى الخليج العربي وبناء تحالف استراتيجي ومشاريع استثمارية بآلاف المليارات من الدولارات، وهذا يحتّم طبعاً التقاءً صينياً خليجياً، لا يصب في مصلحة إيران التي تريد الصين حليفة لها وحدها، وتريد وضعها في مواجهة السنّة والعرب، ولا يناسب أميركا التي تريد اختزال تحالفها مع الخليجيين.

تلفزيون سوريا

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى