سياسة

عن الموقف التركي الأخير من مسألة اللاجئين السوريين -مقالات مختارة-

سوريا: من الثورة اليتيمة إلى الشعب اليتيم/ بكر صدقي

نشر زياد ماجد، قبل سنوات، كتاباً عن الثورة الشعبية في سوريا حمل عنوان «الثورة اليتيمة». من منظور اليوم قد يمكننا القول: ليتها كانت كذلك أو بقيت كذلك! ليت عديد الدول والقوى ما دون الدولة تركت تلك الثورة لبراءتها الأولى ويتمها، ولم تتنطح لأبوتها، فأدخلتها في مسارات غريبة عن منطلقاتها.

ولكن ألم يكن من شأن تركها يتيمة أن يقضي عليها النظام في مهدها؟ نعم، على الأرجح. ربما هذا ما جعل أكثرية جمهور الثورة أو «شعبها» يغض النظر عن تدخلات الدول وتسللات الجهاديين والسيطرة المتدرجة للخطاب الإسلامي وانتشار السلاح، من جهة لأن التطورات المذكورة كانت خارج سيطرة شعب الثورة وبمعزل عن إرادته، ومن جهة ثانية لأن هذا الشعب أمل أن تسرع تلك التدخلات والتسللات من عملية سقوط النظام، كفاتحة لا بد منها لمرحلة جديدة مفتوحة على الاحتمالات.

أما أقوياء العالم فكان لهم رأي آخر. لا أحد يمكنه أن ينسى ذلك الكلام المهين بحق الثورة الذي صدر من رئيس الدولة العظمى الوحيدة في عصرنا: «إنها ثورة فلاحين وأطباء أسنان!» قال باراك أوباما بكل صلف الرجل الأبيض المختبئ تحت جلده الداكن. لا نعرف ما هي المهن المقبولة بالنسبة لهذا الرجل ليقوم أصحابها بإطلاق ثورة ضد نظام بهيمي شعاره تدمير البلد الذي يحكمه.

أما روسيا فقد وضعت كل ثقل أسلحتها الفتاكة للحفاظ على مجرم من عيار بشار الأسد وعصابته في موقع حكم بلد يكرهانه ويكرهان سكانه إلى درجة استسهال إبادته. وبلغ الأمر بالأمم المتحدة أنها تعامل تلك العصابة المجرمة معاملة «حكومة شرعية» فتعتمدها قناةً وحيدة لإيصال المساعدات إلى المنكوبين بسببها! حكومة شرعية على رغم إدانتها باستخدام السلاح الكيماوي مراراً وتكراراً لضرب التجمعات السكنية للمدنيين!

الثورة اليتيمة لم تترك لشأنها لتنتهي يتيمة، بل تعدد آباؤها وأعداؤها معاً. منذ بعض الوقت، وعلى وقع الهزائم الأخيرة للفصائل المسلحة، والتحاق قسم منها بالأب التركي، تصاعد سجال بين الإسلاميين والعلمانيين، فاتّهم الأولون الثانين بعدم فعل شيء من أجل الثورة، ناسبين اليتيمة المذكورة لأنفسهم، من غير أن يخطر لهم مجرد خاطر محاسبة أنفسهم على ما فعلوه بها بسبب شهوتهم الجامحة إلى السلطة التي أعمتهم عن شيء يسمى بالمصلحة العامة أو الوطنية.

أما شعب الثورة فهو يتيم فعلاً، سدت في وجهه جميع الأبواب. طوردوا وقتلوا وهجروا وعفشت ممتلكاتهم وتفرقت السبل بأفراد أسرهم في شتى البلاد. وها هم في منافيهم ومهاجرهم وملاذاتهم، وقد ضاقت بوجودهم صدور أهالي تلك البلدان وحكوماتها. منذ سنوات والحدود مغلقة في وجوه من تبقى منهم في الداخل، فراحوا ينزحون من منطقة إلى أخرى لا يستقر بهم مقام حتى تلاحقهم القنابل والبراميل فيهربون من جديد. أما أولئك «المحظوظون» ممن سبق ولجأوا إلى بلدان الجوار فقد بدأت موجات الكراهية تتصاعد ضدهم ويضغط عليهم لكي يعودوا إلى بلد لم يعد بلدهم، ولا يريدهم فيه نظام البراميل والكيماوي. أما الدول الأوروبية فهي اكتفت بمن وصل إليها قبل سنوات، ولم تعد تستقبل المزيد منهم. بل لدى كثير منها خطط لإعادتهم من حيث جاءوا. حتى أن منقذي المهاجرين من الغرق في البحر المتوسط باتوا يحاكمون أمام محاكم بلادهم.

لقد سئم الجميع من السوريين! لكنهم لا يظهرون البرم ذاته من النظام الذي دفعهم للهرب، بل يبحثون عن سبل لـ»إعادة تأهيل» الوحش الذي لا يمكن تأهيله. فالسأم من الضحية أقل كلفة، على ما يبدو، من السأم من الوحش. هل هو تعبير عن عنصرية فحواها أن السوريين كائنات دنيا لا تستحق الحياة كبقية البشر، وأن حكم هذا الوحش لهم هو «من طبيعة الأمور»؟ ربما لا أحد يعبر، صراحةً، عن هذه الفكرة. لكن مسالك الدول والمجتمعات تجاه المشكلة السورية لا يمكن تفسيرها إلا بهذا الشكل: نعم، نحن نعرف أن نظام بشار الكيماوي هو وحش غير قابل للتحوّل. ولكن كفاكم شكوى منه، أنتم لا تستحقون أفضل منه. فغادروا بلادنا واتركونا بسلام، ثم تدبروا أموركم مع وحشكم كما تشاؤون. والأفضل أن تخضعوا له وتقبلوا به كي لا يدفعكم للهرب نحو بلادنا الوادعة مرة أخرى. حتى حين انتفضتم ضد ظلمه كانت ثورتكم «ثورة فلاحين وأطباء أسنان». فلا تتوقعوا منا أن نساعدكم في شيء، ولا أن نستقبل ملايينكم الهاربة من الجحيم. إنه جحيمكم أنتم، فابقوا فيه!

ليس اللاجئون السوريون وحدهم يتامى هذا العصر الذين ضاقت بهم مجتمعات وحكومات دول اللجوء، بل مثلهم سوريو الداخل الخاضعين لشتى الاحتلالات التي لا يعنيها السكان في شيء، وأولهم الاحتلال الأسدي الذي ينظر إلى من تبقى من السوريين تحت سيطرته بوصفهم مجرد خزان للتجنيد ومشاريع للموت على جبهات القتال، ويتعامل مع أي احتجاج على سوء الخدمات الأساسية بقسوة بالغة تحت وصف الخيانة الوطنية. ويمكن قول الشيء نفسه بالنسبة لسلطات الأمر الواقع الأخرى كقسد في شرقي الفرات، والفصائل الجهادية في إدلب وجوارها، وفصائل الارتزاق والتعفيش في الجيوب التركية.

انتهت الثورة اليتيمة بفضل أبوة فرضت عليها من قوى متعددة، ولكن هل يمكن القضاء على الشعب السوري اليتيم أو فرض أبوات متعددة عليه؟

٭ كاتب سوري

القدس العربي

عشرة أسئلة لزياد ماجد حول “الثورة اليتيمة

سوريا الثورة اليتيمة لزياد ماجد

لنبدأ بعنوان الكتاب. ماذا تعني بعبارة “الثورة اليتيمة”؟

اخترت هذا العنوان (الذي استخدمه فاروق مردم بك في أحد مقالاته قبل عامين) لأنه يصف برأيي حال الثورة السورية بدقّة. فهي ثورة لم تحظ منذ انطلاقها بالدعم أو التضامن الكفيلين بنُصرتها، أو على الأقلّ الموازيَين لحجم تضحياتها ولحجم الأهوال التي لحقت بالشعب السوري جراء ردّ النظام وحليفيه الإيراني والروسي عليها.

ويكفي أن نقول اليوم إن 130 ألف قتيل وأكثر من 150 ألف معتقل و8 ملايين مهجّر وقصف كيماوي وجوّي وصاروخي وصوَر عن “صناعة الموت” داخل السجون الأسدية، جميعها، لم تحرّك ردود أفعال شعبية وحكومية قضائية وديبلوماسية وعسكرية على قدر المسؤولية في العالم، لنفهم معنى اليُتم ومعنى ترك شعب يواجه آلة قتل شديدة الوحشية وغنيّة التجهيز.

 ولماذا هذا التخلّي برأيك، أو هذا الموقف الدولي المتفرّج؟

للأمر عدّة أسباب حاولت شرحها في الكتاب. فيها واقع العلاقات الدولية اليوم، وفيها المصالح الإقليمية المتضاربة، وفيها تراجع الاهتمام “الغربي” بالشرق الأوسط، وفيها تقدّم المذهب الثقافوي الذي يحمل في طيّاته عنصرية تجاه منطقتنا ترى في العنف أمراً “عادياً” في سلوك جماعاتها، وفيها “إسلاموفوبيا” يكفي أن يقتنع معتنقوها أن الإسلاميين هم بديلٌ لنظام يظنّونه رغم استبداده علمانياً تقدّمياً حتى يتموضعوا دفاعاً عنه أو حياداً تجاه جرائمه. وفيها أيضاً أتباع “نظريّات المؤامرة” وهم كثر، ويفسّرون العالم بوصفه مجموعة مكائد تقع في مصيدتها شعوبٌ بأكملها!

صورة الغلاف لافتة. ما سبب اختيارها؟

الصورة هي بعدسة “شاب مزّاوي”. وأجدها معبّرة جداً، إذ تُظهر تعانُق أحياء يواجهون الموت خلال تشييع شهداء للثورة سقطوا في مظاهرات محلّتهم، المزّة. وفيها أيضاً حركة وانسجام بين أجساد متراصّة تتقابل صفوفها وتتموّج تماماً كما كانت الحال طيلة عام ونصف من الثورة. اختياري لها هو إذاً لهذين السببين، وهو أيضاً تعبير عن تقدير وإعجاب بتجربة “العدسات” في سوريا (المتّخذة غالباً أسماء مناطق) التي وثّقت الحياة والثورة على نحو مذهل.

تهدي الكتاب إلى “الناشطات والناشطين الإعلاميّين والقانونيّين في سوريا”… من هم هؤلاء، وأين هم من الثورة اليوم؟

هؤلاء هم الآلاف من الشباب والشابات الذين نشطوا منذ اليوم الأول للثورة في أكثر من منطقة. فنظّموا التظاهرات والاعتصامات وشاركوا في تشييع الشهداء وصوّروا بهواتفهم المحمولة وبكاميراتهم الأحداث من حولهم، وعملوا في الدفاع عن المعتقلين ثم في توثيق الانتهاكات وفي تسجيل قوائم الشهداء وفي الكتابة الدورية عن الأوضاع السورية وعن السجون كما عن الفرح باكتشاف القدرة على التعبير والكتابة الحرّة.

وهم عملوا أيضاً على رفع الصور والأفلام في مواقع التواصل الاجتماعي وزوّدوا بها محطات الإعلام وأصدروا البيانات الدورية والتقارير وسمحوا لنا بمتابعة مجريات الثورة مؤسّسين بالتالي ذاكرةً سورية ومانعين نظام الأسد والنسيان من ابتلاع وجوه الناس الذين قضوا أو الذين نهضوا من أجل انتزاع حرّيتهم والدفاع عنها. علماً أن المئات من هؤلاء الناشطين دفعوا حياتهم ثمناً لذلك، والمئات الآخرين هم اليوم في السجون أو في المنافي أو في حياة التخفّي، ومعظم الذين ما زالوا قادرين على العمل بينهم يستمرّون في مهامهم، أو يعملون في مجالات تنموية أو إغاثية. لكن طبعاً تأثيرهم القيادي في مسار الثورة تراجع منذ صيف العام 2012 بعد أن تحوّل الكفاح المسلّح الى العامل الطاغي في مواجهة النظام.

تبقى إشارة الى أنني حين أنهيت الكتاب في آخر تشرين الثاني 2013 لم تكن رزان زيتونة، وهي التي في عملها تجسّد كل ما ذهبت إليه آنفاً، وسميرة الخليل ووائل حمادة وناظم حمادي قد خُطفوا بعد. وخطفهم هو بالنسبة لي من أكثر الأحداث قساوة، لمدلولاته ولموقع حدوثه (في دوما في قلب الغوطة الشرقية) وللمسؤولية المعنوية (وعلى الأرجح أكثر) عن خطفهم التي يتحمّلها فصيل عسكري (إسلامي) كبير يسيطر على المنطقة. لذلك عدّلت الإهداء في النسخة الفرنسية التي ستصدر بعد أسابيع في باريس، فصار “الى رزان وسميرة وفائق المير”. والأخير لعب أدواراً هامة جداً في الثورة، وسبق وأمضى إثني عشر عاماً في سجون الأسدَين، واعتقله النظام في 7 تشرين الأول 2013.

لكن هل ما زالت تسمية ثورة تصحّ اليوم لتوصيف الصراع في سوريا؟ وهل يمكن القول إن الثورة سُرقت كما يردّد ناشطون سوريّون من الذين ذكرتهم للتوّ؟

يتكرّر هذا السؤال، وسبب تكراره برأيي تعريف “مثالي” للثورة باعتبارها تمرّداً عاماً نبيلاً وسلمياً على نظام ظالم. لكن التعريف هذا منافٍ تماماً لتاريخ الثورات.

فالثورات فيها عنف، وفيها انتهازيّون، وفيها تبدّلات في النخب القيادية، وفيها أخطاء، وفيها – حين تكون جذرية كما هي الثورة السورية – إخراج لأحشاء المجتمع بأبهى ما فيه وبأبشع ما فيه أيضاً. الثورة إذاً ما زالت قائمة ومستمرّة، ودخولها الكفاح المسلّح دخول تراجيدي فرضته همجية النظام واستقالة “المجتمع الدولي” من مسؤوليّاته، ولا شكّ أن هكذا دخول يعدّل الكثير من الأمور ويدفع بأمراء حرب الى الواجهة، خاصة حين يطول، ويُتيح للاعبين خارجيّين التدخّل وبناء النفوذ وشراء الولاءات وتصفية الحسابات.

وهذا كلّه يجري اليوم في سوريا، لكنّه لا يغيّر من جوهر الصراع مع نظام استبدادي يستعبد الناس، ولا يغيّر من جوهر النظام نفسه ومن فاشيّته التي يترجمها عنفاً مهولاً كل يوم. أمّا الحديث عن سرقة الثورة فلا معنى علمياً له. وإن كان المقصود هو طغيان الإسلاميين وممارساتهم، فالأمر مردّه حضورهم العسكري وقتالهم، وجلّهم من الأرياف السورية وضواحي المدن المهمّشة.

أنا أتحدّث هنا بالطبع عن إسلاميي الثورة وليس عن داعش أو عن الجهاديّين الوافدين من الخارج الذين لا علاقة لهم بالقضية السورية والذين قاتلوا الثورة ونكّلوا ببعض أهلها – لا سيما في الرقة – أكثر بكثير ممّا قاتلوا النظام، المسرور أصلاً بوجودهم…. وهذا في أي حال شأنٌ يستحق البحث المتأنّي وأظنّ أن الباحثين السوريّين هم الأكفأ للقيام به.

تذكر في كتابك أن مواقف قسمٍ من اليسار المعادية للثورة غير مفاجئة. بأي معنى هي كذلك؟

حاولت أن أشرّح مواقف بعض القوى اليسارية المناهضة للثورة السورية، في البلاد العربية – لا سيّما سوريا ولبنان – كما في بعض الدول الغربية. وما ذكرته بعد ذلك، أنه وعلى عكس صدمة كثر من الأصدقاء السوريّين بمواقف قوى وشخصيات عربية يسارية، فإن الأمر غير مفاجئ لأنّ هذه القوى والشخصيات لم تجعل الحرّية والديمقراطية مرّة في صلب أولويّاتها، ولأنّ نظم المعسكر الشيوعي التي كانت قبلتها (من الاتحاد السوفياتي الى الصين فكوريا الشمالية) كانت أيضاً قبلة النظم الاستبدادية العربية التي بنت مؤسّسات أمنية وقمعية مستوحاة من الستالينية وأخواتها.

أما في الحالات اليسارية الغربية، فالسبب مرتبط بنظرية المؤامرة وبالتذرّع بالخوف على المنطقة من التمزّق لصالح الإمبريالية ومصالحها النفطية، وبالعلمانوية المفرطة المعادية للإسلاميّين (والمستثنية حزب الله وإيران من هكذا تصنيف نتيجة استهدافهما بحسبها من واشنطن).

ما هو أثر الثورة السورية لبنانياً؟ وما تبعات تدخّل حزب الله العسكري في القتال الى جانب النظام السوري؟

لم يتبلور الأثر كاملاً بعدُ. فهناك حالة تخبّط سياسي، وهناك حسابات وأوهام لدى معظم القوى الحزبية، ولو أنها بدأت منذ أشهر تتشارك في الخشية من مسار الأمور أمنياً. وهناك مليون لاجئ سوري في لبنان، مع ما يمثّله الأمر من تحدّيات إقتصادية وخدماتية، وما يتسبّب به من سفاهات عنصرية أو ما يثيره من نبل تضامن وتعارف وعمل مدني مشترك لبناني سوري.

أما تبعات تدخّل حزب الله فكانت تصاعداً في الاحتقان السياسي والمذهبي لفترة، وها هي تتحوّل منذ أشهر الى تفجيرات إجرامية تطال مدنيّين في مناطق ذات صفاء أو شبه صفاء شيعي. وعلى الذين ينفون ارتباطها بمعارك الحزب العدوانية داخل سوريا أن يشرحوا لنا ولجمهورهم لماذا لم يشهد لبنان ما يماثلها مرّة واحدة منذ اغتيال الحريري عام 2005 ولغاية غزو القصير عام 2013. وأخشى أن الآتي أعظم…

كيف ترى تطوّر الأوضاع في المستقبل القريب؟

لست متفائلاً بتبدّل نوعي، لأن فرص إنهاء المأساة السورية والإطاحة بالنظام الفاشي فوّتها “المجتمع الدولي” عامي 2012 و2013. لذلك، أظنّ الأمور ستستمرّ بين مدّ وجزر ومراوحة عسكرية وسياسية الى أن تنضج تسوية دولية لن يكون الأسد جزءاً منها في أي حال (وهذا ما يؤخّرها روسياً).

إن سألناك ما هو أبرز أمر حقّقته الثورة السورية حتّى الآن، بماذا تُجيب؟

إستعادة “سوريا المجتمع”، و”سوريا الناس”. فسوريا بمعزل عن الوضع الراهن وعن مآلات الأمور في المقبل من الأيام لم تعد مجرّد حدود و”جيوستراتيجيا”، كما أرادها حافظ الأسد، وكما سمّاها هو وابنه من بعده، “سوريا الأسد”. لم تعد ملكاً لهما، تعيش خارج الزمن الذي أرادا إلغاءه بشعارهما الدميم “الى الأبد”… على أن كلفة ذلك كانت باهظة بالطبع، ومرعبة.

السؤال الأخير شخصي: ذكرتَ مرّة في صفحتك على الفايسبوك أنك تنتظر سقوط النظام لتعود الى حياتك الطبيعية والى كرة القدم. ما الذي تغيّر فيك وفي يوميّاتك منذ آذار 2011؟

منذ بدء الثورة السورية، تغيّر الكثير في حياة كل المنخرطين فيها أو المتابعين لها، وأنا منهم. من السجال مع أعدائها وبعضهم صاروا “أصدقاء سابقين”، الى متابعة ما يُكتب عنها، الى استحداث صفحة على الفايسبوك بعد اندلاعها بثلاثة أشهر وبعد تمنّع سنوات قبل ذلك خوفاً من هدر الوقت، الى التعب من كمّ الانفعالات العاطفية نتيجة المشاهد المتلاحقة القادمة من سوريا أو من جوارها حيث اللاجئين، الى التواصل مع الصديقات والأصدقاء السوريين، الى فقدان أحبّة أو الخوف على الآخرين، وصولاً الى تراجع متابعة كرة القدم التي كانت علاقتي شبه الوحيدة بالتلفزة. كلّ هذا أثّر كثيراً على يوميّات الحياة. لذلك قلت ممازحاً إني أتوق لانتصار الثورة كي تعود الحياة الى “طبيعتها”، وكي أستفيد من إشتراكي في القنوات الأوروبية المختصّة بكرة القدم، والتي أهملتها مؤخّراً…

البيت الموحِش

مايكل يونغ

يتحدث الأكاديمي والناشط زياد ماجد، في هذه المقابلة، عن أبعاد الديناميكيات المدمِّرة في كل الشرق الأوسط.

زياد ماجد أستاذ في مادة الدراسات الشرق الأوسطية والشؤون الدولية في الجامعة الأميركية في باريس. أعدّ أطروحته لنيل دبلوم الدراسات العليا عن سورية، وأطروحة الدكتوراه عن النظام السياسي اللبناني. قبل عامَين، صدر له كتاب بعنوان “سورية، الثورة اليتيمة”. كان ماجد من الناشطين في السياسة اللبنانية عبر مشاركته في تأسيس حركة اليسار الديمقراطي، ثم تولّى منصب نائب الرئيس فيها  لسنوات، قبل انتقاله إلى باريس في العام 2006.

مايكل يونغ: يبدو أننا بلغنا منعطفاً في سورية، مع حصار الجزء الشرقي من مدينة حلب. وإذا سقطت المدينة في قبضة نظام الأسد وحلفائه، سيُحكمون سيطرتهم على معظم المدن الكبرى الواقعة بين دمشق والحدود التركية. ما الأهمية التي سيرتديها هذا النصر بالنسبة إلى الأسد؟

زياد ماجد: لاشك أنه سيكون انتصاراً مهماً، رمزياً كما استراتيجياً. أظن أن الروس يسعون منذ تدخّلهم المباشر، لابل قبله، إلى فرض سيطرة الأسد على محور درعا-دمشق-حمص-حماه، ثم محاولة الوصول إلى حلب، وبالطبع ساحل المتوسط. حينها، يمكنهم القول إن النظام سيطر على معظم المدن، وإن ماتبقّى من سورية إما تهيمن عليه الدولة الإسلامية في الشرق، أو الميليشيات الكردية في الشمال، أو جبهة فتح الشام [جبهة النصرة سابقاً] وحلفاؤها في إدلب. هكذا، يمكنهم الادعاء بأنه لم يعد هناك معارضة عسكرية جدّية ضد الأسد. فالمعارضة معزولة في مناطق محاصَرة، سواء في حمص أو شمال حماه أو الغوطة قرب دمشق أو في محافظة درعا، إنما من دون أي تواصل جغرافي بين تلك المناطق. المنطقة الوحيدة الأكبر مساحة هي إدلب، ويمكنهم تبرير قصفها بحجة أنها تخضع إلى سيطرة “تنظيم إرهابي”.

لكنْ ثمة هنا عامل جديد يتمثّل في التدخل التركي في الشمال، والذي قد يتيح للجيش السوري الحر توسيع منطقة سيطرته حول نهر الفرات.

إذن، نعم. سيكون الاستيلاء على النصف الشرقي من مدينة حلب تطوراً مهماً، لكنه لن يعني في الوقت نفسه أن النظام سينتصر أو أن النزاع سيضع أوزاره، لأن 25 إلى 28 في المئة فقط من سورية تقع تحت سيطرة النظام. وستكون هناك دائماً احتمالات للتصدّي لهذا النظام الذي سيعوّل بصورة مطّردة ليس فقط على الدعم الخارجي، بل أيضاً على الاحتلال الخارجي. عندما ننظر اليوم إلى القوات الأجنبية التي تقاتل لصالح النظام في سورية، نرى حزب الله اللبناني، وحركة حزب الله النجباء العراقية، ولواء أبو الفضل العباس، وميليشيا عصائب أهل الحق، ولواء فاطميون المؤلَّف من الهزارة الأفغان، وضباط إيرانيين، وسلاح الجو الروسي. يتحوّل هذا الواقع بصورة مطردة إلى احتلال أجنبي. إذن، سيستمر النزاع، ربما مع توازن قوى جديد، لكنه لن ينتهي فصولاً.

يونغ: إذا دُفِعت المعارضة نحو المناطق الريفية المعزولة بعضها عن بعض، ستجد صعوبة أكبر بكثير في إحراز النصر. هل يمكن أن يكون هناك حل عسكري في هذا السياق الجديد؟

ماجد: صحيح أن المعارضة ستجد صعوبة أكبر في الادعاء بأنها تقدّم بديلاً جديّاً على الأرض عن الأسد والدولة الإسلامية. لكن في الوقت نفسه لايمكن بقاء الأسد في السلطة من دون احتلال أجنبي. وهذا الاحتلال سيساهم، مع البعد الطائفي أو المذهبي الذي يتضمّنه، في تأجيج الغضب السنّي، مايصب في مصلحة المجموعات الإسلامية المتشدّدة. سنكون أمام شكل جديد من أشكال النزاع، ولن يكون هذه المرة صراعاً منخفض الحدّة، بل سيبقى شديداً وعنيفاً. لكن صحيح أنه قد يتركّز أكثر في الأرياف، أي في مناطق ستزداد عزلة.

لكن تبقى هناك أسئلة معلّقة: كيف ستتطور العملية العسكرية التركية، وماذا سيكون دور الجيش السوري الحر في أراضٍ تتحوّل إلى مناطق محمية تركيّاً بحكم الأمر الواقع. لاندري ماذا سيحلّ بتنظيم الدولة الإسلامية ومَن سيفرض سيطرته على الرقة مثلاً. قد تصبح الرقة بديلاً بالنسبة إلى المعارضة في حال تقدَّم الأتراك باتجاهها.

يونغ: إذن، لم يعد واقعياً توقُّع رحيل بشار الأسد؟ هل ستشقّ هذه الحقيقة طريقها إلى الديبلوماسية؟

ماجد: الجواب هو نعم، إذا أخذنا في الاعتبار فقط موازين القوى الراهنة على الأرض، وهذا ما أراده الروس منذ البداية – أي القول إنه لم يعد هناك مبرّر للمطالبة برحيل الأسد. لكن في الوقت نفسه، يتعذّر التوصّل إلى حلول في سورية فيما يستمر الأسد في منصبه. في نظري، واهمٌ من يتخيّل أنه بإمكان الأسد، بعد كل ماجرى، السيطرة على كامل سورية وفرض “الاستقرار” بالقوة. هو لايملك الموارد البشرية، إلا إذا اعتمد بصورة مطردة على الاحتلال الأجنبي الذي سيؤدّي، كما قلنا، إلى اندلاع نزاعات جديدة لاحقاً. لقد انهارت دولة الأسد، وتحتاج إعادة بنائها إلى سنوات. قد يبقى الأسد في السلطة لبعض الوقت. لكن إذا أردنا حلاً لإنهاء الاحتلال، فلايمكنه أن يكون جزءاً منه.

يونغ: هل تشعرون بأنه في مرحلة ما، ستتباين مواقف إيران وروسيا في الملف السوري؟

ماجد: أعتقد أن تخيُّل بعض الأفرقاء الإقليميين، أو حتى بعض الدول الغربية، بأنه كانت لدى موسكو وطهران منذ البداية مصالح متعارضة في سورية، ويالتالي أن الحلف بينهما لن يصمد، كان مجرّد تفكير رغائبي. إذا كان صحيحاً أن لديهما نهجَين مختلفَين، وأن هناك تبايناً في الأسباب التي تدفع كلاً منهما إلى دعم النظام، فلن يظهر ذلك إلا على المدى الطويل. راهناً، لا أظن أن هذا سيحدث.

يونغ: أنتم مطّلعون جيداً على الجهود التي تبذلها المعارضة السورية. ما أجواء المعارضة في مايتعلق بالمجتمع الدولي؟ مَن يحمّلون مسؤولية مآلهم؟

ماجد: إذا كنت تقصد المعارضة المّمثَّلة في الائتلاف الوطني والهيئة العليا للمفاوضات، أظن أن الأكثرية مستاءة من الولايات المتحدة، التي لم تلتزم بـ”الخطوط الحمراء” التي وضعتها لمنع استخدام الأسلحة الكيميائية، ولم تتحلَّ بالصرامة والتماسك في سياستها في الشأن السوري. تعتبر المعارضة أن غياب الدعم الأميركي كان السبب في ما آلت إليه الأمور. إذا واصلتَ التهديد من دون أن تحرّك ساكناً، فتهديداتك لن تحظى بأية مصداقية. أما روسيا، من جهتها، فقد كسبت الوقت عن طريق المفاوضات، فيما هي تغيّر الموازين على أرض الواقع.

البعض في المعارضة يساورهم أيضاً القلق بشأن مايتم التفاوض عليه بين تركيا وروسيا. يتساءلون إذا كانت ثمة مقايضة وافقت تركيا بموجبها على التضحية بحلب في مقابل موافقة روسيا على تقدّم تركيا في بعض المناطق السورية لضرب الأكراد والدولة الإسلامية. في هذه المناطق، قد يحارب الجيش السوري الحر الأكراد والدولة الإسلامية فقط، لكن ليس النظام البتة.

أما المثقفون وفي حين يعتبر كثر منهم أن أميركا مسؤولة بقدر روسيا عن المأساة السورية، يشتكون من أن الأمم المتحدة والمجتمع الدولي يعانيان من الشلل. بالنسبة إليهم، سورية مرآة تعكس الحقيقة بأنه يتعيّن مساءلة النظام الدولي بعد إخفاقه الكارثي في سورية.

يونغ: فلنتكلم عن النظام الإقليمي. هل تشعرون أننا أمام لحظة مفصلية في مايتعلق بالدور الأميركي في الشرق الأوسط؟ أم تعتبرون أن سياسة فك الارتباط التي اعتمدها باراك أوباما كانت مجرد مرحلة بين عهدَين؟

ماجد: أظن أن هناك شيئاً جديداً للغاية، لكنني لست واثقاً من أن هذا سيحدث تغييرات جذرية مع انتهاء الانتخابات. كان بوش شديد التدخّل في المنطقة، وهذا ما اعتبره البعض جزئياً أحد أسباب الكارثة العراقية. ثم جاء أوباما مع سياسة معاكسة: انسحب من المنطقة، والانسحاب تسبّب أيضاً بكارثة. إذن، قد يقول كثر في الجانب الأميركي، إذا تدخّلنا، تلقون اللوم علينا، وإذا انسحبنا تلوموننا أيضاً.

لكنني أعتقد أنها معادلة مخطئة، لأنه في مايتعلق بسورية، لم يطلب أحد من أوباما إرسال الجيش الأميركي لاحتلال البلاد. كان المطلوب منذ البداية فرض منطقة حظر جوي. كان فرض مثل هذه المنطقة، حتى قبل أن يبدأ النظام باستخدام سلاحه الجوي، السبيل الأفضل بالنسبة إلى عدد كبير من السوريين لتشجيع وحدات الجيش على الانشقاق، لأنها لن تواجه حينها خطر التعرّض إلى القصف الجوي.

ثانياً، كانت المعارضة في أواخر العام 2011 ومطلع العام 2012 (عندما بدأ النظام باستخدام سلاحه الجوي) لاتزال أقرب إلى كونها حركة ديمقراطية، قبل صعود المجموعات الإسلامية وقبل وقت طويل من ظهور الدولة الإسلامية. لم يكن هناك مجال لاختبار الحرية في المناطق المحرَّرة أثناء تعرّضها للقصف من طائرات النظام. لو سمحوا للمعارضة بإدارة هذه المناطق كي تُظهر قدرتها على الحكم، ولو جرى تطوير قدرات الجيش السوري الحر في تلك المناطق، لكان الوضع مختلفاً تماماً اليوم.

الشيء نفسه ينطبق على الصواريخ المضادة للطائرات. لو سُمِح باستخدامها، لأمكن تعطيل جزء من سلاح الجو التابع للنظام. أعتقد أنه كان من الممكن اعتماد شكل آخر من أشكال التدخل، يقوم على التفاوض بطريقة أكثر اتساقاً مع الروس، وإفهامهم أنه على الرغم من الحاجة إلى حل سياسي، إلا أن المعارضة ستبقى قوية على الأرض ولن تقبل بانتصار النظام أو روسيا. وبالمناسبة، كان ذلك ليساهم في خفض أعداد اللاجئين والضحايا المدنيين إلى حد كبير.

كل هذا لم يحدث. قد تكون للأمر علاقة بالمزاج السائد بين الأميركيين. فقد سئموا من الشرق الأوسط. ومن الناحية الاقتصادية، لايريدون إنفاق مزيد من الأموال على الجهود العسكرية في الخارج. لقد زعم أوباما سابقاً أن النزاعات في المنطقة، مثل النزاع بين السنّة والشيعة، قائمة منذ قرون. ينطوي كلامه هذا على فلسفة حتمية ثقافوية لامنطق فيها. النزاع في سورية معاصر من الأوجه كافة، وليست له جذور تاريخية عميقة.

لا أعتقد أن أي رئيس للولايات المتحدة سيعود، بعد ماحصل في سورية، إلى أسلوب بوش أو إلى سياسة التدخّل. لعلها لحظة حاسمة في مايتعلق بالمنظومة العالمية والموقع الأميركي في الشرق الأوسط. كما أن انعطافة الأتراك نحو روسيا توجّه أيضاً رسالة مفادها أنهم باتوا أقل ثقة بأميركا ويتطلعون إلى شركاء آخرين. ربما هناك بلدان عربية كثيرة تشعر بالطريقة نفسها. لا أدري إذا كان ذلك سيدوم طويلاً، أو إذا كانت المقاربة الأميركية ستخضع إلى المراجعة، لكنني لاأعتقد أننا سنعود إلى العديد من سمات ماقبل عهد أوباما.

يونغ: بمناسبة الحديث عن العرب، شهدنا في الأعوام الخمسة الماضية انهيار النظام الدّولتي العربي. من برأيكم الخاسر الأكبر من النزاع السوري بين الدول العربية؟

ماجد: أعتقد أن السعودية هي من بين كبار الخاسرين. لقد اعتقدوا أن بإمكانهم أن يؤدّوا دوراً حاسماً، سواء في النزاع السوري أو في اليمن، إلا أنهم يزدادون عزلة على الساحة العربية. حتى الرئيس عبد الفتاح السيسي الذي ساعده السعوديون على الوصول إلى السلطة ومدّوا له يد العون اقتصادياً، ينأى بنفسه عنهم في الملف السوري. استقبلت القاهرة مؤخراً المسؤول الاستخباراتي السوري علي المملوك، وكان هناك حديث حتى عن توجيه دعوة إلى بشار الأسد لزيارة البلاد. ولذا، أعتقد أن السعودية باتت أقل نفوذاً في جامعة الدول العربية، مع تعبير بلدان عدّة – بينها الجزائر ومصر، وبالطبع العراق – بوضوح عن خلافها مع المملكة حول المسألة السورية، وأيضاً اليمن وقضايا أخرى. كان الجزء الأكبر من الأسلحة السعودية والدعم السعودي للمعارضة السورية يمرّ عبر الأردن. لكن الحدود الأردنية أصبحت مغلقة، على إثر التنسيق على مايبدو بين عمان وواشنطن، مايحول أيضاً دون تمكّن السعوديين من ممارسة نفوذهم كما في السابق.

يونغ: أصبح التنافس السعودي-الإيراني فاقع الوضوح في منطقة الشرق الأوسط، ويؤثّر في معظم النزاعات. ما مآل هذا التنافس برأيكم؟ هل تعتقدون أن إيران تحاول فرض هيمنتها الإقليمية؟

ماجد: نعيش منذ العام 2011 لحظة تأسيسية في المنطقة. إذا نظرنا إلى تاريخ الشرق الأوسط الحديث، يتبيّن لنا أن هناك خمس لحظات تأسيسية منذ انهيار الأمبراطورية العثمانية: اتفاق سايكس-بيكو قبل قرن من الزمن، الذي أعقبه وعد بلفور، ثم سلسلة المؤتمرات التي عُقِدت بعد الحرب العالمية الأولى وطبعت وجه المنطقة. اللحظة الثانية كانت في العامَين 1947-1948، مع تقسيم فلسطين وإنشاء إسرائيل وما استتبع ذلك من ديناميكيات، بما فيها الانقلابات العسكرية في عدد كبير من البلدان العربية. أما اللحظة الثالثة فكانت في تشرين الأول/أكتوبر 1973، لأنها كانت الحرب العربية-الإسرائيلية الأخيرة التي تُخاض بين دول، وقد أدّت إلى انسحاب مصر من الصراع العربي-الإسرائيلي، وصعود السعودية إبان الطفرة النفطية، وكذلك صعود الإسلام السياسي. اللحظة الرابعة كانت في العام 1979، مع اندلاع الثورة الإيرانية وتصديرها عن طريق الشيعية المتشدّدة. وفي الوقت نفسه، كان هناك الجهاد في أفغانستان، الذي أتاح ظهور فريق آخر، الجهاديين، كقوةٍ مهمة.

المحطة الخامسة جاءت مع الانتفاضات العربية في العام 2011، عندما بدأت المجتمعات العربية تكشف عن تطلعاتها إلى التغيير. واجهت المنطقة – بسبب الثورات المضادة، ومكامن الضعف في المجتمعات العربية، والانقسامات المذهبية وغيرها من الانقسامات، والتدخلات الخارجية – التباساً جديداً، مع حدوث تغيير ديمغرافي مهم. أصبح نحو ستة ملايين سوري، معظمهم من السنّة، خارج سورية. وفي العراق، يصل عدد النازحين داخلياً إلى نحو ثلاثة ملايين شخص، ولاسيما لأسباب مذهبية.

وإذا نظرنا إلى الصعود الإيراني في هذا السياق، أعتقد أن إيران تسعى فعلاً إلى فرض هيمنة ما – تمتد من إيران والعراق إلى سورية ولبنان. لهذا السبب ترتدي سورية أهمية لأنها تضم أكثرية سنّية في قلب محور شيعي، إذا صحّ التعبير. لم تتمكّن السعودية من وضع استراتيجية لردع الإيرانيين أو إلحاق الهزيمة بهم، وليس حلفاؤها أقوياء بقدر الحلفاء الإيرانيين. ومنذ توقيع الاتفاق النووي مع إيران، لم يعد بإمكان السعوديين التعويل كثيراً على الدعم الأميركي. هذا فضلاً عن أنهم أساؤوا التعامل مع المسألة اليمنية. تدخّلوا عسكرياً ظناً منهم أن بإمكانهم تسوية الأوضاع هناك، لكنهم باتوا عالقين في ذلك البلد وبعيدين كل البعد عن تحقيق النصر. ويغلب الظن، على أي حال، أن إيران تدعم أعداءهم هناك.

يونغ: لكن الأكثرية لاتزال سنّية في المنطقة.

ماجد: نعم، تماماً. لكن في المقلب السنّي العربي، الدول منقسمة وعاجزة عن وضع سياسة موحّدة. يعقد بعض الموالين لإيران مقارنة مع إسرائيل: مشيرين إلى أنها قادرة على إلحاق الهزيمة بعشرات ملايين العرب مع أنها ليست أكثرية ديمغرافية، فما الذي يمنعنا من القيام بالشيء نفسه؟ إن السياسة الإيرانية تطورت في المنطقة. كانت أكثر براغماتية في مامضى. كان لدى إيران عدد كبير من الحلفاء السنّة في تسعينيات القرن العشرين وحتى اندلاع الحرب في العراق، لكنها تحوّلت نحو سلوك مسار مذهبي أكثر وضوحاً إلى حد كبير في العراق ومن ثم سورية، حتى في مصطلحاتها ومفرداتها واستعاراتها المجازية. بات الحديث يتركّز حول الشيعية و”الدفاع” عنها. لم يعودوا يخفون هذه التوجهات، في حين أنهم حرصوا في السابق على عدم الكشف عنها بهدف استمالة الشارع السنّي. والأمر نفسه ينطبق تقريباً على حزب الله في لبنان.

يونغ: هل ثمة فرصة بأن ينتهي كل هذا؟

ماجد: أخشى أنه لن ينتهي قريباً، وهنا تكمن المسألة المركزية. فهذا سيؤدّي إلى مزيد من الإحباط السنّي العربي. كان تنظيم الدولة الإسلامية في العراق أحد تجلّيات هذا الإحباط، مع انضمام عدد كبير من الوجهاء السنّة الذين كانوا جزءاً من النظام القديم، وبعض الضباط البعثيين، إلى تنظيم الدولة الإسلامية لأنهم كانوا يعانون من التهميش على يد الشيعة الموالين لإيران، وكذلك على أيدي الأكراد، لكونهم سنّة. نعاني واقعاً مماثلاً في سورية، مع الجنوح نحو مزيد من التشدّد رداً على الاجتياح الشيعي الإيراني واللبناني والعراقي للبلاد. ولذلك حتى لو حقّق الإيرانيون النصر الآن، لن يضع هذا النزاع المذهبي أوزاره في المدى الطويل من دون التوصّل إلى حلول سياسية جدّية في سورية والعراق واليمن، ومن دون عودة إيران إلى حدودها الجغرافية. ستواصل إيران ممارسة نفوذها بالتأكيد، فهي لاعب قوي في المنطقة، لكن هذه النزعة نحو الهيمنة لن تفضي سوى إلى مزيد من النزاعات.

يونغ: اسمحوا لي أن أنتقل إلى نطاق أكثر تواضعاً للحديث عن لبنان. لقد انتُخِب ميشال عون للتو رئيساً للبلاد، بعد حصوله على التأييد من خصمه، الزعيم السنّي سعيد الحريري. كيف تفسّرون هذه التطورات؟

ماجد: أولاً، أعتقد أن هناك مشكلة لايرغب لبنانيون كثر في رؤيتها، تتمثّل في تراجع النظام التوافقي اللبناني. لقد تعاقبت الأزمات، الواحدة تلو الأخرى، وكأنّ النظام وجّه رسائل كثيرة بأنه لم يعد قادراً على العمل في ظل الذهنية السائدة راهناً لدى النخب السياسية. بُني هذا النظام لنخب غير متشدّدة. كان هؤلاء وجهاء قبل مرحلة الحرب الأهلية التي اندلعت في العام 1975، وكانوا يتألفون من محامين ورجال أعمال ومصرفيين ومالكي أراضٍ وما شابه، حين كانت ثقافة التسوية والتوافق تتيح تجنّب المواجهة.

بيد أن خصائص هذه النخبة تغيّرت بعد الحرب. كما أن النظام القديم لم يتضمن هيمنة قوية للاعبين سياسيين داخل كل طائفة. قبل الحرب، كانت هناك تحالفات تجمع في صفوفها المسيحيين والسنّة والشيعة والدروز في مواجهة تحالفات أخرى تضم خليطاً مماثلاً من الطوائف والمذاهب. لكن الانتقال نحو احتكار التمثيل داخل كل طائفة أفضى إلى سلسلة من الأزمات السياسية، لأنه ظهرت فجأة تحالفات تغيب عنها هذه الطائفة أو تلك – وهذا ماشهدناه في فريقَي 8 و14 آذار/مارس. فقد غاب المكوِّن السنّي الأساسي عن الفريق الأول، في حين غاب المكوِّن الشيعي الأساسي عن الفريق الثاني.

انعكس انحدار التوافقية أيضاً في الأزمات المتكررة التي تعترض عملية انتخاب رئيس للجمهورية. ففي كل الدورات الانتخابية الرئاسية منذ العام 1988، اصطدمت الانتخابات بعراقيل معيّنة. قد تستمر الأمور على هذا المنوال بعد انتهاء ولاية عون، لأن المنظومة نفسها تعاني من خلل ما، ولأن ترتيبات تقاسم السلطة بين المسيحيين والمسلمين التي أُدرِجت في الدستور، أو على الأقل في الميثاق الوطني للعام 1943، بدأت بالاضمحلال مع حلول الخصومة السنّية-الشيعية مكانها، ما أحدث تغييراً في طبيعة العقد السياسي اللبناني.

قبل انتخاب عون، كان واضحاً أن حزب الله لايريد رئيساً للبلاد. فقد أتاح له الفراغ الرئاسي فرض سياسته الخارجية من دون وجود رئيس للجمهورية قادر على طرح الأسئلة – أو مضطر إلى الدفاع عن سياسات الحزب أمام الأميركيين والسعوديين والفرنسيين وسواهم. أما الآن فربما دفعت الأوضاع الاقتصادية والمالية السيئة والتهديدات الكثيرة المحدقة باستقرار لبنان الداخلي، بالحزب إلى القبول بحليفه عون الذي يمحضه ثقته بطريقة ما. وهكذا، يبدو أن ثمة ترتيباً لتجنّب حدوث مزيد من الانحدار أو حتى انهيار الدولة. لكنني لا أعتقد أنه سيكون هناك تغيير جذري في الأوضاع لأن النخبة السياسية لاتزال هي نفسها، ولاتزال متحالفة مع الأطراف الخارجية نفسها.

يونغ: فسّر البعض انتخاب عون بأنه انتصار للمرشح المدعوم من إيران على المرشح المدعوم من سورية، أي النائب سليمان فرنجية. هل تعتقدون أنه كانت هناك خلافات بين سورية وإيران حول الانتخابات الرئاسية؟

ماجد: لطالما اعتبرت أن هناك اختلافاً في المقاربات بين سورية وإيران في لبنان، حتى لو كانت سورية اللاعب المباشر على الساحة اللبنانية طوال عقود كثيرة. لكن بعد العام 2005، عندما أُرغِم النظام السوري على الانسحاب من البلاد، لم يعد هذا النظام يحظى بدعم مهم في لبنان. حلفاء سورية هم أفراد داخل طوائف، وذلك خلافاً لعلاقة إيران مع الطائفة الشيعية. بهذا المعنى، الإيرانيون أقوى من السوريين في لبنان، من خلال حزب الله. وإذا كانوا قد ارتأوا الآن أنه من الأفضل أن يصبح للبنان رئيس للجمهورية، فهذا دليل على أنهم لم يأخذوا في الاعتبار خيارات النظام السوري الأولى بالنسبة إلى الرئاسة، أو رغبته في عدم السماح بتشكيل حكومة جديدة. إذن نعم، ربما انتصرت إيران من هذه الناحية.

يونغ: ختاماً، لنتحدث قليلاً عنكم. بصفتكم شيعياً لبنانياً معارضاً لحزب الله، أيّ مستقبل لأمثالكم في بلد حيث الحزب لاعب مسيطر إلى هذه الدرجة؟ هل المنفى هو الخيار الوحيد؟

ماجد: أولاً، اسمحوا لي أن أوضح أنني لم أعرّف عن نفسي يوماً بأنني شيعي. حتى عندما كنت ناشطاً في صفوف فريق 14 آذار/مارس، لغاية العام 2007، فضّلت دائماً ألا يتم التعريف عنّي بأنني من “شيعة 14 آذار/مارس”. والسبب ليس فقط أنني علماني وأنني أنتمي سياسياً إلى اليسار، بل أيضاً لأنني لاأحب تصنيف “الشيعة الصالحين” في مقابل “الشيعة الطالحين” بحسب النظرة الطائفية لمعظم الأفرقاء. هذه الأنواع من الأفخاخ لاتفيد بشيء. هناك حكماً مشكلة داخل الطائفة الشيعية، أكثر من أي طائفة أخرى راهناً، في مايتعلق بالتنوع. قبل صعود حزب الله، كان المجتمع الشيعي من الأكثر ديناميكية في البلاد: كان الشيعة يعيشون في الأرياف ثم انتقلوا إلى المدن؛ وازدادوا علماً وثقافة؛ وكان مجتمعهم متنوّعاً؛ كان بعضهم محافظين دينياً، وكان كثر منهم ينتمون إلى اليسار السياسي، فيما كان آخرون يتبعون الزعامات التقليدية. كانت تجربتهم السياسية والثقافية غنية وواعدة.

ثم بعد الاجتياح الإسرائيلي في العام 1982، وبعد ترسيخ التحالف الإقليمي الإيراني-السوري، ظهر حزب الله، وجلب معه مؤسسات وأيديولوجيا واضحة. يملك الحزب مدارس، وهناك جيل جديد تتم تنشئته في هذه المؤسسات التي تختلف مشاريعها وأفكارها عما هو مألوف بالنسبة إلينا. يملك الحزب شبكات للأعمال الخيرية، وجمعيات شبابية، ومستشفيات، ووسائل إعلامية، ويدير مجالس بلدية، وينظّم رحلات إلى إيران. ولديه جيش. علاوةً على ذلك، إنه حزب ذو مشروعية شعبيّة بنظر معظم الشيعة اللبنانيين. أظن أنه في هذه المرحلة التي تشهد تعبئة طائفية وفئوية في كل مكان، وتفاقم التعصّب المذهبي والتقدّم الإيراني في المنطقة، سيجد معارِضو مشروع حزب الله في لبنان من وجهة نظر علمانية أو تقدّمية أو غير مذهبية، صعوبة كبيرة في فرض أنفسهم وفي أن يكون لهم وجود سياسي.

يونغ: سؤال أخير، هل أنتم في صدد تأليف كتاب جديد؟

ماجد: أعمل على تحديث الكتاب الذي وضعته عن سورية، وآمل بأن يُنشَر قريباً بالإنكليزية. وأُعيد أيضاً صياغة أطروحة الدكتوراه التي كتبتها عن لبنان، وستُصدر قريباً بالإنكليزية أيضاً.

*أُجريت تعديلات طفيفة على هذه المقابلة بناءً على رغبة الأستاذ زياد ماجد.

مركز كارينغي للشرق الأوسط

أجساد السوريين باتت ورقة أردوغان الأخيرة لمساومة الاتحاد الأوربي/ فيصل اليافعي

قبل أيام قليلة من حصوله على ما طالب به طويلًا، يطالب الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بالمزيد، وفي خطاب له يوم الخميس الماضي، وقبل ثلاثة أيام من بدء انطلاق الدوريات الحدودية المشتركة مع الولايات المتحدة، كشف أردوغان عن خطة جديدة – وقام بالإعلان عن تهديد خطير، إذا لم يقم الاتحاد الأوربي بدعم خطة أردوغان لنقل مليون لاجئ سوري للمنطقة الحدودية فإن الرجل سيقوم حسبما قال ب”فتح الأبواب”.

وهذا التهديد الخطير على وجه الخصوص، والذي يتعلق بملايين السوريين هو تهديد قاسِ، وخلال خطاب واحد؛ أعلن أردوغان استخدام أجساد السوريين كسلاح ضد الاتحاد الأوربي، وأنه لا يشعر بالندم حيال ذلك، بغرض تحقيق ما يريده على المستوى السياسي

وقال أردوغان الأسبوع الماضي :“هدفنا هو إعادة مليون ]سوري[على الأقل للمنطقة الآمنة”، تلك المنطقة الأمنة لم يتم تأسيسها بعد”. لكن تركيا تتصور تلك المنطقة الآمنة على أنها منطقة حدودية تبلغ مساحتها مئات الكيلومترات، يتم تسيير دوريات أمريكية وتركية فيها، على أن يتم إعادة اللاجئين السوريين في تركيا وتوطينهم في تلك المنطقة الآمنة. وأضاف أردوغان أن تركيا من الممكن أن تقوم ببناء مدنًا في تلك المنطقة، وأشار إلى أن ذلك أفضل لهم من المدن التي تأسست من الخيام في تركيا.

وقال أردوغان إن الاتحاد الأوربي إن لم يتعاون مع أنقرة في هذا الإطار، فإن الأخيرة لن تتحمل هذا العبء وحدها، وأضاف :“إن لم نحصل على دعم الاتحاد الأوربي سنقوم بفتح الأبواب”.

ومصطلح “فتح الأبواب” يعني السماح للاجئين السوريين بالتدفق إلى أوربا، إما بحرًا عبر إيطاليا واليونان، أو برًا عبر بلغاريا والبلقان، وهذا يعني نهاية الاتفاقية التي تم توقيعها في العام 2016 بين أنقرة والاتحاد الأوربي، والتي نصت على إيقاف عبور المهاجرين إلى أراضي الاتحاد الأوربي في مقابل حصول أنقرة على مساعدات تبلغ عدة مليارات يورو. وتلك المسألة تتسم بالخطورة وسيكون لها عواقب وخيمة على مئات الآلاف من اللاجئين السوريين الذين يعيشون في تركيا، والمؤكد أن هناك الكثير ممن يرغبون في خوض رحلة محفوفة بالمخاطر إلى الأراضي الأوربية، حتى وان كانت تلك المحاولات يائسة، ولكن هناك الكثير أيضًا من اللاجئين السوريين في تركيا، الذين يريدون البقاء هناك على الرغم من الصعوبات التي تقابلهم، وفتح الأبواب سوف يؤسس لبيئة عدائية من الممكن أن تدفع بالكثير منهم إلى خارج البلاد.

وعبر التهديد ب”فتح الأبواب”، فإن الرئيس التركي واقعيًا يهدد بنزع الحماية عن مئات الآلاف من اللاجئين السوريين من الرجال والنساء الذين تقطعت بهم السبل، وإجبارهم على البحث عن الملجأ والأمان، وبالنسبة للسوريين؛ تلك هي الوحشية الناجمة عن السياسة.

وبالنسبة للاتحاد الأوربي، فإن تلك المشكلة تنطوي على خطر هائل، ودون الدخول في تفاصيل عواقب تلك المسألة، فإن الاتحاد الأوربي على دراية كاملة بتلك العواقب. وقد مرت 4 سنوات منذ كانت أزمة اللاجئين في ذروتها، تلك الأزمة الشديدة التي كانت لها آثارًا لا زالت مستمرة طالت القارة الأوربية على المستوى السياسي، والواقع أن الأزمات السياسية الحالية التي تشهدها دولتان من أهم دول الاتحاد الأوربي وهما إيطاليا والمملكة المتحدةقدتم تأجيجها عبر قضية المهاجرين. ولا عجب من أن أول ردود الفعل جاء من رئيس الوزراء اليوناني، حيث استنكر المحاولات التركية ل”تهديد اليونان وأوربا”. وفي أغسطس الماضي، ارتفع عدد اللاجئين المتدفقين من تركيا إلى الجزر اليونانية ليصل إلى سبعة آلاف، وهو المعدل الأعلى منذ سنوات، وهو نذير على ما يمكن أن يحدث في المستقبل.

وأردوغان لا يستغل التهديد بفتح الأبواب ضد الاتحاد الأوربي فقط، ولكن مسألة استخدامه لأجساد السوريين كسلاح تستهدف بشكل مباشر أيضًا عدوين آخرين: الجماعات الكردية المسلحة على الحدود، وكذا معارضي أردوغان في الداخل. وفي ذات الخطاب طلب أردوغان دعمًا لوجستيًا من أجل “بناء منطقة سكنية على مساحة يبلغ عمقها 30 كم في الشمال السوري”، وقد يبدو أردوغان على أنه شخصية متخبطة، لكنه ليس كذلك.

وفي الثامن من سبتمبر، عبرت مركبات عسكرية أمريكية وتركية الأراضي السورية، من أجل القيام بدوريات مشتركة في “المنطقة الآمنة”، بمحاذاة المنطقة الحدودية، وتسيطر الجماعات الكردية حاليًا على تلك المنطقة، لكن تركيا مصممة على طردهم منها، وحجتها أن المسلحين الأكراد يقومون بالتنسيق مع الانفصاليين الأكراد في الداخل التركي.

وبالنسبة للولايات المتحدة، فإن مسألة الدوريات تتسم بالحساسية، وقد حاولت واشنطن باستماتة تأجيل تسيير تلك الدوريات. وبشكل نظري، فإن الولايات المتحدة تتحالف مع الجماعات الكردية السورية التي تقاتل تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) في المنطقة. ومجددًا تتعرض الولايات المتحدة للاختيار ما بين الانحياز للجماعات الكردية أو تركيا، وتلك المرة اختارت واشنطن الانحياز لأنقرة شريكتها في حلف الناتو.

واليوم، فإن تلك الدوريات ستشمل فقط المنطقة الحدودية الواقعة إلى الخلف من مدينة تل الأبيض، لكن تركيا تريد توسيع المنطقة الآمنة، لتصل إلى عمق 30 كم في الداخل السوري، لكن مع فض الولايات المتحدة لتلك المسألة، لجأت تركيا لأسلوب جديد من أجل توسيع المنطقة التي يسيطر عليها الجيش التركي.

وخطة شرق الفرات تشتمل على إقامة مدارس ومستشفيات ومساكن، وهو ما يحدث في مدينة جرابلس السورية، والتي تبعد مسافة ساعتين بالسيارة إلى الغرب من مدينة تل الأبيض، وستعمل القوات التركية على حماية تلك الأراضي والسوريين الذين يقيمون فيها، لكن أنقرة أيضًا ستقيم مسافة تفصل بين الجماعات الكردية والأراضي التركية، والمؤكد هو أن تركيا ستستخدم أجساد السوريين من أجل الإبقاء على الجماعات الكردية بعيدة عن حدودها.

وفي نظر أردوغان فإن هؤلاء هم معارضيه في الداخل، وقد بدا الرأي العام في تركيا في التحول ضد اللاجئين السوريين، حتى في مناطق مثل جنوب شرق تركيا القريبة من الحدود، وهي المنطقة التي تشهد استثمارات سورية جلبت الكثير من الوظائف. وعبر إعلان خطته بصوت عالِ، فإن أردوغان يقطع الطريق أمام دعوات المعارضة بإعادة السوريين إلى بلادهم، والواقع أن أول من أحضر السوريين إلى تركيا وهو الرئيس أردوغان، يريد الآن طردهم منها.

وتلك الطريقة التي تنطوي عليها عملية استضافة اللاجئين تؤدي للتأسيس لبيئة عدائية في الداخل التركي، مما جعل الكثير من السوريين يريدون مغادرة البلاد، لكن أردوغان يريد حلًا أفضل وأسرع، وحتى وهو ماض في طريقه – متحدثًا بصوت عال – إلى الولايات المتحدة على طاولة المفاوضات، فقد اختار تلك اللحظة من أجل الحصول على المزيد من المكاسب، وهو يجيد اللعب على الأوتار التي تجعله يحصل على ما يريد، وما يريده أردوغان بالفعل هو ضم جزء من الأراضي السورية، وهو على استعداد لاستخدام السوريين كوسيلة للمساومة من أجل تحقيق هذا الهدف.

يقوم فيصل اليافعي حالياً بتأليف كتاب حول الشرق الأوسط، كما أنه يظهر كمعلق بشكل متكرر على شبكات التليفزيون الإخبارية الدولية، وقد عمل بالعديد من وسائل الإعلام المعنية بالأخبار مثل غارديان و”بي بي سي” وعمل مراسلاً بالشرق الأوسط وشرق أوربا بالإضافة لآسيا وإفريقيا.

نحو أتون النيران/ مهى يحيَ

الأخيرة إعادة آلاف اللاجئين السوريين إلى بلادهم قسراً من دول مجاورة، ما شكّل انتهاكاً للمعاهدات الدولية.

على سبيل المثال، أعاد لبنان خلال الأشهر الأربعة الأخيرة 2731 لاجئاً إلى وطنهم، فيما رحّلت تركيا مئات اللاجئين. وتُبرر السلطات اللبنانية والتركية سياساتها بأن سورية أصبحت آمنة، لأن نظام الأسد استعاد معظم الأراضي التي كان قد خسرها، كما أن عدداً متزايداً من السوريين اللاجئين والنازحين داخلياً يعودون إلى ديارهم. وحتى في أوروبا، بدّلت دائرتا الهجرة الدنماركية والسويدية تقييمهما للوضع في سورية، إذ اعتبرتا أن الظروف الأمنية في بعض المناطق السورية لم تعد تشكّل تهديداً لطالبي اللجوء.

هذه الحجّة موضع شك بالغ. فسورية لاتزال ترزح تحت وطأة الصراع والانفلات الأمني، ما يلقي بثقله على اللاجئين خصوصاً. صحيح أن عدداً كبيراً من السوريين عادوا، لكن أعداداً أكبر بكثير كانوا يفرّون من بيوتهم نتيجة الصراع والاضطهاد. على سبيل المثال، تُظهر الأرقام الصادرة في العام 2017 أنه مقابل كل لاجئ أو نازح داخلياً عاد، كان ثمة ثلاثة نازحين جدد. وفي حزيران/يونيو وتموز/يوليو 2019، عاد 190 ألف سوري من النازحين داخلياً، لكن ثلاثة أضعاف هذا العدد نزحوا بين كانون الثاني/يناير وتموز/يوليو.

الادّعاءات القائلة بأن سورية باتت آمنة لعودة اللاجئين، تغضّ الطرف عمداً عن المجموعة الواسعة من السياسات التي طبّقها نظام الأسد لمنعهم من العودة، مثل التجنيد الإجباري الذي يحول دون عودة العديد من الشباب الذين تتراوح أعمارهم بين 18 و42 عاماً. فالشباب الذين يُساقون إلى التجنيد الإجباري في المناطق التي أجرت “مصالحات” مع النظام بموجب ضمانات روسية، يُرسَلون إلى الجبهات الأمامية كي يلقوا حتفهم، فيما يتعرض الذين يرفضون الالتحاق بالتجنيد الإجباري قبل انقضاء مهلة الستة أشهر المُحدّدة بموجب الضمانات الروسية، إلى الخطف والإخفاء. مثال آخر هو قانون مكافحة الإرهاب الذي دخل حيّز التنفيذ في العام 2012، ويستخدمه النظام لخنق أصوات المعارضين المُحتملين، بما في ذلك النشطاء المدنيين الذين يُحاكَمون بتهمة “الترويج للأعمال الإرهابية”.

تشير تقارير عدة إلى أن قوات النظام عمدت إلى احتجاز مئات اللاجئين وإخفائهم حال عودتهم إلى سورية. وقدّرت المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين أن القوات الحكومية احتجزت مئات المدنيين منذ حزيران/يونيو 2019، ولاسيما في محافظات درعا ودمشق وريف دمشق وحمص. ووثّقت الشبكة السورية لحقوق الإنسان مؤخراً اختفاء 638 شخصاً من العائدين إلى سورية، لقي 15 منهم مصرعهم نتيجة التعذيب بحسب ما أُفيد، لكن الكثير من المحلّلين يقدّرون أن الأعداد أكبر من ذلك بكثير. كذلك، تحدّثت الشبكة السورية عن جهود حثيثة لفرض التجنيد الإجباري، إضافةً إلى ارتفاع معدّلات احتجاز العائدين إلى سورية.

تشير هذه النتائج إلى المنحى الذي تشهده سورية اليوم. فعلى الرغم من أن وتيرة الصراع المسلّح آخذة في الانحسار على ما يبدو، كثّفت الدولة إجراءاتها القمعية بحق المدنيين لإنزال عقاب جماعي بهم من جهة، وكتدبير احترازي يقي من احتمال حدوث معارضة سياسية من جهة أخرى. ومع أن الصراع أضعف الجيش السوري، إلا أن نفوذ الأجهزة الأمنية العاملة في البلاد ازداد باطّراد.

في غضون ذلك، تفرض الأجهزة الأمنية على الراغبين في العودة الحصول على تصريح أمني وتلجأ إلى آليات التدقيق بالأسماء لمنع بعضهم من العودة. حالياً، يتولّى مكتب الأمن الوطني السوري، الذي ينسّق عمل وكالات الاستخبارات السورية، قبول عودة اللاجئين والنازحين داخلياً. ففي مدينة داريا الواقعة بالقرب من دمشق مثلاً، على اللاجئين أو النازحين داخلياً الراغبين في العودة طلب الإذن عبر تسجيل أسمائهم في المجلس المحلي للمدينة. ثم تُحال الطلبات إلى مكتب الأمن الوطني، وفي حال الموافقة عليها يحصل المواطنون على بطاقة إقامة شهرية. لكن، تم رفض الكثير من الطلبات، حتى في ظل هذه الشروط الصارمة. وقد أفاد مواطنون يملكون بطاقات إقامة صالحة أن عناصر الميليشيات عند نقاط التفتيش منعوهم من البقاء في المدينة.

تُطبّق دول مجاورة عملية مماثلة للتعامل مع اللاجئين الراغبين في العودة. ففي لبنان مثلاً، على اللاجئين أن يقدّموا طلباتهم عبر المديرية العامة للأمن العام اللبناني التي تُحيل أسماءهم إلى مكتب الأمن الوطني السوري، والذي بدوره يقرّر إما السماح بعودتهم أو رفضها. ومع أن مئات اللاجئين قدّموا طلبات، لم يُسمح إلا لحفنة منهم بالعودة. على سبيل المثال، يتحدّر 5 في المئة من اللاجئين السوريين في لبنان من مدينة القصير القريبة من الحدود اللبنانية والتي كانت معقلاً للثوار في محافظة حمص. ومع أن قوات النظام وحزب الله أعادت بسط سيطرتها على المدينة في العام 2013، لم يُسمح إلا لعُشر سكانها بالعودة.

يعمد عددٌ من الدول إلى إعادة السوريين إلى وطنهم قسراً، على الرغم من أن الأوضاع لاتزال غير آمنة للغاية.

يواجه اللاجئون السوريون في لبنان عقبات كأداء أخرى، مثل الظروف الصعبة في مناطق سكنهم الأصلية. وتشير البيانات الصادرة في العام 2015 عن المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين إلى أن 21 في المئة من اللاجئين المُسجّلين في لبنان يتحدّرون من حمص، و21 في المئة منهم من حلب، و14 في المئة من ريف دمشق. بعبارة أخرى، يتحدّر أكثر من نصف اللاجئين في لبنان من محافظات لحق بها دمار هائل، ولايزال الوضع الأمني فيها مزعزعاً للغاية. ففي مدينة حمص، قّدّرت تكلفة الدمار الذي حلّ بها بنحو 2.7 مليار دولار في آذار/مارس 2016. أما في حلب، التي كانت سابقاً أهم مركز صناعي في سورية، فقد بلغ حجم الدمار فيها 7.57 مليارات دولار في شباط/فبراير 2017.

إلى جانب الدمار المادي الذي لحق بالقرى والمدن، وصل عدد كبير من الخدمات إلى حالة يُرثى لها. فنظام الاتصالات عشوائي وانقطاع التيار الكهربائي مُتكرر، وخدمات الرعاية الصحية شبه غائبة عملياً، حتى أن بعض المناطق تعاني من نقص شديد في أبسط ضروريات الحياة اليومية كالخبز. مثلاً، ليس باستطاعة سكان مدينة الرستن الواقعة في محافظة حمص شراء الخبز سوى من مخبز واحد فقط قيد العمل، لأنه وبعد مرور عام على “مصالحة” البلدة مع النظام، لم يتمّ تأهيل أي من المخابز المتضرّرة. في الوقت نفسه، لايُسمح لأولئك الذين يتمكّنون من الدخول إلى مناطقتهم الأصلية من إحضار مواد البناء، ما يعني أنهم غير قادرين على إعادة تشييد منازلهم. الجدير ذكره هنا هو أن أسعار مواد البناء باهظة، وليست في متناول معظم السوريين، في حين أن الحصول على مثل هذه المواد غالباً ما يتطلب دفع رشاوي.

علاوةً على ذلك، لن يسمح النظام بإعادة الإعمار إلا بشروطه الخاصة، وذلك بناءً على أولوياته وليس حاجاته. فقد فضّل النظام في العام 2018، إعادة تأهيل حرستا التي تقع في محافظة ريف دمشق ويبلغ عدد سكانها 1100 نسمة تقريباً، بالمقارنة مع دوما وعبرين اللتين يبلغ عدد سكانهما حوالى 13000 و41000 نسمة على التوالي. ويُعزى ذلك في الدرجة الأولى إلى قُرب حرستا من العاصمة دمشق وإلى تعاطف سكانها الحاليين مع النظام. لكن حتى في هذه المنطقة، بدا النظام أكثر اهتماماً بإعادة تأهيل الخدمات الإدارية للدولة وليس بالخدمات العامة. ففي حلب، فضّل ثماني مناطق في الجزء الغربي من المدينة التي كانت بقيت خاضعة إلى سيطرة الحكومة طيلة فترة الصراع هناك.

ما يكتسب هنا أهمية بالغة أنه حتى لو بدأت عملية الإعمار، إلا أن التغييرات في الإطار القانوني في سورية تشير إلى أن النظام يعمل بدأب لتعقيد، أو حتى منع، عودة اللاجئين. فبموجب القانون الرقم 10 للعام 2018، باتت مصادرة أملاك السوريين سياسة ناشطة يعتمدها النظام، وهو يسمح للدولة بإدراج أي منطقة في سورية إلى إعادة التطوير العقاري، ومصادرة ملكية أراضي من لا يستطيع تقديم “ما يُثبت ملكيته” في غضون شهر (عُدّلت المدة لاحقاً إلى سنة) من تاريخ الإدراج. وكما ذكرت هيومن رايتس ووتش ومنظمات أخرى، يجري منع سكان من العودة إلى منازلهم بحجة إعادة الإعمار وإعادة التطوير.

مثلاً، أدّت عملية إعادة الإعمار في دمشق وحلب وحمص التي جرى تنفيذها بموجب القانون الرقم 10 إلى حرمان السكان الأصليين من حقهم في العودة، وضمنت نقل ممتلكاتهم إلى أتباع النظام. وتم تجريد سكان بساتين الرازي والقابون، وهما معقلان سابقان للمعارضة في ضواحي دمشق، قسراً من ممتلكاتهما نتيجة لأنشطة إعادة التطوير، مع الإشارة إلى أنه من المستبعد بناء مساكن منخفضة التكلفة للسكان الذين صودرت ممتلكاتهم. وتتكشّف قصة مماثلة في حماة، حيث جرت عمليات تدمير كبيرة تحت غطاء إعادة الإعمار وإعادة التطوير. في الوقت نفسه، تم إعادة تقسيم مدينة داريا بموجب خطة تطوير جديدة صدرت مؤخراً وتتضمن هدم وسط المدينة بالكامل.

تؤدي مثل هذه التطوّرات إلى تأبيد التغييرات الديموغرافية الناجمة عن الحرب، وتضمن قيام سورية “أكثر تجانساً”، كما صرّح الرئيس السوري بشار الأسد في العام 2014. أما في ما يتعلق بالنازحين داخلياً، فقد كشف النظام عن كيفية التعامل معهم، فهو يعمد إلى إرسالهم مثلاً إلى مايُعرف بـ”معسكر الطلائع” في قرية رساس في محافظة السويداء، التي تستضيف 5000 سوري نزحوا من منطقة الجزيرة شمال شرق سورية. ويخضع المعسكر إلى رقابة شديدة، بحيث يؤمّن القنّاصة السيطرة المُحكمة على التنقل داخله وخارجه، ولايُسمح للنازحين داخلياً بالمغادرة إلا في ظل ظروف خاصة. كما يتمّ عادةً ترتيب وسائل نقل لإيصال التلاميذ من المعسكر إلى مدارسهم. مع ذلك، يفتقر هذا المرفق إلى البنية التحتية المناسبة، بما في ذلك توافر مساحة لإيواء النازحين أو مركز لإعادة التأهيل وتقديم المساعدة النفسية.

تترك الضغوط التي يرزح تحتها اللاجئون السوريون للعودة إلى ديارهم أثراً ضاراً على مجتمع اللاجئين. فالعديد من السوريين يخاطرون بحياتهم مجدداً من خلال الهجرة إلى أوروبا عن طريق البحر، ومعظمهم من خلال تركيا، على الرغم من السلوك العدواني الذي يُظهره خفر السواحل التركي نحوهم على نحو متزايد. كما سجّلت اليونان من جديد ارتفاعاً في أعداد اللاجئين الذين يصلون إلى شواطئها، بينما أوقف خفر السواحل التركي أكثر من 100 قارب، واحتجز أكثر من 3000 شخص في الأسبوع الواقع بين 29 تموز/يوليو و4 آب/أغسطس. الجدير ذكره هنا هو أن هذه الأرقام هي الأكبر منذ العام 2015، عندما كانت أزمة اللاجئين في أوجها. كما يدفع عامل آخر، وهو المضايقات، السوريين إلى المخاطرة بحياتهم في رحلة طويلة من لبنان على متن قوارب صيد، التي غالباً ما ينتج عنها وفيات.

على الرغم من تأكيداته على حدوث العكس، يواصل النظام السوري اتّخاذ مروحة من التدابير القانونية والأمنية والعسكرية والاجتماعية لمنع عودة اللاجئين. ونظراً إلى أن عملية وضع هذه التدابير بدأت منذ العام 2012، ما يدلّ على وجود نية لدى النظام منذ وقت طويل، يتعيّن هنا على المجتمع الدولي والدول المجاورة إعادة النظر في سياساتهم الخاصة بإعادة اللاجئين إلى وطنهم. وحدها عملية سياسية بإمكانها عكس الخطط التي يرسمها النظام السوري لشعبه في مرحلة ما بعد الصراع وللجهود التي يبذلها للانخراط في الهندسة الديموغرافية. في المقابل، سيواصل النظام استخدام سياسات مابعد الحرب لإساءة معاملة السوريين وفرض حقائق جديدة على الأرض، محافظاً على سورية كمركز لعدم الاستقرار في المنطقة.

مركز كارينغي للشرق الأوسط

تواطؤ أوروبا مع تركيا في حملتها ضد اللاجئين السوريين

في إسطنبول وتحت جنح الليل، دفع ضباط الشرطة الأتراك أحمد إلى داخل حافلة كبيرة متوقفة في وسط المدينة. استطاع الرجل الدمشقي على رغم الظلام، تمييز عشرات اللاجئين الآخرين المكدسين داخل السيارة، وهم مكبلو الأيدي. وكثيرون منهم لن يروا المدينة التركية مرة أخرى.

ألقي القبض على أحمد، الذي طلب عدم ذكر شهرته حرصاً على سلامته، بعدما اكتشفت الشرطة أنه غير مسجل في إسطنبول وإنما في ولاية أخرى. ويُلزم القانون التركي اللاجئين السوريين الذين يحملون هويات “حماية موقتة”، ضرورة البقاء في المناطق حيث سجلوا أنفسهم في البداية، أو الحصول على تصريح منفصل من أجل السفر من منطقة إلى أخرى، وقد طَمأنه رجال الشرطة قائلين إنه سيُنقل ببساطة إلى الولاية الصحيحة المُسجل فيها.

لكن بدلاً من ذلك، وصلت الحافلة مع بزوغ الفجر إلى مركز احتجاز في ضاحية بنديك في إسطنبول، حيث قال أحمد إنه احتجز مع عشرة أشخاصٍ آخرين في زنزانة مزدحمة خالية من الأسرَّة، وكان يحصل على وجبة واحدة فقط في اليوم، والتي دائماً ما كانت فاسدة ومتعفنة. وقال لي، “أخبرنا الحراس أن السوريين فاسدون من الداخل تماماً مثل هذا الطعام. واستمروا في الصياح قائلين إن تركيا لن تستقبلنا بعد اليوم، وأننا جميعاً سنعود إلى سوريا”.

سيمضي أحمد فترة تتجاوز الستة أسابيع داخل العالم الخفي المُسمى مراكز الترحيل في تركيا. وتشير روايته -وأيضاً روايات أكثر من ستة سوريين آخرين ممّن تحدثت معهم- إلى اتباع نظام ممنهج لسوء المعاملة ولعمليات ترحيل قسري وأحياناً يموت بعض اللاجئين الذين يُلقى القبض عليهم في خضم الحملة القمعية الأخيرة هنا داخل تلك المراكز.

لكن تركيا ليست الجهة الوحيدة المتورطة في عمليات الاحتجاز تلك. أو بمعنى أدق، تكشف رد الفعل العكسي هذا أيضاً عن العواقب طويلة الأمد المترتبة على استعانة الاتحاد الأوروبي بمصادر خارجية لحل أزمة اللاجئين التي يعاني منها. ففي آذار/ مارس من عام 2016، أبرم الاتحاد الأوروبي اتفاقية تثير الجدل مع تركيا والتي حدّت بشكل كبير من تدفق اللاجئين إلى أوروبا وذلك في مقابل مساعدات قيمتها 6 مليارات يورو (أي نحو 6.7 مليار دولار) وتنازلات سياسية مختلفة لأنقرة. في هذا الوقت، سارع صناع القرار في الاتحاد الأوروبي -المشغولون بحفظ أمنهم الحدودي- إلى طمأنة منتقديهم أن تركيا تُمثل “دولة ثالثة آمنة” تحترم حقوق اللاجئين وتلتزم بمبدأ عدم الإعادة القسرية.

ومع إغلاق أوروبا أبوابها، تُركِت تركيا مع أعداد هائلة من اللاجئين بلغت 3.6 مليون لاجئ سوري مُسجل -وهو أكبر عدد استضافته أيّ دولة في العالم. ويعادل تقريباً أربعة أضعاف عدد اللاجئين الذين استضافتهم الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي مجتمعين. وعلى رغم أن المجتمع التركي استقبل اللاجئين بدايةً بمرونة لافتة، إلّا أن كرم الضيافة، الذي لطالما لاقى إشادة من الجميع، بدأ يتحول وينفد والنفاد سريعاً، ما دفع حكومة الرئيس رجب طيب أردوغان إلى اتخاذ تدابير تنتهك البنود الأساسية لاتفاق المهاجرين بين تركيا والاتحاد الأوروبي.

ففي الشهر الماضي، أطلقت الشرطة التركية سلسلة من العمليات التي تستهدف المهاجرين واللاجئين غير المسجلين في إسطنبول. ومنحت اللاجئين السوريين الذي يحملون هويات “حماية موقتة” والمسجلين في محافظات تركية أخرى مهلة حتى 30 تشرين الأول/ أكتوبر لمغادرة إسطنبول، بينما من المقرر نقل اللاجئين والمهاجرين الذين لا يحملون أي أوراق إلى مخيمات موقتة حتى يتم تسجيلهم.

ومع ذلك تقول منظمات الدفاع عن حقوق اللاجئين التركية والدولية على حدٍ سواء إن تلك العملية أثارت موجة عشوائية من الاعتقالات بل وحتى الترحيل القسري. وقالت نقابة المحامين في إسطنبول أيضاً إن مكتبها للمساعدة القانونية قد حل قضايا ترحيل قبل بدء العملية مباشرة، تعادل 3.5 أضعاف القضايا التي حلّها في حزيران/ يونيو. ولم تقل “المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين” أو “المفوضية الأوروبية” ما إذا كانتا على علمٍ بأن تركيا ترحل اللاجئين. لكن قدَّر أحد كبار المسؤولين في الأمم المتحدة، والذي طلب إخفاء هويته للحديث حول المسألة، أن حوالى 2200 شخصٍ قد أُرسِلوا إلى محافظة إدلب السورية، لكنه قال إنه ليس واضحاً تماماً ما إذا كانوا أُجبِروا على الرحيل أم اختاروا الرجوع بملء إرادتهم. وأضاف المسؤول أنه إذا كانت تركيا تُرحل السوريين قسراً بالفعل، فإن ذلك سيُشكل انتهاكاً صريحاً لمبدأ عدم الإعادة القسرية، وهو شرط مقيد أبرمت الاتفاقية بين تركيا والاتحاد الأوروبي على أساسه.

لكن إدارة الهجرة في وزارة الداخلية التركية لم ترد على ما طُرِح من أسئلة حول هذه المزاعم. وفي مقابلة تلفزيونية قبل مدة قصيرة على شاشة التلفزيون التركي، قال وزير الداخلية سلَيمان صويلو، “ليس في إمكاننا ترحيل أي سوري غير مسجل”، بل وأصرّ على أن العودة إلى سوريا كانت بمحض إرادة اللاجئين. وقد فهم أحمد وكثر من السوريين الذين تحدث إليهم ما يخفيه مصطلح “محض إرادتهم” من معنى.

من دون شرح…

بعد نقله من المنشأة التي يقطنها في مدينة بنديك إلى مركز ترحيل في منطقة بينكيلِتش، شمال غربي إسطنبول، قال أحمد إنه وقع تحت ضغوط شديدة للتوقيع على مجموعة من الوثائق عند وصوله إلى المركز. وأضاف أن الموظفة التي طلبت منه التوقيع رفضت شرح ما حوته الأوراق. وحينما هَمَّ أحمد بالتوقيع على الوثائق ووضع بصماته، لاحظ تعمدها وضع أصابعها على الورق لتغطية الترجمة العربية لكلمات “العودة الطوعية”. وعندما تراجع عن وضع بصمته، استدعت الموظفة الحراس الذين أخذوه إلى حمام قريب مع سوري آخر رفض التوقيع أيضاً. وهناك، بحسب رواية أحمد، تعمّدوا ترويعهما ساعات وأروهما صورة رجل ضُرِبَ ضرباً مُبرحا ورُبِط على كرسي بشريط من البلاستيك. ووفقاً لأحمد، فقد أخبره مسؤول، “إن لم توقّع، سيؤول بك المآل إلى هذا”.

في حين قدم حسين -وهو الرجل السوري الذي اصطُحب مع أحمد- سرداً مماثلاً. وفي مقابلة عبر الهاتف من دبي، حيث هرب بعدما فاوضوه على ترحيله إلى ماليزيا بدلاً من سوريا، روى حسين، الذي طلب عدم ذكر لقبه لحماية أقاربه في تركيا، ما حدث معه بالتفصيل في ما يخص الانتهاكات والإساءات التي تعرض لها، تماماً مثلما روى أحمد، وأضاف أنه تعرض شخصياً للضرب من قِبَل أحد الحراس. وعندما انتهت محنتهما، تطابقت رواية الرجلان إذ قالوا إن السوريين الآخرين الذين وصلوا معهما نُقِلوا كي يستقلّوا حافلة، على الأرجح، ليتم ترحيلهم.

الحمامات مقفلة

احتُجِزَ أحمد في يين كيليتش شهراً كاملاً، قبل نقله إلى مركز ترحيل آخر، قريب من كيركلاريلي، حيث قال إنه أُجبر على النوم في الخارج في فناء مع أكثر من 100 مُحتَجَز. ‏وقال إن الحرّاس أبقوا الحمامات مقفلة طوال اليوم، تاركين أمامهم أحد الخيارين، إما الانتظار حتى يحين السماح لهم بدخول الحمام، في مدة لا تتعدى 30 دقيقة يومياً أو أن يتبولوا لا إرادياً أثناء النوم. كما أخبرني أحمد أنه عندما أعياه المرض، مُنِع مراراً من رؤية طبيب لتشخيص حالته.

لم يستيقظ أحمد من هذا الكابوس إلا بعد مرور 9 أيام في كيركلاريلي. إذ استدعته الإدارة، وسألوه عن هويته، وأطلقوا سراحه عندما تبيّن أنه يحمل بالفعل بطاقة “حماية موقتة”، وَإِن كان مسجلاً في ولاية أخرى غير إسطنبول. ألقى مراسلو مجلة “ذا أتلانتيك” نظرة على صورة لبطاقة أحمد الشخصية، إضافة إلى مذكرة الإفراج عنه الصادرة عن مركز الترحيل.

وقد موَّل الاتحاد الأوروبي الكثير من مراكز الترحيل التي يُحتَجز فيها لاجئون مثل أحمد. وبحسب ما جاء في ميزانيات عامي 2010 و2015، فقد موَل الاتحاد الأوروبي 12 على الأقل من هذه المنشآت ومراكز الترحيل كجزء من تمويل الاتحاد الأوروبي تركيا في مرحلة ما قبل الانضمام. وبحسب ما ذكره التقرير الصادر عن وفد برلماني تابع للاتحاد الأوروبي عام 2016، تلقى مركز ترحيل كيركلاريلي الذي احتُجِز فيه أحمد، 85 في المئة من تمويله من الاتحاد الأوروبي. أما منشأة يين كيليتش (مركز الترحيل الذي أُجبر فيه السوريون على توقيع أوراق العودة) فقد زُوّد بأثاث ومعدات أخرى مولتها بريطانيا، ووفقاً لرواية أحمد، وُجِدت على تلك المعدات علامات يظهر فيها علم الاتحاد الأوروبي وتركيا بوضوح.

تمويل مشبوه

من الصعب تحديد جهات توزيع التمويل المقدر بـ 6.7 مليار دولار المخصص لأنقرة، بموجب الاتفاقية المُبرمة بين الاتحاد الأوروبي وتركيا لعام 2016، الهادف في الأصل إلى تمويل مشاريع مماثلة لمراكز الاحتجاز. في حين ذهب الجزء الأكبر منه إلى التعليم والرعاية الصحية والدعم النقدي المباشر للاجئين. وأشار التقرير السنوي الصادر عام 2018 إلى أن جهة التمويل كانت “لمركز ترحيل يسع 750 شخصاً” ولكن استُبدِل مصطلح “مركز ترحيل” بكلمة “منشأة”، في تقرير هذا العام، ليبدو أكثر حيادية.

وفقاً لما ذكرته المقرِّرة السابقة للشؤون التركيّة في البرلمان الأوروبيّ، كاتي بيري، فحتّى المشرِّعون مثلها يواجهون صعوبات في متابعة التنفيذ الدقيق للاتفاقيّات حول الهجرة التي توسط في عقدها الاتّحاد الأوروبيّ أو كان طرفاً فيها، والتي تتضمن اتفاقيّات مع ليبيا والنيجر والسودان، لا تركيا وحدها.

أعربت بيري في مقابلة عبر الهاتف أنه “من هذا المنطلق، يصبح الاتّحاد الأوروبيّ شريكاً في المسؤوليّة عن انتهاكات حقوق الإنسان. ربما تراجعَت الانتهاكات ضدّ اللاجئين على الأراضي الأوروبيّة، لكن ذلك بسبب الاستعانة بمصادر خارجية للاضطلاع بها. يُمثل ذلك دليلاً على العجز الأخلاقيّ الذي تعاني منه أوروبا، وهو الأمر الذي يحرمنا من صدقيتنا عند مساءلة تركيا ومحاسبتها على تلك الانتهاكات”. وَفقاً للاتفاقيّة الأصليّة، تعهَّدَ الاتحاد الأوروبيّ باستضافة 72 ألف سوريٍّ من المقيمين في تركيا، ولكن بعد مرور ثلاثة أعوام، لم يستقبل الاتحاد سوى أقلّ من ثلث هذا العدد.

يرى كثيرون في المجتمع التركيّ أنّ بلادهم قامت بما يكفي وأدّت دورَها. ومع بدأ الاقتصاد التركيّ بالكاد في التعافي مؤخّراً، ومع كفاح كثير من الأتراك لكسب قوت يومهم، ازدادت معدّلات الكراهية تجاه السوريّين. وقد كشف استطلاعٌ للرأي عن زيادة نسبة أولئك الذين أعربوا عن عدم رضاهم بوجود اللاجئين السوريّين، من 54.5 في المئة عام 2017 إلى 67.7 هذا العام.

تقتات اليوم أحزابُ المعارضة التركيّة على المشاعر المعادية للاجئين، تماماً مثلما هو الحال في أوروبا. في أثناء الانتخابات البلديّة هذا العام، اعتمد السياسيّون المنتمون لحزب الشعب الجمهوريّ العلمانيّ على حملةٍ معادية بوضوح للوجود السوريّ في البلاد، ومنذ انتخابهم في البلديّات قطعوا المساعدات البلديّة للاجئين بل ومنعوا السوريّين من الوصول إلى الشواطئ. في إسطنبول، وفي اليوم الذي انتُخِب فيه أكرم إمام أوغلو، مرشّح حزب الشعب الجمهوريّ، رئيساً لبلديّة إسطنبول، انتشرَ بمنتهى الابتهاج وسمٌ عنصريّ على “تويتر” يقول “ليرحَل السوريّون” (#SuriyelilerDefoluyor).

عودة اللاجئين السوريين إلى سوريا

في تصريحٍ لمجلّة “ذي أتلانتيك”، قال متحدّث باسم الخارجيّة التركيّة إنّ “تركيا قامت بدَورها” في ما يتعلّق بالاتّفاق مع الاتحاد الأوروبيّ؛ وأشار إلى أنّ “الأموال المستلَمة لا تُشكل سوى جزء ضئيل ممّا أنفقته تركيا”، مضيفاً أنّ أنقرة تتوقع “دعماً أقوى من الاتحاد الأوروبيّ”، ماليّاً وفي صورة زيادة أعداد اللاجئين السوريّين الذين يُعاد توطينهم من تركيا إلى أوروبا.

على رغم قول المنظّمات الدوليّة إنّ هناك حاجة إلى المزيد من الأدلّة على قيام تركيا بمثل هذه التصرّفات، يرى نور الدين الشويشي أنّ الدلائل تحيط به من كلّ جانب. يقول الشويشي في مقابلة هاتفيّة من قرية في ضواحي إدلب -المنطقة السوريّة التي قال إنّه رُحِّل إليها- إنّ “القنابل تتساقط في مكانٍ غير بعيد”. وأضاف أنّه رُحِّل من تركيا في منتصف تمّوز/ يوليو، بعد إلقاء القبض عليه في منطقة إسانيورت في ولاية اسطنبول أثناء احتساء القهوة مع أصدقائه. وأكّد لي فداء الدين، الذي كان معه في ذلك الوقت، أنّ الشويشي قُبِض عليه واتّصل به من داخل سوريا بعد يومين من ذلك.

بعد وصول الشويشي إلى تركيا في بداية عام 2018، حين توقفت ولاية اسطنبول عن إصدار بطاقات هُويّة للاجئين السوريّين، فإنّه لم يكن لديه أيّ أوراق لتقديمها إلى الشرطة. اقتيدَ إلى مركزٍ قريب للشرطة، وأكّد له الضبّاط هناك أنّه سيستلم بطاقة هُويّة إن قام بالتوقيع على بعض الأوراق والاستمارات، ولكن حين سأل عن تفاصيل تلك الأوراق، غيّروا أسلوبَهم وأجبروه على الرضوخ والتوقيع.

أُرسِل الشويشي بعد ذلك إلى مركز ترحيل في توزلا، ورُحِّل من هناك إلى تركيا في اليوم ذاته، كما قال. بعثَ إليَّ فيديو ليُريني أنّه في إدلب، آخر أكبر معاقل المقاومة المسلّحة ضدّ قوّات الرئيس السوريّ بشّار الأسد. بحسب تقديرات الأمم المتّحدة، فالمنطقة يقطنها أكثر من ثلاثة ملايين شخص، نصفهم من النازحين، وتواجه كارثة إنسانيّة مع بدء روسيا ونظام الأسد شنّ هجوم للاستيلاء على تلك المحافظة.

الطريق الوحيد المتاح أمام سكّان إدلب هو تركيا، ولكنّها قامت بتشديد الحراسة على حدودها بعد عزمها على منع أيّ تدفق آخر من اللاجئين.

على رغم ذلك، لم يرَ هشام الصطيف (مصطفى) المحمد أيَّ خيارٍ آخر. فقَدْ رُحِّلَ الشاب الذي يبلغ من العمر 21 سنة من تركيا في منتصف تمّوز الماضي، على رغم امتلاكه أوراقاً من ولاية اسطنبول، وقد اطّلعت على صورةٍ عنها. ولتلهُّفِه للعودة إلى زوجته وطفلَيه، دَفَع هشام بعضَ المال لأحد المُهرّبين لاصطحابه إلى تركيا، كما ذكر لنا محمّد خضر حمّود، وهو لاجئ آخر رافقَه في تلك الرحلة المحفوفة بالمخاطر.

رصاصة النهاية

قال محمّد إنه قُبَيل غروب شمس 4 آب/ أغسطس بفترة وجيزة انطلقت مجموعة من 13 لاجئاً من قرية الدرية على بعد ميل من الحدود، وتوقفت في الجبال في انتظار اللحظة المناسبة لعبور الحدود إلى تركيا. وبينما كانوا ينتظرون، ركع هشام لتأدية الصلاة، ولكن بعد لحظات، ظهر غبار من الرمال بجانبه. وبعدما أدرك المهرِّب أنها رصاصة، دعا المجموعة إلى التحرك، إلّا أنّ هشام ظلَّ مُستلقياً في مكانه. وصفَ محمّد تلك اللحظة قائلاً: “زحفتُ إليه، ووضعت أذني على قلبه، لكنه لم يكن ينبض”، وأضاف أن المجموعة استُهدِفت بطلقات نارية من الأراضي التركية لمدّة تزيد عن ساعة، ولم يتمكّنوا من نقل جثة هشام بعيداً إلا في منتصف الليل.

تمكّنتُ من الحصول على صورة من شهادة وفاة هشام صادرة عن مستشفى الرحمة في قرية دركوش التابعة لمحافظة إدلب. وتشير الوثيقة إلى أنّ “رصاصة اخترقت أذنَ المتوفَّى اليُمنى وخرجت على مستوى الجانب الأيسر من الرقبة”.

في محاولةٍ لتوضيح الموقف، أرسلَت وزارة الداخلية التركية لي بياناً أكَّدت فيه -إلى حدٍّ كبير- ما جاء في المقال الذي نُشر في مجلة “فورين بوليسي” الأسبوعَ الماضي، حيث ذكر متحدث باسم أردوغان في البيان أنّ هشام كان مشتبهاً في انخراطه بأنشطة إرهابية، وطلَب طوعاً عودتَه إلى سوريا. بيد أنّ المتحدث لم يقدِّم أيَّ تفاصيل عن القضية.

رفض الحاج مصطفى -والد هشام- ما قاله المتحدث، وقال خلال مقابلة أجريتُها معه في إسطنبول إنّه “إذا كان هشام قد أخطأ بالفعل كما يدَّعون، فلماذا إذَاً لم يرسلوه إلى المحكمة؟”. ونظراً إلى أن هشام كان العائلَ الرئيسيّ للأسرة، قال مصطفى إنه الآن يكافح لإطعام أسرته، بما في ذلك طفل هشام الرضيعُ الذي يبلغ من العمر ثلاثة أشهر.

لم يكن مصطفى هو الوحيد الذي أصيب بفاجعة موت ابنه. ففي مقابلة أُجرِيت مع أحمد، في شقة صديقه في إسطنبول، أدركت أنه لا يزال مختبئاً عن أعين السلطات. وكان أحمد انتهى لتوِّه من التفاصيل المتعلقة باحتجازه لمدة أسبوع في مراكز الترحيل التركية عندما تلقّى إشعاراً على هاتفه برسالة جديدة تضمَّنت صورَ جثمان هشام منشورةً على فيسبوك.

صرَخ أحمد ممسكاً بذراع صديقه قائلاً “أنا أعرفه!”. وأضاف أن هشام كان معه في مركز الترحيل بمنطقة بينكيلِتش في إسطنبول، وواصل القول “لقد كان متفائلاً للغاية بأنّه سيتم إطلاق سراحه، لأنه يحمل بطاقة هُويّة صالحة تسمح له بالبقاء في إسطنبول؛ ولكن عندما أخبرني أنه أُجبِر على التوقيع على بعض الاستمارات، علمتُ أنّ الأوان فات بالفعل”.

قال أحمد، “لو وقّعتُ تلك الورقة، لكنتُ ميتاً بجانبه الآن”. ويُعتقَد أنّ هذا الخوف هو ما يدفع أحمد وكثيرين من الشباب السوريين أمثاله إلى مواصلة طريق الهروب إلى أوروبا. لقد أراني هو وصديقُه مقاطعَ فيديو أرسلها لهما مُهرِّب، تَعرِض رحلاتٍ ناجحة بالقوارب، وقالا لي إنّهما يخطّطان بالفعل للرحيل قريباً. واختتم أحمد حديثَه قائلاً، “ما دُمنا في تركيا، فإنّ الأوروبيين يُمكنهم التظاهر بأنهم لا يروننا. ولكن بمجرّد ذهابنا إلى هناك، وبمجرد وقوفنا أمامهم، فأنا على يقين من أنهم سوف يهتمّون بأمرنا”.

هذا المقال مترجَم عن theatlantic.com ولقراءة الموضوع الأصلي زوروا الرابط التالي.

https://www.theatlantic.com/international/archive/2019/08/europe-turkey-syria-refugee-crackdown/597013

درج

إنهم يتفاوضون بدمائنا/ قاسم البصري

لم تتورّع قوات الاحتلال الروسي في قتالها ضدّ فصائل المعارضة السورية في أرياف حماة وإدلب عن استخدام أشدّ ما تحتويه ترسانتها العسكرية قدرةً على السحق والتدمير، ويبدو واضحاً أنّ هذا الاستخدام المنفلت للعنف يتخطى بأقدار هائلة ما تستلزمه المعارك الجارية هناك، وأنه لا يتناسب مع طبيعة ونوعية سلاح الأطراف المقابلة، ولذا يجدر القول هنا، رغم أننا إزاء حقيقةً بديهية، إننا أمام عدو متجبّر يعتبر إفراطه في سحقنا وتحطيمنا مناسبةً لاستعراض القوة؛ جيش بهيمي عملاق يستعرض عضلاته ومهاراته على حطام السوريين. مؤلمٌ جداً ما يفعله بأهلنا جيش روسيا، وأكثر إيلاماً منه أنّ لهذا الجيش البهيمي أذنابٌ منّا نحن السوريين، لا يقلّون بهيميّةً عنه، وهؤلاء هم جيش السارين الأسدي.

هذا العنف الروسي الدنيء لم يتوقف عند السحق والقتل وتهجير الناس بالأدوات العسكرية، بل امتدّ أيضاً إلى الجانب السياسي، بتصريحات فلاديمير بوتين في معرض زيارته إلى فرنسا، والتي أعاد فيها استخدام وجود «هيئة تحرير الشام» كذريعةٍ لأعمال التدمير والقتل والتهجير الروسية في إدلب وحماة، حيث ادّعى أنّها لم تعد تتحكم فقط بنصف إدلب، وإنما باتت اليوم تسيطر على 90 بالمئة منها، وأنّ مقاتليها سينتقلون إلى مناطق أخرى من العالم. يقول بوتين ذلك رغم علم الجميع بأنّ الهيئة ليست هدفاً له بحدّ ذاتها، وإنّما الوسيلة التي يستخدمها على الدوام لتدمير المناطق الثائرة وإبادة قاطنيها.

بوتين لا يحارب الإرهاب، ولا يعنيه لو التهمَ الإرهابُ العالم كله. معادلة بوتين هي أنّ سوريا ساحته التي يقرر فيها كل شيء على الرغم من إرادة العالم كله، وبتواطؤ من القوى النافذة في العالم كله، فهؤلاء الذين يقتلهم ويحتل أرضهم في إدلب وحماة يستحقون الموت لأنّهم إرهابيون، وعلاوةً على ذلك فإنّ على العالم أن يكون ممتناً لجيش بوتين لأنه يخلّصه منهم. هو كلامٌ لا يقلّ وقاحةً عن سلوك الآلة العسكرية التي يُعملها فوق رؤوس أهلنا في إدلب وحماة.

ويبدو مستغرباً أن يُتعب بوتين نفسه بتقديم ذرائع تبرّر قتله السوريين، فقد وصل التعامل الدولي مع مأساتهم حداً لا يمكن توصيفه بعدم الاكتراث، بل صار السوري وحياته ودمه ووجوده أمراً محتقراً لا يرقى للنقاش والأخذ والرد. العالم يتعامل مع السوري على أنّه دنسٌ يتوجب التطهر منه، وإلا كيف يمكننا، بغض النظر عن جدوى انعقاد مجلس الأمن من عدمه، تفسير إلغاء الجلسة المتعلقة بتطورات إدلب وريف حماة لكون السيد غير بيدرسن يشتكي من وجعٍ في عينه بينما تُقتلع ألوف العيون السورية! هل من الممكن أن يصل العالمُ حضيضاً أكثر قذارةً من هذا!

في الجانب المقابل، يحتار المتابع في وصف دور ووظيفة وتصرفات الضامن التركي، فهو إنْ أحسنّا به الظن واعتبرناه غير متواطئٍ مع الروس في صفقةٍ جرى التخلي بموجبها عن مناطق من ريفي حماة وإدلب مقابل مكاسب معيّنة للأتراك في سوريا نفسها، فإنّه ضامنٌ كرتوني بلا حولٍ ولا قوة، يلعب دور موظف مؤقت في سوريا. يبدو الجانب التركي متعهّداً يمارس أعمال وصاية بتفويض روسي أميركي، وتحفّزه على ذلك هواجس قومية وصراعات تاريخية لا دخل لسوريا أو السوريين بها.

علاوةً على ذلك، عندما توجّه رتلٌ من الجيش التركي نحو مدينة خان شيخون، التي دخلها صباح أمس الجيش نفسه الذي قصفها بغاز السارين قبل عامين، كانت مجموعة من المقاتلين السوريين من فصيل فيلق الشام يرافقون ذلك الرتل، وقد قُتل عددٌ منهم في إطار ما أسماه إعلام نظام الأسد «رسالةً تحذيرية» للجيش التركي. شبابٌ سوريون من لحم ودم يموتون من أجل إرسال تحذير للجيش التركي، الذي يكتفي بما هو أقل من بيان صحفي عن الحادثة. هل يعقل أن يستخدم الضامن التركي السوريين الذين يتبجّح بحمايتهم كدروع بشرية في مواجهة شريكه الروسي في مهزلة أستانا!

وإذا كان الجيش التركي بحاجة لحماية فصيل مثل فيلق الشام في تحركه، فكيف يمكن له أن يكون ضامناً لمنطقة يقطنها قرابة خمسة ملايين سوري، من أهلها ومن أولئك الذين احتموا بها بعد أن طُردوا من بيوتهم؟ ربما يكون الأتراك قد وصلوا مع الروس إلى تفاهماتٍ جديدة لا تقيم وزناً لنا كسوريين، وهذا غير بعيدٍ ولا مُستغرب لأننا سبق أن شهدنا مثيلاً له أكثر من مرة، وربما لا يكون الأمر هكذا هذه المرة، إذ قد يكون الأمر برمته رقصة نار تركية روسية يحاول فيها الطرفان تسجيل نقاط ضد بعضهما بعضاً؛ ولكن أليست حيوات السوريين جديرةً بإعلان ذلك لهم حتى يقرّروا بأنفسهم إذا ما كانوا سيقاتلون أم لا، وبذلك يكون قتالهم خياراً لا يُمنعون عنه ويتحملون عواقبه؟ لماذا يُقتل أهلنا في معارك محسومة النتائج من وراء ظهورهم؟ وحده حسّ الناس الذين يعيشون اليوم تحت وابل النيران يمكنه الإجابة عن هكذا أسئلة، وهو ما تجلى في اللافتة التي رفعها أول من أمس متظاهرون في جرجناز، وقد كتبوا عليها «اسمع أردوغان… كفاك عبثاً بدمائنا».

ليس بيننا من لا يدينُ قادة الفصائل العسكرية على ارتهانهم وتبعيتهم وصراعاتهم وفشلهم، ولكن تحت إمرة هؤلاء القادة شبابٌ صغار شبّوا وهم يرون محرقةً هائلة تلتهم أهلهم وأحبابهم، فلم يتعلّموا ولم يُراهقوا كما ينبغي لهم، ولكنهم دافعوا عن أنفسهم وعن بيوتهم وعن الناس الذين يحبونهم، ودافعوا عن حقهم في الحياة والكرامة. هؤلاء ليسوا جهاديين، ولا يقاتلون من أجل تركيا وقاعدة أبي محمد الجولاني ومشاريعه الساقطة، ولا من أجل أن تصبح سوريا مستعمرةً روسية أو أميركية، هؤلاء يقاتلون من أجل كرامة العالم وجدوى استمرار الحياة فيه.

موقع الجمهورية

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى