الناس

عام الخطف/ ياسين السويحة

من ضمن موبقات كثيرة حملها العام 2013 للقضية السورية، نجد أن التغييب القسري ضد الناشطين المدنيين، كأداة استخدمتها قوى الأمر الواقع في المناطق الخارجة عن سيطرة النظام، يحتل موقعاً بارزاً في تأريخ ذلك العام. كان السوريون قد خبِروا، وما زالوا، التغييب القسري على يد النظام الأسدي، كما كانوا قد تعرّفوا على الخطف لأسباب مالية والسطو المسلح وقطع الطرقات، وأنماط أخرى من انتهاكات حقوق وكرامات وحيوات الناس، لكن عام 2013 هو عام التغييب القسري، إذ غُيب فيه عدد هائل من الناشطين على يد داعش والنصرة وفصائل وجيش الإسلام وغيرها، وكان فاتحةً لسنوات كالحة لاحقة في هذا المجال.

تشير الإحصائيات التي قدّمها لنا فريق الشبكة السورية لحقوق الإنسان حول التغييب القسري في سوريا إلى أن عدد المُغيّبين قسرياً، الذين تم توثيقهم منذ اندلاع الثورة وحتى شهر آب الجاري، هو 98279 مغيّبة ومغيّب، منهم 10594 غُيّبوا على يد التنظيمات الإسلامية المتطرفة (داعش وهيئة تحرير الشام بأسمائها المتلاحقة)؛ و2234 غيُبوا على يد فصائل المعارضة المسلّحة، وكلّ الرقم الباقي، 85451، من «بطولة» النظام الأسدي. وفي عام 2013 وحده، أشارت الشبكة إلى أن العدد الكُلّي للمغيّبين الذين أمكن توثيق حالاتهم هو 19656 مُغيّبة ومُغيّب، منهم 527 على يد داعش والنصرة، و312 على يد فصائل المعارضة المسلّحة.

يتتبّع هذا النص محطات مفصلية من سيرة الخطف والتغييب القسري عام 2013 في كلّ من حلب ودوما والرقة، معتمداً على شهادات ناشطين مدنيين عاشوا تلك الشهور العصيبة. والأسماء الواردة لمخطوفات ومخطوفين يمثّلون، بسبب موقعهم وملابسات خطفهم، لحظات تحوّل في سلوك قوى الأمر الواقع تجاه الناشطين المدنيين والفاعلين الثوريين، ولكن المأساة ليست محصورةً بهم، كما يمكننا أن نرى من الأرقام الواردة أعلاه. التغييب القسري هو جرح سوريا، جرحنا، الذي سيبقى نازفاً ومؤلماً لسنوات طويلة.

لحظات فارقة

حلب

دخلت مدينة حلب في عام 2013 وجزؤها الشرقي خارج سيطرة النظام على الأرض، وإن مستباحاً من السماء في حملات قصف جوّي ومدفعي متواصلة. عدد كبير من الفصائل العسكرية، إسلامية وغير إسلامية، متواجد في المدينة، في حين عمل عدد من الفصائل الإسلامية على تشكيل «هيئة شرعية» حاولت فرض نفسها كمرجعية لإدارة شؤون المدينة، في تنافس مع مجالس الحُكم المحلي التي كانت قد تشكّلت لسدّ احتياجات أهالي تلك الأحياء.

في واقع الفوضى والفلتان الأمني وانتشار السلاح وتعدّد مرجعياته، لم يكن الخطف بقصد طلب الفدية، «التشويل»، أمراً غريباً في المدينة وأريافها منذ أشهر عديدة، كما لم يكن غريباً أن تحتجز الهيئة الشرعية أفراداً وناشطين في محاولتها الهيمنة على الحياة العامة للمدينة، خصوصاً ضمن أولئك المناهضين لتنصيب الهيئة نفسها جهة ذات شرعية وسيادة. يشرح زيد محمد، وهو فلسطيني-سوري من ثوّار مدينة حلب، علاقة الناشطين مع الهيئة الشرعية آنذاك: «الهيئة تشكلت بشكل أساسي من أربعة فصائل: جبهة النصرة، صقور الشام، أحرار الشام، ولواء التوحيد. بحسب قراءتي للموضوع، أتوقع أن وجود لواء التوحيد ضمن الهيئة كان أحد الأسباب التي دفعت الكثير من الناشطين، مهما بلغت درجة عدائهم للهيئة، إلى أن يشعروا أن الهيئة لا تستهدف الثورة، وأنها لا يمكن أن تتحول إلى جهاز مطبق السرية مثل أجهزة المخابرات الأسدية أو الداعشية، من مبدأ “كبرت أو صغرت الأمور بيضلّ في حدا ثوري منعرفو جوا”». فخري حاج بكّار، وهو عضو مجلس محلي سابق في مدينة حلب، يروي أول حادثة يتذكرها عن استخدام الخطف من قِبل الهيئة الشرعية -بدل محاولة تقديم الاحتجاز على أنه توقيف ذو صبغة قانونية- ولم تتحول هذه الحالة إلى تغييب قسري مديد لحسن الحظ: «أول حالة أتذكرها -ولم تكن أول حالة بالتأكيد- كانت اختطاف سامر قُربي، عضو مجلس مدينة حلب، في ربيع عام 2013. كان هناك الكثير من المشاكل مع الهيئة الشرعية، بالإضافة إلى تنافس على الخدمات وعلى موارد هذه الخدمات، خصوصاً محطات الماء والكهرباء. اختفى بضعة أيام قبل أن يتم إيجاده مكبلاً ومكمماً في بيت فارغ».

أواخر ربيع 2013، أخذ وجود داعش في حلب ينمو إثر ولادته عن انشطار جبهة النُصرة. لم يُقرأ وجود داعش ونموّه كتهديد وجودي مباشر على الثورة منذ البداية، بل اعتُبر فصيلاً متطرفاً كغيره من الفصائل المتواجدة، ويمكن أن يتم التعامل معه من قِبل الناشطين المدنيين بالطريقة نفسها. مرسيل شحوارو، الناشطة من حلب، تشرح هذه النقطة بالقول: «ما أتذكره من عام 2013 أننا لم نكن نأخذ داعش في البداية على محمل الجد، وهذا ما لا يفهمه كثيرون ممن قيّموا أداءنا لاحقاً. كنا نراها ظاهرة تنكّرية مضحكة، بثيابهم ولغتهم الفصحى وشعاراتهم السريالية من قبيل “ماسونية انتهى”. كنا نعرف أنهم ينتمون للقاعدة، لكن مفهوم الإرهاب أجنبي لدرجة أننا لم نفكر في هل هم فصيل مجنون، أم مهرّجون، أم إرهابيون، أم ماذا؟». وتضيف: «حتى ما بعد لحظة خطف أبو مريم لم يكن لدينا فكرة واضحة عن أننا في خطر، وهذا ينطبق على كثيرين. لم نكن نعي أن الأمر مختلف عن تجاربنا السابقة مع فصائل، وحتى مع الهيئة الشرعية، التي كان الضغط عليها والاحتجاج ضدّها يجلب نتائج لتخليص موقوفين أو لوقف انتهاكات معينة».

أبو مريم الذي تذكره مرسيل شحوارو هو وائل إبراهيم، من ثوّار حلب وناشطيها البارزين، وكان له دور مهم في تنظيم الاحتجاجات والمظاهرات والفعاليات الثورية، كما عُرف بشجاعته وحدّيته في التصادم مع كل النزعات التسلّطية لدى بعض الجماعات المسلحة، خصوصاً الهيئة الشرعية. يقول زيد محمد عن أبو مريم ولحظة خطفه: «خُطف كثيرون قبل أبو مريم، وأغلبهم لا نعرفهم، لكن لا شك أن خطف أبو مريم، المثقف العضوي الشجاع، كان نقطة تحوّل جذرية»، وفي الموضوع نفسه تقول مرسيل شحوارو: «بما يخصني، كان خطف أبو مريم أول لحظة أشعر فيها أن الثورة في حلب قد خذلتني. وهي اللحظة التي أحسّ كثيرون منا فيها أن الأمور قد اختلفت بشكل جذري. ربما كانت الأمور قد بدأت تتبدل قبل ذلك، لكن تلك اللحظة صار لها ما يشبه العدّاد الزمني. كانت بالنسبة لي أيضاً لحظة فصل “نحن” و”هم” بوضوح. نحن بمعنى جمهور الثورة، بما في ذلك إسلاميون ضمنها؛ وهُم بمعنى استبداديين إسلاميين». زيد محمد أشار إلى التحوّلات تدريجية نحو السلوك التسلّطي الإلغائي سبقت خطف أبو مريم بقوله: «سبق خطف الأشخاص ما أعتبره شخصياً مقدمات خطف الثورة، عبر خوض صراع في الشارع عنوانه من أو ماذا يمثل الثورة السورية، عبر شعارات وأعلام ورايات». مثالٌ على هذا الصراع يرويه فخري حاج بكار عن حادثة -موثقة بالفيديو- حصلت أواخر شتاء 2013، وكان بطلها أبو مريم نفسه: «قامت مجموعة تابعة لحزب التحرير برفع الرايات والشعارات الإسلامية في مقدمة مظاهرة حاشدة بطريقة استفزازية تغطي على كل ما وراءها وتهيمن على المشهد. كان أبو مريم في مقدمة المظاهرة، فانتزع غاضباً إحدى الرايات ورماها إلى الخلف. استُخدم نزع الراية الإسلامية ورميها ضدّه للتحريض عليه، ولتبرير خطفه ولتكفيره من قِبل أوساط الدواعش ومؤيديهم».

أنكر تنظيم داعش خطف أبو مريم، وكذلك فعلت كل الجهات التي كان أبو مريم على خصومة معها، وأثار هذا النوع من التغييب المحيّر والجديد من نوعه على الناشطين الحلبيين بلبلة وتساؤلات وتخبطات. تروي مرسيل شحوارو: «حصل سجال بعد خطف أبو مريم حول مَن الخاطِف ولماذا. كثُرت الأقاويل وتعددت الجهات المُتهمة، وحصل بعض اللوم على أبو مريم نفسه بوصفه كان قد فتح على نفسه صدامات مع جهات كثيرة جداً. بعض أطراف هذه السجال كانوا ميالين لداعش، أو ليست لديهم مشكلة كبيرة في أن يقوم داعش بهذا الفعل، وآخرون ربما لم يروا الأمر بوضوح كافٍ حتى وقت لاحق».

دخل الناشطون الثوريون إثر خطف أبو مريم في مرحلة جديدة عنوانها هو الحيرة في كيفية التعامل مع هذا التهديد الجديد، ومحاولة تأمين أنفسهم وكفّ شرور المتسلّطين الجدد، الذين أخذ نفوذهم وتواجد دورياتهم ومقاتليهم في الشوارع ينمو، مستفيدين من حالة الفوضى والتشرذم السائدة في أحياء المدينة الخارجة عن سيطرة النظام، ومقدّمين أنفسهم كحلّ لهذه الفوضى. يشرح فخري حاج بكار: «في بدايات خطف داعش كان هناك وسطٌ ما مؤيّدٌ لهذه الأفعال، ومستعد لتصديق اتهامات تُصدرها “الدولة”. حالة الفوضى الموجودة جعلت البعض يُرحب بحضور من يقدّم نفسه كـ”دولة” وجهة قادرة على الإمساك بالأمور، وكان هذا هو الخطاب الذي يقدّمه داعش». وفي ظاهرة ستتكرر في مناطق عديدة من سوريا عاشت صعوداً لقوة تسلّطية عملت على إلغاء الآخرين وفرض هيمنتها لوحدها، حصلت سجالات وشقاقات بين الناشطين حول الاستراتيجية الأمثل لتفادي التغييب القسري المُسلّط على رؤوسهم، هل الحل هو التصعيد والمواجهة، أم محاولة إيجاد حلول وسط مع الجهة المهيمنة وتقديم التنازلات وإيقاف الاستفزازات لتفادي شرورها. ومن المتكرر أيضاً، كما سنرى في حالة الرقة بالتحديد، أن داعش غيّب أفراداً من كلا الفريقين. يتحدّث زيد محمد عن هذا الموضوع: «داعش لم يوفّر استباحة. لم يكن يريد أصدقاءً. أحد المشاكل في أوساط الثورة من لم يرَ، ومن لم يُرِد أن يرى، داعش عدوّاً حقاً حتى يوم مجزرة مشفى العيون».

«بعد خطف عبد الوهاب أصبح الخطف والتغييب معمماً وعشوائياً. أي كاميرا أو أي مظهر ثوري يُذهب صاحبه إلى صندوق السيارة». تقول مرسيل شحوارو عن لحظة خطف الإعلامي الشهير عبد الوهاب ملا «أبو صطيف» أوائل تشرين الثاني. كان قد سبق خطف عبد الوهاب ملاّ تغييب الناشطين سمر صالح ومحمد العمر في الأتارب بعد خطف أبو مريم بأيام قليلة؛ وتصفية الطبيب محمد أبيض في أوائل أيلول، من ضمن حالات تغييب وإلغاء يبقى ألمها ماثلاً. وقد أدى هذا الاستهداف المباشر للثورة وناشطيها إلى ضرر كبير على النشاط المدني والاحتجاجي، واتخذ كثيرون قرار ترك مدينة حلب والتوجّه إلى أريافها أو إلى تركيا. كما يشير زيد محمد: «لم نكتشف فقط أن هناك تهديداً حقيقياً للثورة من خارجها ممثلاً بداعش، ولكن أيضاً أن الثورة من الداخل ليست بخير، وأن هناك بلبلة وغياب تنظيم وتقادماً وضعف أدوات مُقلق. خرجنا في مظاهرة بُعيد اختطاف أبو مريم عند دوار قاضي عسكر لنطالب بإطلاق سراحه، وهي مظاهرة قد يراها البعض وكأنها عمل انتحاري، ووجدنا أننا قلة قليلة، وهذا أبو مريم! فكثيرون أحجموا لأنهم لم يكونوا مستعدين للمجازفة أمام داعش. عسكريون تابعون للواء التوحيد كانوا في المنطقة أخبرونا بوضوح أنهم لن يكونوا قادرين على التدخل لإنقاذنا في حال قرر داعش مهاجمة المظاهرة»، وتضيف مرسيل شحوارو عن تلك المرحلة: «بدأنا نتخيل من هم الأهداف المحتملون للخطف من قِبل داعش، أعددنا قائمة كانت تبدو كتسلية». وقد كتبت عن هذا الموقف مقالاً على موقع أصوات عالمية قبل خمس سنوات، وفي المقال ملامح مهمة عن تغيّرات السلوك والحياة التي طرأت مع ترسّخ الخطف والتغييب كسلوك سلطوي داعشي.

انتهت أجزاء من الكابوس الداعشي -لتبقى الأجزاء الأكبر مع عدم الكشف عن مصير عشرات المُغيّبين قسراً على يد التنظيم الإجرامي- مع انطلاقة معركة تصفية وجوده في حلب في اليوم الأخير من عام 2013، وسبق المعركة بأيام قليلة خطف جماعي لأعضاء تجمّع أنا سوري من مكتبهم في حيّ بستان القصر، وُجِد أغلبهم مُستشهداً من بين عشرات جثث الناشطين والإعلاميين وعناصر الجيش الحُر الذين صفّاهم تنظيم داعش في مقرّه بمشفى العيون في قاضي عسكر مع نهاية الأسبوع الأول من عام 2014، في الساعات الأخيرة من المعركة التي أنهت وجود التنظيم في مدينة حلب.

الرقة

خرجت قوات النظام من مدينة الرقة أواسط الأسبوع الأول من شهر آذار عام 2013 وسط احتفالات مؤيدي الثورة، يُذكر منها مشهد إسقاط تمثال حافظ الأسد وسط ساحة الإطفائية في مدخل المدينة الجنوبي كصورة أيقونية، وكان قد سبق إخلاء النظام للمدينة فقدان تدريجي للسيطرة على أرياف المحافظة اعتباراً من صيف عام 2012. كان التسيّب الأمني وشيوع الخطف بقصد الفدية والسطو على السيارات والمركبات وتصفية الحسابات الشخصية والمالية قد سبق خروج النظام، خصوصاً في أطراف المدينة وأريافها القريبة. مع ذلك، كان خروج المدينة عن سيطرة النظام لحظة مفعمة بالأمل والتطلّع لمرحلة جديدة في حياة الرقة، تكون رائدةً في التأسيس لمرحلة جديدة من سوريا ككل. حازم الحسين، وهو ناشط ثوري من الرقة، يروي عن تلك اللحظة: «بعد خروج النظام من الرقة مباشرة، وبعد احتفال المتظاهرين، تجمّعنا في أحد مقاهي الرقة وتعارفنا كناشطين بشكل علني، إذ كانت مجموعاتنا الصغيرة لا تعرف بعضها إلا بالاسم الفيسبوكي المستعار، ومن هنا تأسست العديد من التجمعات التي عملت على سدّ الاحتياجات الخدمية نهاراً، وتنظيم المظاهرات المتضامنة مع المدن الأخرى مساءاً. كان الوضع جيداً، وأصبح كثيرون من الناشطين من مناطق أخرى من سوريا يأتون إلى الرقة، وبتنا لفترة وجيزة نشعر أننا نعيش نموذجاً لسوريا التي نريدها».

طوال الشهرين اللاحقين لتحرير المدينة من سطوة النظام، لم يحل الفلتان الأمني وتعدد الفصائل العسكرية وتغوّل بعضها في سلب الممتلكات العامة دون إحساس الناشطين المدنيين أنهم قادرون على تأسيس بُنى مدنية، واستخدامها لتسهيل حياة الناس وصون كراماتهم، وللتوسّط والضغط على الفصائل العسكرية، إسلامية وغير إسلامية، باستخدام التناقضات فيما بينها والعلاقات الشخصية مع بعض قادتها حيناً؛ أو بالاحتجاج العلني ضدّها في «آغورا» المدخل الشرقي لحديقة الرشيد في ساحة الكنيسة.

عاشت الرقة الفصل المركزي من الانشقاق ضمن جبهة النصرة الذي أدّى لولادة داعش في نيسان. كانت مدينة الرقة تحوي عدداً من الفصائل، وجبهة النصرة إحداها، وأصبح تنظيم داعش فصيلاً جديداً فيها بعد أن ابتلع شقاً كبيراً من جبهة النصرة وصفّى قسماً من قياداتها وعناصرها. وأسوةً بمناطق أخرى، لم يقرأ ناشطو الرقة ظهور داعش على أنه تغيّر نوعي مهم، بل رأوه جزءاً من مشهد فوضى السلاح وكثرة الفصائل وتعدد مشاحناتها وصداماتها وتنافساتها. لذلك، قُرأت أولى استهدافات الناشطين كجزء من هذه الفوضى العامة، وكأمر يمكن التعامل معه بالضغط والوساطة والاحتجاج، ولم يؤخذ خطف عبدالله الخليل، المعارض المخضرم ورئيس مجلس المحافظة، أواسط شهر أيار، على أنه فاتحة استهدافهم. يقول هيثم الغرسي، وهو ناشط رقاوي: «مع اختطاف عبدالله الخليل لم يشعر الناشطون الثوريون أن هناك استهدافاً عاماً، فقد كان اختفاء المعلومات وتضارب القصص وغياب خبرات سابقة حول الموضوع سبباً للتساؤلات والحيرة: من أخذه؟ لماذا؟ هل يُمكن أن النظام قد دبّر خطفه استغلالاً للفوضى وانتقاماً من نشاطه المعارض المديد؟».

أتت الأيام العشرة الأخيرة من تموز لتُدخل الأوساط الثورية الرقاوية في مرحلة جديدة وخطيرة، إذ خُطف الناشطان البارزان إبراهيم الغازي وفراس الحاج صالح، وحملت آثار خطفهم إشارات واضحة لمسؤولية داعش. تلا خطف إبراهيم وفراس خطف الأب باولو دالوليو نهاية الشهر. وصل إلى الرقة لزيارتها واستُقبل بمظاهرة ترحيبية حاشدة أمام حديقة الرشيد، وفي اليوم التالي، قصد الأب باولو مقرّ داعش لمحاولة إقناعهم بإطلاق سراح المُحتجزين لديها، ولم يُعرف عنه شيء منذ ذلك الحين. يقول حازم الحسين عن خطف الأب باولو: «ذهبنا لمحاولة الحديث مع الدواعش ومطالبتهم بالكشف عن مصيره. أعتقدُ أن الذي قابلنا هو علي السهو (قيادي أمني كبير في داعش)، وبالغ في التعبير عن إنكاره للخطف واستنكاره له، وأمسك بالقبضة اللاسلكية بحركة مسرحية منادياً الدوريات بضرورة البحث عن الأب باولو، وأسمعنا محاضرة عن صون “أهل الذمّة” على سنّة الرسول وكلام من هذا القبيل.. كل الناس كانوا يعرفون أن الأب باولو في مقرّ داعش».

إثر خطف إبراهيم الغازي وفراس الحاج صالح والأب باولو، حاول ناشطو الرقة إبقاء قضيتهم حيّة، مع محاولة مواصلة عملهم المدني والاحتجاجي، يقول هيثم الغرسي: «في مرحلة أولى حاولنا التظاهر أمام مقر داعش للمطالبة بالمخطوفين، وكنا نحاول أن نجمع أكبر عدد ممكن لقناعتنا أن كثرتنا هي نوع من الحصانة لنا. وكان عملنا للتظاهر نصرةً للمدن السورية الأخرى، خصوصاً حين حصلت مجزرة الكيماوي، رسالةً مزدوجة منا تؤكد على موقفنا المضاد للنظام السوري، ومحاولة لإيصال رسالة لداعش بأننا لسنا قليلي العدد ولا الحيلة. بعد مظاهرة التنديد بالمجزرة الكيماوية تدهورت الأوضاع في نهاية صيف وخريف 2013، وأحجم الناس عن العمل المدني والتظاهر والاحتجاج، وباتت أماكن تجمعنا المعتادة مقفرة». لكن البلبلة التي سببتها حالات الاستهداف والخطف، إضافةً للضغوطات المستمرة من قِبل داعش ومؤيديهم، واستهدافهم الاعتصامات والمظاهرات بالحجارة والسباب، أدت لشقاق بين الناشطين -مشابه لما سبق ذكره عن حلب- حول ضرورة التصعيد والمواجهة مهما يكن الثمن، أو الحاجة لتعليق العمل المدني والاحتجاج لحين توضّح الصورة، باعتبار أن مجموعات الناشطين المدنيين في الرقة صغيرة ومكشوفة. حصلت سجالات حادّة، وأثارت شقاقات وخصومات عميقة. يقول حازم الحسين: «تلك الانقسامات ولّدت مشاحنات لعلّها موجودة حتى اليوم. كلا الطرفين ضحايا، وكلاهما عانى الخطف والتهجير في النهاية».

اعتباراً من آب 2013، تتالت حالات الخطف لناشطين وإعلاميين وفاعلين مدنيين، ومنهم محمد نور المطر (13 آب)؛ عبد الإله الحسين (18 تشرين الأول)؛ واسماعيل الحامض (2 تشرين الثاني)؛ وخطف وتصفية مهند حاج عبيد، «مهند حبايبنا» (22 تشرين الأول). وعدا التغييب المديد، احتجز داعش لأيام أو أسابيع أو أشهر عدداً كبيراً من الناشطين، من بينهم حازم الحسين، الذي كتب شهادته على ذلك الاحتجاز قبل أربع سنوات. وتميّزت هذه المرحلة، أيضاً، بنشاط محموم لداعش في خطف صحفيين غربيين في الرقة وريفها، أطلق سراح بعضهم بعد قبض مبالغ مهولة، فيما قرر تصفية بعضهم الآخر وعرض ذلك في إصداراته الساديّة الشهيرة.

مع انتصاف خريف 2013، أصبح النشاط والحركة في المدينة شبه مستحيلين، وانكفأ الناشطون إلى دوائرهم الشخصية، أو قرروا الخروج من المدينة. يقول حازم الحسين: «تحولنا من مرحلة كنا نحاول أن نلفت أنظار الناس إلينا كنموذج واعد، وأن نبني بلدنا كما نريد ونعيش فيه، إلى محاولة طلب التضامن والمناصرة لأننا نُستهدف ونُخطف، وبات شغلنا الشاغل هو الحفاظ على روحنا ووجودنا». وانتهى عام 2013 في الرقة بالمعركة التي خاضتها كل الفصائل العسكرية مجتمعة ضد داعش في عموم الشمال السوري. ولكن على عكس حلب ومناطق أخرى، حيث تم إنهاء وجود التنظيم، سقطت الرقة بالكامل تحت سيطرته، وتبيّن أن ذلك العام الرهيب كان فصلاً أول من مأساة متسلسلة.

دوما

تميّزت مأساة دوما في مجال التغييب القسري عن الرقة وحلب بثلاثة أمور، أولها أن استهداف الناشطين المدنيين بالخطف بدأ في أواسط خريف 2013، أي متأخراً بعض الشيء عن المثالين السابقين؛ وثانيها أن «بطل» التغييب القسري في المثالين السابقين كان داعش، في حين أن «بطل» التغييب الدوماني هو جيش الإسلام، الجهة التي قدّمت نفسها كنموذج يُحتذى في محاربة داعش، في مزجٍ سوريالي بين العدمية الجهادية وخطاب «مكافحة الإرهاب» يؤسف القول أنه لقي استحساناً وتنويهاً إيجابياً من أوساط ثورية كثيرة؛ وثالثها أنه في حين أُجمع على العداء لداعش، وكاد يُجمع على العداء لجبهة النصرة، «بطلي» التغييب القسري في الشمال، فإن «بطل» التغييب القسري الدوماني، جيش الإسلام، ما زال يحظى بحضور في أروقة المعارضة السياسية والمحافل الدبلوماسية، ويحتفظ بعلاقات طيبة مع جهات دولية، وينشغل منذ تهجيره في عرض خدماته الأمنية والعسكرية على قوى الأمر الواقع التركية في ريف حلب الشمالي، وتنال قياداته حرية حركة ونشاط كبيرين في تركيا نفسها.

أسوةً بالمناطق الأخرى الخارجة عن سيطرة النظام، شهدت دوما ومحيطها الغوطاني أحداث خطف بقصد طلب الفدية، وأعمال سطو وسرقة كثيرة، ضمن واقع فوضى أمنية. محمد كتوب هو طبيب وناشط إنساني، ويروي عن تلك المرحلة: «منذ خروج بعض المناطق عن سيطرة النظام، بدأت تتكرر حالات خطف بقصد طلب الفدية تستهدف أبناء العائلات الغنية، مختلفة عن خطف موالين للنظام أو متورطين في التشبيح لصالحه -دون أن نعني بذلك التمييز تسويغ خطف موالين أو شبيحة دون سند قانوني». وتضيف لبنى قنواتي، وهي ناشطة في مجال حقوق الإنسان: «كانت تحصل أيضاً حالات خطف لعسكريين وضباط تابعين للنظام للمبادلة عليهم أو الحصول على فدية من أهاليهم، هذا عدا خطف المدنيين لأسباب مادّية، أو سرقة مقتنيات أو سيارات وإرجاعها مقابل أتاوة».

عند العودة في الذاكرة إلى الشهور القليلة السابقة على بدء استخدام الخطف والتغييب كأدوات إلغاء ممنهجة للناشطين، نجد نموذجاً تكرر في الحالات السابقة، يشرحه الدكتور كتّوب بهذا الشكل: «في الفترة التي حصلت فيها حالات الخطف الأولى لفاعلين مدنيين وحقوقيين في الغوطة، كان زخم المظاهرات والنشاط الاحتجاجي ضد النظام قد تراجع نتيجة مرور وقت على خروج هذه المناطق من سيطرة النظام، وتحوّلت الجهود نحو بناء وهيكلة أجسام الحكم المحلي من مجالس ومؤسسات خدمية، وبدأ الصراع بخصوص السيطرة على هذه البُنى ما بين ناشطين وجهات مثل مجلس الشورى، أو فصائل عسكرية كانت تسعى لفرض أذرعها المدنية على هذه المؤسسات وعلى مواردها وصلاحياتها كجزء من سعيها للهمينة والسلطة، ومنها جيش الإسلام وجبهة النصرة». ويضيف: «استُهدف من اعتُبر مفتاحاً للتمويل، والساعين لإنشاء وتقوية أجسام الحكم المحلّي، والمنتمين لتيارات أو إيديولوجيات سياسية مُخالفة لهذه الفصائل».

خُطِفَ الدكتور أحمد البقاعي، وهو من الناشطين الأوائل والبارزين في العمل الطبي، في الرابع من تشرين الثاني، وأُطلق سراحه في وقت لاحق. وبعدها بشهر وخمسة أيام، أي في التاسع من كانون الأول، خُطف الناشطون الأربعة رزان زيتونة وسميرة الخليل ووائل حمادة وناظم حمادي، دون أن يُكشف عن مصيرهم حتى اليوم. تشير كلّ القرائن الموجودة إلى مسؤولية جيش الإسلام عن الخطف (للمزيد عن القرائن وأسباب الاتهام، وأيضاً عن التركيبة الإجرامية لجيش الإسلام، وعن آلياته المتّبعة للبلبلة والإنكار وتمييع المسؤولية، يُنصح بقراءة المواد التالية لياسين الحاج صالح: لماذا زهران علوش هو المتّهم؛ تفنيد ملف «المكتب الحقوقي» التابع لجيش الإسلام عن جريمة التغييب القسري لسميرة ورزان ووائل وناظم؛ وخلاصة عن سميرة ورزان ووائل وناظم بعد انهيار إمارة جيش الإسلام). أوس مبارك، وهو طبيب وناشط1، ذكر عن تلك اللحظة: «خُطف خلال ساعات أربعةٌ من دوما واثنان من سقبا، وهم النشطاء الحقوقيون والإغاثيون رزان زيتونة وسميرة الخليل وناظم حمادي ووائل حمادة من مكتبهم في دوما. وأسامة حرحش ومقدّم من المجلس العسكري لدمشق وريفها من سقبا. وتمت سرقة معدات النشطاء الأربعة، كما تم السطو مستودعات المجلس العسكري بالكامل. وفي ذات الوقت تم السطو على عدة مستودعات إغاثية لجهات مدنية». وتضيف لبنى قنواتي: «رغم حصول حالات خطف ناشطين مدنيين قبل ذلك بقليل، كانت حادثة خطف رزان وسميرة وناظم ووائل نقطة التحوّل الأبرز، والرسالة الأوضح لنا جميعاً كعاملين مدنيين وكفاعلين في الشأن العام، خصوصاً أولئك المنتمين لتيارات مناوئة للإسلاميين. ولم تكن رسالة فقط للمدنيين، بل حتى لجهات عسكرية كانت تبحث عن مرجعية مشتركة بوجه تصاعد جيش الإسلام».

1. الاقتباسات المأخوذة عن أوس مبارك هي جزء من شهادة موسّعة كتبها بالتزامن مع التحضير لهذا النص، وستنُشر قريباً.

تتابع مسلسل التغييب القسري في دوما عام 2014 (مثل اختطاف أبو محمود الرز)، مع استخدام متكرر للاغتيال (مثل أبو عدنان فليطاني وأبو عمار خبّية)، لتتعاقب المراحل المريرة في سيرة دوما، والغوطة عموماً، إلى حين تهجير أهلها وإعادة احتلالها من قِبل النظام في ربيع 2018.

سلوك الخاطفين وكوابيس المُستهدَفين

ليس التهرّب من العواقب السبب الوحيد لإنكار التغييب الأصلي، بل إنه جزء أساسي من استراتيجية خبيثة لبثّ الرعب في النفوس. الحيرة والتخبّط والبحث والتساؤل عمّا جرى، وكيف جرى، ولماذا جرى هي أهداف للتغييب القسري تقصد شلّ المجتمع، خصوصاً الأوساط العائلية والناشطية والسياسية القريبة من المُغيّبين، وخنقهم بشبكة ثقيلة من الشك والارتياب والحيرة والتخبّط. هذه هي «إشارة الاستفهام» التي تحدّث عنها رئيس المجلس العسكري الأرجنتيني في تصريح شهير رداً على سؤال صحفي حول ممارسة قوّات الديكتاتورية الأرجنتينية التغييب القسري بشكل ممنهج.

سبق الحديث عن إنكار داعش احتجازه لأبو مريم في حلب، وللأب باولو وللمخطوفين الآخرين في الرقة. لم يكن داعش يهاب ردّ فعل على اتهامها بخطف ناشطين عزّل لا سند قوي لهم، لكنه كان يسعى لتعميم شلل الحيرة وارتباك التساؤل على عامة الناس. يروي حازم الحسين: «أيام تغوّل داعش في المدينة واعتياد انكاره المسؤولية عن عمليات الخطف، ظهرت نكتة تقول إن داعش استدعت ميكانيكياً، لنفترض أنه أبو محمد، إلى مرآب لها لإصلاح آلية، وأتى هذا مع صانعه. اكتشف أبو محمد أنه يحتاج لقطعة غيار ليست معه وأرسل صانعه إلى المحل ليجلبها، وعندما عاد الصانع إلى المرآب قال للحرس إنه جاء لعند أبو محمد الميكانيكي، فرد عليه الحرس: والله ليس عندنا. لا علاقة لنا بالموضوع. ابحث عنه في مكان آخر». وما زال جيش الإسلام يُنكر، وبشدّة، خطفه لرزان وسميرة ووائل وناظم، في حين غذّى كل عناصر الحيرة من أجل الاستفادة من تبعات الخطف، يروي أوس مبارك: «قصدني بعد عدة أيام على يوم الخطف شيخ يدعى أبو زينب، كان عمله الظاهر هو مكتب المنشقين لدى جيش الإسلام، وهو مكتب يُعنى بتأمين انشقاق المجندين والضباط ودراسة ملفاتهم الأمنية وتحديد ما يمكن اتخاذه معهم ومراقبتهم. فيما كان يشاهد دوماً بصحبة شرعيين في جبهة النصرة. حين التقيته كان معه أحد أولئك الشرعيين، سألني عما أعرفه عن خطف الأربعة من دوما، أجبته بأمور مشتتة تدل على أنني لا أعرف شيئاً. غادرني وهو يصافحني بحرارة ومودة ويقول لي: دير بالك على حالك».

ولكي تستمر الحيرة وتصير شللاً حقيقياً، لا بد من دعم الإنكار بالبلبلة والتضييع والإشاعات. وفي المواد المشاركة أعلاه بخصوص قضية رزان وسميرة ووائل وناظم نماذج عن محاولة زهران علوش تضييع قضية المخطوفين الأربعة، تارةً بالاستياء من التركيز عليهم مقابل إهمال «نساء المسلمين»، وتارةً بالإشارة لـ«أطراف خيوط» تشير إلى جهات خارجية، وتارةً بإشاعة أوساط جيش الإسلام أن المخطوفين كانوا عملاء للأميركان، أو للنظام. يقول أوس مبارك: «حين بدأ ينتشر الخبر، انتشر بين بعض الناس أنهم كانوا عملاء للنظام، ولا أظن أن هناك من نشرها سوى مرتزقة الخاطفين أنفسهم»، وفي هذا الاتجاه يقول حازم الحسين: «كان لداعش كمية كبيرة من الأمنيين والمخبرين في كلّ مكان، يرصدون ويُراقبون، ويصدرون الإشاعات وتشويه السمعة للضحايا حين الحاجة. اكتشفنا عدّة مرات أن أناساً قريبين منا ويعرفوننا ونعرفهم كانوا متعاونين مع التنظيم. أحسسنا في كثير من الأحيان أننا نحن من يعيش في وسطهم، وليس هم المتواجدون في وسطنا». ويؤسف قول أن تلقّف الشائعات التي يبثّها أمنيو ومُخبرو الجهات الخاطفة للتشويش ولتشويه سمعة المخطوفين والطعن فيهم كثيراً ما لقت صدىً ليس فقط في جمهور موالٍ للخاطفين، أو عند أناس سذّج فحسب، بل أيضاً تلقفها خصوم إيديولوجيون أو شخصيون للمخطوفين، وكأنهم بهذا يُشرعنون للخاطفين خطفهم.

وضمن هذا الجو من الاستهداف وانعدام الأمان و«العيش في فيلم، وكأننا محاطون بأشباح يروننا ولا نراهم»، حسب تعبير حازم الحسين، تنشب حالة من الذعر والارتياب التي تجعل أدنى أشكال العمل مستحيلة لناشطين عُزّل. نتحدّث عن أشخاص عاشوا أوضاعاً قصوى خلال سنوات الثورة الأولى، وخبِروا القصف والقنص والبراميل، ودفنوا رفاقهم وأحبابهم، وغطّوا معارك دامية وشاركوا في لحظات شديدة القسوة والألم. لا تنقصهم الشجاعة ولا الجرأة ولا «الجلد السميك» لكنهم باتوا يشعرون بخفّة لزجة، بوجود احتمال تبخّرهم مسلّطاً فوق رأسهم وموجّهاً أسهمه نحو أهلهم وأحبابهم وقضيتهم. يقول أوس مبارك عن مرحلة ما بعد خطف رزان وسميرة ووائل وناظم: «لا أنكر أنني امتلأت خوفاً حينها، فانكفأت على نفسي عدة أشهر، لا أعمل شيئاً تقريباً سوى دوامي في المستوصف الخيري».

أمام ذلك، آثر بعضهم حمل السلاح لحماية أنفسهم، تقول لبنى قنواتي: «كان لدي مسدس منذ بدايات العمل العسكري في الغوطة، وكان اقتناء السلاح الفردي أمراً شائعاً حتى بين المدنيين، وذلك بسبب الفلتان الأمني. لكن بعد خطف رزان وسميرة ووائل وناظم صرت أضع المسدس تحت مخدّتي حين أنام»، وفي الموضوع نفسه يضيف هيثم الغرسي: «أحد أصحابنا بدأ يحمل قنبلة معه أينما ذهب حين أتاه تهديد شخصي ومباشر. وأنا شخصياً صرت أحمل مسدساً وأسعى لإظهاره بشكل واضح في الجيب الخارجي لحقيبة الكمبيوتر. حمل السلاح كان يشكّل لي، كناشط مدني، تناقضاً وأزمة نفسية حقيقية: إلى أي مدى تقدر أن تحمي نفسك وأن تمنع خطفك؟ وهل أنت أصلاً قادر على استخدام السلاح وأن تقتل خاطفك؟». حازم الحسين أضاف: «أصبحنا نغيّر أماكن إقامتنا ومواعيدنا وأماكن تجمّعنا، وبعضنا حمل السلاح، وحتى أحزمة ناسفة. وكثيرون تركوا كل نشاط واعتكفوا في بيوتهم، وكثيرون آخرون خرجوا من البلد. لكن في النهاية لم يكن هناك أي إجراء أمان مُطمئن». بدوره، لخّص زيد محمّد القصة الموضوع بقوله: «من أمنياتنا التي كنا نتداولها في تلك الفترة هو أنه إن كان لا بد أن يحصل لنا مكروه فليكن الموت وليس الخطف، أقلّه لأجل أهلنا وأحبتنا، فالموت أسهل».

*****

في الأول من كانون الأول 2013، أي بعد 26 يوماً من اختطاف الدكتور أحمد البقاعي، وقبل تسعة أيام من خطفها، نشرت رزان زيتونة مقالاً في موقع ناو ليبانون عن خطف الدكتور البقاعي، عبّرت فيه عن خشيتها أن تتحوّل الغوطة إلى مسرح لعمليات خطف بحق النشطاء المدنيين، كما في مناطق أخرى من سوريا كانت تتابع مجريات الأمور فيها بحكم نشاطها الحقوقي. في الواقع، كانت الغوطة قد تحوّلت فعلاً لمسرح خطف لحظة كتبت رزان مقالها، إذ لدينا اليوم كلّ المُعطيات كي نعرف أن قرار الخطف بحقها كان قد اتُخذ، واستُهل بتهديدٍ صريح وجّهه لها حسين الشاذلي، وهو أمني مقرّب من جيش الإسلام، بأمر من أبو عبد الرحمن كعكة، شرعي الجيش؛ كما كانت حملة التحريض عليها قد بدأت على وسائل التواصل الاجتماعي من قِبل أوساط جيش الإسلام، بمشاركة من «كبير المفاوضين» السابق، محمد علوش.

لم تشعر رزان بالتهديد المباشر. ربما قدّرت أن التهديدات غير جدّية، أو أنها لا يمكن أن تصل لمصاف ما اقتُرف لاحقاً. رزان شجاعة بشكل استثنائي، لكنها لم تتصرّف بشكل انتحاري، لا هي ولا أحد من مُغيّبي تلك الفترة والناجين منها. تُعبّر مرسيل شحوارو عن ذلك بقولها: «أُوقفت أكثر من عشر مرات من قبل حواجز، منهم ثلاثة من قبل داعش وبقسوة شديدة بسبب عدم ارتدائي الحجاب. لم أفكر حينها بأنني في خطر وجودي. أفكر فيه الآن حين أتذكر تلك المرحلة، لكنني لحظتها لم أكن أتصوّر أن الخطر هو هؤلاء. هذه أمور تمكن إدارتها ومجابهتها. اختبأنا وهربنا من النظام، لكننا في منطقة خارج سيطرته، أي أنها “منطقتنا” بمعنى ما، ومن واجبنا التمسّك بها»، وتضيف: «كان رأسنا كبيراً بعد التحرير، وكنا نشعر بزخم وجودنا، وبمسؤولية. لم نكن نفعل شيئاً انتحارياً حينها، لا نحن ولا الأب باولو. لم يظهر الخطر الحقيقي واضحاً أمامنا إلا بعد أن تتابعت الحالات وكثرت».

ليس الضياع في دوامات تخمين إمكانية توقّع هكذا شر في ذلك الحين بالأمر المفيد، إذ يستحيل مسح حقيقة أننا اليوم نفكر بأثر رجعي بعد أن تكشّفت كثيرٌ من الحقائق وسقطت كثيرٌ من الأقنعة. الأجدى، والواجب تجاه رفاقنا وأحبابنا المُغيّبين، هو استخدام سلامتنا -التي هي أجزاء من سلامتهم المخطوفة- في صون قصّتهم، والعمل من أجل إجلاء مصيرهم، والوقوف مع أهاليهم وأحبابهم وصون مشاعرهم وكراماتهم؛ والتفكّر في ما جرى لنا وصون ذاكرته. ليس الأمر ماضياً أبداً، بل إنه كلّ المستقبل. لنتعلّم… لقد سئمنا، بشكل دامٍ، من أن يكون أنبلُ الناس هم الضحايا دوماً.

موقع الجمهورية

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى