الناس

إيطاليا: سياسات القمع تمتد إلى الباعة المتجولين المهاجرين

رفعت الفتيات، الممددات على شاطئ أوربتلو في إيطاليا من أجل اكتساب سمرة لأذرُعهن وكواحِلهن الموشومة، أعينهن عن هواتفهن لمشاهدة القفاطين المعلقة على عربة أحد الباعة المتجولين المغاربة. في حين توقف الآباء والأبناء عن اللعب بالكرات البرتقالية لتفحص قبعات الشمس المتزنة فوق رأس بائع بنغلاديشي. وتوسل الأطفال الصغار إلى أمهاتهن، المُنتعشات من تبريد أرجلهن في ماء البحر، حتى يُلقين نظرة على دلاء الرمال البلاستيكية وعوّامات طيور الفلامينغو المطاطية التي فرشها بائع سنغالي عند أقدامهم.

على مدى عقودٍ، تجنب الباعة المتجولون على الشواطئ من المهاجرين -الذين يُطلق عليهم في إيطاليا اسم فُو كومبرا-vu cumprà أو أتريد أن تشتري- الرجال مفتولي العضلات في الأزقة، مفضلين التوجه إلى شواطِئ العطلات الإيطالية المألوفة. وقد زادت موجات الحر والانتكاسات الاقتصادية صعوبة عملهم. والآن، انضمت السياسة أيضاً إلى قائمة الصعوبات.

كان الحنق الشديد في إيطاليا من أزمة المهاجرين هو الدافع وراء صعود حكومة شعبوية يمينية متطرفة، وقد اتخذت الإجراءات القمعية التي فرضتها أشكالاً متعددة، بدايةً من إغلاق الموانئ الإيطالية أمام سفن الإنقاذ التي تحمل طالبي اللجوء الناجين، وصولاً إلى مُخطط أقل شهرة بكثير يُسمى “عملية الشواطئ الآمنة”.

خصصت العملية، المقدمة من وزير الداخلية ماتيو سالفيني المُناهض للمهاجرين، ملايين اليوروات للمجتمعات الساحلية وذلك لنشر دوريات على طول الشواطئ بهدف تطهيرها من الباعة المتجولين، بخاصة الذين يتاجرون في السلع المزيفة.

قال سالفيني خلال تجمُّع على شاطئ ساباوديا، “في النهاية، سنحرص على أن الإيطاليين تمكنهم تمضية أسبوع هادئ تحت مظلة على الشاطئ، بعدما تعبوا في عملهم على مدار عام كامل، من دون أن يزعجهم أيّ بائع متجول (فُو كومبرا)”.

ربما يرحل سالفيني، نتيجة للتجاوزات السياسية التي ستُكلفه الخروج من السلطة وستُمهد الطريق أمام تشكيل حكومة جديدة أكثر ليبيرالية، لكن ستظل معظم سياساته المتشددة قائمة، ومن بينها “عملية الشواطئ الآمنة”.

ما زال الباعة المتجولون على طول الشاطئ يجرون عرباتهم المحملة بالفساتين وملابس السباحة والأغطية والأساور اللامعة والمظلات والقلادات وصنّارات الصيد والأوشام المزيفة والألعاب القابلة للنفخ والعوامات والحقائب والأحذية الرياضية غير الأصلية وأيّ شيء آخر يمكن حمله على عرباتهم. لكن عليهم الآن توخي الحذر.

“هذا أمرٌ صعب للغاية”، هكذا قال لنا غويي ديايوا (29 سنة)، والذي جاء من سنغافورة قبل خمس سنوات، بينما كان يسير على شاطئ “جانيللا”، وهو شريط ساحلي يقع في جنوب إقليم توسكانا، يمتاز برماله الناعمة وتطوّقه أشجار الصنوبر، ويبيع كتباً حول مواضيع أفريقية مقابل بضعة يوروات.

يُعد الباعة المتجولين من أمثال ديايوا، ضمن فئة قليلة من المهاجرين الأفارقة والآتين من جنوب آسيا الذين، وهؤلاء يتفاعل معهم كثر من الإيطاليين في بلدٍ تختلف فيه ثقافة الاندماج كثيراً عن البلدان الغربية الأخرى. وقد أضاف صعود سياسات اليمين المتطرف في إيطاليا حاجزاً غريباً إلى علاقة مضطربة أصلاً، يمضي فيها المهاجرون -الذين غالباً ما يرتدون سراويل وقمصاناً بأكمام طويلة وقبعات- أيامهم وهم يروجون لمنتجاتهم ويحاولون بيعها للإيطاليين شبه العراة على الشاطئ. وغالباً ما يتجاهلهم الإيطاليون.

يرى البعض، أن هؤلاء الباعة يُمثلون جزءاً من المشهد، إذ يتدفقون بلا ضررٍ مثل الأمواج التي تضرب الشاطئ. وبالنسبة إلى آخرين، فهم تذكير مؤلم بأن الإيطاليين -الذين هاجروا بأعدادٍ غفيرة بحثاً عن فرص اقتصادية قبل قرنٍ مضى- فشلوا في توفير أعمال مشروعة للمهاجرين ولم يرحبوا بهم. أما بالنسبة إلى أولئك الأكثر توافقاً مع آراء سالفيني، فإن الباعة المتجولين يمثلون الفوضى وحلقة الوصل الخبيثة التي تربط بين المهاجرين والمافيا، وكذلك مصدر إزعاج يجب التخلص منه.

وعلى ما يبدو، لاحظ كثر من الباعة المتجولين التغيير في السياسات. إذ أصبحوا حذرين من الشرطة، واختفى بعضهم سريعاً من أمام الكاميرا لِيستتروا خلف مظلات الشاطئ، واختبأ آخرون بين الكثبان الرملية.

قالت فاطمة ديوب (33 سنة)، “هذا العام أصعب من أي عام مضى، بسبب إجراءات قمعية متزايدة من الشرطة”. تجلس فاطمة على شاطئ “جانيللا”، وتربح 5 يوروات نظير تزيين شعر الفتيات الشقراوات بجدائل وردية وفيروزية.

تلقت بلدة أوربيتيلو، التي يقع على ضفافها شاطئ جيانيلا، دعماً يقدر بنحو 40 ألف يورو من صندوق شواطئ آمنة. ووضعت الشرطة منشورات حذرت فيها المُتشمِّسين من شراء السلع من الباعة غير المرخصين، وصادرت نحو ألف قطعة، وقامت بتطويق الشواطئ باستخدام درّاجات رمليّة سريعة. وحذرت من أن الإيطاليين الذين اشتروا بضائع غير قانونية ستُفرض عليهم غرامات تصل إلى 7 آلاف يورو.

وعلى رغم هذه الإجراءات لا يزال الباعة المتجولون يواصلون عملهم.

قال ديايوا إن السبب الذي يدفعه إلى الذهاب إلى شاطئ جيانيلا، أنه يجد الرمال هناك ناعمة ويسهل السير عليها، ولذا فهو يستقل القطار لمدة ساعتين ونصف الساعة، مُتجهاً إلى جنوب مدينة بيزا في الصباح مع عشرات الباعة الآخرين. وبصحبة كثر من المهاجرين الذين يسافرون شمالاً من العاصمة روما، يسيرون جميعاً على الطريق المعهود الذي يمر عبر المباني المهجورة والأماكن المُخصصة للمخيمات، بجانب أحد فروع متجر سمبلي ماركت، ووصولاً إلى الغابات الصنوبرية التي تُلقي بظلالها على الشواطئ.

بيد أن البعض تساءل عما إذا كان الأمر يستحق كل هذا العناء في مواجهة تلك الإجراءات الصارمة وحملة القمع.

على ضفاف أنسيدونيا، وهو شاطئ شهير يقع شمال روما، وقف كبير زيمرون (49 سنة)، بجانب عربته التي تتدلى من مظلاتها ملابس صيفية بعضها مزخرف بالزهور، بينما كانت كارلوتا روبيانو (26 سنة) وهي المديرة المحلية لأحد فروع سلسلة الملابس الداخلية النسائية كالزيدونيا الإيطالية، تجرب كيف سيبدو الإزار الأرجواني عليها.

ووجهت كارلوتا إليه سؤالاً، “هل أنت متأكد من أن هذا اللون فقط هو الموجود عندك؟”

قبل بضعة أيام، كان لدى زيمرون ملابس بألوان وتصميمات مختلفة، ولكن الشرطة صادرت عربة كاملة محملة بالبضائع في إحدى عمليات التفتيش، وقالت إن زيمرون لم يستطع دفع الغرامة التي تقدر بنحو 5 آلاف يورو لاستعادتها.

أعرب زيمرون الذي جاء إلى إيطاليا من المغرب منذ ما يقرب من 30 عاماً، عن حسرته قائلاً، “لقد مكثت في هذا المكان لسنوات، ولا أسبب الإزعاج لأي شخص”.

في أقصى الجنوب، على شاطئ كابالبيو، وهو أحد معاقل الزعماء اليساريين والليبراليين الذين انتقدهم وزير الداخلية الإيطالي ماتيو سالفيني بشدة، واصفاً إياهم بأنهم “فاعلو خير”، ثمة تعاطف تجاه الأزمة التي يتعرض لها الباعة المتجولون.

تقول سارة فرانشيسكانيلي (66 سنة) من مدينة تيرني وسط إيطاليا، “في كل عام نشتري بعض الأشياء”، بينما كانت تُلقي التحية على رجل سنغالي يعرف باسم جيمي جيم، وأضافت، “إنه صديقنا منذ زمن بعيد”.

مثل هذه الأفعال هي التي تثير حنق بعض المشرعين اليمينيين.

تقول دانييلا سانتانشي، عضو البرلمان الإيطالي، والعضو في الحزب اليميني “إخوان إيطاليا”، والتي تمتلك نادياً شاطئياً خاصاً في إقليم توسكانا، “يُمثل هذا الأمر مشكلة بالغة الخطورة، نظراً إلى أن الشواطئ تتحول إلى أسواق مفتوحة. بل إن المشكلة الأدهى من ذلك، هي إقبال بعض الناس على شراء تلك المنتجات من الباعة الجائلين، في حين أنها منتجات غير قانونية لأنهم لا يدفعون الضرائب. ولذا في النادي الخاص بنا، قمنا بتعيين حارسي أمن مهمتهما التأكد من أن هؤلاء الباعة لا يزعجون رواد النادي”.

عام 2017، اُلتقطت صورة بدت فيها دانييلا غير مكترثة بأي شيء، بينما كانت مستلقية على الشاطئ في ناديها المعروف باسم “شاطئ تويغا”، وتتفحص بضائع كان يحملها ثلاثة باعة متجولين أفارقة.

بيد أنها قالت لصحيفة “Il Tirreno” الإيطالية دفاعاً عن نفسها، ولتوضيح موقفها، “لقد نظرت بالفعل، لكنني لم أشترِ شيئاً”.

قالت فرانشيسكا تريفيسان، عمدة مدينة سكارلينو، إن مدينتها التي تمتد نحو 5 أميال من الشواطئ، بعضها محميات طبيعية نائية، والبعض الآخر شديد الازدحام بالزائرين، تحتاج بشدة إلى التمويل من صندوق شواطئ آمنة.

وصفت فرانشيسكا حادثة وقعت في أواخر تموز/ يوليو الماضي، تضمنت صداماً بين حوالى 10 باعة متجولين سنغاليين وضابطَي شرطة قاما بمصادرة بضائع مزيَّفة ووضعها في سيارة الشرطة. ما دفع بعض السياح إلى التدخل، واستدعاء المزيد من ضباط الشرطة، ما أسفر عن اعتقال ثلاثة رجال.

واختتمت كلامها بقول، “لا يمكننا أن نستمر على هذا النحو”.

ومع ذلك، يبدو أن هذا هو بالضبط ما يحدث.

أعرب العقيد انطونيو ديل جايزو، المسؤول في الشرطة المالية، أنه على الرغم من أن بعض الباعة المتجولين يعملون بشكل مستقل، ويسعون إلى توفير الأموال والدخول إلى سوق العمل بصورة قانونية، يضطلع كثر منهم في الإتجار بالبضائع المزيَّفة، ويعملون تحت سيطرة الجريمة المنظمة وفي ظل إدارة المافيا الإيطالية.

وأضاف: “ينتمي هؤلاء الأشخاص إلى الفئات المُحتاجة. ولذا يتعرضون للاستغلال”.

وعلى ضفاف شاطئ مدينة أوستيا خارج روما، قال مصطفى نجوير (30 سنة)، والذي وصل إلى إيطاليا منذ سنوات من السنغال، إنه لم يفهم سبب قيام السياسيين والشرطة باتخاذ مثل هذه الإجراءات الصارمة للغاية.

وأضاف بينما كان يحمل حقيبة مملوءة بالأحذية الرياضية المقلَّدة على ما يبدو، وقد تدلى أحدها حول رقبته، “من الأفضل القيام بذلك بدلاً من ممارسة أعمال السرقة والنهب”. وأردف، “لقد دفعتنا الحاجة إلى هذا العمل، ليس لأننا نرغب في فعل ذلك، والمشي ذهاباً وإياباً على الشاطئ يومياً”.

هذا المقال مترجم عن nytimes.com وللاطلاع على المادة الاصلية زوروا الرابط التالي

درج

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى