الناس

في ذكرى آلان الكردي/ بكر صدقي

في صباح الثاني من شهر أيلول/ 2015، عثر أحد عناصر خفر السواحل، على شاطئ مدينة بودروم التركية، على جثة طفل صغير «نائماً» بكامل أناقته على الرمل ووجهه إلى الأرض.

نعم، بدا آلان الكردي، في تلك الصورة الشهيرة التي «هزت ضمير العالم»، وكأنه مستغرق في النوم، أكثر من كونه جثة طفل غريق رمى بها الموج إلى اليابسة. كل تفصيل في تلك الصورة تشد المشاهد: وضعية النوم على البطن، الثياب الجميلة التي تليق بطفل في الثالثة من عمره أراد له أهله أن يبدو كدمية محببة، حذاؤه الأسود، الشاطئ الرملي، الأفق البحري المفتوح..

قبل أيام، في الذكرى السنوية الرابعة لغرق آلان، استعدتُ من أرشيف صفحتي على موقع فيسبوك تلك الصورة وأعدت نشرها. بعد دقائق قليلة جاءني إشعار من فيسبوك بحجب الصورة بدعوى أن محتواها «ربما يكون صادماً أو عنيفاً»! فيسبوك الذي سمح لي، في العام 2015، بنشر تلك الصورة، يحجبها اليوم بدعوى أنها صادمة! ثمة ما تغير، إذن، في معايير النشر في فيسبوك. لا أجازف إذا قلت إن تلك المعايير على ارتباط وثيق بموقف «العالم» من الأمور والحوادث، وهو عالم مختزل في «واجهته» الغربية حيث يسكن «وجهاء» العالم.

ولا نحتاج الكثير من التحليل لرؤية التغير الذي طرأ على ذلك الموقف من اللاجئين، بين 2015 واليوم، من موجة الترحيب باللاجئين، إلى صعود الموجة العنصرية ضدهم. وكما لعبت صورة الطفل الغريق إيلان دوراً كبيراً في الموجة الأولى حين «أيقظت ضمير العالم»، ستلعب مجموعة عمليات إرهابية في عدة مدن أوروبية، بعد أشهر قليلة، دورها في صعود الموجة المضادة. بين تلك العمليات واليوم سيغط «ضمير العالم» في النوم، وسيقوم الإعلام بحراسة هذا النوم فلا يسمح بأي ضجيج قد يوقظه. يجمع مصير الطفل إيلان، في قراءة مجازية ممكنة، بين مصير سوريا وثورتها من جهة، وأخبار ضمير واجهة العالم ووجهائه من جهة ثانية.

فقد مات الطفل آلان لأنه أراد الهروب من الموت في بلده، كحال سوريا التي أرادت، يوماً، أن تخرج من المقبرة الأسدية الأبدية، فرمت بها تماوجات علاقات القوة بين الدول جثة هامدة. سوريا التي تمردت على قدرها، في آذار 2015، غرقت في بحر الدم، لأنها كانت طفلة جاهلة بما يخبئ لها العالم من مفاجآت مميتة، فلم تتصور أن مصير طغمة دكتاتورية متوحشة يرأسها شخص تافه سيكون، لدى القوى العظمى، أهم من مصيرها. الثورة التي انطلقت ببراءة الطفل آلان وجهله بـ«عالم البالغين» ستلقى مصيرها المرسوم: قتلاً وتشريداً وموتاً في بحر الظلمات الذي يفصل عالمنا عن عالم الوجهاء.

ولأنهم وجهاء، لديهم ضمير لا مفر من استيقاظه حين يواجه أحداثاً صادمة، إذا تسنى لها أن تظهر صورتها، وفقط حين تظهر. أما أن تواصل آلة الترمينيتور الأسدية ـ الروسية تدميرها للمشافي على رؤوس الجرحى والأطباء والممرضين، وللمدارس على رؤوس التلاميذ والمعلمين، وللأسواق الشعبية على رؤوس المتسوقين، فلن يستيقظ الضمير المذكور من نومه طالما لم توثق ذلك صورة معبرة و«صادمة».

مات الطفل آلان وهو يحاول العبور إلى حيث واجهة العالم، بقيمه الكونية المعلن عنها، من حرية وكرامة فردية ومساواة قانونية بين الأفراد ورفاه اقتصادي، كحال سوريا التي أرادت أن تفعل الشيء نفسه في جغرافيتها بالذات، فتم إغراقها بالدم والدمار قبل أن تنجح في ذلك، ففر أطفالها المشاغبون إلى أرجاء العالم، ومات من مات منهم على الطريق براً أو بحراً.

يقظة ضمير العالم، في خريف العام 2015، فتحت بوابات اللجوء إلى بعض الدول لبعض الوقت. والعمليات الإرهابية في باريس وبروكسل جعلت وجهاء العالم يجتمعون على عجل ويتخذون قرارات مهمة بشأن سوريا، أهمها قرار مجلس الأمن 2254 الذي أرادوا له أن يريحهم من صداع الطفل آلان وصداع سوريا. لكن أولئك الوجهاء سبق لهم أن سلموا رقبة سوريا للمحتل الروسي، في أواخر أيلول 2015، أي بعد أسابيع قليلة من انتشار صورة آلان، فكانت قراراتهم المرتجلة تحت ضغط تدفق اللاجئين والعمليات الإرهابية في أوروبا وكأنها مبنية على حسن النية في المحتل الروسي، أو على جهل بأهدافه وأساليبه، أو على تواطؤ معه ومعها على دفن سوريا في مقبرة الأسد وإخراج مراسم الدفن على أنها حل سياسي.

كل ذلك أصبح اليوم من الماضي البعيد. تدفق اللاجئين توقف أو تباطأ كثيراً، والعمليات الإرهابية في المدن الأوروبية توقفت كأنها لم تكن، فنسيها العالم وغط ضميره في نوم طويل، تاركاً للروسي مواصلة «مساعيه» البربرية على طريق تشكيل لجنة دستورية تتيح لسفاح دمشق إعادة الانتخاب مرة أخرى.

كثيراً ما يعبر سوريون عن مشاعرهم المريرة بتمني سقوط نيزك لا يبقي حجراً على حجر. لا ليستيقظ ضمير العالم، بل ليموت معه. هذا المزاج العدمي الجدير بإنتاج آلاف الانتحاريين، ليس هو ما ينتج الإرهاب الواقعي الذي يطل برأسه في لحظات مدروسة بدقة، بل من المرجح أن هناك «فاعلي خير» يبرمجون تلك العمليات وفقاً للحاجة والظروف.

القدس العربي

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى