وجها لوجه

هدى بركات: أنا مِن مكان آخر

نيويورك – ابتسام عازم

كان لقائي بالروائية هدى بركات، في شقتها بمدينة هانوفر، بالقرب من “كلية دارتموث”، في ولاية نيوهامبشير الأميركية. استقبلتني، كما في لقاءات سابقة لنا، بابتسامة وعينين تذكّر زرقتهما ببحر بيروت. كان دفؤها وعدم التكلف في تعاملها حاضراً كما في كل مرة.

هذه هي المرة الثالثة التي تستضاف فيها بركات كأديبة زائرة لتدرّس فصلاً دراسياً أو أكثر حول الأدب العربي أو حول أعمالها في الولايات المتحدة. قبل “دارتموث” التي مكثت فيها حتى نهاية أيار/مايو تقريباً، كانت في السنوات الماضية قد تعاونت مع جامعات “هيوستن” و”تكساس”.

ما كدنا نبدأ بشرب قهوتنا حتى بدأت تدخّن كعادتها، لكن السيجارة كانت هذه المرة إلكترونية، لأن التدخين ممنوع في الشقة. تحدّثت بشغف عن الحرية التي تعطيها لها هذه الإقامات وعن جيل من الشباب الأميركي – على عكس الآراء المسبقة – بات يرغب في معرفة ما هو مختلف عن الروايات الرسمية لحكومة بلاده عن المنطقة العربية. جيل يرغب في قراءة الأدب العربي لفهم أفضل للمنطقة. وكان لنا هذا الحديث المطوّل الذي مرّت فيه ساعتان كأنهما دقيقتان.

■ لنبدأ الحديث انطلاقاً من نظرتك للرواية، العربية خاصة؟ هل ترين أنها تلعب دوراً محورياً وربما تشكّل تاريخاً بديلاً، كما يرى البعض، وخاصة للمهمشين؟

– عندي قناعة بأن الرواية العربية أصبحت بمستويات ممتازة، منذ أن خرَجت من الدور الاجتماعي المنوط بالكاتب كشخص يحدّد القيم الأخلاقية ويكشف الحقائق.. إلخ. أصبح هناك وعي بالسرد وعلى مستوى عالمي، بغض النظر عن كيف نقيّم أدبنا.

هناك جيل كامل، في الغالب من الشباب، يقرأون بشكل مختلف. لقد بقينا ولفترة طويلة إما في خدمة الأنظمة أو المعارضة، فترةٌ تحرّك فيها السرد العربي، في الغالب، ضمن حدود ضيقة. وكأن الرواية لم تخدم دائماً نفسها، بل مسائل أخرى. اليوم، تبدو الرواية العربية وقد بدأت تبحث عن نفسها وتفترض وتتخيّل.

أضف إلى ذلك أن الحراك الذي شهدته عدة بلدان في المنطقة ويأس الشباب لنتائجه، إضافة إلى موجات الهجرة الكبيرة التي نتجت عنه، جميعها سوف تولّد حالات وعي تنضج بالرواية أكثر فأكثر، بل إن بعضها بدأ يتجلى. وأشعر أن الرواية العربية قد خرجت من الهامش الفلكلوري وأصبحت في مناطق متقدمة أينما كانت.

والآن، يصعب الحديث عن الرواية العربية من دون المقارنة كذلك بما يحدث حول العالم من كتابة روائية. حالة الوعي بالسرد أصبحت متقدمة أكثر على حالة الثقافة بالوعي. أي أننا نكتب أجمل مما نفكر. كما أن أدبنا ما زال يسبق وضعنا الواقعي وقدرتنا بوعينا كـ”مثقفين” للتعبير عن وضعنا.

لماذا؟ هذه المرحلة مرتبكة من دون قراءة واضحة لواقعنا. هذا لا يضر الأدب بل على العكس. قد يكون هذا الوضع “السائل” مضراً بأدوات معرفية أخرى كالفلسفة وعلم الاجتماع مثلاً، لكنه مثير للرواية.

■ روايتك الأخيرة “بريد الليل”، هي الرواية الوحيدة التي تجري أحداثها بشكل رئيسي خارج لبنان، أو تكون شخصياتها الرئيسة في الغالب غير لبنانية. خلال قراءتي للرواية تولّد لديّ الانطباع أننا نتحدث هنا عن مرايا مكسورة. قصص تبدأ من الوسط أو لا تنتهي. إلى أي مدى انعكست هذه الحالة “السائلة” التي تحدثتِ عنها سابقاً والموجودة في العالم العربي في هذه الرواية؟

– اختلفت كتابة “بريد الليل” مقارنة بباقي رواياتي. كانت الرسالة الأولى بداية لرواية أخرى، بدأتُ كتابتها من دون أن تكون على شكل رسالة. وكانت عبارة عن شخص يحاول، عن طريق الحديث مع نفسه، فهم ما إذا كان يحب تلك المرأة أم لا. ثم تركتها لإحساس لديّ أن الراوي لم يعد بإمكانه أن يستمر.

ولكن لاحقاً أحسست أنني لم أفهم الشخصية وأنها مختلفة وأعدت كتابتها على شكل رسالة يكتبها وهو خارج بلاده ولا يمكنه العودة إليها. تزامن ذلك مع مشاهدتنا صوراً لسوريين وأفارقة وتونسيين وغيرهم، يحاولون الهجرة بعدما انكسر “الربيع العربي”، الذي لم يتمكن من الوصول ليكون ربيعاً. وكأن كل الناس كرهت بلادها لدرجة أصبحوا فيها مستعدّين لمواجهة الموت وتركها. كانت هذه عبارة عن هجرات أصبح فيها الهروب من الوطن ضرورياً بالنسبة لهم، مهما كلّف الأمر.

كان العرب يهربون ويهاجرون، ومنذ عقود، إما بحثاً عن حياة أفضل أو هرباً من الديكتاتوريات وغيرها. ولكن هذه المرة الأمر أقرب إلى “الهج” كما يقال بالعامية. وكأنه هواء أصفر احتل كل مكان، أو لأن فيروساً فظيعاً انتشر في شتى البلدان العربية. والكل يسير في صحراء الله.

وجدت أن هناك نوعاً جديداً من المشرّدين، يخرجون من أماكنهم يرمون أنفسهم في البحار بأي طريقة، يدفعون ما لديهم من مال لمن يؤمّن لهم عبوراً ما، مدركين في آن الوقت أنه كاذب. يصِلون إلى نقطة ما حاملين أمراضهم معهم. ولا توجد عندي نظرة ملائكية عنهم. قد يتلقاهم من هو مرحّب ويتعامل معهم كملائكة، لكنهم يصطدمون في الغالب بالاحتقار وهو يتجلى بمعان مختلفة.

هؤلاء الذين يطالبون بفتح الحدود غالباً لا يسألون كيف أمكن للوضع أن يصل إلى هذا الحد؟ لماذا تعاملت حكوماتهم مع الديكتاتوريات؟ هناك قسم آخر يطالب بإغلاق جميع الأبواب. في الحالتين ينظر للناس ككتل، كمجموعة من القطعان، أطعموهم أو أخرجوهم. تكذب الشخصيات في رسائلها كثيراً. وعندها تحايلٌ ومزيج من العنف الذي تربّوا معه وهم يحاولون الدفاع عن أنفسهم. إذن، هنا ليست محاولة للدفاع عنهم ولكن للإنصات إليهم. في الحالتين لا يوجد تعاطٍ مع تعقيدات الوضع لمحاولة فهمه وحلّه.

كتبتُ هذه الرواية عدة مرات. وفي الكتابة الأخيرة قمت بحذف الكثير منها لأننا نتحدث هنا عن أناس يركضون، أي أنهم لن يستطيعوا أن يجلسوا ويتحدثوا ويستفيضوا في الشرح. إيقاع الرواية كان مختلفاً، لدرجة أنه كان من الضروري أن تكون متسارعة، فهي تعكس حيوات شخصياتها.

■ سأعود من آخر رواية إلى عملك الأول “حجر الضحك” وقد كتبته وكنتِ بعدُ تعيشين في لبنان. ونشرت هذه الرواية عام 1990 بعد خروجك من لبنان بفترة وجيزة. عندما تنظرين إلى الوراء، وخاصة أنك خرجت من لبنان إلى باريس وكانت الحرب الأهلية تلفظ آخر أنفاسها، هل أعادتك كتابة “بريد الليل” بطريقة ما إلى هجرتك أنت وخروجك من لبنان؟

– حين غادرت لبنان، لم أعلم في حينه أن الحرب ستنتهي بعد خروجي بفترة وجيزة. وكانت تلك أبشع المعارك عندما “هجّيت”. تشكّل وعيي النقدي تجاه العالم في بيروت. وكأنني لم أتخرّج من الجامعة وحسب، بل من مدرسة الحرب الأهلية. وبعدها خرجتُ للعمل في أمور أخرى، كانت مفيدة، وتمكنت من خلالها من الاطلاع على ثقافات العالم وتجارب مختلفة. من خلال تجربتي في الحرب الأهلية، أدركت أن الواقع يختلف عما تعلمته في المدرسة والجامعة.

عكست روايتي الأولى نظرتي إلى حقيقة النفس البشرية، وما زالت عندي نفس الحدة والنظرة النقدية تجاه الذات وغيرها. ولكن ما حدث مع رواية “بريد الليل” هو أنني أصبحت أكثر شجاعة في الكتابة. دون شك تُملي عليك كل رواية شروط كتابتها، ولكن عندي الآن الشجاعة للحذف أو التكثيف من دون استخدام التجميل الأدبي. إذا عدت إلى “حجر الضحك”، أجد فيها التأثر بالفلسفة وغيرها، وأجد هواجس كثيرة تم تجميلها. لقد أصبحت عندي شجاعة أكثر بأن أجرّب وأن أقول لنفسي: هذا الموضوع يكتب بهذه الطريقة، سواء كان سيلقى قبولاً أم لا.

قمت بذلك بشكل غير واع، وربما أصبحت أكثر جرأة، ولكن لا أعتقد أنني تغيرت كثيراً أو اكتشفت عوالم جديدة أو أنني دخلت في تجربة جديدة. أعتقد أنني لو بقيت في لبنان لكنت قد كتبت نفس الأمر.

■ بعد خروجك من بيروت، كتبت روايتك الثانية في باريس. أي معنى ترك ذلك في الكتابة عن مكان لم تعودي تسكنين به؟

– كانت رواية “أهل الهوى” بمثابة ما حملتُه معي من عذاب داخلي. كنت ما زلت في لبنان، على الرغم من وجودي الجسدي في باريس. كنت ما زلت في الدورة الأولى للهجرة. كنت أفتح نافذتي في الصباح وأتفاجأ عندما أجد نفسي في باريس وأتساءل لماذا أنا في فرنسا وليس في بيروت؟ هذا في نفس الوقت الذي أصرّ فيه على أنني لن أعود إلى لبنان، لأن ما رأيته وعشته من خوف كان كافياً.

كان لديّ إحساس، إلى جانب الوعي بعذابات من بقي في لبنان، أن الحكاية طويلة وعلى الرغم من انتهاء “حجر الضحك” أردت أن أذهب في أعماقي إلى أقصى من ذلك. هذا الرجل، الشخصية الرئيسية في “حجر الضحك”، كان موجوداً في أعماقي بقوة. هذا النوع من أسلوب السرد كان فيه نفسٌ جديد وجريء. أصبَحت أشكال تعاطينا تُظهر لي مقدار جروحنا. عندما تخرج من البلاد يصبح إحساسك أعمق بما تحمل معك وداخلك. لأنك لم تعد تهرب وعندك وقت أكثر للاختلاء بنفسك. بداية كتابة “أهل الهوى” كانت نوعاً من إصغاء لتشوّهات الكائن الذي حملته معي. وكأنه توأمي.

كنت مريضة بالعنف ووضعت هذا المرض والعنف في ذلك الرجل كي أتمكن من الحديث عنه. هذه أكثر رواية ما زالت تعيش معي وأحاول ألا أفتحها أو أقرأها. وكأن هذا الرجل الذي لم يفرغ كل ما بداخله ما زال موجوداً.

■ هذا الشيء، العنف، الذي كان داخلك هو ما جعلك تخرجين من لبنان، كما قلتِ في لقاءات سابقة لنا. لماذا قررت الخروج في تلك اللحظة بالذات؟

– أوف! هل تريدين إرجاعي كل هذه السنوات إلى الوراء؟ (تضحك وتأخذ نفساً عميقاً من سيجارتها) أولاً، توقفتُ عن الكلام. كنت أشعر أن هناك توتراً سديمياً بيني وبين الناس. إن خلافي العميق، حتى مع هؤلاء الذين أحبهم، لم يكن فقط نظرياً وعقائدياً وسياسياً، بل أصبح وجودياً. كنت أنظر إلى العالم وأتساءل كيف يستطيعون العيش ويضحكون ويتكلمون مع بعض.

أصبحتُ أنسحب من الحياة إلى منطقة، ليس فقط منعزلة، بل أصبح هناك شرخ عميق مع العالم وكل شيء خارجي أنا. ورافقت ذلك فوبيا فظيعة أن الموت سوف يلحقني. أنني سأدفع الثمن بشكل من الأشكال، سواء كان عن طريق قذيفة تضرب البيت أو الأولاد. كنت أشعر أن العنف والموت يقتربان مني كثيراً، إلى جانب إحساسي بأنني شخص صامت باستمرار ومنسحب اجتماعياً إلى أقصى حد، وهذا يزيد في عنفي الداخلي. وأصبح يهيأ لي أنني بسهولة يمكن أن أقتل، مثلي مثل غيري. وبدأت أسأل نفسي أسئلة خارج حدود الحرب اللبنانية. أي كيف يتحوّل العالم كله إلى هذه الشراسة.

لم يعد هناك ما يستحق أن أبقى من أجله في هذا المكان. لم يعد هناك إحساس بالانتماء إلى أي نوع من العلاقات البشرية أو الصداقة أو ما تربيت عليه من علاقتي بالمكان الأول. لكن، عندما تتركين هذا المكان ستعودين للتفكير به باستمرار، دون أن يعني ذلك الندم أو الحنين. سترين أن هناك رابطاً، قد يكون مرضياً، ولكنه مستمر. كأنكِ تركته ولكن لم تصلي إلى أي مكان.

■ يطرح السؤال كثيراً، خاصة علينا نحن الذين نعيش خارج أوطاننا الأم حول السبب للاستمرار بالكتابة الإبداعية بالعربية وليس بلغات أجنبية أخرى قد تجعل الانتشار والنجاح ربما أسهل. ما رأيك؟

– نعم، يطرح هذا السؤال بشكل دائم، لماذا لا تكتبين بالفرنسية؟ أقول أنا لستُ فرنسية. نعم معي جواز سفر فرنسي وأعطوني جوائز وأوسمة، وهذا جميل. ولكن أنا لست من فرنسا. أنا لست فرنسية. دائماً أحتار عندما أُسأل هذا السؤال. ولكن أنا من مكان آخر ربما لم أعد على علاقة به فيها حرارة الحب والحنين. ولكن أنا من مكان آخر وأنا أدور باستمرار حول هذا المكان الأول لا يمكنني أن أغط أو أطير.

■ ما الذي تعنيه لك اللغة العربية وما نوع علاقتك بها، الفصحى واللهجة/ات؟

– كلما كبرتُ ورأيت ما يكتب بالفرنسية من أدب لكتّاب ينحدرون من بلدان ذات أغلبية عربية. أتأكد من حسن بقائي في اللغة العربية. والمعادلة بسيطة جداً، وليس فقط حب اللغة العربية والعلاقة بها، ولكن هذه الروايات التي أكتبها لا يمكن إلا أن تكتب بالعربية. كتبتُ بعض النصوص بالفرنسية، مونودراما ومحاضرات ودراسات ومقالات، ولكن هذه ليست نفس الكتابة.

ممكن أن أقرّر أن أكتب رواية بالفرنسية ولكنها لن تكون روايتي. الكاتب هو لغته. عندما أقرأ ترجمة رواياتي إلى الفرنسية – وهنا يمكنني الحكم على الترجمة وهو ما لا يمكنني فعله بالترجمات للغات أخرى – أشعر أنها “سيئة” لا أجد بها نفسي وموسيقاي ولا التكرار الذي أعيده أحياناً. وأحسّ وكأنني أُنقل من حقل إلى آخر، وليس فقط من لغة إلى أخرى، من معنى إلى معنى. طبعاً كل هذا بحسب جودة المترجم ونَفَسه هو وما إذا كان هذا النَفَس قريباً من نَفَسي كروائية، وعنده نَفْس الوعي والحساسية الأدبية. ولذلك تجدين أن لكل رواية من رواياتي المترجمة إلى الفرنسية مترجما مختلفا.

■ أريد العودة لما ذكرتِ سابقاً حول فقدانك المقدرة أو الرغبة على الحديث قبيل خروجك من بيروت. هل أن ذلك ما عبّرت عنه روايتك “ملكوت هذه الأرض” من خلال الشخصية الرئيسية طنوس، صاحب أجمل صوت، توقف عن الغناء، وقد فقد صوته لأنه فقد الأمل بـ”أهله”؟

– كنت قد بدأتُ تلك الرواية مدة طويلة قبل نشرها. رغبتُ بالذهاب عكس التيار، أي إلى بداية هذا الفشل الذريع قبل الحرب الأهلية، وليس فقط اللبناني بل في كل المنطقة. لماذا فشلنا إلى هذا الحد ببناء أوطان؟ وللتعبير عن ذلك أخذت البلدة التي أنحدر أنا منها. هذا أكثر مثال أعرفه، ولكن يمكن استبداله بجماعات أخرى.

كيف وصلت تلك البلدة الجميلة إلى أن تكون دموية بهذا الشكل. ونحن نتحدث عن أناس طيبين في ضيعة صغيرة عنفهم صغير، عنف ضيعة. ثم استوحيت الحكاية من أن الرجال في عائلتي يرثون أصواتا جميلة جداً ولكن لا ترثها النساء. القضية هنا إحساسي بأن هذه الأرض التي أحبها لا أتفاهم مع أهلها ولا علاقة لي بهم، حتى أقاربي.

يمكنني أن أتحدث معهم بعض الدقائق ولكن قد نختلف إلى أبعد الحدود. أنا تزوجت من مسلم وتركتهم وتحدثوا عني بطريقة سيئة وكان هناك نوع من العداء. ثم في ما بعد استرجعوني وبدأوا يفتخرون بي ولكن إحساسي كان أن الأوان كان قد فات. هي علاقة ملتبسة، أن تحبي هؤلاء الناس وفي نفس الوقت لا تطيقين شيئاً عنهم. هناك علاقات دم أو رحم أو ذاكرة، وهذه ذاكرة ملتبسة. وأحببت أن آخذ شجاعتي في هذه الرواية وأنظر لما يحدث على مستوى صغير لنفهم كيف يمكن لهذا الوطن بأكمله أن يفشل.

وليس معنى فشل الوطن في هذه الحالة الوصول إلى الحرب الأهلية، لأن الرواية تنتهي قبل بدء الحرب الأهلية. بل نصل للفشل الذريع بكل معاني المواطنة في كافة المنطقة، أي أن الانتماء ليس للوطن بل للقبيلة أو للطائفة وغيرها، ولذلك هناك حروب داخلية مستمرة. ولم نتفق مرة على أن الوطن للجميع. أكثر بلد يتحدث عن التعايش ويرفع فيه شعار الوطن للجميع هو لبنان، وهو بالضبط ما لا يحدث. اللبناني كنموذج مدجج بأيديولوجيا حب الوطن، وحتى الآن لا أدري إذا حدث الاستقلال أم لا.

■ كيف تذكرين حياتك البيروتية وطفولتك قبل الحرب؟

– لا أتذكر الكثير. وأكثر ما أتذكره، هو سنواتي المدرسية قبل الذهاب للجامعة وسنواتي الجامعية بعدها. اكتشفت في الجامعة اللبنانية من أكون. عندما رأيت عالماً كاملاً هناك من يساريين وفلسطينيين وأردنيين وعراقيين وغيرهم. شعرت أنني لم أكن في العالم قبلها، كنت في كنف العائلة والراهبات وطائفتي. وإذا أنت امرأة يريدون طبعاً “المحافظة عليك” وتزويجك.

في الجامعة اكتشفت البلد. هذه الفترة كان لها معنى كبير لكل العرب. بيروت كانت مفتوحة للعرب ولكل الحراك الجميل. كل الأفكار التي كنت أقرأُها في المجلات الفرنسية، كان لها علاقة ببيروت. لم يحدث شيء في العالم، وليس فقط في العالم العربي، من دون أن يكون له صدى في بيروت. هذه الحركة لم تأخذ مداها ولم تؤسّس شيئاً حقيقياً، على الرغم من تأسيسها خيارات حرة وجيلاً يغامر ويفكر ويغيّر ولكن جاءت الحرب وقصفتها. كان من الممكن أن تكون بديعة. لماذا؟ لأنها لم تكن لبنانية فقط. بيروت كانت بُعدَها العربي والإقليمي والمفتوح.

وأحياناً أتساءل كيف كانوا يتركوننا بكل هذه الحرية. هذا لن يكون ممكناً الآن. هناك نصوص مكتوبة لا أجرؤ على نشرها الآن في لبنان لأن هذه أو تلك الجهة ستعترض. في حينه كان ذلك ممكناً. ولذلك كان كل العرب الملفوظين الهاربين من الويلات يأتون إلينا وكانوا يجدون مكانهم في لبنان.

السؤال الذي أعود له دائماً. هو محاولة فهم أو رواية ما الذي أدى بنا إلى هنا حتى قبل الحرب الأهلية، وقبل أن يأتي الفلسطينيون… ماذا كنّا نفعل قبلها؟ أنا لم أقتنع أبداً بمقولة أن الحرب الأهلية في لبنان كانت حرب الآخرين على أرض لبنان. هي مأساة مثل الصراع في التراجيديا الإغريقية مع الآلهة. الآن فقدنا الآلهة واحتفظنا بالتراجيديا.

■ أي تعليق على كل الضجة التي صاحبت حصولك على “الجائزة العالمية للرواية العربية” لهذا العام عن روايتك “بريد الليل”؟

– ما أتمناه أن يتحدث أعضاء لجنة التحكيم يوماً ما عن الموضوع وما حدث من الألف إلى الياء، لأنهم هم من يعرفون ما حدث وفي ما عدا ذلك لا أستطيع ولا أريد التعليق.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

سيرة

وُلدت هدى بركات في بلدة بشرّي شمال لبنان عام 1952، درَست الأدب العربي في لبنان ثم في فرنسا، ومارست التدريس في لبنان حتى 1989 حين انتقلت للعيش في باريس.

لهدى بركات إصدارات في المسرح والقصة القصيرة والرواية، إضافة إلى كونها اشتغلت في الصحافة لسنوات. نشرت إلى اليوم ستّ روايات، هي: “حجر الضحك” (1990)، و”أهل الهوى” (1993)، و”حارث المياه” (2000)، و”سيدي وحبيبي” (2004)، و”ملكوت هذه الأرض” (2012)، و”بريد الليل” (2018). ومن أعمالها الأخرى: “رسائل الغريبة” (2004)، كما كتبت نصّاً مسرحياً بعنوان “فيفا لا ديفا” (2009).

حصلت على عدد من الجوائز الأدبية والأوسمة والتكريمات في العالم العربي وفي بلدان غربية، من بينها: “جائزة نجيب محفوظ للأدب” عام 2001 عن رواية “حارث المياه”، وآخرها “الجائزة العالمية للرواية العربية – بوكر” لعام 2019 عن رواية “بريد الليل”.

كما منحتها فرنسا رتبة الفارسة في الأدب والفنون عام 2002 ووسام الاستحقاق في 2008. ورغم إقامتها طويلاً في أوروبا، وفي أميركا حالياً، إلا أن بركات لم تكتب إلا باللغة العربية، لم يمنع ذلك من أن تصل معظم أعمالها إلى عدة لغات مثل الإنكليزية والفرنسية والإيطالية والإسبانية والتركية والألمانية واليونانية.

العربي الجديد

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى