أبحاث

المعارضة السورية: تقاليد وفرص…/ موفق نيربية

ةهو سؤال يحتاج إلى جواب: كم من فرصة أضاعتها المعارضة السورية؟ والحديث  يختص هنا بما يُسمى بالمعارضة الديموقراطية، التي يمدّ الإسلاميون رجلاً فيها أحياناً، ثم يستخدمون تلك الرجل غالباً فيما بعد لعرقلة المعارضة كلها ورميها أرضاً… ولا يعني ذلك أي استهانة بالنضالات والتضحيات٬ بل والبطولات.

صدر في عام 1979 ميثاق” التجمع الوطني الديموقراطي” ليحدد أهدافه ويرسم برنامجه للتغيير الوطني الديموقراطي. ضم ذلك التجمع عندها خمس قوى سياسية هي حزب الاتحاد الاشتراكي العربي الديموقراطي والحزب الشيوعي السوري- المكتب السياسي( حزب الشعب الديموقراطي فيما بعد) وحزب البعث الديموقراطي وحركة الاشتراكيين العرب وحزب العمال الثوري. واستُبعدت قوتان: رابطة العمل الشيوعي( حزب العمل لاحقاً) وحزب البعث” القومي” المرتبط مع عراق صدام حسين.

كان استبعاد جماعة العراق من نوع التقية التي تبطن الرغبة لدى البعض٬ ومن نوع الخشية من استفزاز ثم استشراس النظام لدى بعض آخر٬ وكرهاً بنهج صدام البعثي- الاستبدادي لدى بعض ثالث. أما حزب العمل الشيوعي- وهو حزب شاب وديناميكي آنذاك-  فقد استُبعد بمناورات متعددة لأسباب عديدة منها الحيطة الأمنية التي تبطن- أيضاً- المواقف الطائفية المكتومة.

بعد مجزرة مدرسة المدفعية التي تمت إدانتها- رسمياً- ببيان يصفها كجريمة” مدانة قومياً وإنسانياً”٬ ظهر بعض الوهن والقلق على النظام٬ فاندفع التجمع ليلاقي تحرك النقابات المهنية عندئذٍ ويبدأ حراكاً سلمياً موازياً لحراك الإسلاميين المتطرفين العنيف. ذلك” التوازي” تعامل معه بعض المعارضة بسلبية وحذر٬ في حين انصب جهد السلطة على ربط المسارين معاً٬ مستغلاً أيضاً مناورة بعض المعارضة في موقفها من العنف٬ أو ابتهاجها الخفي ربما كذلك. تناهى عام ١٩٨٠ بحملة كبيرة على القوى الديموقراطية٬ قلصت من فعاليتها بشكل نوعي.

كانت تلك فرصة أولى٬ ومرحلة تمهيدية لفرص أخرى على الطريق.

في أواخر عام 1990 وأوائل 1991٬ كان نظام الأسد الأب قد مثخناً بالجراح بعد عقد من المعارك والعزلة والحصار والأزمة الاقتصادية العميقة٬ فشارك عسكرياً في الحملة التي قادتها الولايات المتحدة على عراق صدام لإخراجه من الكويت. بعد ذلك مرّ النظام بمرحلة أكثر انكشافاً أو اضطراراً للتساهل مع شيء من الحراك الاجتماعي- السياسي. استطاع وقتها٬ بمعونة الجناح القومي في المعارضة٬ أن يوجه تلك الطاقة باتجاه التضامن مع شعب العراق أو مع الشعب الفلسطيني٬ وهذان شعاران ساحران تاريخياً في الساحة السورية. أخرج النظام كذلك قسماً من السجناء السياسيين- الإسلاميين خصوصاً-٬ ثم تابع سياساته ببعض عقلانية وبعض أظافر٬ معاً. كانت فرصة ضاعت تحت عنوان” الأمة”.

في أواخر التسعينات٬ كان الديكتاتور يحسّ بنهايته٬ ويريد تمهيد الطريق بأسهل السبل لابنه حبيبه٬ فابتدأ بحلّ الخناق قليلاً هنا وهناك٬ وأخذ ضباط الأمن- السلطة بأرفع مستوياتها- بالتحدث بلغة مختلفة تحاول المعاصرة. ثم “ مات الديكتاتور”٬ وارتبكت المعارضة الديموقراطية٬ بين من هو متطلع للسلطة” الجديدة” ومن هو نافض يدَه منها٬كانت الغلبة للأول بينهما. لم يستفد بشكل نوعي آنذاك غير المثقفين السوريين٬ بتجمعهم وتنظيم صفوفهم٬ ثم ببيان ال 99 وبعده بيان الألف٬ في لحظة تاريخية ابتعدت فيها المعارضة من حيث هي جسم منظم عن الفعل. استغرقت تلك الفترة التي اشهر اسمها ربيع دمشق عامين على الأقل٬ ثم عادت إلى المراوحة في المكان. ولم يحتج النظام إلى أكثر من اعتقال عشرة أو أكثر من النشطاء بين فترة وأخرى كي يشلّ إمكانية وفعل المعارضة. ولا أقصد هنا أن الفرصة قد ضاعت في زحمة الآمال المعلقة على الابن المعجزة الذي سيتجاوز أباه وتاريخه وحسب٬ بل على أن المعارضة كانت تستطيع الاستثمار في التنظيم والحشد والضغط من أجل إجبار النظام على التراجع أكثر٬ ولو خطوةً خطوة.٬

في أواخر 2004 صدر القرار 1559 عن مجلس الأمن٬ القاضي بالانسحاب السوري من لبنان٬ واحتدم العناد بين الأطراف المعنية٬ حتى اغتيال رفيق الحريري في 14 شباط 2005. وتسارعت الصور بعدها بشكل دراماتيكي٬ على حساب النظام السوري ورئيسه مع الخروج المذل من لبنان. وكان الطبيعي أن تسترد المعارضة السورية أنفاسها٬ ففعلت من خلال تأسيس أوسع ائتلاف في تاريخ سوريا الحديث تحت اسم” إعلان دمشق للتغيير الديموقراطي”٬ بمساهمة هامة من قوى حديثة التشكّل خارج المعارضة٬ بين المثقفين تحت اسم”لجان إحياء المجتمع المدني” والمنتديات وغيرها٬ مع طيف واسع من التنظيمات المعارضة من دون الاستثناءات القديمة٬ وحتى مع ضمان تأييد الإخوان المسلمين لهذه الخطوة. ما حدث بعد ذلك٬ هو إنهاك مرير لهيئات الإعلان بالخلافات المرتجلة بين أشخاص: رياض الترك من جهة٬ وحسن عبد العظيم- مع فاتح جاموس- من جهة أخرى. ضاع عامان في تلك المعمعة.

في مطلع عام 2007٬ نجح جهد توفيقي في التوافق على عقد ما يشبه المؤتمر الواسع الطيف لإعلان دمشق٬ تحت اسم” المجلس الوطني للإعلان”. واستطاع الجهد المكثف والصبور التوصل إلى وثائق موحدة٬ في جو مستمر من تلك المعارك الشخصية والجانبية٬ كما أمكن بعد تردد مشترك من الطرفين  المتصارعين٬ عقد مجلسه الوطني ذاك في الأول من كانون الأول 2007. وكان نجاحاً باهراً التقى فيه حوالي 170 شخصية تمثل القوى السورية والمدن والقطاعات المختلفة٬ٍ بنجاح في اختراق الشبكة الأمنية وتحت أنفها في قلب دمشق. ما حدث في اللحظات الأخيرة وفي اليوم التالي هو تراجع بعض القوى بذريعة عدوانية غيرهم٬ تلك العدوانية التي لا يمكن إنكارها أيضاً. ولاستكمال ضياع تلك الفرصة النادرة٬ لم تحتج السلطة لأكثر من اعتقال 12 شخصاً من قيادات الإعلان٬ وتركته ليتحول إلى بنية حزبية محضة تعرف جيداً كيف تتعامل معها في اللحظة المناسبة.

جاء الربيع العربي٬ ليسدّ على الجميع ذرائعهم- كما اعتقدنا- وليضعهم أمام لحظة الحقيقة والحساب٬ حتى يتوافقوا على رؤية واضحة لمسار الانتقال السياسي٬ وحتى تكون ممكنة تلبية حاجات الثوار الشباب ومجاراة حيويتهم الفائقة التي لم تكن كافية للتحول إلى بديل لتلك المعارضة القديمة. أما هذه المعارضة نفسها٬ فغرقت بسرعة قياسية في معاركها القديمة٬ ولم تنجح كل المحاولات لتوحيد أطرافها٬ رغم فداحة الخطب وإغراء النصر الذي لاح على الأبواب٬ كما ظن الجميع. فسار إعلان دمشق- ما بقي منه آنذاك- منفرداً باتجاه التحالف مع المعارضين في الخارج٬ حتى تشكيل المجلس الوطني السوري٬ وسار البقية نحو تأسيس” هيئة التنسيق الوطنية” بتركيزها المضاد على الداخل٬ لتحصل لنفسها على لقب المعارضة الداخلية الأثير. وحين لاحت إمكانية الالتجاء للجامعة العربية والتهرب من مغريات الدعم والارتهان الإقليمية في منتصف 2012  وتوصل مؤتمر القاهرة الشامل بالفعل آنذاك إلى وثائق توافق عليها الجميع٬ انفرط العقد بعدوانية شديدة على الفور٬ وعاد كلٌّ إلى حضن يقيه البرد ويحميه من لقاء أخيه.

كانت تلك” أمّ الفرص الضائعة” التي أنجبت ويتّمت فرصاً .. والتي أصبح المسار كله بعدها على منحدر ثابت!

درج

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى