أفلام

عصر البراءة/ مارتن سكورسيزي

في فيلمه «عصر البراءة» : سكورسيزي يرسم وجه نيويورك الخفي

محمد عبد الرحيم

قدَّم مارتن سكورسيزي عدة أفلام، تناولت مجتمع نيويورك، بداية من سنوات التكوين الأولى، والصراع بين السكان الأصليين، والمبشرين، كما في «عصابات نيويورك» 2002 وقبلها قدَّم نيويورك في النصف الثاني من القرن الـ 19 كاشفاً عن التقاليد البالية المُستعارة من المجتمع الإنكليزي، والوله بتقليد كل ما هو أوروبي، وهي مرحلة عدم الثقة في النفس، التي عانتها أمريكا لفترة طويلة، قبل أن تصبح دولة عظمى. في فيلمه «عصر البراءة» 1993 والمأخوذ عن رواية بالاسم نفسه صدرت عام 1920

لـ إديث وارتون، يكشف سكورسيزي عن طبيعة هذا المجتمع، وقيود التقاليد الصارمة التي وضع نفسه تحت رحمتها، حتى يلقى الاحترام والتبجيل، مجتمع مزيف العلاقات، رتيب المشاعر، يبدو الفرد فيه كآلة محدد دورها سلفاً، وعليها القيام بهذا الدور على الوجه المرسوم بدقة، وإلا كان مصيرها الطرد أو النفي خارج دائرة الأوهام البالية هذه. الفيلم بطولة دانيال دي لوي، ميشيل فايفر ووينونا رايدر، وحصل على عدة جوائز، أهمها أوسكار لأفضل تصميم أزياء، كما رُشح لأوسكار أفضل ممثلة دور ثانٍ، أفضل سيناريو مأخوذ عن عمل أدبي، وأفضل موسيقى. مع ملاحظة أن هناك فيلماً آخر عن الرواية نفسها تم إنتاجه في عام 1934 من إخراج فيليب مويلر.

الروح الرومانتيكي الشرير

يدور الفيلم في سبعينيات القرن التاسع عشر، حيث عالم الأُسر الأرستقراطية المرسوم بدقة، البراق من الخارج، والواهن والمزيف من الداخل. يرتبط المحامي الشاب (نيولاند أرشر/دانيال دي لوي) بالفتاة الجميلة (ماي ويلاند/وينونا رايدر) ويستعد كل منهما لمراسم الخطبة، في ما تأتي فجأة قريبة الفتاة (إلين أولينسكا/ميشيل فايفر) من أوروبا، وقد تركت زوجها، ما يجعلها فريسة لأقاويل الأرستقراطية الأمريكية، خاصة أن الجميع ينظر لها بعد اختيارها هجر زوجها، بل وطلبها الطلاق، على أنها بمثابة الشيطان الذي حضر ليُفكِك الصورة المثالية الموهومة لنساء ذلك العصر، فيبتعد عنها الجميع ــ خاصة النساء ــ ويرغبها الجميع أيضاً من مجموع الرجال، يريدون هذه المرأة المتمردة على التقاليد في ظلام مخيلتهم، قبل ظلام مخادعهم. تبدأ علاقة الحب بين نيولاند وإلينا، ما يهدد مشروع زواجه المُقدّر سلفاً بينه وبين خطيبته، ليبدو الأمر فضيحة تهدد الجميع، لتحل إلين المشكلة في النهاية، فتعود سيرتها إلى أوروبا. لقد اختارت المرأة ودفعت حبها ثمناً، أما الرجل فانحاز وخاف من تبعات اختياره، وأتمَّ زواجه من فتاة التقاليد الأرستقراطية، ليعيش كمومياء تقرأ تاريخها في عذاب لن ينقضي.

الاختيار

لم تكن قصة الحب في الفيلم، وفي الرواية في الأساس إلا ثيمة ضمن فكرة أكبر، وهي تبعات لحظة الاختيار الحُر، في مجتمع يقع تحت عبء التقاليد، وخاصة أن العواقب الوخيمة تلوح كل لحظة في وجه مَن يفكر في كسر هذه القواعد الصارمة، فالحكايات حول موائد الطعام، وشرفات القصور تدور دوماً عن الرجل الذي فرَّ من جنة التقاليد ــ وفق وجهة نظر المتندرين ــ وخسر كل شيء، وعن المرأة التي صار شبح سوء سمعتها يُطاردها، فالنبذ هو العقوبة المعروفة سلفاً، أما لو تمَّت مثل هذه العلاقات في إطار من السريّة، وداخل جدران البيوت التي تجمّلها الصور الرائعة، فلا ضرر. إذاً، ينتصر الفيلم للمرأة وقدرتها على مواجهة الجميع، ودفع ثمن حريتها، أما الرجل، فهو مُكبّل أكثر منها بتراث لا ينتمي إليه في الأساس، وهنا تكمن المفارقة الهزلية لتسمية الفيلم بـ «عصر البراءة». ورغم تاريخ إنتاج الفيلم ــ وقبله الرواية ــ إلا أن فكرة النبذ والنفي يبدو أنها ستلازم طويلاً الفكر الأمريكي، ذلك على المستوى السياسي في الوقت الراهن، قبل أن يكون اجتماعياً في ما سبق، كآفة في التكوين لم يبرأ منها حتى الآن، مهما ادعى غير ذلك.

هل هو بريء حقاً؟

يستند سكورسيزي إلى الرواية في الكثير من التفاصيل، وعمل إطار شِبه توثيقي لتلك الفترة، الأزياء والأكسسوارات، وأنواع الطعام، وإيقاع العصر المُتسِم بالبراءة، وحتى يكشف للمجتمع الأمريكي طبيعة تكوينه، في ظل البريق الزائف، يحاول تكسير وتحطيم الصورة التقليدية لطبيعة تلك المرحلة، فبين هذا الجمال في التفاصيل وهذه الدِقة في تصوير الجو العام، تأتي الشخصيات الحائرة والمكبوتة، لتكشف زيف تابو البراءة المفقود، وأن السبيل لاكتشاف الشخصية الفردية الأمريكية، والحرية التي يتمتع بها أفراده الآن، لم تكن وريثة تاريخ يُنادي بها، بل جاءت نتيجة ردة الفعل، لا أكثر، ومعاناة شديدة، حتى تخلص المجتمع الأمريكي من سخافات التقليد لمجتمع قام باحتلال أرضه من قبل/عقدة كل ما هو إنكليزي، وأوروبي عموماً، فيكشف الفيلم عن عصر لا ينتمي لأي براءة، ولكنه يسحق أي شعور بريء في التغيير، فالصراع قائم بين التقاليد وضريبة كسرها والتمرد عليها، حتى لو في الخيال، الذي لم يصل لمجال الفعل، ويتمثل هنا في الشائعات التي ظلت تراود نيولاند طوال حياته، لمجرد تفكيره في الارتباط بامرأة قررت الوقوف بمفردها ضد طبيعة مجتمع أسير تقاليد انتهت، والتي تعلق على ما حولها بعبارات دالة عند عودتها من باريس، قائلة «أذكر الجميع كما كانوا، بالملابس نفسها. إن أكثر ما يعجبني في أهل نيويورك هو طاعتهم العمياء لتقاليد الآخرين».

التكنيك والإيقاع

اعتمد سكورسيزي اللقطة العامة والمتوسطة، لإظهار الفضاء المكاني وتفاصيل ذلك العصر. هذا من ناحية، إضافة إلى الإيحاء بإيقاع الشخصيات، التي تتحرَّك خلال هذا الحيّز، الخطوات البطيئة، والمشية المعتدلة في قامة منتصبة. حتى في المشهد الأخير من الفيلم، وهو انتظار نيولاند أسفل شرفة إلين، نجد لقطة عامة تجمعه بابنه، الذي يتركه جالساً يتأمل الشرفة، من دون أن يصعد، فقط ظِل امرأة ترقبه وهما في سِن الشيخوخة، حتى يظل يحتفظ بصورتها، كما كانت حين هجرته. أمر آخر يؤكد الإيحاء بهذا الإيقاع، من خلال تكوين الكادر عن طريق اللعب بالنور والظِل، لتبدو الكادرات أشبه بلوحات تلك الفترة، حيث الاهتمام المسرف بتفاصيل الأزياء وإكسسوارات المكان والشخصيات. لعبة النور والظِل هذه تأخذ معناها الدرامي عن طريق الشخوص، فإلين على سبيل المثال، كانت دائماً تدخل من أبواب مُشرعة، ويبدو أنها تدخل من عالم مضيء كروحها، حتى تستقر في الإضاءة الأقل نسبياً، حينما تصبح بين شخصيات المجتمع النيويوركي، كذلك اللقاءات بينها وبين نيولاند في البداية، سواء في الحدائق أو شرفات القصور، بخلاف تفاقم الأزمة بينهما، وقرارها الابتعاد عنه، حتى لا تعكر صفو استقرار حياته الرتيب. يتم ذلك في كوخ أو ما أشبه بحديقة نائية، ليصبح اللقاء بينهما وكأنه إحدى اللوحات الشهيرة لرسامي تلك الفترة. من خلال هذه التفاصيل والتوثيق لمفردات ذلك العصر، الذي تمثل في نوعية الموسيقى وعروض الأوبرا، والرقصات الاحتفالية في المناسبات، واستحضار جميع متناقضات تلك الفترة. عصر كامل يشيعه سكورسيزي برحمة، رغم قسوته على شخوصه.

القدس العربي»

لمشاهدة الفيلم من الرابط التالي

عصر البراءة/ مارتن سكورسيزي

أو من الرابط التالي

عصر البراءة/ مارتن سكورسيزي

صفحات سورية ليست مسؤولة عن هذا الملف، وليست الجهة التي قامت برفعه، اننا فقط نوفر معلومات لمتصفحي موقعنا حول أفضل الأفلام الموجودة على الأنترنت

The Age of Innocence (1993)

Director: Martin Scorsese


اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى