ثقافة وفكر

جماليات الظل… عندما يتوارى الفنانون: مجموعة صغيرة لكن عالية التأثيرات تفضّل أن تتحدث أعمالها عن نفسها/ ميغان أوغريدي

ترجمة: د. سعد البازعي

في هذه الأيام يُتوقع من الفنانين في كل المجالات أن يكونوا مستعدين للاستهلاك العام. غير أن مجموعة صغيرة وعالية التأثير منهم اختارت أن تتوارى عن المجتمع مفضّلة أن تدع أعمالها تتحدث عن نفسها. ماذا يعني ألا يكون المرء قريب المتناول في عصر التشارك المكثف؟

بالنسبة لأولئك منّا الذين بلغوا من العمر ما يجعلهم يتذكرون عصراً لم نحتج فيه إلى أن نفسر وجودنا على شبكات التواصل الاجتماعي، عندما كان يمكننا أن نحضر حفل عشاء دون أن تُلصق صورُنا مثل الوعول في «إنستغرام» شخص ما، حين كانت الخصوصية تُحترم وكان للمعاني العميقة فسحة كافية لتتجذر وتزهر، ليس من المدهش أن نرى الفنانين يهربون من ضجيح الحياة العامة. كيف يمكننا أن ننظر ونستمع إذا كنا مشغولين بنظر الناس واستماعهم إلينا؟

لقد اكتسب الفن، كما كتبت سوزان سونتاغ في مقالة تعود لعام 1967 عنوانها «جماليات الصمت»، صفة روحية في ثقافة علمانية، صار مكاناً لمحاسبة المشروع الإنساني ومساءلته وربما حتى تجاوزه. الإبداع، بتعبير آخر، لا يتعلق فقط بالتعبير الذاتي؛ إنه أيضاً عالم من الضبابية، يرضي «حنيننا إلى غيمة اللامعرفة فيما وراء المعرفة، إلى الصمت فيما وراء الكلام». الصمت جزء أساس من العملية الإبداعية، فهو يفتح فضاء للتأمل. تقول سونتاغ: «بقدر ما أن الفنان جاد فإن ثمة ما يغريه باستمرار بأن يوقف حواره مع الجمهور». الانسحاب من الحياة العامة هو «إيماءة الفنان القصوى خارج هذا العالم: بالصمت يحرر نفسه من قيد الخضوع للعالم الذي يبدو كراعٍ، عميل، زبون، ضد، حكم، ومشوّه لعمله».

يسن الفن القوانين ما بين منطقتي الخاص والعام؛ لقد كان في الغالب نوعاً من الاختباء في العلن، مكاناً للهويات المرمزة، للمبهم من الغنائية. يرى مارسيل بروست أن «ما يمكّننا من النظر عبر أجساد الشعراء ويتيح لنا رؤية أرواحهم، ليس عيونهم، ولا أحداث حياتهم، وإنما هي كتبهم، وبالذات حيث تود أرواحهم، برغبة غريزية، أن تخلد». ولذا فإن من المناسب أن تعجب سونتاغ، وهي الناقدة الصريحة والروائية، بهذه التوترات: حاجة الفنان إلى التجريدات والغموض، رغبة الناقد في التوضيح.

أنها كتبت هذا قبل انفجار عالم الفن، قبل أن يؤلّه الفنانون ويصوروا كما لو كانوا منقذين لعالم مكسور، قبل أن ننظر إليهم ليس بحثاً عن الجمال والإلهام والتوكيد فحسب وإنما عن شكل من أشكال النقد الذاتي، له صلة وثيقة بالتأكيد بعلاقتها بالنجوم. لقد عرفت سونتاغ، وهي واحدة من آخر المثقفين العامين حتى وفاتها عام 2004، وبشكل مباشر ثمن ذلك الاهتمام: أي تشتيت للانتباه يمكن لذلك أن يكون؛ إلى جانب خطورة الرقابة الذاتية بغية النفخ في صورة الذات. (حتى بعد رحيل سونتاغ، انتقدها كاتب سيرتها بنجامين موزر، في «سونتاغ: حياتها وأعمالها» 2019 لأنها لم تتحدث علناً عن ميولها الجنسية في أثناء أزمة الإيدز).

اليوم نتوقع من الفنانين أن يقوموا بدور في الحياة العامة، أن يذعنوا للمقابلات وملفات المجلات ليشرحوا ويبرروا عملهم، أن يحضروا حفلات الافتتاح بملابس باذخة، أن يتحدثوا بقوة وبتفصيل حول النسوية والعنصرية وغياب العدالة الاجتماعية وآخر الكوارث سواء كانت سياسية أو بيئية.

ومع ذلك ظل هناك دائماً عالم ظل صغير وقوي لمبدعين نجحوا في مخادعة التوقعات العامة بدرجات متفاوتة، متجنبين الصحافة المدققة وجولات الكتب بينما يظل الشعور قوياً بتأثيرهم. بعضهم حقق ذلك باللجوء لأسماء مستعارة، بينهم بانكسي وإلينا فيرانتي التي كتبت بكثافة عن التحرر الذي عثرت عليه بفصل صورتها العامة عن عملها. آخرون وظّفوا ذواتهم البديلة لإيصال رسائلهم، مثل ديفيد باوي الذي تبنى شخصية زغي ستاردكت، وهو مغني روك غريب يأتي إلى الأرض برسالة أمل وينتهي بأن يقضي عليه معجبوه وشطحاته. إنها إحدى التعليقات الموسيقية العظيمة على الشهرة، تعليقة أبدعت في زمن كان فيه باوي نفسه يدمر نفسه في ضوء الشهرة.

بوصفي ناقداً يتمحور عمله على فكرة أن هناك الكثير من القيمة التي يمكن تعلمها من السياقات الخاصة، سواء كانت شخصية أو غير ذلك، سياقات يصنع فيها الفن، أجد نفسي أتنقل بين نزعتين: الرغبة في الاقتراب من تلك الحقائق الصعبة وفهم الثمن الحقيقي للانكشاف. أود حماية منابع الإلهام، تلك الخواطر الرومانسية «القادمة من عزلة أعمق» بتعبير وردزورث، بينما أتيح فضاء لذلك النوع من القص القوي والممكن في الفن، القصص التي كثيراً ما تسعى هذه الأيام لملء الفراغ التاريخي.

نادر في الحقيقة هو الفنان الذي ينجح في الفصل التام بين الهوية الشخصية والعمل، مثلما فعل مارتن مارغييلا، أحد أكثر المصممين تأثيراً على الإطلاق على الرغم من حقيقة أن قلة من أهل الأزياء يعرفون شكله. صار اسمه كناية عن الهدوء الطليعي. في الفنون الجميلة غالباً ما يفسَّر الانسحاب من الحياة العامة بأنه امتداد لمشروع فني، كما حدث حين أخذ الفنان المفاهيمي لي لوزانو عملاً دشامبياً (نسبةً إلى مارسيل دشامب) وانسحب «بقطعة ساقطة» نحو عام 1970 رافضة الاتصال بأصدقاء قدامى وشركاء، راسمة بشكل أساسي إطاراً حول غيابها، مدونة في مذكراتها أن ذلك كان «أصعب عمل قمت به» لأنه «يتضمن تدميراً للعادات العاطفية القوية (أو على الأقل فهماً تاماً لها)». كادي نولاند، التي لا تزال واحدة من أعلى الفنانات الأحياء في المبيعات، توقفت عن عرض أعمالها نحو عام 2000 بل وأخذت في التنكر لبعضها: في عام 2011 أعلنت أنها تخلت عن شاشة حرير فيها تلف تعود للعام 1990 اسمها «رعاة بقر يحلبون»؛ في عام 2014 كان دور عملها النحتي «واجهة كوخ خشبي» التي تعود لعام 1990 والتي أُعيد ترميمها بصورة مكثفة من دون موافقتها أو حتى استشارتها.

مغادرة هؤلاء النساء، مثل الفنانة التدخلية لوري بارسونز، التي تركت حياتها الفنية لتصير ناشطة اجتماعية، لا تبدو كما لو كانت «إيماءة زهد قصوى» بقدر ما هي شكل من أشكال المقاومة لعالم فنون أبوي يهيمن عليه اقتصاد السوق.

لكن قلة من الفنانين نجحوا في هذا النوع من الرفض بوصفه احتجاجاً كما نجح ديفيد هامونز، الذي يعد من أكثر الفنانين المعاصرين تقديراً على الرغم من حقيقة أنه من النادر أن يقبل بإجراء حوار (يشبهها باستجوابات البوليس) أو أن يحضر افتتاح أعماله. لقد نظر إلى هذا أيضاً وعلى نطاق واسع على أنه إيضاح لغرور العالم الفني الذي يهيمن عليه البيض، لكن الفنان، وهو أسود، ذكر أنه أكثر حرصاً على خصوصيته من أن يتحدث عن مصادر أعماله، إنه إن فعل ذلك فسيشعر كما لو كان ذلك إساءة جسدية.

إن هامونز شهير بما يكفي ليدع عمله يتحدث عن نفسه، على عكس الكاتب توماس بينشن الذي لم تقلل انعزاليته من مكانته وتأثيره على الأدب الأميركي (ربما العكس هو الصحيح). ومع ذلك فإن الانسحاب من الحياة العامة بشكل تام لا يخلو من مخاطر: ففي مقابل كلٍّ بنشن أو غريتا غاربو أو هامونز هناك شخص مثل لي بونتيكو التي كانت من أكثر الأسماء الفنية إثارة في ستينات القرن الماضي قبل أن تترك نيويورك في أوائل السبعينات وتتوارى عن الأنظار.

لقد عرفت بونتيكو، وهي أول امرأة يمثلها صاحب المعارض القوي ليو كاستيلي، بأصالتها المذهلة، نتوءاتها الجدارية المصنوعة من الفولاذ والقماش؛ اتسم أغلبها بموتيف الثقب الأسود. في ذلك الوقت بدا كأنها تقريباً اختفت في أحد أعمالها في حين أنها في الحقيقة تركت المدينة مع زوجها وابنتها (واستمرت تدرّس في كلية بروكلين على مدى العقدين التاليين). لم تتوقف أبداً عن صنع الأعمال الفنية، كما يتضح من معرض عام 2003 في متحف هامر التابع لجامعة كاليفورنيا، لوس أنجليس: على مدى ثلاثة عقود من العزلة النسبية تطور عملها إلى منحوتات مرهفة وعالية التركيب توحي بأجسام سماوية، وأنظمة شمسية وخرائط النجوم.

إن من الصعب تصور أنه من دون تلك الفترة من الانعزال أن الأمور كانت ستبدو كما بدت. قصتها تقول لَكم هي اعتباطية –وعديمة القيمة– أوسمة الاحتفاء الجماهيري حين يتصل الأمر بالإبداع نفسه. والأمر كما قالت الفنانة نفسها في حديثها لآن فيلبن، مديرة معرض هامر: «لم أترك عالم الفن أبداً. أنا في عالم الفن الحقيقي».

كم نحتاج حقيقة إلى أن نعرف عن الفنانين الذين نعجب بهم؟ لقد فكرت بهذا مؤخراً وأنا أقرأ ملفاً نشرته مجلة «بتشفورك» حول دان بيجار صاحب العمل الموسيقي «دستروير»، الذي يقول إن أفضل عروضه كانت تنتج عن التفاتته بعيداً عن الجمهور باتجاه فرقته الموسيقية. قال: «حين أكون واحداً من الجمهور في كل ما شاهدت من العروض فإن ما أتمناه هو فقط أن أصاب بالحيرة. ذلك كل ما أريد من الفن. أربِكْني، أوقِفْني في طريقي. ليس من الضروري أن نمضي عبر شيء ما معاً».

لكن من المؤكد أننا نمضي عبر شيء ما معاً – أو على الأقل تلك هي التعويذة التي تلقيها الأغنية أو الرواية أو الفيلم الذي «نحب»: إن اللغة ذاتها التي نستعمل للحديث عن الفن توحي بالرومانسية. إن من الصعب عليّ –وأنا أسمع الصوت، أقرأ الكلمات– ألا أشعر بارتباط بالشخص الذي يقف خلف العمل الإبداعي الذي ينجح بإرباكي حقاً. تجربة الفن هذه، مثل الحب، تجربة نادرة وحقيقية ورائعة وفي نهاية المطاف غير قابلة للتحديد؛ هي مثل الحب نحس بها بشكل خاص من حيث هي ذاتية المصدر ومع ذلك مؤكَّدة علناً من خلال ثقافتنا. وهكذا نسعى لمعرفة المزيد، ربما لنجد أنفسنا في حكاية الفنان ونصير جزءاً من غموضها. نقول إن مما يستحق المخاطرة أن نفك اللغز.

– {نيويورك تايمز تي ماغازين}

الشرق الأوسط

جماليات الصمت: الفن الأكثر قيمة في عصرنا (هو) حركة نحو الصمت / سوزان سونتاغ

ترجمة: عباس المفرجي

كل عهد ينبغي أن يعيد ابتكار مشروعه «الروحي» لنفسه. (روحي = خطط، مصطلحات، أفكار عن سلوك هادف إلى حلول للتناقضات البنيوية المؤلمة المتأصّلة في الوضع البشري، إلى إتمام الوعي البشري، إلى السموّ).

في العهد الحديث، واحد من أكثر المجازات نشاطًا للمشروع الروحي هو «الفن» أنشطة الرسّام، الموسيقي، الشاعر، الراقص، وغيرهم، حالما تتكتّل تحت هذا الاسم العام (خطوة حديثة نسبيًّا)، الذي أثبت أنه موقع قابل للتكيّف على نحو متميّز تُعرَض عليه الدراما النمطية التي تكتنف الوعي، يكون كل عمل فن فردي تقريبًا نموذجًا حصيفًا لتنظيم هذه التناقضات أو التوفيق بينها. بالطبع، هذا الموقع يحتاج إلى أن يُرمَّم باستمرار. مهما يكن الهدف المطروح للفن هو في النهاية مُقيَّد، يتآلف مع الأهداف الأوسع للوعي. الفن الذي هو نفسه شكل من أشكال التَعْمية، يتحمّل تعاقبًا من أزمات كشْف الغموض؛ الأهداف الفنية الأقدم هوجمت بعنف وظاهريًّا، استُبدِلَت؛ خرائط الوعي الشيباء رُسِمَت من جديد. لكن ما تقدمه سلفًا كل هذه الأزمات مع طاقتها – طاقة مشتركة، إذا جاز القول – هو التوحيد الفعلي لكل النشاطات العديدة، المتباينة تمامًا في جنس واحد. في اللحظة التي ينشأ فيها «الفن»، تبدأ الحقبة الحديثة للفن. من تلك اللحظة فصاعدًا، أي من الأنشطة الداخلة في ذلك يغدو نشاطًا إشكاليًّا بشدّة، حيث يمكن أن يكون كل من نُهُجه وأخيرًا، حقه في الوجود، موضع شكّ.

ما يتبع ترقية الفنون إلى «فن» هي الأسطورة الريادية عن الفن، أسطورة الـ«كمال» لنشاط الفنان. في بدايتها، في النسخة غير التأمّلية أكثر، اعتبرت هذه الأسطورة الفن تعبيرًا عن الوعي البشري، وعي يسعى إلى معرفة ذاته. (المبادئ النقدية التي أحدثتها هذه الأسطورة كانت توصّلت بسهولة إلى حدّ ما إلى: بعض التعابير كانت كاملة أكثر، مُعَظّمة أكثر، مثقفة أكثر، أغنى من التعابير الأخرى). النسخة التالية للأسطورة تفترض علاقة مأساوية، معقّدة أكثر بين الفن والوعي. إنكار أن الفن هو مجرّد تعبير، الأسطورة الأحدث، أسطورتنا، تربط الفن إلى حد ما بحاجة العقل أو قدرته على تغريب الذات. الفن لم يعد يُفهَم بوصفه تعبيرًا عن الوعي وبالتالي تأكيد ذاته، ضمنيًّا. الفن هو ليس بالضرورة الوعي، بل بالأحرى الترياق – المستنبط من داخل الوعي نفسه. (المبادئ النقدية المنتَجة بهذه الأسطورة كانت أكثر صعوبة بكثير من أن تُدرَك).

الأسطورة الأحدث، المستمَدّة مما بعد الفكرة السيكولوجية عن الوعي، تعيّن داخل نشاط الفن كثيرًا من التناقضات الظاهرية المرتبطة ببلوغ حالة مطلقة من الكينونة مُبَيَّنة في الصوفية الدينية العظيمة. ولأن النشاط الصوفي يجب أن ينتهي في طريق سلبي (via negativa)، لاهوت غياب الربّ، التوق إلى غمامة الجَهل فيما وراء المعرفة وإلى الصمت فيما وراء الكلام، لذلك على الفن أن ينزع إلى نقض الفن، إقصاء الـ«موضوع» (الـ«شيء»، الـ«صورة»)، البديل عن إمكانية للانتباه والسعي وراء الصمت.

في النسخة الخطّية، الأقدم من علاقة الفن بالوعي، كان هناك صراع وجود بين الأمانة «الروحية» للدوافع المبدعة وبين مشتّتات الانتباه «المادّية» للحياة العادية التي تلقي عقبات كثيرة جدًّا في درب السموّ الأصيل. لكن النسخة الأحدث التي يشكّل فيها الفن جزءًا من صفقة ديالكتيكية مع الوعي، تطرح نزاعًا أعمق، أكثر إحباطًا: الـ«روح» الباحثة عن التجسّد في الفن تتعارض مع السمة «المادّية» للفن ذاته. مكشوف النقاب عن الفن بكونه بلا مبرر، حتى واقعية أدوات الفنان «وبخاصّة، في حالة اللغة، تاريخيتها» تظهر كأنها فخ. ممارَسًا في عالم مجَهَّز بإدراكات مستعمَلة، ومُفَنَّد بغدر الكلمات، يكون نشاط الفنان ملعونًا بالتوسّط. يصبح الفن عدوّ الفنان، لأنه ينكر عليه الإنجاز، السموّ الذي يرغب.

لذلك يُقدَّر الفن بوصفه شيئًا يجب أن يُدَمَّر. عنصر جديد يدخل العمل الفني ويغدو مكوّنًا أساسيًّا له: الدعوة «الضمنية أو الصريحة» إلى الإلغاء الخاص به، وفي النهاية، إلى إلغاء الفن نفسه.

2

رامبو ذهب إلى إثيوبيا ليكوّن ثروته من تجارة العبيد. فِتغنشتاين، اختار أولًا أن يكون مدرّسًا، ثم عملًا وضيعًا وهو ممرض في مستشفى. ديشامب، تحوّل إلى الشطرنج. ومصاحبة لهذه التنازلات النموذجية عن رسالة الفنان، أعلن كل منهم أنه يرى إنجازاته السابقة في الشعر، أو الفلسفة، أو الفن تافهة، أو ليست بذي أهمية.

لودفيج فتغنشتاين

لكن اختيار الصمت الدائم لم يلغِ عملهم. بالعكس، أضاف على نحو رجعي قوة واعتبارًا مضاعفين إلى ما كان توقفَ فجأة؛ التنصّل من العمل أمسى مصدرًا جديدًا لشرعيته، شهادةً لجدّية لا جدال فيها. ذلك الجِدّ لا يوجد في الفن (أو في الفلسفة الممَارَسة كشكل من أشكال الفن: فتغنشتاين) بوصفه شيئًا تدوم جديته إلى الأبد، «غاية»، واسطة نقل دائمة لطموح روحي. الموقف الجدّي الحقيقي هو موقف ينظر إلى الفن كـ«وسيلة» لشيء يمكن أن يُنجَز فقط من خلال فن مهجور؛ مقيَّمًا بنفاد صبر أكثر، الفن هو طريق زائفة أو (الكلمة التي أطلقها الفنان الدادائي جاك فاشيه) غباء.

على رغم أنه لم يعد اعترافًا، الفن هو أكثر من أي وقت مضى، خلاص، تمرين في الزُّهْد. من خلاله، يصبح الفنان مُنَقّى – من نفسه وفي النهاية من فنه. الفنان – إن لم يكن الفن نفسه – يظل منهمكًا في التقدّم صوب «الجَيِّد». لكن سابقًا كان جَيِّد الفنان تمكُّنًا من، وإنجازًا في، فنه. الآن، يُوحَى بأن الجيّد الأعلى للفنان هو بلوغ تلك النقطة حيث أهداف الجودة تلك تغدو غير مهمة بالنسبة له، عاطفيًّا وأخلاقيًّا، ويكون راضيًا بصمته أكثر منه بعثوره على صوت في فنه. الصمت بهذا المعنى، بوصفه انتهاءً، يقترح جوًّا عامًّا من نهائية متناقضة مع المزاج، ومع تلك الجدّية التقليدية المكوّنة للوعي الذاتي للفنان التي تستغل الصمت: كمنطقة تأمّل، استعداد لنضوج روحي، محنة تنتهي إلى اكتساب الحق في الكلام. «راجِعْ فاليري، ريلكه».

إلى الحدّ الذي يكون فيه جِدّيًا، يتعرّض الفنان باستمرار لغواية قطع الحوار الذي لديه مع جمهور. الصمت هو المدى الأبعد لذلك النفور من الاتصال، لذلك التكافؤ بين الضدّين بشأن القيام باتصال مع الجمهور الذي هو باعث رئيس للفن الحديث، وبتعهّده الذي لا يكلّ لـ«الجديد» و/أو لـ«الباطني» يكون الصمت الحركة الميتافيزيقية النهائية للفنان؛ بالصمت، يحرّر نفسه من الرباط العبودي مع العالم، الذي يأخذ شكل ربّ عمل، زبون، جمهور، خصم، حَكَم، ومشوِّه لعمله.

ومع ذلك، في هذا الزهد بالـ«مجتمع»، لا يمكن لامرئ أن يخفق في ملاحظة حركة اجتماعية أرقى. بعض من التلميحات للتحرّر النهائي للفنان من الحاجة إلى ممارسة وظيفته تأتي من ملاحظته لأنداده الفنانين وقياس نفسه بهم. قرار نموذجي من هذا النوع يمكن أن يُتَّخَذ فقط بعد أن بَيَّنَ الفنان أنه يمتلك العبقرية، ومارس هذه العبقرية على نحو جازم. بتفوّقه سلفًا على أنداده، بالمعايير التي يسلّم بها، يبقى أمام الكبرياء مكانًا واحدًا فقط. لأنه، أن تكون ضحية للتوق إلى الصمت يعني أن تكون، في معنى آخر أعمق، أسمى من كل الآخرين. إنه يوحي بأن الفنان كان له من الفطنة بحيث يطرح أسئلة أكثر من الناس الآخرين، وكانت له أيضًا أعصاب أقوى ومعايير أرقى للجودة. (أن يستطيع الفنان أن يثابر على التحرّي عن فنّه حتى يُستنفد هو أو فنّه، هو ليس محلّ شكّ. كما كتب رينيه شار، «ما من طير له القلب ليغنّي في دغل من أسئلة»).

3

الاختيار النموذجي للفنان الحديث للصمت هو غالبًا ليس ينطوي على هذا التبسيط، لكي يصبح صامتًا حَرْفيًّا. على نحو نموذجي أكثر، هو مستمر بالكلام، لكن بطريقة لا يستطيع الجمهور أن يسمع فيها. الفن الأكثر قيمة في عصرنا كان مجرَّبًا من قبل الجمهور بوصفه حركة نحو الصمت (أو عدم فهم أو عدم رؤية أو عدم سماع)؛ بوصفه تفكيكًا لكفاءة الفنان، حسّه المسؤول برسالته – وبالتالي بوصفه عدوانا ضدهم.

عادة الفنان المزمنة في إثارة استياء، استفزاز، أو إحباط جمهوره يمكن أن تُعَدّ مساهمةً بديلية، محدودة في المثال عن الصمت الذي كان ساميًا كأول معيار للجدّية في المشهد المعاصر.

آرثر رامبو

لكنه أيضًا شكل متناقض في المثال عن الصمت: هو تناقض ليس فقط لأن الفنان لم يزل مستمرًّا في خلق أعمال الفن، بل أيضًا لأن عَزْل العمل عن جمهوره لا يدوم أبدًا. مع مرور الزمن وتدَخُّل أعمال أحدث، أكثر صعوبة، يضحي خطأ الفنان مُغتفَرًا، وفي النهاية شرعيًّا. غوته اتّهمَ كلايست بأنه يكتب مسرحياته لـ«مسرح غير مرئي». لكن مع الزمن أمسى المسرح غير المرئي «مرئيًّا». بات القبيح والمتنافر والخالي من المعنى «جميلًا». تاريخ الفن هو تعاقب من أخطاء ناجحة.

الهدف المميّز للفن الحديث، غير المقبول لدى الجمهور، يمكن أن يُعَدّ تعبيرًا عكسيًّا عن عدم قبول الفنان حضور الجمهور – بمعنى مألوف، تجمّع من متفرجين بصّاصين. على الأقل منذ أن لحظ نيتشه في “مولد التراجيديا” أن جمهورًا من متفرجين كما نعرفه، أولئك الذين يشكّلون ما يتجاهله الممثلون، كان غير معروف عند الإغريق، يبدو جزءًا كبيرًا من الفن المعاصر مدفوعًا بالرغبة في إلغاء الجمهور من الفن، مشروع غالبًا ما يمثّل نفسه كمحاولة لإلغاء «الفن» تمامًا. (لمصلحة الحياة؟)

التزامًا بالفكرة التي تقول: إن قوة الفن تكمن في الإنكار، يكون السلاح الحاسم في الحرب المتنافرة للفنان مع جمهوره هو المتاخمة الأقرب فالأقرب إلى الصمت. الفجوة الحسّية أو المفاهيمية بين الفنان وجمهوره، فضاء الحوار المفقود أو المقطوع، يمكنه أيضًا أن يشكّل الأرضية لتوكيد زاهد. يتحدّث سامويل بَكِت عن «حلمي بفن غير ممتعض من عَوْزه إلى الذي لا يُذلّل وفخور جدًّا بهزلية العطاء والاستلام». لكن ليس هناك من إلغاء لأدنى صفقة، أدنى تبادل للهبات، تمامًا كما ليس هناك من زُهْد موهوب وصارم لا يدرّ كسبًا (بدلًا من خسارة) في القدرة على الإمتاع.

ولا أي من العدوان المرتكب بقصد أو بغير قصد من قبل الفنانين الحديثين كان نجح سواء في إلغاء الجمهور أو تحويله إلى شيء آخر، جماعة مشغولة بنشاط مشترك. لا يستطيعون ذلك. طالما كان الفن يُفهَم ويُقَيَّم بوصفه نشاطًا «كاملًا»، لن يكون فنًّا منفصلًا، نخبويًّا. تفترض النُخَب سلفًا الجموع. إلى الحدّ الذي يقيّد فيه الفن الأفضل نفسه بأهداف «كهنوتية» أساسية، فإنه يفترض سلفًا ويؤكد الجوهر لسواد من ناس سلبيين نسبيًّا، غير ملقَّنين بشكل تام، بصّاصين، مدعوين إلى الاجتماع بانتظام للمشاهدة، الإصغاء، القراءة، أو السماع – ومن ثمّ يُصْرَفون.

الأكثر مما يمكن أن يفعله الفنّان هو اللعب بتعابير مختلفة في هذا الوضع قِبالة الجمهور ونفسه. تحليل فكرة الصمت يعني تحليل بدائل الفنان المتنوّعة داخل وضعه الذي لا يتبدّل أساسا.

4

كيف يمكن حرفيًّا لفكرة الصمت أن تُستخدَم باحترام في الفن؟

الصمت موجود بصفته قرارا – في الانتحار النموذجي للفنان (كلايست، لوتريامون) الذي يشهد إنه تجاوز الحدّ «كثيرًا»؛ وفي نموذج كهذا من التنازلات من قبل الفنان عن رسالته المذكورة سلفًا.

الصمت موجود أيضًا بصفته عقابًا – عقاب للذات، في الجنون النموذجي للفنانين (هولدرلين، آرتو) اللذين أظهرا أن جنون المرء نفسه قد يكون الثمن لتجاوز الحدود المقبولة للوعي؛ وبالطبع، في القصاص (الذي يتراوح بين الرقابة والتدمير المادي لأعمال الفن والغرامات، النفي والسجن للفنان) الموزَّع من قبل «المجتمع» بسبب الانشقاقية الروحية للفنان، أو بسبب إفساد حساسية المجموعة.

انغمار برجمان

لكن الصمت لا يمكن أن يكون موجودًا بالمعنى الحرفي بصفته تجربة جمهور. قد يعني هذا أن المشاهد لم يكن واعيًا بأي حافز، أو إنه عاجز على القيام باستجابة. لكن هذا لا يمكن أن يحدث أو يُستحَث على نحو مبرمج. عدم الوعي بأي حافز، العجز عن القيام باستجابة، يمكن أن يكون فقط نتيجة نقص حضور من جانب المشاهد، أو سوء فهم لردود أفعاله الخاصة به (مضلّلة بالأفكار المقيِّدة حول ماذا يمكن أن تكون عليه استجابة «هامّة»). لكن إلى الحدّ الذي يشتمل الجمهور فيه على كائنات واعية في وضع ما، لا يمكن أن يكون هناك شيء مثل عدم امتلاك استجابة على الإطلاق.

ولا يمكن للصمت، في حالته الحَرْفية، أن يوجد بوصفه الخاصّية لعمل فني – حتى لأعمال مثل أعمال ديشامب الجاهزة الصنع أو عمل كَيْج “4,33”، التي توقف فيها الفنان عن الإنجاز على نحو تفاخري لإرضاء معيار قائم عن الفن الذي يضع مادة الفن في غاليري أو يعيّن الأداء على مسرح كونشرتو. ليس هناك من مظهر خارجي حيادي، خطاب حيادي، ثيمة حيادية، شكل حيادي. شيء ما هو حيادي فقط فيما يتعلّق بشيء آخر. (انتباه؟ توقّع؟) كخاصّية للعمل الفني نفسه، يمكن للصمت أن يوجد فقط في معنى ملفّق أو غير حرفي. (لنعبّر عن ذلك بطريقة أخرى: إن وُجِدَ عمل فني على الإطلاق، فصمته هو عنصر واحد فيه فحسب.) بدلا من صمت خام أو تامّ، يمكن للمرء أن يجد حركات مختلفة متباينة في الاتجاه لأفق لا متناه من صمت – حركات، بطبيعتها ذاتها، لا يمكن أبدًا أن تُستهلَك بالكامل. نتيجة واحدة هي نوع لفن قد يميّزه الناس بازدراء بوصفه أبله، مكتئبًا، ميّالًا إلى الإذعان، باردًا. لكن هذه السمات الحرمانية توجد في سياق القصد الموضوعي للفنان، الذي هو دائمًا قابل للإدراك. لرعاية الصمت المجازي الملهَم بالموضوعات التقليدية التي بلا حياة (كما في كثير من البوب آرت) ولبناء أشكال «دنيا» التي تبدو أنها تفتقر إلى رنين عاطفي هي في حد ذاتها اختيارات قوية، غالبًا منشّطة.

وفي النهاية، حتى من دون عَزْو مقاصد موضوعية إلى العمل الفني، يبقى هناك الحقيقة التي لا مفر منها حول القدرة على الفهم: إيجابية التجربة كلها في كل لحظة منه. كما كان جون كيج يصرّ، «ليس هناك من شيء يدعى صمتًا. ثمة دائمًا شيء يحدث يصنع صوتًا». (كان كيج يصف كيف، حتى في حجرة بلا صوت، ظلّ يسمع على الأقل شيئين: ضربات قلبه وجريان الدم في رأسه.) وبالمثل، ليس هناك من شيء يدعى مكانًا فارغًا. طالما تنظر العين فهناك دومًا شيء للنظر. أن تنظر إلى شيء «فارغ» فما زال هو شيء يُنظَر إليه، يُرى – إلّا إذا كانت أشباح المرء الخاصّة به. من أجل أن يرى المرء الامتلاء، يجب أن يحتفظ بمعنى دقيق عن الفراغ الذي يضع حدًّا له. وبالعكس، من أجل أن يرى المرء الفراغ، يجب أن يفهم المناطق الأخرى من العالم بوصفها ممتلئة. (في “عبْر المرآة”، تأتي ألِس إلى محل «مليء بكل الأنواع من أشياء غريبة – لكن الجزء الأغرب من الكل كان أنها متى ما نظرت بتمعّن إلى أي رفّ، لتستبين بالضبط ما كان عليه، كان الرف المذكور دائمًا فارغًا تمامًا، على رغم أن الرفوف الأخرى من حوله كانت مكتظّة بقدر ما يمكنها حمله»).

«الصمت» لا يكفّ أبدًا عن التلميح إلى ضدّه، والمطالبة بحضوره. وكما لا يمكن أن يكون هناك «فوق» من دون «تحت» أو «يسار» من دون «يمين،» كذلك على المرء أن يعترف ببيئة محيطة من أصوات أو لغة في سبيل التعرّف على الصمت. لا يوجد الصمت فقط في عالم مليء بالكلام والأصوات الأخرى، لكن كل صمت معيّن يأخذ هويته بوصفه مدّة من الزمن مثقّبة بالأصوات. (بالتالي، كثير من جمال بَكَم هاربو ماركس مستمد من كونه محاطًا بمتحدثين مهووسين).

فراغ خالص، صمت محض، غير معقولين – لا في التصوّر ولا في الواقع. لأن العمل الفني موجود في عالم مجهّز بأشياء أخرى كثيرة، ينبغي على الفنان الذي يخلق الصمت أو الفراغ أن ينتج شيئًا ديالكتيكيًّا: خواء كاملًا، فراغًا مُثْرًى، صمتًا رنّانًا أو بليغًا. يبقى الصمت، على نحو لا مفرّ منه، شكل من أشكال الكلام (في أمثلة كثيرة، من شكوى أو اتّهام) وعنصر في الحوار.

5

البرامج الجمالية لاختزال الوسائل والتأثيرات في الفن – من ضمنها المطلب النهائي، للتنازل عن الفن نفسه – لا يمكن أن تؤخذ بظواهرها، على نحو غير ديالكتيكي. هذه ليست سياسة متماسكة للفنانين ولا مجرد لَفَتات عدائية هدفها الجمهور. الصمت والفكرات المؤيِّدة (مثل الفراغ، الاختزال، الـ«درجة صفر») هي مفاهيم حدودية بمجموعة من الاستعمالات المعقدة؛ تعابير رئيسة لبلاغة روحية وثقافية خاصّة.

وصف الصمت بالتعبير البلاغي هو، بالطبع، بعيد من إدانة هذه البلاغة بوصفها احتيالًا أو نيّة سيئة. حقيقة الأساطير هي ليست حقيقة حَرْفية أبدًا. أساطير الفن المعاصر يمكن أن تقيَّم فقط بتعابير التنوّع وخصوبة تطبيقها. في رأيي، أساطير الصمت والفراغ هي مزدهرة وقابلة للحياة بقدر ما يمكن للمرء أن يأمل بحيث تُبتكَر في زمن «سقيم» – الذي هو، بالضرورة، زمن توفّر فيه الحالات المادّية «السقيمة» الطاقة لأكثر الأعمال سموًّا في الفنون اليوم. في الوقت ذاته، لا يستطيع المرء إنكار العنصر المثير للشفقة في هذه الأساطير.

هذا العنصر ينبع من واقع أن أفكار الصمت تتيح، بشكل جوهري، نوعين فحسب من التطوّرات الهامّة. إمّا أنها تؤخذ إلى حدّ إنكار الذات المطلق (بوصفها فنًّا) أو تمارَس في شكل هو بطوليّ، متماسك على نحو بارع.

6

فن عصرنا ضاجّ بنداءات للصمت.

عدمية لعوب، وحتى فَرِحة. يعترف المرء بضرورة الصمت، لكنه يواصل الكلام على أي حال. حين يكتشف أن ليس لديه ما يقوله، يبحث المرء عن طريقة لقول ذلك.

فريدريش هولدرلين

كان بَكِت يعبّر عن الأمنية بأن الفن سيبتعد من كل المشروعات الإضافية للمسائل المزعجة على «المستوى الممكن»، بأن الفن سيعتزل، «مرهقًا من المآثر الهزيلة، مرهقًا من التظاهر بقدرته على القيام بنفس الشيء القديم على وجه أفضل، من الذهاب أبعد على طول طريق مظلم». البديل هو فن يتألّف من «التعبير الذي لا يوجد شيء يعبِّر عنه، لا شيء يعبِّر عنه، لا شيء منه يعبِّر عنه، لا قوّة للتعبير عنه، لا أمنية بالتعبير عنه، سويةً مع وجوب التعبير عنه». من أين يُستمَد هذا الوجوب؟ الجمالية الحقيقية لأمنية الموت تبدو أنها تصنع من تلك الأمنية شيئًا حيًّا غير قابل للإصلاح.

يقول أبولينير، «J’ai fait des gestes blancs parmi les solitudes.» لكنه يقوم بحركات.

بما أن الفنان لا يستطيع أن يعتنق الصمت حرفيًّا ويبقى فنانًا، فإن ما تشير إليه بلاغة الصمت هو تقييد السعي لنشاطه بطريق غير مباشرة أكثر من ذي قبل. طريق واحدة مشار إليها في فكرة بريتون عن «هامش ممتلئ». الفنان مستمتع بتكريس نفسه لإملاء الحدّ الخارجي لفضاء الفن، تاركًا المركز لمنطقة فارغة من الاستعمال. الفن يصبح خصوصيًّا، أنيميًّا – كما هو مستوحى من عنوان الجهد الوحيد لديشامب في صنع فيلم، «سينما أنيمية»، عمل من المدة 1924-26. يصف بكت الفكرة عن «رسم مُفْقَر»، رسم هو «في الأصل عقيم، عاجز عن أي صورة أيًّا كانت». واحد من بيانات جيرزي غروتوفسكي لمسرح المختبر في بولندا يدعى “نداء لمسرح فقير”. لكن هذه البرامج لإفقار الفن لا ينبغي أن تُفهَم ببساطة بوصفها ملامة إرهابية للجمهور، بل بوصفها إستراتيجيات لإفقار تجربة الجمهور. فكرة الصمت، الفراغ، الاختزال، تخطيط فهم جديد للنظر، السمع، إلخ. – على نحو أكثر دقّة، إمّا لامتلاك تجربة حسّية، أكثر مباشرة للفن أو لمواجهة العمل الفني بطريقة فكرية، أكثر وعيًا.

7

انظروا الصلة بين التفويض باختزال الوسائل والتأثيرات في الفن، الذي يكون أفقُه الصمت، وبين مَلَكة الانتباه. لأن الفن في واحد من جوانبه، هو تقنية لتركيز الانتباه، لتعليم مهارات الانتباه. (في حين هذا الجانب من الفن ليس وقفًا عليه – كل البيئة البشرية يمكن أن تُوصَف بهذه الطريقة، كأداة بيداغوجية – فإنه بالتأكيد جانب استثنائي، مكثّف للعمل الفني). تاريخ الفن هو الاكتشاف والصياغة لذخيرة من موضوعات عن تشتيت الانتباه؛ يمكن للمرء أن يتابع بالضبط وبالترتيب كيف تمسح عين الفن أفقيًّا وعموديًّا بيئتنا، «تعطيها اسمًا»، التي من خلالها يجعل الانتخاب المحدّد للأشياء الناس واعين بها بوصفها كيانات هامّة، ممتعة، معقدة. (كما أشار أوسكار وايلد، لم ير الناس ضبابًا قبل شعراء ورسّامين معينين من القرن التاسع عشر الذين علّموهم كيف يرون؛ بالتأكيد،

ما من أحد رأى هذا القدر من التنوّع والفطنة للوجه البشري قبل عصر السينما).

ذات مرّة، بدت مهمة الفنان بسيطة، تلك المهمة التي تفتح مناطق وأشياء جديدة من الانتباه. تلك المهمة لم يزل معترفًا بها، لكنها أصبحت إشكالية. ملكة الانتباه نفسها صارت موضع شكّ، وكانت موضوعًا لمعايير أكثر صرامة. كما قال جاسبر جونز، «أنه سلفًا كثير جدًّا أن ترى شيئًا بوضوح، لأننا لا نرى أي شيء بوضوح».

ربما ستكون ميزة الانتباه الذي نمارسه على شيء، أفضل (أقلّ تلوّثًا، أقلّ تشتتًا) كلّما قلّ الذي يُعرَض لنا. مُجَهَّزًا بالفن المفْقَر، مطهَّرًا بالصمت، قد يكون المرء عندئذ قادرًا على البدء بتجاوز انتقائية محبِطة للانتباه، بتشويهاتها المحتومة للتجربة. على نحو مثالي، على المرء أن يكون قادرًا على إضفاء الانتباه على كل شيء.

الحركة هي في صوب الأقلّ فالأقلّ، لكن لم يكن لها «الأقلّ» أبدًا مُقدِّمًا نفسه على نحو متباهٍ جدًّا كما «الأكثر». في ضوء الأسطورة الحالية، التي ستصبح فيها أهداف الفن «تجربةً كاملة»، مستدرجة انتباهًا كاملًا، تدلّ إستراتيجيات الإفقار والاختزال على الطموح الأكثر سموًّا، الذي يمكن أن يتبنّاه الفن. تحت ما يبدو تواضعًا جهيدًا، إن لم يكن ضعفًا حقيقيًّا، هو تجديف علماني فعّال: الأمنية بالحصول على وعي كامل، غير انتقائي، غير مقيَّد عن «الربّ».

8

تبدو اللغة استعارة تتمتّع بامتياز التعبير عن الشخصية المتوسطة بين صانع الفن وعمل الفن. من ناحية، الكلام هو وسيط غير مادّي (مقارنةً مع، لنقل، الصور) ونشاط بشري مع استثمار جوهري ظاهر في مشروع السموّ، مشروع تجاوز الفردي والطارئ (كل الكلمات تكون تجريدية، مبنية فقط بشكل خام على، أو ترجع إلى، مفردات متماسكة). لكن من ناحية أخرى، اللغة هي الأكثر بذاءة، الأكثر تلوّثًا، الأكثر استنزافًا من كل المادّيات التي صُنِع منها الفن.

مارسل ديشامب

هذه السمة الثنائية للغة – تجريديتها، و«انحلالـ»ها في التاريخ – يمكن أن يؤدي اليوم غرض مكروسومات للشخصية التعِسة للفنون. الفن هو حتى الآن سائر على طول ممرات المتاهة لمشروع السموّ بحيث يَصعب تصوّره راجعًا إلى الوراء، بدلًا من «الثورة الثقافية» الأكثر صرامة وقصاصًا. ومع ذلك، الفن، في الوقت ذاته، هو الفشل في المدّ والجزْر الموهن لما بدا يومًا الإنجاز المتوّج للفكر الأوربي: وعي تاريخي علماني. في أقل من قرنين، حوَّلَ وعي التاريخ نفسه من تحرّر، فتْح أبواب، تنوير مبارَك، إلى عبء تقريبًا لا يُطاق للوعي الذاتي. يستحيل على الفنان كتابة كلمة (أو تقديم صورة أو صنع حركة) لا تذكّره بشيء ما. إلى حدّ معين، المجتمع وتاريخانية وسائل الفنان متضمنة في الواقع الفعلي لما بين الذاتين: كل شخص هو كائن في عالم. لكن هذا المدخل الاعتيادي للمسائل بدا اليوم (خاصة في الفنون التي تستخدم اللغة) مشكلة استثنائية، مرهقة.

كما قال نيتشه: «نحن نعيش في عصر المقارنة، نستطيع أن نتحقق كما لو لم نتحقق من قبل أبدًا». لذلك، «نستمتع على نحو مختلف، نعاني على نحو مختلف: نشاطنا الغريزي هو مقارنة عدد من الأشياء لم يسمع بمثلها قط». اللغة لا تُجرَّب بوصفها شيئًا متقاسَمًا فحسب، بل أيضًا بوصفها شيئًا مفسَدًا، مثقَلًا بتراكم تاريخي. بالتالي، لكل فنان واعٍ، إبداع عمل يعني التعامل مع مجالين معارضين محتملين للمعنى وعلاقاته. واحد هو معناه الخاص به (أو الافتقار إليه)؛ الآخر هو مجموعة المعاني ذات المرتبة الثانية التي توسّع لغتها الخاصة بها وتثقل كاهلها أيضًا، تعرّضها للخطر، وتزني بها. ينتهي الفنان بالاختيار بين بديلين محدودين على نحو متأصّل. هو مجبر على أخذ واحد من وضعين إمّا خانع أو وقح: إمّا يتملّق ويسترضي جمهوره، مانحًا إيّاهم ما يعرفونه سلفًا، أو يعادي جمهوره، مانحًا إيّاهم ما لا يريدونه.

الفن الحديث بالتالي يتسامى بكامل الاغتراب المنتِج من قبل الوعي التاريخي. مهما أنجز الفنان، فهو (غالبًا بوعي) يتآلف مع شيء آخر منجَز سلفًا، مُحْدِثًا اضطرارًا ليعيد فحص وضعه باستمرار، موقفه الخاص من أولئك السابقين له والمعاصرين. تعويضًا عن استعباده المشين للتاريخ، يتسامى الفنان مع الحلم بفن تاريخي بالكامل، وبالتالي لا مغترب، الفن الذي هو «صمت». يشكّل مقاربة واحدة من هذه الحالة الخيالية، التاريخية.

فكّروا بالفرق بين «النظر» و«التحديق». النظر هو (على الأقل، جزئيًّا) إرادي؛ إنه أيضًا متنقّل، صاعد هابط في تكثيف، إذ تؤخذ مراكز اهتمامه إلى الأعلى ومن ثم تُستنزَف. التحديق له، جوهريًّا، سمة الاضطرار؛ إنه ثابت، غير مقنَّن، «شاخص».

الفن التقليدي يدعو إلى نظر. الفن الذي يكون صامتًا يُحْدِث تحديقًا. في الفن الصامت، ليس هناك (على الأقل، من حيث المبدأ) إعتاق من الانتباه، لأنه لم يكن هناك أبدًا، من حيث المبدأ، أي اِلتماس إليه. التحديق هو ربما بعيد من التاريخ، قريب من الأبدية، يقدر ما يمكن أن يبلغه الفن المعاصر.

10

الصمت هو استعارة لرؤيا مطهَّرة، غير متعارِضة، يمكن للمرء فيها تصوّر صنع أعمال الفن التي لا تتجاوب قبل أن تكون مرئية، غير قابلة للجرح في كرامتها الجوهرية من خلال الرقابة البشرية. المشاهد يود الاقتراب من الفن إذ هو يرى منظرًا طبيعيًّا. منظر طبيعي لا يلتمس من المشاهد «فهمـ»ـه، ادعاءته للمعنى، قلقه وتعاطفه؛ إنه يتطلّب، بالأحرى، غيابه، الذي لا يضيف إلى المنظر الطبيعي شيئًا. التأمّل، على وجه التدقيق، يتضمّن نسيان الذات لدور المشاهد: شيء يستحق التأمّل هو شيء، في الواقع، يبيد الموضوع المتتبّع.

إنه إلى امتلاء مثالي كهذا الذي لا يمكن أن يضيف إليه الجمهور شيئًا، مماثل للعلاقة الجمالية مع «الطبيعة»، إنما يطمح الجزء الأعظم من الفن المعاصر – عبْر إستراتيجيات مختلفة من التفاهة، والاختزال، واللافردية، واللامنطقية. من حيث المبدأ، قد لا يضيف الجمهور حتى أفكاره. كل الأشياء، المتخيَّلة كثيرًا، هي في الحق ملأى. لا بد أن هذا ما كان كيج يعنيه عندما قال، مباشرة بعد الشرح: إنه ليس هناك من شيء يدعى صمتًا، لأن ثمة دائمًا شيء يحدث يصنع صوتًا، قال «لا أحد يستطيع امتلاك فكرة إذا بدأ حقًّا بالإصغاء». الامتلاء – كل الفضاءات مجرَّبة بوصفها ممتلئة، لذلك لا يمكن للأفكار أن تدخل – يعني اللانفاذية، اللاشفّافية. أن يصمت الشخص يعني أن يصبح غير شفّاف للآخر؛ صمت أحد ما يفتح صفًّا من احتمالات لتفسير هذا الصمت، لإسناد الكلام إليه.

الطرق التي تثير بها اللاشفافية القلق، الدُوَار الروحي، هي ثيمة فيلم بيرغمان “برسونا”. الثيمة معزَّزة بالخاصّتين الرئيستين، يدعوهما المخرج إلى تقديم الصمت المقصود للممثلة. وإذ تعد الممثلة الصمت قرارًا يتعلّق بها هي نفسها، فإنه، من الواضح، طريقة اختارتها لإضفاء شكل على الأمنية بنقاء أخلاقي؛ لكنه أيضًا، كسلوك، وسيلة قوة، نوع من سادية، قوة تتغلّب بها على رفيقتها الممرضة المثقلة بعبء الكلام.

لكن من الممكن تصوّر لا شفافية الصمت بشكل حقيقي أكثر، بشكل حرّ من القلق. بالنسبة لكيتس، صمت الجرّة الإغريقية هو مكان لتغذية روحية: تقبّل ألحان «غير مسموعة»، في حين تتجه نحو «الأذن الحسّاسة». الصمت هو معادل للزمن المتوقف «الزمن البطيء». يمكن للمرء أن يحدّق بلانهاية إلى الجرّة الإغريقية. الخلود، في مرافعة كيتس، هو الحافز الوحيد المثير للاهتمام، للتفكير، وليقدّم لنا كذلك المناسبة الوحيدة للوصول إلى نهاية النشاط العقلي التي تعني أسئلة بلا جواب، لانهاية لها «أنتِ، يا شكل الصمت، تأخذينا من الفكر/ كما تفعل الأبدية»، كي يمكن للمرء الوصول إلى سؤال عن الأفكار «الجمال هو الحقيقة، الحقيقة هي الجمال» الذي هو بلا معنى كليًّا وممتلئ تمامًا معًا. تنتهي قصيدة كيتس على نحو منطقي تمامًا في قول سيبدو، إن لم يتابع المرء حجته، مثل حكمة فارغة، مثل ابتذال. الزمن، أو التاريخ، يصبح الوسيط للفكر النهائي، المحدود. صمت الأبدية يتهيأ لفكر ما بعد الفكر، الذي يجب أن يبزغ من منظور التفكير التقليدي والاستخدامات المألوفة للعقل بوصفه ليس فكرًا على الإطلاق، على رغم أنه بالأحرى يمكن أن يكون شعارًا لتفكير جديد، «صعب».

لتحميل كتب سوزان سونتاغ

حول الفوتوغراف

ولادة ثانية اليوميات المبكرة 1947 1963

كما يسخر الوعي للجسد : يوميات 1964-1980

ضد التأويل ومقالات أخرى

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى