مقالات

الصحافة الثقافيّة.. بين مطرقة السلطة وسندان التمويل؟/ عماد الدين موسى

الثقافة فعل تجديد للحياة، تقوّي الشعور بالأمل، تدمجنا في إنسانيتنا فلا تتفكَّك عرى المودة والصداقة. وهي لمَّا صارت ثقافة صارت كنزاً للأفكار الإنسانية العقلانية.

الصحافة في العالم العربي انتبهت إلى دور الثقافة هذا، فأفردت لها صفحات بدت خجولة في شكلها ومضمونها، ومن ثم خصَّصت لها مجلات دورية أسبوعية وشهرية، وتحولت هذه الصفحات إلى ميادين تتصارع فيها الأفكار والمعتقدات بين الموالاة والمعارضة، بين القديم والجديد، أو لنقل بين اليمين واليسار. وتحوَّل القلم إلى سيف، وصار السيف يجزُّ أفكاراً وأفكاراً، ونسي المتصارعون أنَّهم بذلك يقضون على الجمالي الفلسفي الذي في الثقافة. وتدخلت السياسة في الثقافة، وصارت تتسلبط عليها، فأنتجت موظفي ثقافة يجيرون كل أفعالهم لصالح الاستعمال الاجتماعي للسلطة. وهذا أفرز مبدعين ومنتجين للثقافة مقابل مستهلكين صارت تجتذبهم هذه الصحافة، وصارت هناك مناطق حرام وأخرى حلال للأفكار. وهذا خلق حالة من الذعر والخوف بين المثقفين الحقيقيين الغيورين على عقل الأمة، وبين بلطجية الثقافة؛ بين المتن والهامش.

هل استطاعت الصحافة الثقافية أن تصنع حالة أفرزت إبداعاً متميزاً، فجعلتنا نستمتع كبشر بجمال المعرفة والثقافة ونشعر بأنَّ عقلنا ما يزال مُلكنا؟

سنحاول الإجابة عن هذا السؤال من خلال استطلاع آراء عدد من المبدعين العرب في هذا الملف الخاص الذي ننشر هنا الجزء الأول منه:

(1)

عبد الكريم المقداد (سورية): أين الدور الرائد في تنشيط الحركة الثقافيّة؟

ثمة مفارقة أليمة تبرز فور الحديث عن الصحافة الثقافية. حكوماتنا تجأر ليل نهار من أهوال التطرف، وتؤكد العزم على محاربته ودحره. وندرك، كما تدرك، أن الجهل هو المنبع الرئيس لهذا التطرف، وأن الثقافة هي السلاح الأنجع لاجتثاثه. إذاً، لماذا تجهد حكوماتنا في تهميش الثقافة والمثقفين؟ لن أجيب، ولن أسأل عن أسباب غلق الكثير من المجلات الثقافية العربية المرموقة، وغياب العديد من الملاحق الثقافية العريقة في الصحف اليومية.

حين تتابع مجلاتنا الثقافية تدهشك الشللية والنمطية والنظرة الأحادية. معظمها بات مُجيّراً لأسماء معينة، بحيث صرت تعرف أسماء كتّابها وطبيعة موضوعاتها قبل أن تصدر. والمصيبة أن رئاسة تحرير هذه المجلات صارت موقعاً تشغله الدرجة الوظيفية لا الدرجة الثقافية، فبرزت السطحية وغاب العميق والجديد. كما سادت النظرة الدونية للكتّاب، وجرى التعامل معهم كشحاذين ومرتزقة. وبلغ الاستهتار حد أن المجلات ما عادت تراسل الكاتب، فتشعره بوصول مادته، أو تُطلعه على مصيرها، رفضاً أو قبولاً، فتتركه معلقاً في الهواء، ولا ترد على استفساراته.

الحال ذاتها مع الصحف اليومية، التي غابت الملاحق الثقافية عن معظمها، وباتت الصفحة الثقافية فيها تظهر على استحياء. صارت مجرد رفع عتب، وأول ما يتم التضحية به فور حضور الإعلان، أو بروز جديد في السياسة أو الاقتصاد. الأدهى أن اهتمامها انحصر بالتغطيات الخبرية والمجاملات والقراءات السطحية، بعيداً عن القضايا الجوهرية. والمضحك المبكي أن هذه الصفحات غير مأجورة، فلا تدفع لمن أراد النشر فيها من المبدعين أي مقابل. وكأن الكاتب يجد قصائده وقصصه ودراساته تحت وسادته كلما صحا، ولا يقضي الليالي الطوال في إبداعها!

إنه لمن المؤلم أن ننتهي إلى هذه الحال، بعد أن كان للصحافة الثقافية في النصف الأخير من القرن الفائت دور رائد في تنشيط الحركة الثقافية وإبراز المبدعين. لقد كان للملاحق الثقافية في تلك الآونة وهج أخّاذ يأسر الكتّاب والقراء على حد سواء. وكان ما ينشر فيها يُحدث دويّا تنعقد له الجلسات واللقاءات، ويتطاير صداه بين الناس. ومن خلالها برز المبدعون من الشعراء والقصاصين والروائيين والنقاد والمفكرين. وبين فينة وأخرى كانت تكتشف موهبة جديدة فيتم الاحتفاء بها وتشجيعها. ويكفي أنه كانت للكتّاب في تلك الفترة مكانة معنوية كبيرة، تناقض ما انتهى إليه حالهم اليوم بعدما صاروا رمزاً للفقر والجوع والتسول.

أحمد بزّون (لبنان): 5% من المثقفين يتابعون الصفحات الثقافية

لا يمكننا تعميم الأثر الذي تتركه الصحافة الثقافية في جمهور قرائها في الدول العربية كلها دفعة واحدة، فالتمايز بين عاصمة وأخرى موجود منذ منتصف القرن الماضي حتى اليوم، على مستوى بدء الصحافة، وبدء المجلات الثقافية والأدبية منها، ثمَّ بدء إنشاء صفحات ثقافية يومية. لذا أودُّ أن أحصر كلامي في لبنان، الذي بدأت فيه الصحافة باكراً وشهد إصدار مجلات ثقافية مهمة كان لها دور بارز في احتدام السجالات الثقافية والفكرية في البلدان العربية. وإذا تذكَّرنا الصراع بين مجلة “الآداب” المتأثِّرة بوجودية سارتر، ومجلة “شعر” المتفلتة من الثقافات السائدة نحو حداثة جديدة على مستوى الشعر والحياة، ثمَّ مجلة “الثقافة الوطنية” الحاملة للفكر الشيوعي الذي كان منتشراً بقوَّة في تلك المرحلة، إلى العديد من المجلات الثقافية الأخرى التي صدرت في المرحلة نفسها، وما سبقها من مجلات صدرت في القرن التاسع عشر… إذا تذكَّرنا كلَّ ذلك نفهم حجم الحضور الصحافي الثقافي الذي كان طاغياً على المشهد اللبناني، ومؤثِّراً بالطبع في القارئ اللبناني والعربي، باعتبار أنَّ الصحافة اللبنانية كانت حاضرة على المستوى العربي حيث يسمح بها.

لكن مع تراجع الصراع الرأسمالي الاشتراكي، بين قطبيه الأميركي والسوفييتي، بعد هزيمة الطرف الأخير، وتفكُّك اتحاده، خفتت أصوات المجلات الثقافية الفكرية، على مستوى المنطقة العربية والعالم. ومع توقف السجالات الحامية بردت آلات الطباعة، وتراجع إنتاج الكتب والمجلات الفكرية، وبات عدد قرائها محدوداً بالمقارنة مع الماضي، حتى أنَّ حالات اليأس التي أصابت القارئ اللبناني، بعد عبثية الحرب الأهلية في لبنان، وتبعاتها النفسية والاقتصادية، وانخفاض القدرة الشرائية، جعلت الصحف اليومية تتراجع، على الأقل من حيث عدد القرَّاء، لينتج عن ذلك تراجع تأثير الصفحات الثقافية في القارئ اللبناني.

وكانت أوَّل صفحة ثقافية لبنانية يومية بدأت في جريدة “النهار” عام 1964، برئاسة الشاعر شوقي أبي شقرا، هذه الصفحة، مضافة إلى الصفحات الثقافية في جريدة “السفير” وسواها وملحقاتها الثقافية، تراجعت هي الأخرى بعد الحرب، وباتت هامشاً على السياسة، وإن كانت تتمتع ببعض الحرية. لكن ما هو مؤسف أن تقتصر قراءة الصفحات الثقافية المتبقية، بعد تراجع الصحافة الورقية في لبنان، على الفئات الأدبية والفنية التي بقيت مرتبطة بما تغطيه الصفحات الثقافية، وتنتظرها، وتتأثَّر بها وباتجاهاتها، لكن ما هو مؤسف أيضاً أنَّ من يقرأ الصفحات الثقافية اليومية لا يتعدى نسبة 5% من المنتمين إلى فروع الثقافة المختلفة، وهذا المؤشِّر يكفي لمعرفة أثر هذه الصفحات في قرائها.

أنور محمد (سورية): صحافة خجولة

الصحافة الثقافية الورقية العربية صحافة خجولة في الحياة الاجتماعية، خاصةً تلك التي دعمت وروَّجت إبداعاً قاومَ الاستبداد العربي، فشفنا في الخمسينيات والستينيات من القرن المنصرم صحافة جريئة قدَّمت لنا رواداً نهضويين صاغوا جزءاً من العقل النقدي مثل د. طه حسين ومحمود أمين العالم ونجيب محفوظ وتوفيق الحكيم ويوسف إدريس وآخرين إنْ في صفحات جريدة الأهرام أو في تلك المجلات الثقافية المتخصصة في المسرح والرواية والفكر الفلسفي

والسياسي. كذلك في سورية قامت الصحافة بخلق حالة ثقافية حتى منتصف الستينيات ثمَّ فارقتنا حتى جاء ملحق “الثورة الثقافي” الذي ترأس تحريره الشاعر محمد عمران فأثار ما أثارَ من نقدٍ وجدل ثقافي، وبرحيل محمد عمران رحل أهم نبع ثقافي في الصحافة السورية. هذا جانب، أما الجانب الآخر الذي أسَّس للعمارة الصحافية للثقافة العربية فكان في الصحافة اللبنانية؛ وفي صحف مثل “النهار” و”السفير”، هذا عدا الدوريات الشهرية مثل مجلة “الآداب” وغيرها. وكانت تعمل مثل (بلدوزر) يكنِّس كلَّ ثقافة صناعية، تلك التي يديرها موظفو الثقافة، موظفو المستبد العربي، والتي صار ينزُّ منها الشبق- الشبق العقائدي الذي يضرب/ يقتلع جذور الثقافة، باعتبارها الأساس النووي للحياة. وصار هؤلاء الموظفون ينتجون ثقافة كما المعلبات الغذائية، ويكرسونها بصفتها رؤوساً نووية لنهضة الفكر والثقافة العربية!

شريف صالح (مصر): الأيديولوجيات المغلقة

تعد “الهلال” لمؤسسها الشامي جورجي زيدان المجلة الثقافية التي حافظت على استمراريتها لمائة وسبعة وعشرين عاماً، في المقابل انقرضت تجارب كثيرة مثل “الرسالة” للزيات.

بتأمل عنونة “الهلال” يُفهم أن المغامرين الشوام الذين لعبوا دوراً محورياً في التأسيس للفنون والآداب، قد انطلقوا من أرضية إحيائية، لوصل شوقي والجواهري بالمتنبي والمعري، وتكريس تمايز العرب لغة وثقافة عن صيغ الاحتلال آنذاك: التركي، الإنكليزي، والفرنسي.

بلغت “الإحيائية العروبية” ذروتها عبر مشاريع سياسية في صلبها التجربة الناصرية التي أفلت بالنكسة.. ليشهد الخطاب الثقافي في صحفه ومجلاته أفولاً موازياً وتدريجياً.

في المقابل كان ثمة تيار آخر يولي وجهه شطر الاندماج في العالم، والإعلاء من الحرية الفردية، وهو تيار ضم علمانيين وملاحدة وسورياليين وإشتراكيين.. وقد عبر عن نفسه مثلاً في “المجلة الجديدة” في أربعينيات القرن الماضي عندما كانت تحت سيطرة السورياليين.

آنذاك كانت الصحافة الثقافية تدور في فلك أسئلة الهوية بكل تحولاتها. وكانت أكثر تعبيراً عن مذاهب وتيارات جمالية وفلسفية كبرى.

ثم تقزم الاهتمام نوعاً ما، بضمها تحت أجنحة الأحزاب السياسية وأيديولوجياتها المغلقة، فكانت مقالات العقاد تمجيداً للوفد، ومقالات طه حسين مناوئة له، وصولاً إلى التجربة اليسارية النشطة في مجلة “روز اليوسف” في عصرها الذهبي، والطريف أن تلك الكتيبة اليسارية كانت بقيادة كاتب ليبرالي هو إحسان عبد القدوس!

ثمة طرفة شهيرة يرويها الكاتب والصحافي الراحل فتحي غانم عندما انزعج السادات مما تنشره مجلة “روز اليوسف” فطلب إبعاد غانم عن منصب رئيس التحرير وإسناد المهمة لرجل طيب، ولما سُئل السادات عن رأيه في المجلة اليسارية بعد تعقيمها قال بصوته الرنان: “بقت ممتازة خالص، مافيش فيها حاجة تتقرا”!!

لم تخسر الصحافة الثقافية جموحها الإحيائي العروبي، فقط، ولا محاولاتها المتمردة للانتماء إلى العالم، بل خسرت أيضاً قدرتها على التعبير عن أي تنوع أيديولوجي، لمصلحة عملية تأميم (إخصاء) ممنهجة، كي تظل تصدر لكن بشرط “ما يكونش فيها حاجة تتقرا”، في ذروة التوحيد المطلق للصحافة تحت جناح سلطة مطلقة.

انتهى مصير الصحافة الورقية في العالم العربي، ما بين سندان سلطة ترعبها أي كلمة ما لم تكن صادرة عنها، ومطرقة التمويل بغموض أجندته.

ولا شيء يكشف بؤسها مثل الصحافة الثقافية تحديداً، لأن صحافة الاقتصاد والفن وكرة القدم والسياسة والمحليات، قادرة أن تعتاش على أي فتات، يضمن صمودها.

أما الصحافة الثقافية فخسرت معاركها تباعاً، وجرى إخصاؤها على الدوام، فكان من الطبيعي أن تموت مجلاتها سريعاً، وتختفي صفحاتها من الصحف. وأن يتبدل موقعها، من قيادة النهضة الموءودة، إلى المكوث في الذيل كمتنفس استمنائي يجامل من خلاله المثقفون بعضهم بعضاً.وهذا طبيعي، في ظل أنظمة تستثمر في الجهل، وتستبقي الثقافة بكل نتاجها مجرد “حلية” في برنامج لا يشاهده أحد، أو مجلة تستمر بالقصور البيروقراطي الذاتي.

ورغم أن شبكة الإنترنت فككت البنية التقليدية للصحافة الثقافية بكل أمراضها، وضخت شرايين جديدة.. فلو أجرينا إحصاء لما يُتداول في “شبكات التواصل” عربياً، سنجدها تعج بكل التفاهات الممكنة، وآخر همها الإبلاغ عن قصة أو قصيدة جديدة، أو مقال لمفكر.

وهكذا باتت السلطة، والشعوب العربية، يداً واحداً في الاسترابة في أي نتاج ثقافي، والعمل على إقصائه، والسخرية منه. وكانت ثمة قسوة عظيمة في وأد وتحطيم أي “مُوصلات” للثقافة. ليبدو الإبداع العربي مُفتقداً دائماً لقنوات إيصاله، ومرجعيات تقييمه، واحتفاء جمهوره، كأنه يسبح في فوضى الفراغ الهائل.

عبدالهادي سعدون (العراق): دور الرقابة

أعتقد أن كل حقل معرفي مرتبط بفكرة واتجاه معين، والثقافة ليست بعيدة عن هذا التوجه وذاك حسب مؤسس هذه الكتلة الصحافية أو المسؤول عنها (ومن تقوم بهذا الاستفتاء تقع ضمن التصور نفسه). يجب أن ننتبه إلى أن كل مشروع يتأسس على أطر تفرضها الغاية من هذا المنشور الثقافي أو الصفحات الثقافية في مجلة أو صحيفة معينة. قد تتباين هذه الصفحات بين حين وآخر إلا أن الرابط المحوري هو نفسه تتحكم به المعايير المؤسسة له ضمن اتجاهها القديم أو المعاصر، اليميني أو اليساري أو الوسط، وهي بهذا مثلها مثل كل موجة سياسية أو اجتماعية. بعد هذا القول لا بد من التنبه إلى دور هذه الصفحات الثقافية ومدى تابعيتها لجهة معينة دون أخرى. الصحف الثقافية قديماً كانت تتبع مؤسسة أو وكالة صحافية معينة وبالتالي تعتمد معايير المؤسسة نفسها بشكل وآخر. أما اليوم وبمساعدة الإنترنت ووسائل التواصل

الاجتماعي أصبحت الصحافة الثقافية نوعاً ما متحررة من الكثير من شروط الماضي، بشكل يقربنا من الحرية في التناول والطرح والمتابعة. لكن هذا لا يعني أن الماضي الثقافي مقيد والمعاصر متحرر، بل قد نجد من هذا وذاك في الزمنين والظرفين.

من خبرتي في مجال المجلات الثقافية بالعربية والإسبانية والتي عملت فيها لفترة طويلة، ما تحتاجه الصحافة الثقافية هو أن تكون مستقلة وليست تابعة لجهة معينة ولا أن تكون لصيقاً لملء الفراغ في الصحف والمجلات العامة، ودورها يقع ضمن مسؤولية الجميع من محررين ومشاركين، ولكن الأهم أن يتضح دورها وهدفها وخطوطها العامة وألا نضع عليها أي قواعد مشروطة تحد من حرية النشر إلا ما يقع ضمن خطتها المدروسة. ما نزال في عوالمنا العربية لا نتجرع هذه الشحنة دون مردها لموانع سياسية أو اجتماعية. لقد أصبحنا (دور رقابة) بيقين أو دون وعي منا.

في كل يوم مع حركة التواصل الدائمة عبر شبكة الإنترنت أصبحت العملية متاحة للجميع ومتسعة سعة الدور الثقافي نفسه وعلاقته بما يدور من حراك سياسي ـ اجتماعي، لذا لا أجد خطراً على تواصلها وأهميتها كورقة دفع وديناميكية في المشهد الثقافي العام. لم تعد الثقافة هامشاً مكملاً في الصحف، بل أصبحت من ضمن المشهد المركزي نفسه. صحيح أن الأمر احتاج منا عقوداً طويلة، ولكن وصولنا اليوم لهذا الزخم من القوة الثقافية ومدى استمراريتها يحتاج من المثقف وعياً جماعياً بأهمية العملية وجدواها وضرورة تواصلها بهيئة وأخرى. الثقافة وصحافتها بأشكالها المختلفة قديماً وحديثاً تخلق منا شعلة حراك وتواصل وخلق دؤوب.

كل نشاط ثقافي مرتبط بشرط مجحف معناه قتل الوليد قبل خروجه للنور. وما نحتاجه نشاطاً تنويرياً متعدد الاتجاهات والسياقات ليكون درباً متشعباً شبيهاً بالذهنية البشرية المتشعبة والمتحفزة والقادرة على التبدل والتغيير والتواصل. البشر أكثر تعمقاً وجمالية بتواصل مع الثقافة والمعرفة، وأفترض أن دور الصحافة الثقافية يقع في هذا المنحى المستمر والمتطور يوماً بعد آخر.

عمران عز الدين (سورية): صحافة التوجّه السياسي

لم تكن الصحافة العربيّة ما بين الأمس واليوم إلّا صحافة كذبٍ وتضليلٍ، مثلها مثل سائر الوسائل المرئيّة والمسموعة الّتي تكذبُ حتّى في النشرة الجويّة. أما في ما يخصُّ ملاحق الصحافة (الثقافيّة) فإنَّها في أوجِ (اِزدهارها) ما كانت إلاّ تتويجاً للتّوجّه السياسيّ البعيد تماماً عن الثقافة والمثقفين في جُلِّ (بلاد العرب أوطاني)، فملاحق اِتحادات كُتّاب العرب مَثلاً كانت ملاحق ناطقة باسم أنظمتها المُستبدة، وفي سوريّة كانت تلك الملاحق ملاحق ثقافيّة بصبغةٍ سياسيّة، وكذلك الأمر بالنسبة للملاحق العربيّة الّتي غالباً ما كانت منحازة لوجهةِ نَظرٍ مُعيّنةٍ، أو تَوجّهٍ فكريٍّ/ سياسيٍّ لم يكن يحيد عن مساره ـ ويا للمصادفة ـ كلّ من كان يُراسلُ تلك الملاحق!. كنتُ أقرأُ بِدأبٍ ومُثابرةٍ تلك الملاحق لِفترةٍ من الزمنِ معقولة، والحصيلة كانت صفر ثقافة. بعد اِختراعِ الفيسبوك ما عادت الصحف العربيّة وملاحقها الثقافيّة تعني لي شيئاً، ملحقي الثقافي اليوم أطالعه متى ما أشاء، أضغطُ على خَيَارِ المتابعة لِنخبةٍ مِنَ الكُتّاب، فأقرأ قصيدة لأحدهم، مقالاً نقديّاً لآخر، أقرأُ أخباراً عن أحدثِ الإصدارات، فأجدني قد اكتفيت، وارتويت.

السياسة أحد أهمّ الأسباب الّتي جعلت من الصحافةِ العربيّة صحافة حضيضٍ، والتمويل أيضاً، فضلاً عن اللوبي الّذي يشرف على تلك الصحف والملاحق: فمن كان يموّلُ تلك الصحف كان يفرضُ على المشرفين عليها توجّهه الفكري السياسي، فتنحاز بالضرورة له، وتعملُ من ثمّ على اِصطياد بعض الكَتَبَة الّذين كانت تنصبُّ رؤاهم في معين التوجّه ذاته. وهذا بدوره كان يكرز لانحطاطٍ من نوعٍ آخر: باقة من الكتّاب تحتكر مثلاً ملحق السفير، والأمر ذاته بالنسبة لملحق كلمات والنهار والبيان والثورة وتشرين. لم يحدث في تاريخ صحافة (حكلّي لحكلّك) أنْ نشر رئيس تحرير صحيفة ما مقالاً لأحد الكُتّاب عن كاتبٍ هو على خلافٍ سياسيٍّ أو فكريٍّ أو علميٍّ معه، ما هذا؟ هل يوجد أمر مقيتٌ ومريعٌ أكثر من ذلك؟. مثالٌ آخر: “مجلة ثقافيّة” اليوم ترتكب المعاصي الثقافيّة ولا تستتر، فتنشر للأسماء ذاتها، والطريف أنَّ رئيسَ التحرير يُشارك رابطاً للمجلّةِ كلّ شهرٍ في صفحته الفيسبوكيّة فتنهالُ عليه التعليقات ممن نشر لهم، يكيلون له فيها المديحَ تلو المديحِ مسبّحين بحمده، على أنَّ التعليق الّذي يدعو للقيء هو: “مباركٌ لك ولنا يا دكتووور”، فهل هذه مجلّة أبو الدكتور مثلاً؟!. في دردشةٍ فيسبوكيّةٍ مع رئيس تحرير مجلّة ثقافيّة أخرى طلبت منه أنْ يزوّدَني بإيميل المجلّةِ، فردَّ عليَّ ردّاً غريباً، فحواه أنَّ المجلةَ تُعاني من مشاكلَ ماليّة!. هل تعلم لماذا يضحّون بالملاحق الثقافيّة ما إنْ يتوصلوا بإعلاناتٍ تِجاريّةٍ أو بحدثٍ سياسيٍّ ما؟ لأنَّهم يعدّونَ الثقافة إكسسواراً، ترفاً، وحلية. ماذا نتوقعُ من صحافةٍ كهذه كرّست للتخلفِ والمنفعيّة الماديّة منذ عقودٍ؟. الصحافة الّتي كان يديرها علي عقلة عرسان ونضال الصالح ـ راجع كلمة العدد في حقبة إدارتهما الديناصوريّة ـ ماذا نتوقعُ منها؟ من أتى بعدهما اِختطَّ يقيناً الخطَ ذاته. صدقني هؤلاء وأشباههم لم يكن يعنيهم الشّأن الثقافيّ في شيءٍ، كانوا الطابور الخامس المُخترق للسلطة الرابعة أو صاحبة الجلالة، والّذين كلّفتهم جهة حكوميّة قذرة ـ مخابرات غالباً ـ بأنْ يختاروا للنشر المقال أو القِصّة أو القصيدة الّتي لم تكن تُعنى بأيّ همٍّ، كانوا يختارون (الأدب) المُهادن، المُخدّر، الأدب الّذي يكرز للقزميّة وللأميّة وللتسطيح أو الطحلبيّة الثقافيّة والفكريّة.

ماذا نتوقعُ من ملاحقَ ثقافيّة تتحدثُ منذ عقودٍ وحتّى اليوم عن قصيدة النثر على اِعتبارها قصيدة لا إيقاعيّة، لا وزنيّة، دخيلة، غربيّة، عميلة، جاءت لِتُنَكِّلَ بقصيدةِ العمود؟ ماذا نتوقعُ من ملاحقَ ثقافيّة تتحدثُ عن الأدب (النسوي) باِعتباره أدب درجة ثانية، وأقلُّ قيمةٍ من الأدب (الرجالي)!؟ ثمّ ماذا يعني أدب نسوي؟ ماذا نتوقعُ من ملاحقَ ثقافيّة تخوّن شِعر الآخر وموسيقى الآخر وفنّ الآخر ومسرح الآخر وقصّ الآخر؟ ماذا نتوقعُ من ملاحقَ ثقافيّة تبرعُ في اِفتعالِ صراعاتٍ (ثقافيّة) تستغفلُ فيها القارئ اِستغباءً على أنّها صحافة الرأي والرأي الآخر؟ ثمّ ماذا نتوقعُ من صحافةٍ تكذب على قرائها وكُتّابها بأنّها صحافة حرّة ومستقلّة، والقاصي والداني يعلمُ أنّها ليست حرّة، وليست مستقلّة، بل مُنحازة، وستنقرض، إنْ آجلاً، وإنْ عاجلاً!؟

(2)

الجزء الثاني

صلاح بوسريف (المغرب): ثقافة الواجهة

لعبت الصحافة عموماً دوراً كبيراً في دعم الثقافة وترويجها، بل كانت الثقافة، في كل الجرائد التي صدرت في أواخر القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، ليس في المشرق العربي فقط، بل وفي بلاد الشام والمغرب العربي، حاضرة بقوة، عبر كتاب ومفكرين ومبدعين، وكانت الجرائد تتسابق لاستقطاب الكتاب، بل كان بعض الكتاب والشعراء إما أصحاب جرائد أو مسؤولين عن إدارتها، ما يعني أن المثقف لم يكن ثانوياً في الصحافة والصحف، بل كان ضرورة، لأنه كان، بعكس السياسي، هو من يطرح الأفكار والقضايا الراهنة لزمنه، ويستشرف أفق المستقبل، بنوع من الجرأة والمباغتة، وكان العديد من الكتاب المعروفين يكتبون أعمدة ثابتة في الجرائد، ويخوضون في النقاش العام، يمسون كل قضايا الثقافة والمجتمع، لأن منهم من كانت الصحافة بالنسبة له هي وسيلة التخاطب مع القراء والتحاور معهم، قبل الكتاب. فطه حسين، كمثال فقط، كان بين أهم الكتاب والمفكرين الذين نشرت أهم أعماله في الصحافة، مثل “حديث الأربعاء”، وأيضا مقالاته حول الديمقراطية، التي جمعت في كتاب في ما بعد، وفي السياسة، وكذلك في النقاشات الأدبية التي كانت تجري بين المثقفين، وتترك خلفها الكثير من الجدال والنقاش. ويمكن، هنا، الحديث عن العقاد أيضا، وعن نجيب محفوظ لاحقا، باعتباره روائيا، فعدد من رواياته نشرت في الصحافة عبر أسابيع، وكان القراء يقبلون عليها باهتمام. ويمكن أن أذهب إلى لبنان وسورية والعراق، وأتوقف عند الجواهري الذي عمل بالصحافة، وكان مسؤولا عن بعض الصحف، وقد عمل السياب معه أيضا محررا، ونشر مقالاته في نقد رفاقه القدامى من المثقفين الشيوعيين، وقد جمعت مؤخرا في كتاب.

الأمثلة كثيرة، وحتى في الغرب كانت الصحف وما تزال تلعب نفس الدور، رغم أن المادة الثقافية في الجرائد اليوم تقلصت، وأصبحت تحسب بعدد الكلمات، بعكس ما كانت عليه من قبل، فهي كانت تسع المقالات والدراسات والنصوص الإبداعية دون حساب الحيز. اليوم يتحدث البعض عن الصحافة لايت، التي تكتفي بالأخبار، وبنشر الدراسات والمقالات ذات النفس القصير والخفيف والعابر، وهذا أدى إلى غياب العمق فيها، وباتت المجلات، هي، نسبيا، ما يستوعب الدراسات الطويلة، بما تطرحه من أفكار وقضايا ومشكلات.

ربما ظهور المواقع الإلكترونية، ومزاحمتها للجرائد، بهذا النوع من الكتابات، وتقلص سوق القراءة الورقية، كان أحد أسباب تكيف الجرائد مع هذه المتغيرات الجديدة. فالأمر مس الجانب الثقافي في الجرائد، وباتت الملاحق الثقافية الأسبوعية بدورها تعاني هذا المشكل، في موادها، وطبيعة وأهمية المواد. ثمة ملاحق توقفت، أو تقلص عدد صفحاتها، أو أنها تختفي، دون اعتذار، إما بسبب حدث سياسي ما، أو بسبب الإشهار الذي تعمل به أغلب هذه الصحف على سد ما تعانيه من عجز مادي.

جرت مياه كثيرة تحت جسر الثقافة في الصحافة، والجرائد بدورها، في تتابع صدورها، فهي تقاوم واقعاً ثقافياً تدنت فيه القراءة، والمدرسة استقالت وباتت بدون جدوى، وكذلك الجامعة، والإعلام يروج لمجتمع الفرجة والاستهلاك، ولتسطيح الفكر والنظر، في مقابل مجتمع العلم والفن والمعرفة، هذا الذي هو الحل للخروج مما نحن فيه من معضلات واقعنا العربي البئيس، لأن في تقليص مساحة الثقافة في الجرائد وفي الإعلام، تقليص لدور الإنسان في تغيير المجتمع، والتأثير فيه، والجريدة هي وسيلة لهذا التأثير، عبر الثقافة طبعا، لأن ما يأتي من السياسة، يكون عابرا وزائلا، لأنه لا يتجاوز عمل الإطفائي، أما المثقف فهو يعمل في أفق بعيد، وهو صاحب رؤية وموقف، ويعيد صياغة المفاهيم والإشكالات والأفكار. وبدون صحافة وإعلام ومدرسة وجامعة وكتاب، لن يحدث هذا.

سامي داوود (سورية): الثقافي والسلطة

تمرير الثقافة عبر الصحافة أمر إشكالي بحد ذاته، إذ تتعارض أدوارهما وظيفيا. تشترط الثقافة استقلالية فكرية، وترتبط الصحافة بسلطة رأس المال. كان المفكر النمساوي كارل كراوس يعتقد أن الإعلام يعمم الخبل بين الناس، ولو قُيّضَ له رؤية الإعلام المعاصر، لوجد لاعتقاده ذاك، بنية منتظمة على شكل قانون في الخُبل. لذلك أعتقد أن السؤال ههنا يحيل إلى مفهوم المؤسسة التي تسمح للثقافة أن تجري عبرها إلى المجال العام. وهذا يحيلني إلى مقاربتين وجدتهما في علاقة نعوم تشومسكي بمعهد ماساتشوستس، وعلاقة بيير بورديو بالكوليج دو فرانس. فالأول كان يكتب ضد الحرب داخل مؤسسة كانت تمول أيضا الأبحاث العسكرية، دون أن تصادر حريته في انتقاد المعهد الذي يمول دراساته ونقيضها. وهو الأمر ذاته الذي اعترف به بورديو، في اعتباره لمؤسسة الكوليج دو فرانس، مؤسسة لا تحرمك من معاشك حتى وأنت تنتقدها.

في مقابل ذلك، نجد فئة من مدراء التحرير في مؤسسات ثقافية كثيرة تحول المثقفين إلى موظفين. وبالتالي تجردهم من دورهم الثقافي. نوع من الإخصاء النقدي بمؤثرات مالية. إلا إن كان المحرر في بعض الصفحات الثقافية مُتصعلك الهوا، ومجازفا بوظيفته المسلكية على حساب مكانته النقدية داخل المجتمع.

في عُجالة هذا الاستئناس، أتذكر شرطا أساسيا في قراءة كانط لمفهوم التنوير، ذلك المتعلق بتنزيه الحق في الإعاشة من الأيديولوجيا. هذا الشرط الذي لا يستعيده ميشيل فوكو في قراءته لقراءة كانط ولسبل خروجنا من القصور ـ عدم الأهلية ـ إلى الرُشد. هو ما يشكل في الحقيقة الدارة الأساسية لتشغيل الحقل الثقافي داخل المؤسسات وخارجها أيضا.

بناء عليه، هل ثمة معوقات لأثر الثقافة في الحياة؟. قطعا توجد سلطة تمنع تسرب الثقافي إلى السياسي والمجتمعي في آن. لذلك ثمة سياسة ثقافية لإنتاج فاعلين مطيعين ومستلبين، يظهرون على المنصة التي تجرد الثقافة من فردانيتها، وتجعلها سلعة عامة، شيء في متناول الجميع القيام به. هذا التسطيح المنتظم لتحويل الثقافي إلى صناعة جماهيرية، وجعله مناهضا للعقل، هو الذي يضخُ اليوم اللغة التي تحرك تواصل الناس المنفلت، في الفضاء الأزرق، المقتضب، الخاطف، الفارغ، الناسخ.

إن حذفنا الصفحات الثقافية من المنصات التي ما زالت إلى اليوم تقدم الحاجة الأعلى للإنسان، ما الذي سيتبقى للناس من أجل متابعته؟ فضائح المشاهير وأجساد السيلكون، فساد السلطة الدينية والسياسية؟. باختصار، خرابُ الكائن بتعبير لوتريامون في أناشيده، هو ما سيتبقى للناس متابعته دون القدرة على عدم الرضوخ له.

ليست حالة اللهو عرضا للعنف الذي أفرزته حالة ما بعد الحداثة، بل هو مؤشر على ضعف الثقافة في ردم الفجوات المتقيحة في الروح الإنسانية. علينا أن نعترف ونحن متسلحين بتلك الصرخة التي لا أملُّ من استعادتها، تلك التي وضعها يوجين يونسكو في آخر سطر من مسرحيته “وحيد القرن”، والتي تأتي من ذاك الذي يصفه والتر بنيامين بالأشخاص الذين يمنحوننا الأمل وهم دون أمل. لذلك آمالي بتسرب الثقافي إلى الوجه المعاصر ما زالت قائمة، رغم قساوة العصا التي يرفعها “شيخُ الجبل” ضد إنسانيتنا.

محمد عيد إبراهيم (مصر): حال متردية إلى أقصى مدى

في ما نحن نعيش فيه من حال متردية إلى أقصى مدى ربما في تاريخنا الطويل البائد، لم يعد للثقافة من معنى أو جدوى أو ثمار قد يفيد بها امرؤٌ مطالع لنتاج الثقافة أو حتى مشارك في هذا المنتج. فقد سوّدت الأنظمة العربية، في مجملها تقريباً، حياة الناس، سواء كان غذاءً مادياً أو غذاءً روحياً. تعمل هذه الأنظمة حالياً على شحذ الهمم لا لتصل إلى مراتب عليا في الوجود، بل لمجرد أن تأكل وتشرب وإن بالكاد طبعاً.

وصارت هناك طبقة عليا لا تزيد عن 10% من عدد السكان، هي التي تتنعم بما قد تجود به الحياة من مطعم وملبس ومأكل ومشرب، بينما يسعى الباقي وهم حوالي 90% في تسقّط ما قد تصل إليه أيديهم من بقايا الحياة، فهم لا يجدون غير القشور وأرجل الدجاج وشرائط الأدوية المستعملة والملابس البالية إلخ. بعضهم يصرخ، لكن لا فائدة، وقد يُسجنون من جراء هذا الصراخ الأجوف. فلا مستجيب ولا أحد يهتمّ بأحوالهم، وصارت حتى الإعلانات تريد من هذه الطبقة المسحوقة، إن كان لنا أن نسميها طبقة، إعالة الآخرين، وهم عاجزون حتى عن إعالة أنفسهم، لأن الطبقات العليا لا تراهم ولا تريد أن تشمّ رائحتهم.

وانعكس هذا على الحال الثقافية، فصار معظم الناشرين مجرد قطاع طرق ينهبون المؤلفين، في الأغلب الأعم، حيث صار في مصر الآن ما يزيد عن ألف ومائتي دار، معظمها لا يفقه في صناعة النشر شيئاً، بل هي مجرد (أسباب) لنشر الإبداع بفلوس المبدعين، أو بوعدهم أن ينالوا من التوزيع نسبة، وأنّى لك أن تعرف كم يطبع وكم يوزع، ومنهم أيضاً من يطبع خمسين نسخة أو مئة على الأكثر بطريقة (الطبع الرقمي) ليعطي المؤلف عشر نسخ والباقي للزمن، ويضيع حق المؤلف في ذيوع منتجه الثقافي.

من هنا صارت الحروب طاحنةً بين المبدعين، فثمة سباق بينهم على تملّك النقاد ليكتبوا عنهم، وإن في صحف ميتة أو مجلات منوعة لا رابط بين موضوعاتها أو حاكم لملفاتها. وتكونت شلل أو ما يشبه العصابات، تأسياً بما يحدث في السياسة البائسة، فلو لم تستطع أن تنضم إلى جماعة منهم، فلن تنال نصيبك من رؤية منتجك الثقافي، فالشرط الوحيد لم يعد جودة الإبداع أو تألق الفكر، بل الالتحاق بإحدى هذه العصابات التي توفر لك ناقداً يعمل على نشر منتجك ونقده والتعريف به وبصاحبه، وإلا فسيذهب هذا المنتج إلى الظلام لا أحد يحس به أو يسعى إلى قراءته. وصار “الفيسبوك” هو أضعف الإيمان للجميع.

عبد اللطيف الوراري (المغرب): تاريخ مشرق

للثقافة في الصحافة العربية في العصر الحديث تاريخ مشرق؛ بحيث ساهمت، في فترات متقطعة، في النهوض بأوضاع الفكر النقدي والإبداع الأدبي داخل أوساط المجتمع التي كانت تتنامى باستمرار رغم ما كانت تعرفه من حالات الحصار والمضايقة وتكميم الأفواه لغياب مناخ الحرية المنشودة، وأخذت تشكل حالة وعي حديث ناشئ كان له دور فاعل ومختلف في مجمل القضايا السياسية والسوسيوثقافية الطارئة، وتقريب جمهور القراء منها. وقد أفرزت الصحافة الثقافية، منذ ذلك العهد من بدايات عصر النهضة فصاعداً، رموزاً فكرية وإبداعية من خلال ماكان يجري على صفحاتها من معارك أدبية ونقاشات فكرية وفلسفية غير مسبوقة، ولا سيما في بلاد الشام ومصر وشمال أفريقيا وبعض المهاجر الأوروبية (فرنسا، إنكلترا).

بيد أن هذه الصفحات بدأت تتقلص، وتتوارى ثم تحلّ محلها ضروب من زيف الوعي وأشكال الموضة وممالأة السلطة، وذلك أثناء تغوّل نظم الحكم الجبري، أو مع صعود وسائط الميديا التي نقلت جاذبيّتها ذلك الجمهور النوعي إلى فضاء الاستهلاك والفرجة دون القدرة على الفعل والمبادرة ومواجهة حجب السلطة بشتّى أنواعها، على نحو ما كرس طبقة هلامية وغير مسؤولة.

وإذا كان سياق (الربيع العربي) قد أعاد الاعتبار للصحافة الثقافية بعدما انتعشت آراء المثقفين وتدخّلاتهم في ما يجري، بل ازدادت أمانيهم بضرورة التغيير والإصلاح والانخراط في التاريخ وصنعه، وبعدما شدّت إليها الجمهور المهتمّ والطامح حتى ممن لهم قدر لا بأس من التعليم، لكن سرعان ما دخلت في بيات شتوي بسبب الحوادث المدمّرة التي أنتجها ذلك السياق، وبسبب حالات اليأس والإحباط التي أفرزتها وعاودت الظهور من جديد، وسادت كالهشيم في مواقع التواصل الاجتماعي بين أوساط الشباب.

ولهذا لم أستغرب من توقّف أو انحسار بعض المنابر الثقافية العربية (مجلات، صحف، مواقع..)، إما لغياب دعم الدولة، أو عزوف القراء، أو صعوبة مواكبة الحدث لما تتطلبه من تكلفة مادية ورمزية، أو حتى بفقدان البوصلة وسط مدار التيه والضياع الذي وجدت نفسها فيه.

وقد أنتج هذا الوضع صحافة ثقافية بديلة تعتمد الكمّ بدل الكيف، والشكل بدل المحتوى، وتستورد الموادّ من الخارج بدل أن تفكر في الواقع وتبتكر أطروحات جديدة، وتعطي مساحات للموضة والألوان والبهرجة على حساب الفكر النقدي.

لكن مع ذلك، ما زالت ثمة مساحات مشرقة ومنشودة تقاوم من أجلها صحافة ثقافية حرة ونقدية، تحترم وعي القارئ وتوسع أفقه وذائقته، وتُبقي الأمل بيننا يقظاً، والأوراق لا تخذل الوعد بالإزهار.

عبد الزهرة زكي (العراق): تزييف الحرية وتشويه قيمتها

إلى حد ما يمكننا القول إن جانباً أساسياً من الإنتاج الثقافي العربي، خلال القرن العشرين، قد جرت ولادته من خلال رحم هذه الصحافة الثقافية، من مجلات وصحف.

جدل الحياة الثقافية واختلافاتها وتوافقاتها هي الأخرى كانت تجري عبر هذه الصحافة. وهذا جدل لم يكن قائماً حصراً على الاختلافات والصراعات السياسية والأيديولوجية، برغم أهميتها، فهو أيضاً كان جدلاً ما بين النزوع للحداثة وما بين التمسك الأصولي بالقدامة، وهو كذلك جدل ومعارك في الداخل من إطار حركة التحديث منظوراً إليها من زوايا فكرية وفنية مختلفة، كما حصل لسنوات ما بين مجلة شعر من جانب ومجلة الآداب من جانب آخر.

بالتأكيد لا يمكن فصل أداء واهتمامات أي مطبوع عن إرادة وتوجهات الجهة المالكة للمطبوع، أو الداعمة له، وعن دواعي حاجتها له. أكاد أشك في أن يكون لدينا في عالمنا العربي مطبوع واحد ليس مملوكاً لجهة حكومية أو سياسية، أو في الأقل غير مدعوم بمالٍ لا يعطى إلا من أجل دافع سياسي. هذه الطبيعة تلقي بظلالها، ثقيلةً أو خفيفةً، على نوع الأداء للنشريات الثقافية.

في بعض الصحافة، العامة أو الثقافية تحديداً، أُريد ويراد إيهامنا أحياناً بالاستقلالية وعدم التابعية، وهذا أتعس أنواع الأدوار الصحافية. النشر، بضمان تفهم مسؤوليات الكتابة، في مطبوع دولة حتى وإن تملكه حكومة الدولة هو أقل ضرراً من نشر بمطبوع قائم على وهم الحرية كلما أراد الوهمُ تزييفَ الحرية وتشويه قيمتها.

في مثل هذه الظروف، في حال صحافة مملوكة لما سياسي حكومي أو غير حكومي، لا يمكن للكتاب والأدباء أن يتوقفوا عن العمل أو الكتابة في هذه المجلات والصحف، خصوصاً في بعض بلداننا التي تحتكر الحكومة فيها ملكية وسائل النشر. سيكون معيار نجاح أي كاتب أو محرر هو في قدرته على حفظ توازن صعب يضمن ما يمكن إتاحته من حرية للرأي ولا يضعه تحت سطوة تعسف المالك السياسي.

عملياً يمكن القول إن الثقافة تتقدم وتتطور بموجب إرادة المثقفين، من كتاب ومؤلفين بمختلف الحقول وأكاديميين وفنانين، وليس بما تسمح به أو تمنعه صحافة. الصحافة، بموجب تابعيتها وملكيتها، قد تعيق أو تساعد في تكثير فرص التقدم لكنها ليست حاسمة في ذلك. ما هو حاسم هنا هو قدرة المثقفين على التمنع أو المطاوعة.

عبدالفتاح بن حمودة (تونس): المبادرات الثقافيّة الفرديّة

لولا ثقتي ببعض المبادرات الثقافيّة الفرديّة لبعض الأصدقاء العرب من المقاتلين في المجال الثقافيّ، ما كنت أسهم بشيء لإيماني المطلق بأنّ الثقافة فعل حرّ. والثقافة الحرّة لا تكون إلاّ لدى الشعوب الحرّة، وهذا ما لم يتوفّر في هذه الدول.

هل لدينا مجلّة واحدة مثل le monde diplomatique حتى في نسختها العربية “لوموند ديبلوماتيك”؟ وهل لدينا مجلّة واحدة مثل magazine littéraire؟

عن أي إعلام ثقافيّ عربيّ نتحدّث؟

وكي لا أكون متشائما، أقرّ بحفاوة وسعادة بأن لنا تجارب عربيّة رائعة قامت بمشروعها التنويريّ طيلة عقود مثل مجلاّت الطليعة والأقلام (العراق) الهلال وإبداع وفصول (مصر) والناقد والآداب ومواقف وكتابات معاصرة والعرب والفكر العالمي والفكر العربية المعاصر والوحدة (لبنان)، والمدى (سورية) والكرمل (قبرص/ رام الله) والثقافة المغربيّة (المغرب). سأذكر الصحف العربيّة التي كنت أتابع أعدادها بشغف رغم أنها كانت محاصرة في تونس وكانت تصل بصعوبة وتُمنع بعض أعدادها أو تنام في الرفوف بتعمّد التأخير، مثل القدس العربي والزمان وبريد الجنوب (لندن)، والفينيق (الأردن)، والعَلم والاتحاد الاشتراكي (المغرب)، وأخبار الأدب (مصر)، والسفير والنهار والشرق الأوسط (لبنان)، والعرب (تونس/ لندن). ثم ظهرت مجلات أخرى بعضها ما زال يقاوم وبعضها توقف مثل ضفاف في النمسا وواحد في هولندا وألواح في مدريد ومجلات مرافئ ومواسم ومجلة (المغرب) والكتابة الأخرى (مصر) ومجلات ثقافية أخرى مثل مشارف ونقد وتافوكت وعيون والحركة الشعريّة التبيين والجاحظيّة وأبابيل وتكست ونصوص من خارج اللغة (المغرب) والجديد والشاعر والجسرة ومجلات أخرى كعالم الفكر وعالم المعرفة والعربي (الكويت) وقصص والحياة الثقافيّة (تونس) ونزوى (سلطنة عمان) وشعريّات (ليبيا) والفيصل (السعوديّة) إلخ من المجلاّت أو الصحف. ويعود ذلك أساسا إلى مقاومة الكتّاب والمفكرين إميل حبيبي ومحمود المسعدي والبشير بن سلامة وقيصر عفيف ومحسن الرملي وعبد الهادي سعدون وصلاح عبد اللطيف وبول شاوول وسيف الرحبي وحسن بن عثمان وأحمد حاذق العرف ووديع العبيدي وادريس علوش وأحمد الطريبق أحمد وهشام قشطة وأحمد الفلاحي وواثق غازي وعماد الدين موسى ونوري الجراح ونصر سامي وجوان تتّر وسعيد الباز وعزمي عبد الوهاب وغيرهم.

سترون أن صحفا كثيرة اندثرت أو تغيّر حالها وستلاحظون أن مجلاّت اندثرت أو توقّفت ثم عادت وستلاحظون أن أغلبها قام “على ظهور أفراد” من المبدعين والمفكرين: مطاع صفدي، رياض نجيب الريس، سهيل إدريس، أدونيس، سعدي يوسف، محمود درويش، عبد الباري عطوان، أمجد ناصر، عباس بيضون، حاتم الصكر، أنسي الحاج، الطاهر وطار، صلاح بوسريف، عبد المعطي حجازي، إبراهيم داوود، مهدي التمامي، جمال الغيطاني، عبلة الرويني وغيرهم من الإخوة الذين رحلوا أو ما زالوا يقاومون من أجل إعلام ثقافيّ.

المجد الأعظم للمخترع الألماني يوهان غوتنبرغ مخترع الآلة الكاتبة لأنه نقلنا إلى عالم الرقن كما يرى ذلك الشاعر صلاح فائق. والمجد للثورة الاتصاليّة ولبيل غيتس ولمارك زوكربيرغ.

بعض المشاريع العربيّة التنويريّة تموت بموت أصحابها. ويمكنكم العودة إلى تاريخ الصحف والمجلاّت العربيّة. ورغم الموت الذي غدر بمبدعين كثيرين، ما زلت مؤمنا بأن المبدعين العرب قادرون على مواصلة فعل التنوير من خلال المجلات والملاحق الثقافيّة. ورغم بروز الشلليّة والانتهازيّة والادّعاء والدّولار الثّقافي ورغم النظرة الدّونية للثقافة في الصحف العربيّة سيظلّ الإعلام الثقافيّ يواصل مسيرته من أجل التّنوير.

حسام أبو حامد (فلسطين): الثقافة في عالم رقمي

في مقابل انتعاش الصحافة الرقمية، بفضل التطور الهائل في وسائل التكنولوجيا والاتصال، تبدو أزمة الصحافة الورقية أزمة معولمة. بعض الصحف، عالميا، غادرت كليا المشهد الإعلامي، وبعضها استمر ورقيا، وأنشأت منصاتها الرقمية استجابة إلى رغبة قرائها، الذين يفضلون أزرار الكيبورد، وشاشات أجهزتهم المحمولة، على إشغال أصابعهم بتقليب الورق. بعضها الآخر تخلى عن نسخته الورقية المكلفة والمتعبة إلى النموذج الإلكتروني السهل والعملي.
لكن القراء لا يزالون يثقون بالصحافة الورقية، فبينت دراسة عنوانها: “المطبوع الورقي في عالم رقمي”، أجرتها مؤسسة تولونا الفرنسية، على عينة من 10700 قارئ، ينتمون إلى عشر دول ديمقراطية، أن 34% يطلّعون على الأخبار عبر وسائل التواصل الاجتماعي، وأن 56% يثقون في الأخبار التي تتداولها الصحف الورقية، وأن 74% يرون في منصات التواصل الاجتماعي بيئة مناسبة لانتشار الأكاذيب.
التقارير السنوية لا تزال تشير إلى أن حرية الإعلام العالمي هي اليوم في أدنى مستوياتها، منذ مطلع الألفية الثالثة، لتحتل منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا المراتب الأولى على سلّم غياب الحريات الصحافية، لتنحسر فيها، بشدّة، الشرائح التي تتمتع بحرية الصحافة (تحقق تونس تقدما ملحوظا)، لا سيما في ظل التوترات الإقليمية، والحروب الأهلية، وتنامي قمع أنظمة الاستبداد، لتقف الحريات الصحافية عند سقف تزيين الوجه القبيح للسلطة، وتسويِقِ منجزاتِها الوهمية داخليا وخارجيا.
ومع كل التضييق والإكراه الذي عانت منه الصحف في الدول الديمقراطية، فإنها حافظت على صمودها كسلطة رابعة، موفّرة هوامش ونطاقات جديدة لحريتها، ولتمويل مستقل يعتمد على دعم قرائها، وبقيت قادرة على صناعة الرأي العام وتوجيهه، أما عربيا، ومع تراجع الحريات، فقد انحسرت الصحافة الورقية بوتيرة أسرع، مع أن صحفا أنشأت منصاتها الرقمية، إلى جانب نسخها المطبوعة، فإن استمرار أنماط التفكير والعمل القديمة، وعدم قدرة إدارة تلك الصحف على تجاوز الإطار التقليدي الذي هيمن عليها لعقود، وإبداع طُرق وآليات جديدة في الكيف والمحتوى، تختصر الجهد والوقت والمال، أفقدها قراءها، وأعلنت إفلاسها. ومع تلاشيها ورقيا لم تستطع النهوض رقميا. ويبدو أن “الإعلام البديل”، عبر منصات التواصل الاجتماعي، أصبح حلا مفروضا يوفّر هامشا أكبر من الحرية، لكنه يواجه أزمة من طبيعة مختلفة، تتعلق بالمصداقية والمهنية، التي لا تتوافر غالبا في منصات “صحافة المواطن”، خصوصا في ظل الاستقطاب السياسي والمذهبي والمناطقي الحاد الذي انفجرت به المنطقة العربية.
في الثاني من سبتمبر/ أيلول العام 2014 انطلق في لندن العدد الأول من صحيفة “العربي الجديد” عن “فضاءات ميديا ليميتد”، المؤسسة الهادفة إلى الريادة في عالم الإنتاج الإعلامي، وإدارة وسائل الإعلام، وخدمات التواصل الاجتماعي، وانضمّت “العربي الجديد” إلى جانب أخواتها، من أدوات ومنابر ومحافل إعلامية، أقامتها تلك المؤسسة برأس مالها الخاص، في تجربة عربية فريدة تمثلت في كونها موقعا إلكترونيا صدرت عنه صحيفة ورقية، لا العكس، برؤية جديدة، كثيفة ومتنوعة ومنفتحة، موضوعية؛ حرصت على المصداقية والمهنية، ومنحازة؛ اصطفت إلى جانب الشعوب العربية في انتفاضاتها ضد الطغيان. وبعد تسييس الثقافي وتثقيف السياسي، وبحثا عن ضفة آمنة، يكون فيها الثقافي منطلقاً لأي نشاط إنساني، أطلقت “العربي الجديد” في الرابع من تشرين الأول/أكتوبر العام 2016 “ضفّة ثالثة” موقعا ثقافيا شاملا، يطمح لأن يكون منبراً لثقافة تنويرية تقدمية حداثية، يواكب المتغيرات السريعة في عالم اليوم. وتستقطب هذه الضفّة، وهي على أعتاب عامها الثالث، مزيدا من الجمهور، ومزيدا من الأقلام، دون أي كوتا، باستثناء كوتا التميّز كيفا ومحتوى، فارضة حضورها؛ جرأة في اختلافها، وتوازنا في رؤيتها، وجمالا وانفتاحا في جهود كادرها، ووفاء في تلقي قرائّها، ولذلك تستمر.

موسى حوامدة (الأردن): صناعة الثقافة

للأسف الشديد فإن صناعة الثقافة بشكل عام لدينا غير متوفرة، فلم تكن الثقافة أولوية في الأنظمة العربية إلا ما يخدم توجهات الأنظمة والأحزاب العربية والتنافس السطحي مع الأقطار الأخرى ولذلك لم تنشأ لدينا مؤسسات ثقافية وحضارية تأخذ على عاتقها فعل الثقافة وجعلها في المرتبة الأولى وليست تابعا ذليلا للسياسة.
لقد كانت تجارب خجولة وذات أغراض محددة تلك المشاريع الثقافية التي ظهرت خلال القرن العشرين، أما اليوم فنحن نشهد انقساما حاداً في المؤسسات الثقافية الموالية لهذا البلد وذاك البلد، وقد فعل مال النفط والغاز فعله في المشهد الثقافي، ونحن نرى اليوم الصراع السعودي القطري على المنابر الثقافية، وهناك التيار الثالث الموالي لإيران، ولم يبق في الساحة مشاريع ثقافية حرة أو غير موالية لأن هذه المشاريع ممولة ومدعومة بالكامل من الأنظمة.
بعض المحررين الثقافيين والشخصيات الإعلامية حصلت على منابر ومكتسبات ليس بسبب إبداعهم ولكن بسبب نفوذهم وتم فرض العديد من النماذج على الساحة وتغييب المواهب الحقيقية وصار الجمهور في عزلة عن الثقافة الجادة والحقيقية. لقد فرضت علينا الكثير من الأسماء ليس بسبب جودة الإبداع ولكن بفعل الضغط السياسي وتم تكريس أسماء بعينها ونماذج بعينها ولكل نموذج جوقة وتابعون مهمتهم الترويج والكتابة عن اسم محدد، حتى الجامعات صارت تتعاطى مع بعض الأسماء المحددة وترفض التجديد لأن الخراب وصل حتى للتعليم الجامعي العالي.
تمت السيطرة على الإعلام والصحافة الثقافية وحتى التعليمية وتم فرض نماذج كثيرة من التشويه في برامج استهلاكية مسلوقة وجوائز عجيبة، والتردي وصل إلى حالة من انزواء المبدع الحقيقي والعمل على مشروعه الخاص ضمن بعد فردي متواضع لا يملك مقومات التواصل والوصول للقارئ والجمهور المغيب والمستلب، وحتى وسائل التواصل الاجتماعي لم تكسر الأنماط السائدة بل كرستها ونشهد اليوم تراجعا حتى عن القرن العشرين ولم تظهر لدينا مشاريع ثقافية أصيلة وبعيدة عن السياسة ومصالح الأنظمة التي تبحث عن الموالاة ولا تعنيها الثقافة والإبداع.
حالة من التخريب والخراب لم تشهدها حتى سنوات الاستعمار وبعض الأنظمة المستبدة. لقد طغى النفط على كل شيء وضعف عدد المشتغلين بالثقافة أمام صعوبات الحياة والحاجة إلى دخل، وصار يعنيهم وصول موادهم ومقالاتهم إلى النشر للحصول على المكافآت مع ضرورة تبني آراء سياسية محددة وللأسف صار البعض يقبل من أجل لقمة العيش كما يقولون.
في غياب الحرية والعدالة صار المال هو السيد والمصلحة هي الهدف وليست الوسيلة وبتنا أمام حالات ثقافية مقزمة واتجاهات فرعية وغاب الإحساس بأهمية الثقافة والحضارة وانخفض البعد القيمي والأخلاقي لكل ما حولنا والنتيجة ما نرى من تشوهات وصلت الروح.

خلود الفلاح (ليبيا): إعدام الملاحق الثقافية

لا بد أن نتفق أن أي إصدار ورقي اليوم هو في خطر لا أعتقد بسبب منافسة المطبوعات الإلكترونية له فقط بل وأيضا بسبب تكاليفه المرتفعة فما بالك بمجلة ثقافية أو حتى ملحق ثقافي في جريدة؟. هذا الملحق مسكين يتم التخلي عنه دائما في المناسبات الوطنية والإعلانات التجارية. ثم أليس صدور حكم الإعدام بإيقاف ملحق “نوافذ” بجريدة المستقبل وملحق النهار الثقافي هو دليل فعلي على هذه الأزمة؟ ورغم كل التكهنات بموت الورقي بسبب تكاليف الطباعة والتوزيع وما إلى ذلك إلا أني لا أستطيع المقارنة بين الورقي والإلكتروني، كلاهما أستطيع القراءة خلاله.
كما أن الاتهام بأن الملحق الثقافي نخبوي مبرر قوي للمؤسسات الثقافية لتقليص صفحاته ومن ثم التوقف عن الصدور.

حمزة قناوي (مصر): الإقصاء والنبذ وتسفيه الآخر

إن الصحافة الثقافية باعتبارها كتابةً نَوعيةً مُتخصِصَةً لا تقتصرُ عَلى (الصحافة) فقط، ولا تكتفِ بـ (الثقافة) فحسب، كانَ من الطبيعي أن تكون لها خصوصيتها، وأن تحمل رؤى مختلفةً لكُتَّابِها تجسد قضاياهم وأفكارهم وتوجهاتهم وأيضاً صراعاتهم ومواقفهم من الحياة، من هنا أتصورُ أنهُ لا يُمكِنُ أن تَكونَ هُناكَ صحافة ثقافية حقيقية بدون “اشتباكات” بين أفكار كُتّابِها، واستعراض وجهات النظر المختلفة لهم، وكل هذا طبيعيٌّ “وصحي” حتى الآن، غير أن الأمر يبدأ في اتخاذ مسارٍ خاطئ إذا لعبت التوجهات السياسية دوراً في “تموقع” هؤلاء الكُتّاب خلف متاريسِ المواقف المتشنجة، لأن الخلاف السياسي يُنهي من البداية أية محاولة مقاربة فكرية لقضية ثقافية، وإضافةً إلى أن السياسة والثقافة حقلان مختلفان تماماً في رأيي، يحاول الأول جمع البشر حول فكرةٍ وقيمةٍ فنيةٍ أو إبداعية والبحث عن العوامل المشتركة بينهم لتعميق تقاربهم الفكري والإنساني، بالرأي والصورة والمقطوعة الموسيقية والفلسفة، أما السياسة فعكس ذلك تماماً في خنادقها المتواجهة، وفي احتقانها الدائم.
اعتناق الأيديولوجيا واعتبارها القاطرة الموجّهة للمسار الثقافي خطأٌ فكريٌّ في الممارسة الثقافية، من هنا رأينا منابر الصحافة الثقافية محتشدةً بالخِلافاتِ والصدامات حد الإقصاء والنبذ وتسفيه الآخر وإلغائهِ، ونسف أي قاسمٍ جماليٍ وفلسفيٍ مشترك. والأمر بطبيعة الحال لا يخلو من “ثمن” يُدفع لهذه الخندقة، فهناك ممولون وسياسيون وصُنّاع إعلام ورجال أعمال وسياسة، كلهم يفرضون توجهات منابرهم وفق ما يدفعونه ويقدمونه من مكافآت ومنح. بالمناسبة.. ابحث عن الدولارات أيضاً في حشد المثقفين في مواجهة بعضهم بعضاً في ملاحق الثقافة (وخارجها).
ووسط كل هذا الضجيج والصراع والمواجهات للأسف يُنسى جوهر وأساس فكرة “الثقافة” وأن هذه الملاحق الثقافية يُفترَض أنها أنشئت من أجل استعراض القضايا الفكرية ومتابعة أحدث الكتب وقراءة التاريخ الجمالي للأدب وإجراء حوارات يُفترض أنها تُقدِّمُ قيمةً حقيقيةً للقارئ، وتعزيز جماليات مشهدية الواقع الثقافي، وقد صارت المعارك على أشدها بين المعسكرات، ربما تكون هذه طبيعة عصر، فالزمن الذي نعيشه صار عنوانه الأساسي رفض الآخر والاشتباك مع أفكاره والرفض من أجل الرفض.. بما يُكرِس للسلبية والشقاق.
إن انحراف الملاحق الثقافية عن وجهتها التي يفترض أن تمضي باتجاهها (تماماً كانحراف فكرة الممارسة الثقافية العربية إجمالاً في واقعٍ امتلأ بطالبي الجوائز وراغبي المنح وأصحاب الكتابة السريعة من أجل المكافآت ومتخصصي النقد المبتسر غير المنهجي أو العلمي والنقاد الذين أوهمونا بأنهم كبارٌ ثم تصاغروا أمام اللهاث خلف المناصب وأموال الجوائز المصطنعة والمتحزبين والمزيفين والمثقفين الملفقين)، أقول إن انحراف الملاحق الثقافية عن هدفها في ترسيخ قيم الفكر والفن وعرض الكتب القيمة، وابتكار محاور فكرية وفلسفية جمالية تلزم مناهج الأدب والاجتماع في استعراض موضوعات النقاش، ومخاطبة الآخر لالتقائه وإثارة القضايا الخلافية باتباع المنطق والتحليل الهادئ والمنهجي، ما هو إلا تفصيلة في مشهد كبير امتلأ بالفوضى والزيف.. آمل أن يتغير يوماً، وإن كان الأمل غير التوقع.

زينب عساف (لبنان): كل جيل سيجد صوته الفنّي

الصحافة الثقافية العربية ليست مختلفة عن تجربة الصحافة بشكل عام في العالم العربي، هذا السلاح الذي انتبهت له الأنظمة مبكراً وحاولت بكل قواها تكبيله وجعله جزءاً من منظومة البروباغندا.
ما حصل من موت للصفحات الثقافية الورقية كان متوقعاً فالزمن تغيّر والقارئ أيضاً، لكن هذا لا يعني موت الصحافة الثقافية بشكل عام فقد برزت مواقع جيدة خاصة في المرحلة الأخيرة بعد تخطي مرحلة “الحابل والنابل” بالنسبة للمواقع العربية.
تجربتي في الصحافة الثقافية كانت غنيّة من جريدة النهار حيث بدأت العمل أثناء دراستي الجامعية إلى مرحلة “الغاوون” المتميزة وفِي الأثناء إدارة الصفحة الثقافية لجريدة “أوان” الكويتية. عملي في النهار سمح لي بالتعرّف على الوسط الثقافي، كان نوعاً من الاستكشاف وتدريب الأدوات النقدية. بيروت في العام 2005 وحتى 2007 كانت تضج بالحانات والمناسبات الثقافية وكانت لا تزال محجّاً لمثقفي العالم العربي والمهجر، من خلال احتكاكنا كشبان بذلك الصخب ومراقبتنا لسير الأمور في الصفحات الثقافية من محسوبيات وحروب صغيرة، طرح عليّ ماهر شرف الدين فكرة أن نصدر جريدة شعرية وكانت فكرة “كاميكازية” وقتها بسبب عدم وجود أي دعم مادي أو تبنٍّ من أحد، هكذا نشأت “الغاوون” بجهود فردية جبّارة وصارت – كما أردناها- صوتاً للشعراء الشباب الذين أقفلت دونهم أبواب الصفحات الثقافية التقليدية. تبعتها دار “الغاوون” للنشر التي أخذت على عاتقها نشر أعمال صارت اليوم من الكلاسيكيات. طبعاً ولا ننسى مجلة “نقد” التي استعادت أعمال شعراء مكرّسين بدراسات رصينة ومتقنة. طبعاً لن تصدق حجم العمل الذي تطلبه مشروع مماثل وأترك لماهر شرف الدين أن يوثّق هذه المغامرات المجنونة التي أسست لجيل كامل من الأصوات الجديدة كما أزعم. لن أتحدث عن تجارب سابقة ولاحقة فأصحابها أولى بالحديث عنها، لكن أظن أن كل جيل سيجد صوته الفنّي بطريقة ما.

محمد جعفر (الجزائر): تكريس الخذلان

ارتبطت حركة التنوير العربية بالصحافة ارتباطا وثيقا، وفيها صيغت مفاهيم النهضة وتم التأسيس لها، وعبر صفحاتها تجلى معناها وتوطد، كما كانت الأداة الأكثر فاعلية في التأثير وإيصال المفاهيم الأكثر جرأة وراديكالية مثل قيم الحرية والعدالة والمساواة والهوية والاستقلال والمعاصرة والتجديد مستلهمة من تجارب الشعوب والدول المجاورة والغربية السباقة في مجال الارتقاء بالإنسان والإنسانية، وحين عمدت الأصوات الرجعية إلى محاربة النهضة وأسبابها، راهنت على قمع الصحافة وغلق الجرائد الوطنية والعربية والتضييق على من يتولون زمامها، وخلال هذا الصراع المحتدم في أحايين كثيرة دفعت الكثير من الأسماء حياتها، كما عرف آخرون القمع والسجون والمنفى ضريبة مؤكدة، حتى باتت وحدها المرادف الحقيقي والجدير بالنضال السياسي والاجتماعي والثقافي وبسمة المثقف صوت وضمير هذا النضال وهذه النهضة.
في السبعينات والثمانينات من القرن المنصرم كانت الصحافة صوتا لكثير من المعارضين،
والذين لا يمكن الفصل بين توجهاتهم العقائدية وتطلعاتهم السياسية وما يقدمونه من أدب وفنون؛ ومع انهيار الشيوعية في موطنها الأصلي ضعف اليسار وشحت مصادر التموين، هكذا ضعفت الكثير من الأصوات وتبددت، خصوصا في ظل قيام مفاهيم جديدة لا تُعنى بالخلاص الجماعي، ولا تراهن إلا على الفرد في استقلاليته وتفرده، وظهر أن أسلوب الترضيات وشراء الذمم صار لغة دارجة وسهلة، حتى بالكاد صرنا نسمع بأصوات مبدعة مناوئة ومعارضة، ترفض كل مساومة، وتسكن الظل وتقوم على الهامش معلية من قيمها ومدافعة على مبادئها في إخلاص وثبات؛ ليزيد الطين بلّة بعد اكتساح السوشيال ميديا وتسيّد الإنترنت والتقنية والوسائط على اهتمام الشعوب، وقد تكون لها وحدها الفاعلية والقدرة على التأثير في جيل لم يدرك سواها، كما أسهمت في ضعف الصحافة وباتت الشيطان الأكبر الذي يتهددها كما لم يحصل في تاريخها كله، حتى أن صحفا عالمية وعربية ذات صيت وسمعة أبانت عن ضعفها أمام هذا المد وانتهت إلى الإفلاس والإقفال، وأما ما بقي منها فإنه يعمل على المقاومة لكن بأضعف الإيمان. هكذا غادرت أسماء ثقافية بارزة واجهات ثقافية مكرسة منذ عقود، وإن هاجر بعضها إلى منصات ثقافية جديدة تقوم على المال الخليجي وبدعم منه لتصير رهن سياساته وتوجهاته في الغالب الأعم، بما رهن قلمها وأضعف مصداقيتها وتأثيرها.
وإذ لا تزال بعض الصحف العربية تواجه المعضلات المتجددة بضخ دماء جديدة والبحث عن أسماء متجددة تكون كرافد ثقافي لها من خلال ما تنجزه وما تحوزه من اعتراف عربي ودولي، مقاومة وغير مستسلمة للهشاشة التي طغت وأصبحت سمة العصر، فإنها في الجزائر (أي الصحافة الثقافية) كرست الخذلان في حَرفيته. والمشكل أننا لا نكاد نجد صحافة تراهن وتدعم الأسماء الثقافية المستقلة أو تلك التي تمثل الصوت المعارض بعدما عرفت السلطة ومن خلال سياسة الإشهار المتحكمة بدواليبه كيف تخرس كل جريدة لا تنطق وفق ميولها وأهوائها، ناهيك عن سياسة المال الفاسد، حتى أن الملاحظ هو غياب شبه كلي للصحافة الثقافية، وهي وإن وجدت فإن من يقوم عليها بالكاد له علاقة بالإبداع والثقافة، كما أن الجريدة التي تزعم في كل مناسبة أنها الأكثر سحبا في الجزائر لا تتوفر على صفحة ثقافية بها، وهي وإن وجدت في أخرى بالكاد تمثل نجوم السينما والغناء. وأمام هذه المعضلة والخسارة الفادحة لا يجد كتاب الجزائر ومثقفوه اليوم واجهة تمثلهم وتحتضن همّهم متحسرين على سنوات المجد (سنوات السبعينات والتسعينات من القرن الماضي)، وهكذا ضاع كل جهد في الإهمال واللامبالاة، خصوصا وأنه من طبيعة المثقف الجدير باسمه الاشتغال في الظل وبعيدا عن الاستعراض والذي هو من طبيعة الميديا والوسائط الاجتماعية اليوم، ولتغدو الثقافة الجديرة باسمها في هذا البلد آخر كل شيء وأي شيء.

ضفة ثالثة

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى